كتاب شمس المغرب
سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
جمع وإعداد: محمد علي حاج يوسف
هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب
من أجل ذلك بدأ الشيخ محي الدين رضي الله عنه يسعى وراء الشيوخ المرشدين، فالتزم مع شيخين كبيرين من علماء إشبيلية هما أبو العباس العريبي وأبو عمران الميرتلي، بالإضافة إلى الشيخ أبي يوسف الكومي كما ذكرنا من قبل، وكان كلّما سمع عن شيخ معروف في طريق الله يسافر إليه حتى يستفيد منه ويتعلّم على يديه.
ترويض النفس
والقصة التالية تدلُّ على أن الشيخ محي الدين كان بارعاً في السلوك وكانت نفسه طوع أمره رغم ما كان يتّسم به من درجة اجتماعية عالية تقتضي في أغلب الأحيان، إلا من رحم الله، التكبُّر على الناس وتدعو إلى الرفعة عن المستحقرات. وبالتالي كان الشيخ يوجّه رياضته لمعانٍ عميقة ولا يحتاج أن يضيع الكثير من الوقت والجهد في ترويض نفسه. قال في سياق حديثه عن تعظيم الصدقات سواءٌ في الأخذ والإعطاء:
فقد يكون استعظام الصدقة من هذا الباب [أي من قوله تعالى في سورة الحج: ((ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [32]))] عند بعض العارفين، فلهذا يستعظم ما يعطي إن كان مُعطياً أو ما يأخذ إن كان آخذاً، وقد يكون مشهده ذوقاً آخر (وهو أنها من عند الله تعالى مهما كانت صغيرة) وهو أوّل مشهدٍ ذقناه من هذا الباب في هذا الطريق، وهو أني حملت يوماً في يدي شيئا محقراً مستقذرا[1] في العادة عند العامة لم يكن أمثالنا يحمل مثل ذلك من أجل ما في النفوس من رعونة الطبع ومحبة التميّز على من لا يلحظ بعين التعظيم. فرأيت الشيخ (لعله يقصد أبا العباس العريبي، الذي سنذكره بعد قليل) ومعه أصحابه مقبلاً. فقال له أصحابه يا سيدنا هذا فلان قد أقبل وما قصّر في الطريق؛ لقد جاهد نفسه؛ تراه يحمل في وسط السوق حيث يراه الناس كذا، وذكروا له ما كان بيدي. فقال الشيخ فلعلّه ما حمله مجاهدةً لنفسه. قالوا له فما ثَمّ إلا هذا! قال فاسألوه إذا اجتمع بنا.
فلما وصلت إليهم سلمت على الشيخ. فقال لي بعد ردّ السلام: بأيّ خاطر حملت هذا في يدك وهو أمرٌ محقّرٌ مستقذرٌ وأهل منصبك من أرباب الدنيا لا يحملون مثل هذا في أيديهم لحقارته واستقذاره؟ فقلت له: يا سيدنا حاشاك من هذا النظر ما هو نظر مثلك؛ إن الله تعالى ما استقذره ولا حقّره لما علّق القدرة بإيجاده كما علّقها بإيجاد العرش وما تعظّمونه من المخلوقات، فيكف بي وأنا عبدٌ حقيرٌ ضعيفٌ أستحقر وأستقذر ما هو بهذه المثابة. فقبّلني ودعا لي وقال لأصحابه أين هذا الخاطر من حمل المجاهد نفسه!
فقد يكون استعظام الصدقة من هذا الباب في حقّ المعطي وفي حقّ الآخذ فلاستعظام الأشياء وجوه مختلفة يعتبرها أهل الله.[2]
[1] كان ذلك سمكا مملحا (الفتوحات المكية: ج1ص506).
[2] الفتوحات المكية: ج1ص588.