موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة التوبة: [تفسير ابن كثير]

كتاب "تفسير القرآن العظيم" للإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى 774 هـ)، وهو تفسير بالمأثور يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة والتابعين، كما اهتم باللغة العربية وعلومها، واهتم بالأسانيد ونقدها، واهتم بذكر القراءات المختلفة وأسباب نزول الآيات، كما يشتمل على الأحكام الفقهية، ويعتني بالأحاديث النبوية، ويخلو من الإسرائيليات.
سورة التوبة

[ بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه أستعين وهو حسبي ونعم الوكيل ] تفسير سورة التوبة ، مدنية .

هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال البخاري .

حدثنا [ أبو ] الوليد ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : آخر آية نزلت : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) [ النساء : 176 ] وآخر سورة نزلت براءة .

وإنما لا يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام ، والاقتداء في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه وأرضاه - كما قال الترمذي :

حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعد ، ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي ، وسهل بن يوسف قالوا : حدثنا عوف بن أبي جميلة أخبرني يزيد الفارسي ، أخبرني ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر ) بسم الله الرحمن الرحيم ) ووضعتموها في السبع الطول ، ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، فإذا نزلت عليه الآية فيقول : ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها ، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر ) بسم الله الرحمن الرحيم ) فوضعتها في السبع الطول .

وكذا رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من طرق أخر ، عن عوف الأعرابي ، به ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم ، فبعث أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أميرا على الحج هذه السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي في الناس ببراءة ، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكونه عصبة له ، كما سيأتي بيانه .

فقوله : ( براءة من الله ورسوله ) أي : هذه براءة ، أي : تبرؤ من الله ورسوله ( إلى الذين عاهدتم من المشركين

اختلف المفسرون هاهنا اختلافا كثيرا ، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة ، أو من له عهد دون أربعة أشهر ، فيكمل له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته ، مهما كان ؛ لقوله تعالى : ( فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ) [ التوبة : 4 ] ولما سيأتي في الحديث : ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدته . وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد اختاره ابن جرير - رحمه الله - وروي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي ، وغير واحد .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) قال : حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيثما شاءوا ، وأجل أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم ، [ من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم ، فذلك خمسون ليلة ، فإذا انسلخ الأشهر الحرم ] أمره بأن يضع السيف فيمن لا عهد له .

وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس .

وقال [ الضحاك ] بعد قوله : فذلك خمسون ليلة : فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد ، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام . وأمر ممن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر ، أن يضع فيهم السيف حتى يدخلوا في الإسلام .

وقال أبو معشر المدني : حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع ، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من " براءة " فقرأها على الناس ، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأها عليهم يوم عرفة ، أجل المشركين عشرين من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشرا من ربيع الآخر ، وقرأها عليهم في منازلهم ، وقال : لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( براءة من الله ورسوله ) إلى أهل العهد : خزاعة ، ومدلج ، ومن كان له عهد أو غيرهم . أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك حين فرغ ، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج ، ثم قال : إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك . فأرسل أبا بكر وعليا - رضي الله عنهما - فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها بالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات : عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا .

وهكذا روي عن السدي : وقتادة .

وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم .

وهذا القول غريب ، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها ، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر ، حين نادى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، ولهذا قال تعالى :

يقول تعالى : وإعلام ) من الله ورسوله ) وتقدم وإنذار إلى الناس ، ( يوم الحج الأكبر ) وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعا ( أن الله بريء من المشركين ورسوله ) أي : بريء منهم أيضا .

ثم دعاهم إلى التوبة إليه فقال : ( فإن تبتم ) أي : مما أنتم فيه من الشرك والضلال ( فهو خير لكم وإن توليتم ) أي : استمررتم على ما أنتم عليه ( فاعلموا أنكم غير معجزي الله ) بل هو قادر ، وأنتم في قبضته ، وتحت قهره ومشيئته ، ( وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ) أي : في الدنيا بالخزي والنكال ، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال .

