موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية

*** يرجى الملاحظة أن بعض هذه الكتب غير محققة والنصوص غير مدققة ***

*** حقوق الملكية للكتب المنشورة على هذا الموقع خاضعة للملكية العامة ***

كتاب الحجب

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الخطبة والمقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي حجبنا به عنه، غيرة أن يُعرف له كنه. بدا نوراً فاستتر عن الأبصار بنوره، وظهر فاحتجب عن البصائر بظهوره. فاندرج النور في النور وبطن الظهور في الظهور. فلا يقع بصر إلا عليه، ولا يخرج خارج إلا منه، ولا ينتهي قاصد إلا إليه. فيا أولي الألباب أين الغيبة والحجاب ؟

ومن عجب أني أحن إليهم

وأسأل شوقاً عنهم وهم معي

فتبكيهم عيني وهم في سوادها

وتشتاقهم نفسي وهم بين أضلعي

من كانت غيبته حجاباً عليه فلا حجاب ولا محجوب، ومن كانت هباته لا تتعدّى يده فلا واهب ولا موهوب، ينقل العالم من يد إلى يد، وما للواحد من الواحد بد.

أما بعد:

فإن من استوهب الواهب وهب على كل حال، ومن استوهب غيره فهو مستوهب محال، فإياه أسأل، وإليه أتضرّع وأرغب، في الإمداد والإرفاد فإني المحتاج وهو الجواد {لا إله إلا هو} ربّ الأسافل والأعالي، ومشهود الأباعد والأداني، الوهاب. سر الوجود المطلق محمد فكان له به الخُلُق المحقق فله الخُلُق ولنا التخلق، ولنا العلم والعين، وله معهما مقام التحقق داعية.

اعلم أنه لولا المحبة ما صح طلب شيء أبداً، ولا وجود شيء، وهذا سر: (فأحببت أن أعرف) ولما كانت الحركة من شيء إلى شيء. فالمحبة أصل في باب وجود الأعيان، وفي باب مراتبها ومقاماتها. وقد يتخيّل أيضاً أن الخوف يوجب بعض ما ذكرناه فيجعله أصلاً ثانياً لما يوجب من الأفعال، وليس كذلك وإنما اندرج في الخوف حب النجاة. فلولا الحب في النجاة ما صحت الحركة من الخائف، إذ لا غير الخوف، فيتخيل أن الحركة خوفية وهي حبية. ألا ترى إلى من طلب ما جرت به العادة أن يُنفر منه، وهو العذاب فقال:

أريدك لا أريدك للثواب

ولكني أريدك للعقاب

وكل مآربي قد نلت منها

سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

واللذة محبوبة لذاتها، وهذا الطالب ما طلب العذاب الذي هو الألم فإن اللذة تضاده، وإنما طلب سبب الألم ليكوّنَ عنه اللذة، وهي خرق العادة، وهو الذي أشير إليه إذا قيل: ليس العجب من ورد في بستان وإنما العجب من ورد في قعر النيران. يشير إلى من تقوى وجده بمحبوبه ودام نظره إليه، والقرب منه. فما زال قلبه محترقاً باستيلاء نار الوجد عليه منعماً بنظر المحبوب إليه." اه

"وإلى هذا المقام أشار القائل بقوله:

منعّم بعذاب معذّب بنعيم

وليس هذا من باب الحقائق، وإنما هذا من باب سكر الأحوال، فلا يفرق بين أسباب النعيم والعذاب. وقد كان الحلاج على جلالة قدره ودعواه العريضة في استيلاء الحق عليه وفنائه فيه وما كان يشير إليه من الإتحاد في مثل قوله يقول:

مازجت روحك روحي في دنوي وبعادي

فأنا أنت كما إنك إني ومرادي

وشبه هذا ما اشتهر به واشتهر عنه أحس بالألم عند وقوع البلاء وعندما أحس بتغيّر بشريته لطخ وجهه بدمه غيرة منه على المقام من وقوع العامة فيه، فإنّ حاله في ذلك الوقت يعطي ذلك، وهو القائل أي الحلاج:

ما قدَّ لي عضو ولا مفصل إلا وفيه لكم ذكر

وحرمة الود الذي لم يزل يطمع في إفساده الدهر

ما حلّ بي عند نزول البلا بأس ولا مسّني الضرّ

وقال فيه أيضاً وهو مما يدلك على إحساسه بذلك:

فلما دارت الكاسات دعا بالنطع والسيف

كذا من يشرب الراح مع التنين في الصيف

فجعله تنيناً. وحسبُ العارف بالمقامات من هذا الرجل ما قال.

