كتاب شمس المغرب
سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
جمع وإعداد: محمد علي حاج يوسف
هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب
أنواع البهاليل
وفي نفس الباب الرابع والأربعين ذكر الشيخ رضي الله عنه أنّ هؤلاء البهاليل كبهلول وسعدون من المتقدّمين وأبي وهب الفاضل وأمثالهم: منهم المسرور ومنهم المحزون؛ وهم في ذلك بحسب الوارد الأوّل الذي ذهب بعقولهم، فإن كان واردَ قهرٍ قبضهم كيعقوب الكوراني الذي كان بالجسر الأبيض (في دمشق) رآه الشيخ وكان على هذا القدم، وكذلك مسعود الحبشي رآه الشيخ بدمشق أيضاً كما ذكرنا أعلاه وكان ممتزجا بين القبض والبسط والغالب عليه البهت. وإن كان الوارد الذي ذهب بعقولهم واردَ لطفٍ بسطهم فكانوا من المسرورين، وقد رأى الشيخ من هذا الصنف جماعة أيضاً (من غير أن يحدد المكان) كأبي الحجاج الغليريّ وأبي الحسن عليّ السلاوي.
ثم يضيف الشيخ محي الدين أن الناس لا يعرفون ما ذهب بعقول هؤلاء المجانين فشغلهم عن تدبير نفوسهم، فسخّر الله لهم الخلق فهم مشتغلون بمصالحهم عن طيبِ نفسٍ؛ فأشهى ما إلى الناس أن يأكل واحد من هؤلاء عنده أو يقبل منه ثوباً، وذلك تسخير إلهي. فيقول الشيخ الأكبر أن الله جمع لهؤلاء المجانين بين الراحتين حيث يأكلون ما يشتهون ولا يُحاسبون ولا يُسألون، وجعل الله لهم القبول في قلوب الخلق والمحبة والعطف عليهم واستراحوا من التكليف، ولهم عند الله أجرُ من أحسن عملا في مدّة أعمارهم التي ذهبت بغير عمل، لأنه سبحانه هو الذي أخذهم إليه فحفظ عليهم نتائج الأعمال التي لو لم يذهب بعقولهم لعملوها من الخير، كمن بات نائماً على وضوء وفي نفسه أن يقوم من الليل يصلي فيأخذ الله بروحه فينام حتى يصبح، فإن الله يكتب له أجر من قام ليله لأنه هو الذي حبسه عنده في حال نومه، فالمخاطب بالتكليف منهم وهو روحهم غائب في شهود الحق الذي ظهر سلطانه فيهم فما لهم أُذن واعية لحفظ السماع من خارج وتعقّل ما جاء به.
الشيخ الأكبر يذوق هذا المقام
ثم يقول الشيخ الأكبر رضي الله عنه أنه قد ذاق هذا المقام ومرّ عليه وقت يؤدّي فيه الصلوات الخمس إماماً بالجماعة على ما قيل له بإتمام الركوع والسجود وجميع أحوال الصلاة من أفعالٍ وأقوالٍ وهو في هذا كله لا علم له بذلك، لا بالجماعة ولا بالمحلّ ولا بالحال ولا بشيء من عالم الحس لشهودٍ غلب عليه غاب فيه عن نفسه وعن غيره وأُخبر أنه كان إذا دخل وقت الصلاة يقيم الصلاة ويصلي بالناس، فكان حاله كالحركات الواقعة من النائم ولا علم له بذلك، فعَلم أنّ الله حفظ عليه وقته ولم يُجر على لسانه ذنبا.
ويقول الشيخ رضي الله عنه أنه كان في بعض الأوقات في حال غيبته هذه يشاهد ذاته في النور الأعم والتجلي الأعظم بالعرش العظيم يصلي بها وهو عريّ عن الحركة بمعزلٍ عن نفسه ويشاهدها بين يدي الله تعالى راكعة وساجدة وهو يعلم أنه هو ذلك الراكع والساجد؛ كرؤيا النائم، واليدُ في ناصيته، وكان