قال البخاري - رحمه الله - : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر - رضي الله عنه - في تلك الحجة في المؤذنين ، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . قال حميد : ثم أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي بن أبي طالب ، فأمره أن يؤذن ببراءة . قال أبو هريرة : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .

ورواه البخاري أيضا : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل : " الأكبر " ، من أجل قول الناس : " الحج الأصغر " ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشرك .

وهذا لفظ البخاري في كتاب " الجهاد " .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قوله : ( براءة من الله ورسوله ) قال : لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن حنين ، اعتمر من الجعرانة ، ثم أمر أبا بكر على تلك الحجة - قال معمر : قال الزهري : وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمر أبا هريرة أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر قال أبو هريرة : ثم أتبعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا ، وأمره أن يؤذن ببراءة ، وأبو بكر على الموسم كما هو ، أو قال : على هيئته .

وهذا السياق فيه غرابة ، من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد ، فأما أبو بكر إنما كان أميرا سنة تسع .

وقال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن محرر بن أبي هريرة ، عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب ، حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة " ببراءة " ، فقال : ما كنتم تنادون ؟ قال : كنا ننادي : ألا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فإن أجله - أو أمده - إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك . قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي .

وقال الشعبي : حدثني محرر بن أبي هريرة ، عن أبيه قال : كنت مع ابن أبي طالب - رضي الله عنه - حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي ، فكان إذا صحل ناديت . قلت : بأي شيء كنتم تنادون ؟ قال : بأربع : لا يطوف بالكعبة عريان ، ومن كان له عهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعهده إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا مشرك .

رواه ابن جرير من غير ما وجه ، عن الشعبي . ورواه شعبة ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، به إلا أنه قال : ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد ، فعهده إلى أربعة أشهر . وذكر تمام الحديث .

قال ابن جرير : وأخشى أن يكون وهما من بعض نقلته ؛ لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن سماك ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث ب " براءة " مع أبي بكر ، فلما بلغ ذا الحليفة قال : لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي . فبعث بها مع علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه .

ورواه الترمذي في التفسير ، عن بندار ، عن عفان وعبد الصمد ، كلاهما عن حماد بن سلمة به ، ثم قال : حسن غريب من حديث أنس ، رضي الله عنه .

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثنا محمد بن سليمان - لوين - حدثنا محمد بن جابر ، عن سماك ، عن حنش ، عن علي - رضي الله عنه - قال : لما نزلت عشر آيات من " براءة " على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ، فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ، ثم دعاني فقال : أدرك أبا بكر ، فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه ، فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم . فلحقته بالجحفة ، فأخذت الكتاب منه ، ورجع أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، نزل في شيء ؟ فقال : لا ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك .

هذا إسناد فيه ضعف .

وليس المراد أن أبا بكر - رضي الله عنه - رجع من فوره ، بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء مبينا في الرواية الأخرى .

وقال عبد الله أيضا : حدثني أبو بكر ، حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط بن نصر ، عن سماك ، عن حنش ، عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه ب " براءة " قال : يا نبي الله ، إني لست باللسن ولا بالخطيب ، قال : ما بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت . قال : فإن كان ولا بد فسأذهب أنا . قال : انطلق ، فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك . قال : ثم وضع يده على فيه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع - رجل من همدان - : سألنا عليا : بأي شيء بعثت ؟ يعني : يوم بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر في الحجة ، قال : بعثت بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدته ، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا .

ورواه الترمذي عن قلابة ، عن سفيان بن عيينة ، به ، وقال : حسن صحيح .

كذا قال ، ورواه شعبة ، عن أبي إسحاق فقال : عن زيد بن يثيع وهم فيه . ورواه الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن علي ، رضي الله عنه .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع ، عن علي قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت " براءة " بأربع : ألا يطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فهو إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة .

ثم رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن ابن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : أمرت بأربع . فذكره .

وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع قال : نزلت براءة فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ، ثم أرسل عليا ، فأخذها منه ، فلما رجع أبو بكر قال : نزل في شيء ؟ قال : لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي . فانطلق إلى أهل مكة ، فقام فيهم بأربع : لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد ، فعهده إلى مدته .

