كتاب شمس المغرب
سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
جمع وإعداد: محمد علي حاج يوسف
هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب
ما جرى بينه وبين الكعبة وزمزم (مكة 600/1203)
ومن ضمن الأمور الغريبة التي جرت بين ابن العربي وبين الكعبة حيث يذكر الشيخ محي الدين أنها كانت تسأله الطواف بها رغبة منها بالاتصال بالمؤمن، وكان يسمع ذلك منها نطقا مسموعا بالأذن، وكذلك كان زمزم يسأله التضلّع[1] من مائه وكان يسمع ذلك، فكان يخاف على نفسه من الحجاب لعظيم شرفهما ومكانتهما عند الله تعالى فخاف أن يحجبه ذلك عمّا هو عليه من القرب الإلهيّ الذي يليق بذلك الموطن، فخاطبهما مبيّنا فضل المؤمن عليهما رغم شرفهما وعلو مكانتهما،[2] لأنهما مهما علا شأنهما فهما لا يزالان من الجمادات.
ولكن الشيخ محي الدين رضي الله عنه يقول إنه نزل مرّة ليلاً في يومٍ باردٍ وفيه مطر خفيف ليطوف حول الكعبة ولم يكن أحد يطوف حولها إلا رجل واحد فنظر إليها فرآها فيما تخيّل له قد شمّرت أذيالها واستعدّت مرتفعة عن قواعدها تريد أن تدفعه عنها إذا وصل بالطواف إلى الركن الشامي وترمي به عن الطواف بها، ويقول إنها كانت تتوعّده بكلامٍ يسمعه بأذنه، فجزع جزعاً شديداً وأظهر اللهُ له منها حرجاً وغيظاً بحيث لم يقدر على أن يبرح من موضعه ذلك وتستّر بالحجر ليقع الضرب عليه فجعله كالمجنّ الحائل بينه وبينها. ويقول الشيخ محي الدين:
وأسمعها والله وهي تقول لي تقدّم حتى ترى ما أصنع بك! كم تضع من قدري وترفع من قدر بني آدم وتفضّل العارفين عليّ! وعزة من له العزة لا تركتك تطوف بي!
فيقول إنه رجع مع نفسه وعلم أن الله يريد تأديبه، فشكر الله على ذلك وزال جزعه الذي كان يجده. ويحلف الشيخ الأكبر بالله أنه كان يُخيّل له أنها قد ارتفعت عن الأرض بقواعدها مشمّرة الأذيال كما يتشمّر الإنسان إذا أراد أن يثب من مكانه يجمع عليه ثيابه، وكانت في صورة جارية لم يرَ صورة أحسن منها ولا يتخيّل أحسن منها. ثم يقول إنه ارتجل أبياتاً في الحال يخاطبها بها ويستنزلها عن ذلك الحرج الذي عاينه منها فما زال يثني عليها في تلك الأبيات وهي تتّسع وتنزل بقواعدها على مكانها وتُظهر السرور بما يُسمعها إلى أن عادت إلى حالها كما كانت وأمّنته وأشارت إليه بالطواف. فيقول الشيخ رضي الله عنه أنه
[1] تَضَلَّعَ أي امْتَلأَ شِبَعَاً أو رِيّاً حتى بَلَغَ الماءُ أضْلاعَه (القاموس المحيط: باب العين فصل الضاد). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال:" آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم"، أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم، رقم 3061، والحاكم في المستدرك على الصحيحين: ج1ص472، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: إسناده صحيح ورجاله موثقون. انظر كنز العمال: حديث رقم 34782.
[2] لقد ورد في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك، يعني الكعبة، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وإن يظن به إلا خيرا." رواه السيوطي في الجامع الصغير عن ابن عمر، رقم 2614. ونحوه عند البيهقي عن ابن عباس، وكذلك عن ابن عمر بسند ضعيف.