والحاصل من أمره أنه كان صاحب إدلال لا صاحب سكر، وإذا كان الحب هو أعلى المقامات والأحوال، وأصلها والساري فيها، وكل ما سواه فرع منه فالأولى أن ترد إليه جميع المقامات والأحوال. وممّا يفيدك أن الأمر الجامع والأصل الكلي كونه مقام أصل الوجود وسببه ومبدأ العالم وممدّه، وهو محمد فاتخذه الله حبيباً، حين اتخذ غيره خليلاً، ونجيّاً، وصفيّاً.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أوتيت جوامع الكلم) فمن حقيقة هذا السيّد صلوات الله وسلامه عليه تفرعت الحقائق علواً وسفلاً.

وما على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

"فأعطى الله أصل المقامات وهو المحبة أصل الموجودات وهو سيدّنا . وبالحبّ كان الوجود المحدث. وقد ورد في الكتب المنزلة قال الله تعالى: {كنتُ كنزاً لا أُعرَف، فأحببتُ أن أُعرَف فخلقت خلقاً وتحببت إليهم بالنعم حتى عرفوني}. فقد جاء بأحببت وتحببت.

فإذا تحققت أن المحبة هي الأصل، وأنها أعلى ما يوهب من العُلا، فلا يؤيسنّك علوّها عن طلبها، وقد قيل:

لا يؤيّسنّك من مجد تباعده

فإنّ المجد تدريجاً وترتيباً

إنّ القناة التي شاهدت رفعتها

تنمو وتنبت أنبوباً فأنبوباً

هذا وإن اختصّ بها سيدّنا فما اختصّ إلا بالكمال فيها ولكل موجود منها شرب، لكن تتفاضل المشارب، ومع أنها أعلى المقامات والوقوف معها حجاب عن المحبوب، فما ظنك بما يتفرع منها. ولما كان الأمر على الترقيّ والتداني إلى مقام التدليّ والتلقيّ، لا بدّ أن يكون الأعلى حجاب على الأنزل، إذا كنت متدلياً. ولا بدّ أن يكون الأنزل حجاباً عن الأعلى إذا كنت متدانياً، لكن الصاعد محكوم عليه، والمتدليّ حاكم. والكلّ في الحجاب، ومقام "لا حجاب" حجاب.

فصل متمم

" إعلم أيها المحب كائناً من كان أن الحجب التي بينك وبين محبوبك كائناً من كان ليست شيئاً سوى وقوفك مع الأشياء لا للأشياء، كما يقول من لم يذق طعم الحقائق، وإنما وقف مع الأشياء لضعف الإدراك، وهو عدم النفوذ، وهو المعبر عنه بالحجاب، ولو كانت الحجب صحيحة لكان من احتجب عنك احتجبت عنه. والعرف ما نذكره إلا من كان الحق سمعه وبصره، وهو الذي يعرف ما يعبر عنه بالحجاب.

واعلم أنك إذا تفرغت لأمر ما بالكلية فبالضرورة تقف معه، وذلك الوقوف هو حجابك فتتخيّل أنّ الوقوف معه حجبك، وليس كذلك والوقوف مع الخلق حجابك عن الحق، والوقوف مع الحق حجابك مع الخلق. وهذا من باب التوسع والإيناس، كما ورد في الكتاب والسنّة من ذكر الحجب النورانية والظلمانية وعلى هذا التوسع ثبتت الحجب.


HUltxINcQ_A

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!