وقال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف ، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال : لما نزلت " براءة " على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس ، فقيل : يا رسول الله ، لو بعثت إلى أبي بكر . فقال : لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي . ثم دعا عليا فقال : اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى : أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدته .

فخرج علي - رضي الله عنه - على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء ، حتى أدرك أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور ؟ قال : بل مأمور ، ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج ، [ والعرب ] إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر ، قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام ، ولا يطف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو إلى مدته . فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان ، ثم قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فكان هذا من " براءة " فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، أخبرنا حيوة بن شريح : أخبرنا أبو صخر : أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول : سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول : سألت علي بن أبي طالب عن " يوم الحج الأكبر " فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس الحج ، وبعثني معه بأربعين آية من " براءة " ، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة ، فلما قضى خطبته التفت إلي فقال : قم يا علي ، فأد رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من " براءة " ، ثم صدرنا فأتينا منى ، فرميت الجمرة ونحرت البدنة ، ثم حلقت رأسي ، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا كلهم خطبة أبي بكر يوم عرفة ، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم ، فمن ثم إخال حسبتم أنه يوم النحر [ ألا وهو يوم النحر ] ألا وهو يوم عرفة .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق : سألت أبا جحيفة عن يوم الحج الأكبر ، قال : يوم عرفة . فقلت : أمن عندك أم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : كل في ذلك .

وقال عبد الرزاق أيضا ، عن جريج ، عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر ، يوم عرفة .

وقال عمر بن الوليد الشني : حدثنا شهاب بن عباد العصري ، عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : هذا يوم عرفة ، هذا يوم الحج الأكبر ، فلا يصومنه أحد . قال : فحججت بعد أبي ، فأتيت المدينة ، فسألت عن أفضل أهلها ، فقالوا : سعيد بن المسيب ، فأتيته فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا : سعيد بن المسيب ، فأخبرني عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف ، عمر - أو : ابن عمر - كان ينهى عن صومه ، ويقول هو يوم الحج الأكبر .

رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهكذا روي عن ابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس : أنهم قالوا : يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر .

وقد ورد فيه حديث مرسل رواه ابن جريج : أخبرت عن محمد بن قيس بن مخرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم عرفة ، فقال : " هذا يوم الحج الأكبر " .

وروي من وجه آخر عن ابن جريج ، عن محمد بن قيس ، عن المسور بن مخرمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه خطبهم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن هذا يوم الحج الأكبر .

والقول الثاني : أنه يوم النحر .

قال هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن علي - رضي الله عنه - قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر .

وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن الحارث الأعور ، سألت عليا - رضي الله عنه - عن يوم الحج الأكبر ، فقال : [ هو ] يوم النحر .

وقال شعبة ، عن الحكم : سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن علي - رضي الله عنه - أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة ، فجاء رجل فأخذ بلجام دابته ، فسأله عن الحج الأكبر ، فقال : هو يومك هذا ، خل سبيلها .

وقال عبد الرزاق ، عن سفيان عن شعبة عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر .

وروى شعبة وغيره ، عن عبد الملك بن عمير ، به نحوه . وهكذا رواه هشيم وغيره ، عن الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى .

وقال الأعمش ، عن عبد الله بن سنان قال : خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال : هذا يوم الأضحى ، وهذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر .

وقال حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : الحج الأكبر ، يوم النحر .

وكذا روي عن أبي جحيفة ، وسعيد بن جبير ، وعبد الله بن شداد بن الهاد ، ونافع بن جبير بن مطعم ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبي جعفر الباقر ، والزهري ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : يوم الحج الأكبر هو يوم النحر . واختاره ابن جرير . وقد تقدم الحديث عن أبي هريرة في صحيح البخاري : أن أبا بكر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى ، وقد ورد في ذلك أحاديث أخر ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني سهل بن محمد السجستاني ، حدثنا أبو جابر الحرمي ، حدثنا هشام بن الغاز الجرشي عن نافع ، عن ابن عمر قال : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع ، فقال : " هذا يوم الحج الأكبر " .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، وابن مردويه من حديث أبي جابر - واسمه محمد بن عبد الملك ، به ، ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم ، عن هشام بن الغاز ، به . ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز ، عن نافع ، به .

