كتاب شمس المغرب
سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
جمع وإعداد: محمد علي حاج يوسف
هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب
ثم يتابع فيقول:
فلم أشعر إلا بضربة بين كتفيَّ بكفّ ألين من الخزّ؛ فإذا بجارية من بنات الروم لم أر أحسنَ منها وجهاً، ولا أعذبَ منطقاً، ولا أرقَّ حاشيةً، ولا ألطفَ معنىً، ولا أدقَّ إشارةً، ولا أظرفَ محاورةً منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالاً ومعرفةً.
فطلبت منه هذه الفتاة أن يُعيد ما قاله، وكانت تعرفه ولم يكن يعرفها، فأعاد عليها البيت الأول، فاستوقفته وقالت: عجباً منك أنت عارف زمانك تقول مثل هذا! وأخذت تناقشه في الأبيات بيتاً بيتاً، وتوضح له أن حال المحب الكامل الفاني في محبوبه لا يكون كما وصف وإنما لا يكون له لسان يصف به ولا قلب يحتار به.
فقال لها الشيخ محي الدين: يا بنت الخالة، ما اسمك؟ قالت: قرّة العين. قال: لي.[1]
ثم سلّمت نظام وانصرفت، ولكنها تركت في قلب الشيخ الأكبر أثراً كبيراً غيّر حياته الروحية، لتكون أكثر ضياءً وصفاءً وبهاءً وعطاءً، وليس كما قد يظن البعض أنها قد تكون فتنته فأثنته عمّا هو في سبيله من الزهد والعبادة، فلكل شيء ميزان، وقد آن الأوان، وانقضى عهد الرهبانية بعد الوصول إلى الأمان، وقد بلغت الشمس الآن وضع الزوال وحان وقت الأذان. فهل تزوّج الشيخ محي الدين من هذه الفتاة؟
زواجه
ربما لاحظنا أنه لم يرد حتى الآن أي ذكر لحياة ابن العربي العائلية، فيما إذا كان تزوج ومن ومتى؟ نحن نعرف أن الشيخ محي الدين قد تزوج أكثر من مرة ولكننا لا يمكننا أن نحدد متى حصل ذلك ولا كم مرة على وجه التحديد. ولكن يبدو على الأغلب أن الشيخ محي الدين فضّل في البداية الابتعاد عن النساء والارتباط العائلي حتى يتمكن من الرحيل والتنقل دون أن يشغل باله بمستلزمات العائلة، ولقد كان موفقا في ذلك إلى حد بعيد حيث وجدنا أنه بعد وفاة والده ووالدته بسنتين تقريبا زوّج أختيه وتخلّص من الارتباطات العائلية التي تستوجب منه تفرغا كاملا، بعيدا عن أي ارتباط يعيقه عما هو في سبيله. ولكن هذا الحال لا يمكن أن يدوم لأنه "لا صرورة في الإسلام"،[2] والرسول صلّى الله عليه وسلّم قال في جوابه على الثلاثة الذين كان أحدهم يقوم الليل كله والآخر يصوم ولا يفطر والثالث لا يتزوج النساء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه: "أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني!" وقال أيضاً في الحديث الآخر: "حُبِّبَ إليَّ
[1] ترجمان الأشواق: ص12، وكذلك في محاضرة الأبرار: ج2ص56.
[2] ورد ذلك في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (عون المعبود، شرح سنن أبي داود، للآبادي، كتاب المناسك، رقم 559). والصرورة هي التبتل وترك النكاح وأيضاً الذي تقال لمن لم يحج قط، وأصله من الصر الحبس والمنع. والحديث الشائع "لا رهبانية في الإسلام" لا أصل له بهذا الشكل، انظر كشف الخفاء: رقم 3154 (حرف اللام ألف).