كتاب شمس المغرب
سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه
جمع وإعداد: محمد علي حاج يوسف
هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب
المسلمون يطوفون حول الكعبة المشرفة في مكة المكرمة في موسم الحج
من أجل ذلك ذهب كثير من العلماء، كالشافعي وأحمد، إلى استحباب المجاورة في مكة المكرمة، لِما يحصل فيها من ثواب لا يحصل في غيرها، فسكّان مكّة في ثوابٍ دائمٍ للنظر إلى البيت والقرب منه. ولذلك سنجد أن الشيخ محي الدين رضي الله عنه قد ترك بلاده في الأندلس وأهله هناك، وترك أيضاً العزّ والجاه الذي كان يلقاه عند الملوك والأمراء هناك، ولم يأبه لهذا كلِّه وآثر جِوار الله تعالى ورسولِه عليه الصلاة والسلام، حيث سيبقى في هذه المرّة سنتين متواصلتين ثم يعود إليها عدة مرات بعد ذلك بقصد الحجّ ويجاور فيها لفترات متقطعة.
وقد وَجدت بعض الدراسات الحديثة أن مكّة المكرّمة تُعتبر مركز اليابسة على سطح الكرة الأرضية لتساوي جميع أطراف القارات بالبعد عنها، وكذلك فإن مكة تقع أيضاً في المركز المغناطيس للكرة الأرضية.[1]
ومن كثرة ما وَجد فيها من البركة أراد الشيخ محي الدين ابن العربي أن يستحثّ صاحبه العزيز عبد العزيز المهدوي على زيارتها فكتب له في مقدمة الفتوحات المكية[2] التي أهداها إليه كما سنرى لاحقا وقال:
و(نريد) أن نعرّف أيضاً في هذا الموضوع الصفيَّ الكريمَ أبا محمد عبد العزيز رضي الله عنه ما تعطيه مكة من البركات وأنها خير وسيلة عبادية وأشرف منزلة جمادية ترابية عسى تنهض به همة الشوق إليه وتنزل به رغبة المزيد عليه، فقد قيل لمن أوتي جوامع الكلم وكان من ربه في مشاهدة العين أدنى من قاب قوسين، ومع هذا التقريب الأكمل والحظّ الأوفر الأجزل أنزل عليه (وقل ربّ زدني علماً). ومن شرط العالِمِ المُشاهدِ صاحبِ المقامات الغيبية والمَشاهد أن يعلم أن للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثيراً ولو وجد القلب في أي موضع كان الوجود الأعم فوجوده بمكة أسنى وأتم، فكما تتفاضل المنازل الروحانية كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية، وإلا فهل الدرّ مثل الحجر إلا عند صاحب الحال، وأما المُكمّل صاحب المقام فإنه يميّز بينهما كما ميّز بينهما الحق؛ هل ساوى الحق بين دارٍ بناؤها لِبن التراب والتبن ودارٍ بناؤها لِبن العسجد واللجين! فالحكيم الواصل من أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فذلك واحد عصره وصاحب وقته. وكثيرٌ (الفرق) بين مدينة يكون أكثر عمارتها الشهوات وبين مدينة يكون أكثر عمارتها الآيات البيّنات؛ أليس قد جمع معي
[1] انظر كتاب، المنظار الهندسي للقرآن الكريم، خالد فائق العبيدي، دار الكتب العلمية، 2005.
[2] يبدو أنّ الفتوحات المكية كانت في البداية عبارة عن رسالة عاديّة وجّهها الشيخ الأكبر من مكة المكرّمة إلى صديقه عبد العزيز في تونس، ثم بعد ذلك وضع فيها الفصول والأبواب الكثيرة وما أكملها إلا بعد ثلاثين سنة كما سنرى في الفصل السادس. ولذلك نجد العديد من الكتب والرسائل المنفصلة قد تكاملت ودمجها الشيخ محي الدين في الفتوحات المكيّة.