وقال شعبة ، عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقة حمراء مخضرمة ، فقال : أتدرون أي يوم يومكم هذا ؟ قالوا : يوم النحر . قال : صدقتم ، يوم الحج الأكبر .

وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : لما كان ذلك اليوم ، قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بعير له ، وأخذ الناس بخطامه - أو : زمامه - فقال : أي يوم هذا ؟ قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه ، فقال : أليس هذا يوم الحج الأكبر .

وهذا إسناد صحيح ، وأصله مخرج في الصحيح .

وقال أبو الأحوص ، عن شبيب بن غرقدة ، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، فقال : أي يوم هذا ؟ فقالوا : اليوم الحج الأكبر .

وعن سعيد بن المسيب أنه قال : يوم الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر . رواه ابن أبي حاتم . وقال مجاهد أيضا : يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها .

وكذا قال أبو عبيد ، قال سفيان : " يوم الحج " ، و " يوم الجمل " ، و " يوم صفين " أي : أيامه كلها .

وقال سهل السراج : سئل الحسن البصري عن يوم الحج الأكبر ، فقال : ما لكم وللحج الأكبر ، ذاك عام حج فيه أبو بكر الذي استخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحج بالناس . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون : سألت محمدا - يعني ابن سيرين - عن يوم الحج الأكبر فقال : كان يوما وافق فيه حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حج أهل الوبر .

هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر ، لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله ، أربعة أشهر يسيح في الأرض ، يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء ، إلا من له عهد مؤقت ، فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث : ومن كان له عهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعهده إلى مدته وذلك بشرط ألا ينقض المعاهد عهده ، ولم يظاهر على المسلمين أحدا ، أي : يمالئ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده إلى مدته ؛ ولهذا حرض الله تعالى على الوفاء بذلك فقال : ( إن الله يحب المتقين ) أي : الموفين بعهدهم .

اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ، ما هي ؟ فذهب ابن جرير إلى أنها [ الأربعة ] المذكورة في قوله تعالى : ( منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) الآية [ التوبة : 36 ] قاله أبو جعفر الباقر ، لكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإليه ذهب الضحاك أيضا ، وفيه نظر ، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إسحاق ، وقتادة ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله : ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) [ التوبة : 2 ] ثم قال ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) أي : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم ، وأجلناهم فيها ، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ؛ ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة .

وقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) أي : من الأرض . وهذا عام ، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) [ البقرة : 191 ] .

وقوله : ( وخذوهم ) أي : وأسروهم ، إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا .

وقوله : ( واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) أي : لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم ، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم ، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع ، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ؛ ولهذا قال : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم )

ولهذا اعتمد الصديق - رضي الله عنه - في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال ، وهي الدخول في الإسلام ، والقيام بأداء واجباته . ونبه بأعلاها على أدناها ، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق الله - عز وجل - وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج ، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة ، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة الحديث .

وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومن لم يزك فلا صلاة له .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا حميد الطويل ، عن أنس ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم .

ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث عبد الله بن المبارك ، به .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس [ عن أنس ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا يشرك به شيئا ، فارقها والله عنه راض - قال : وقال أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هرج الأحاديث ، واختلاف الأهواء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل ، قال الله تعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) - قال : توبتهم خلع الأوثان ، وعبادة ربهم ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية أخرى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) [ التوبة : 11 ] .

ورواه ابن مردويه .

ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " له : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنبأنا حكام بن سلم حدثنا أبو جعفر الرازي ، به سواء .

وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل عهد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أحد من المشركين ، وكل عهد ، وكل مدة .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة ، منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمى لهم من العقد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان قال علي بن أبي طالب : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف : سيف في المشركين من العرب قال الله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ وخذوهم ] )

هكذا رواه مختصرا ، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] والسيف الثالث : قتال المنافقين في قوله : ( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ) [ واغلظ عليهم ] ) [ التوبة : 73 ، والتحريم : 9 ] والرابع : قتال الباغين في قوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) [ الحجرات : 9 ] .

ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه ، فقال الضحاك والسدي : هي منسوخة بقوله تعالى : ( فإما منا بعد وإما فداء ) [ محمد : 4 ] وقال قتادة بالعكس .

يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه : ( وإن أحد من المشركين ) الذين أمرتك بقتالهم ، وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم ، ( استجارك ) أي : استأمنك ، فأجبه إلى طلبته ( حتى يسمع كلام الله ) أي : [ القرآن ] تقرؤه عليه وتذكر له شيئا من [ أمر ] الدين تقيم عليه به حجة الله ، ( ثم أبلغه مأمنه ) أي : وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه ، ( ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) أي : إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله ، وتنتشر دعوة الله في عباده .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في تفسير هذه الآية ، قال : إنسان يأتيك يسمع ما تقول وما أنزل عليك ، فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام الله ، وحتى يبلغ مأمنه ، حيث جاء .

ومن هذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي الأمان لمن جاءه ، مسترشدا أو في رسالة ، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش ، منهم : عروة بن مسعود ، ومكرز بن حفص ، وسهيل بن عمرو ، وغيرهم واحدا بعد واحد ، يترددون في القضية بينه وبين المشركين ، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر ، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك ، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم .

ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : أتشهد أن مسيلمة رسول الله ؟ قال : نعم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة ، وكان يقال له : ابن النواحة ، ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة ، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له : إنك الآن لست في رسالة ، وأمر به فضربت عنقه ، لا رحمه الله ، ولعنه .

والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة ، أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية ، أو نحو ذلك من الأسباب ، فطلب من الإمام أو نائبه أمانا ، أعطي أمانا ما دام مترددا في دار الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه . لكن قال العلماء : لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة ، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر ، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان ، عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله.

يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا ، فقال تعالى : ( كيف يكون للمشركين عهد ) وأمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله ، ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) يعني يوم الحديبية ، كما قال تعالى : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) الآية [ الفتح : 25 ] ، ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) أي : مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين ( فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين ) وقد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست ، إلى أن نقضت قريش العهد ومالئوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتلوهم معهم في الحرم أيضا ، فعند ذلك غزاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان سنة ثمان ، ففتح الله عليه البلد الحرام ، ومكنه من نواصيهم ، ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم ، فسموا الطلقاء ، وكانوا قريبا من ألفين ، ومن استمر على كفره وفر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر ، يذهب حيث شاء : منهم صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام ، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله .

يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداة المشركين والتبري منهم ، ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله وكفرهم برسول الله ولو أنهم إذ ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم ، لم يبقوا ولم يذروا ، ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة .

قال علي بن أبي طلحة ، وعكرمة ، والعوفي عن ابن عباس : " الإل " : القرابة ، " والذمة " : العهد . وكذا قال الضحاك والسدي ، كما قال تميم بن مقبل :

أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإل وأعراق الرحم

وقال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - :

وجدناهم كاذبا إلهم وذو الإل والعهد لا يكذب

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ) قال : الله . وفي رواية : لا يرقبون الله ولا غيره .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن سليمان ، عن أبي مجلز في قوله تعالى : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) مثل قوله : " جبرائيل " ، " ميكائيل " ، " إسرافيل " ، [ كأنه يقول : يضيف " جبر " ، و " ميكا " ، و " إسراف " ، إلى " إيل " ، يقول عبد الله : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ) ] كأنه يقول : لا يرقبون الله .

والقول الأول أشهر وأظهر ، وعليه الأكثر .

وعن مجاهد أيضا : " الإل " : العهد . وقال قتادة : " الإل " : الحلف .

يقول تعالى ذما للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم : ( اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ) يعني أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة ، ( فصدوا عن سبيله ) أي : منعوا المؤمنين من اتباع الحق ، ( إنهم ساء ما كانوا يعملون)

يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداة المشركين والتبري منهم ، ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله وكفرهم برسول الله ولو أنهم إذ ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم ، لم يبقوا ولم يذروا ، ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة .

