كتاب شمس المغرب
سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
جمع وإعداد: محمد علي حاج يوسف
هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب
بالنسبة لله تعالى القادر على كل شيء، والذي لو شاء لانتقم من فرعون في أي وقت وبأي شكل سواء في الدنيا أو في الآخرة.
يقول ابن تيمية:
والمقصود هنا أن هؤلاء الاتحادية من أتباع صاحب "فصوص الحكم" وصاحب "الفتوحات المكية" ونحوهم هم الذين يعظّمون فرعون ويدّعون أنه مات مؤمنا وأن تغريقه كان بمنزلة غسل الكافر إذا أسلم، ويقولون: ليس في القرآن ما يدل على كفره ويحتجون على إيمانه بقوله (تعالى، في سورة يونس) ((... حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [90]))، وتمام القصة تبين ضلالهم، فإنه قال سبحانه: ((آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [91]))، وهذا استفهام إنكار وذم، ولو كان إيمانه صحيحا مقبولا لما قيل له ذلك.[1]
فكيف قرّر شيخ الإسلام أن هذا الاستفهام إنكارٌ وذمٌّ، ولماذا لا يكون لوماً وعتاباً، فلو شاء الله أن يكذّب فرعون لفعل ذلك بصريح الآية، وابن تيميّة نفسه ينفي المجاز كما رأينا، ولكن تطبيق الأسلوب البشري في الكلام العامي هو الذي أدى إلى هذا الاستنتاج، وهو أمرٌ أبعد من مجرّد المجاز ولا يجوز تطبيقه على القرآن بتاتاً. والحقيقة أيضاً أن في هذه الآية إشارة واضحة إلى أن فرعون قد دخل طوراً جديداً بقول الله له "من قَبْلُ" و"كُنتَ" ثمّ تلا ذلك بقوله تعالى "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ" وقال "بِبَدَنِكَ" ولم يقل "ننجي بدنك" ثم علّل ذلك سبحانه وتعالى فقال: "لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ" وذلك لأن القليل يدرك سعة رحمة الله تعالى ومغفرته مهما كانت الذنوب كبيرة وكثيرة، فإنه قد يغفرها أو يكفّرها ولا يبالي، خاصة وأنه قال في آية أخرى أن الله تعالى أخذ فرعون هذا الأخذ الأليم "نكال الآخرة والأولى"، أي جزاءً، أي تكفيراً، والله تعالى أعلم. فلو كانت الآية في أخذ فرعون بالغرق إظهار قدرة الله تعالى عليه لما صحّ قوله تعالى بعد ذلك "وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ"، فالكثير ما زاد على النصف على أقلّ تقدير، ولكنّ أكثر الناس يدركون ويعرفون قدرة الله تعالى على فرعون وغيره في حين أن أكثر الناس غافلين بالفعل عن سعة رحمة الله تعالى.
ولو أردنا تحليل الآيات القرآنية بشكل مفصل لوجدنا أن الدلائل التي تشير إلى قبول إيمانه أقوى من الدلائل المناقضة والتي تشير إلى دخول آل فرعون للنار وأنه سوف يقدم قومه يوم القيامة ويوردهم النار، فحتى لو افترضنا أن فرعون هو واحد منهم (أي يشمله قول الله تعالى: "قومه" أو "آل فرعون") مقصود بهذه الآيات فذلك لا يتعارض مع إمكانية أنه قد مات مؤمنا، حيث أن المؤمن يمكن أن يعذب بالنار مقابل ظلمه للناس، وفرعون كان ظالما ولا شك، وإنما حديثنا عن إيمانه عند غرقه وموته وليس عن عمله قبل ذلك، فهذا أمر مقطوع فيه.
[1] ابن تيمية، "جامع الرسائل": ص207.