قال علي بن أبي طلحة ، وعكرمة ، والعوفي عن ابن عباس : " الإل " : القرابة ، " والذمة " : العهد . وكذا قال الضحاك والسدي ، كما قال تميم بن مقبل :

أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإل وأعراق الرحم

وقال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - :

وجدناهم كاذبا إلهم وذو الإل والعهد لا يكذب

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ) قال : الله . وفي رواية : لا يرقبون الله ولا غيره .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن سليمان ، عن أبي مجلز في قوله تعالى : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) مثل قوله : " جبرائيل " ، " ميكائيل " ، " إسرافيل " ، [ كأنه يقول : يضيف " جبر " ، و " ميكا " ، و " إسراف " ، إلى " إيل " ، يقول عبد الله : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ) ] كأنه يقول : لا يرقبون الله .

والقول الأول أشهر وأظهر ، وعليه الأكثر .

وعن مجاهد أيضا : " الإل " : العهد . وقال قتادة : " الإل " : الحلف .

وقال قتادة الإل الحلف.

وكذا الآية التي بعدها : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة ) إلى آخرها ، تقدمت .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن أبي بكر ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته ، لا يشرك به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، فارقها والله عنه راض ، وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء " . وتصديق ذلك في كتاب الله : ( فإن تابوا ) يقول : فإن خلعوا الأوثان وعبادتها ( وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) وقال في آية أخرى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين )

ثم قال البزار : آخر الحديث عندي والله أعلم : " فارقها وهو عنه راض " ، وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس .

يقول تعالى : وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم ، أي عهودهم ومواثيقهم ، ( وطعنوا في دينكم ) أي : عابوه وانتقصوه . ومن هاهنا أخذ قتل من سب الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بتنقص ؛ ولهذا قال : ( فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) أي : يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال .

وقد قال قتادة وغيره : أئمة الكفر كأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة ، وأمية بن خلف ، وعدد رجالا .

وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : مر سعد برجل من الخوارج ، فقال الخارجي : هذا من أئمة الكفر . فقال سعد : كذبت ، بل أنا قاتلت أئمة الكفر . رواه ابن مردويه .

وقال الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة أنه قال : ما قوتل أهل هذه الآية بعد .

وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مثله .

والصحيح أن الآية عامة ، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش ، فهي عامة لهم ولغيرهم ، والله أعلم .

وقال الوليد بن مسلم : حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير : أنه كان في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - إلى الناس حين وجههم إلى الشام ، قال : إنكم ستجدون قوما محوقة رءوسهم ، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف ، فوالله لأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم ، وذلك بأن الله يقول : ( فقاتلوا أئمة الكفر ) رواه ابن أبي حاتم .

وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين لأيمانهم ، الذين هموا بإخراج الرسول من مكة ، كما قال تعالى : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) [ الأنفال : 30 ] .

وقال تعالى : ( يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم [ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ] ) الآية [ الممتحنة : 1 ] وقال تعالى : ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ) [ الإسراء : 76 ] وقوله ( وهم بدءوكم أول مرة ) قيل : المراد بذلك يوم بدر ، حين خرجوا لنصر عيرهم فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجوههم طلبا للقتال ؛ بغيا وتكبرا ، كما تقدم بسط ذلك .

وقيل : المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، وكان ما كان ، ولله الحمد .

وقوله : ( أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) يقول تعالى : لا تخشوهم واخشون ، فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي ، فبيدي الأمر ، وما شئت كان ، وما لم أشأ لم يكن .

ثم قال تعالى عزيمة على المؤمنين ، وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته على إهلاك الأعداء بأمر من عنده : ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ) وهذا عام في المؤمنين كلهم .

وقال مجاهد ، وعكرمة ، والسدي في هذه الآية : ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) يعني : خزاعة .

وأعاد الضمير في قوله : ( ويذهب غيظ قلوبهم ) عليهم أيضا .

وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة مؤذن لعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عن مسلم بن يسار ، عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غضبت أخذ بأنفها ، وقال : يا عويش ، قولي : اللهم رب النبيمحمد اغفر ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن .

ساقه من طريق أبي أحمد الحاكم ، عن الباغندي ، عن هشام بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الجون ، عنه .

( ويتوب الله على من يشاء ) أي : من عباده ، ( والله عليم ) أي : بما يصلح عباده ، ( حكيم ) في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية ، فيفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وهو العادل الحاكم الذي لا يجور أبدا ، ولا يضيع مثقال ذرة من خير وشر ، بل يجازي عليه في الدنيا والآخرة .

يقول تعالى : ( أم حسبتم ) أيها المؤمنون أن نترككم مهملين ، لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب ؟ ولهذا قال : ( ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) أي : بطانة ودخيلة ، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله ، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر ، كما قال الشاعر :

وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني

وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : ( الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) [ العنكبوت : 1 - 3 ] وقال تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) [ آل عمران : 142 ] وقال تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) [ آل عمران : 179 ] .

والحاصل أنه تعالى لما شرع الجهاد لعباده ، بين أن له فيه حكمة ، وهو اختبار عبيده : من يطيعه ممن يعصيه ، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ؟ فيعلم الشيء قبل كونه ، ومع كونه على ما هو عليه ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه ، ولا راد لما قدره وأمضاه .

يقول تعالى : ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له . ومن قرأ : " مسجد الله " فأراد به المسجد الحرام ، أشرف المساجد في الأرض ، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له . وأسسه خليل الرحمن هذا ، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر ، أي : بحالهم وقالهم ، كما قال السدي : لو سألت النصراني : ما دينك ؟ لقال : نصراني ، واليهودي : ما دينك ؟ لقال يهودي ، والصابئي لقال : صابئي ، والمشرك لقال : مشرك .

( أولئك حبطت أعمالهم ) أي : بشركهم ، ( وفي النار هم خالدون ) كما قال تعالى : ( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ الأنفال : 34 ] ؛ ولهذا قال :

( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا سريج حدثنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ؛ أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ؛ قال الله تعالى : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر )

ورواه الترمذي ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب ، به .

وقال عبد بن حميد في مسنده : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا صالح المري ، عن ثابت البناني ، عن ميمون بن سياه ، وجعفر بن زيد ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما عمار المساجد هم أهل الله .

ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عبد الواحد بن غياث ، عن صالح بن بشير المري ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما عمار المساجد هم أهل الله ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح .

وقد روى الدارقطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار ، عن أبيها ، عن أخيه مالك بن دينار ، عن أنس مرفوعا : إذا أراد الله بقوم عاهة ، نظر إلى أهل المساجد ، فصرف عنهم . ثم قال : غريب .

وروى الحافظ البهاء في المستقصى ، عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي : حدثنا منصور بن صقير ، حدثنا صالح المري ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعا : يقول الله : وعزتي وجلالي ، إني لأهم بأهل الأرض عذابا ، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في ، وإلى المستغفرين بالأسحار ، صرفت ذلك عنهم . ثم قال ابن عساكر : حديث غريب .

وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، حدثنا العلاء بن زياد ، عن معاذ بن جبل ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الشيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال : أدركت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون : إن المساجد بيوت الله في الأرض ، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها .

وقال المسعودي ، عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ويأتي المسجد ويصلي ، فلا صلاة له ، وقد عصى الله ورسوله ، قال الله تعالى : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) الآية رواه ابن مردويه .

وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها .

وقوله : ( وأقام الصلاة ) أي : التي هي أكبر عبادات البدن ، ( وآتى الزكاة ) أي : التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق ، ( ولم يخش إلا الله ) أي : ولم يخف إلا من الله تعالى ، ولم يخش سواه ، ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) يقول : من وحد الله ، وآمن باليوم الآخر يقول : من آمن بما أنزل الله ، ( وأقام الصلاة ) يعني : الصلوات الخمس ، ( ولم يخش إلا الله ) يقول : لم يعبد إلا الله - ثم قال : ( فعسى أولئك [ أن يكونوا من المهتدين ] ) يقول : إن أولئك هم المفلحون ، كقوله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ الإسراء : 79 ] يقول : إن ربك سيبعثك مقاما محمودا وهي الشفاعة ، وكل " عسى " في القرآن فهي واجبة .

وقال محمد بن إسحاق بن يسار - رحمه الله - : و " عسى " من الله حق .

قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، قال : إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله ، وقيام على السقاية ، خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره ، فذكر الله استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين : ( قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون ) [ المؤمنون : 66 ، 67 ] يعني : أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال : ( به سامرا ) كانوا يسمرون به ، ويهجرون القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - فخير الله الإيمان والجهاد مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به إن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه .

قال الله : ( لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) يعني : الذين زعموا أنهم أهل العمارة ، فسماهم الله " ظالمين " بشركهم ، فلم تغن عنهم العمارة شيئا .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية ، قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي [ الحاج ] ونفك العاني ، قال الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) يعني أن ذلك كان في الشرك ، ولا أقبل ما كان في الشرك .

وقال الضحاك بن مزاحم : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه ، الذين أسروا يوم بدر ، يعيرونهم بالشرك ، فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونفك العاني ، ونحجب البيت ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله : ( أجعلتم سقاية الحاج [ وعمارة المسجد الحرام ] ) الآية .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : نزلت في علي ، والعباس - رضي الله عنهما - تكلما في ذلك .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرت عن أبي صخر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار ، وعباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، معي مفتاحه ، ولو أشاء بت فيه . وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، ولو أشاء بت في المسجد . فقال علي - رضي الله عنه - : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج ) الآية كلها .

وهكذا قال السدي ، إلا أنه قال : افتخر علي ، والعباس ، وشيبة بن عثمان ، وذكر نحوه .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن عمرو ، عن الحسن قال : نزلت في علي ، وعباس وعثمان ، وشيبة ، تكلموا في ذلك ، فقال العباس : ما أراني إلا تارك سقايتنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقيموا على سقايتكم ، فإن لكم فيها خيرا .

ورواه محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن فذكر نحوه .

وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث مرفوع ، فلا بد من ذكره هاهنا ، قال عبد الرزاق :

أخبرنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير [ عن رجل ] عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن رجلا قال : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام ، إلا أن أعمر المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم . فزجرهم عمر - رضي الله عنه - وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة - ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا عليه . فنزلت ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) إلى قوله : ( لا يستوون عند الله )

طريق أخرى : قال الوليد بن مسلم : حدثني معاوية بن سلام ، عن جده أبي سلام الأسود ، عن النعمان بن بشير الأنصاري قال : كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالي ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام . وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم . فزجرهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته فيما اختلفتم فيه . قال : ففعل ، فأنزل الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين )

رواه مسلم في صحيحه ، وأبو داود - وابن جرير وهذا لفظه - وابن مردويه ، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه .

قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، قال : إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله ، وقيام على السقاية ، خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره ، فذكر الله استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين : ( قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون ) [ المؤمنون : 66 ، 67 ] يعني : أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال : ( به سامرا ) كانوا يسمرون به ، ويهجرون القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - فخير الله الإيمان والجهاد مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به إن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه .

قال الله : ( لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) يعني : الذين زعموا أنهم أهل العمارة ، فسماهم الله " ظالمين " بشركهم ، فلم تغن عنهم العمارة شيئا .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية ، قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي [ الحاج ] ونفك العاني ، قال الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) يعني أن ذلك كان في الشرك ، ولا أقبل ما كان في الشرك .

وقال الضحاك بن مزاحم : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه ، الذين أسروا يوم بدر ، يعيرونهم بالشرك ، فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونفك العاني ، ونحجب البيت ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله : ( أجعلتم سقاية الحاج [ وعمارة المسجد الحرام ] ) الآية .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : نزلت في علي ، والعباس - رضي الله عنهما - تكلما في ذلك .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرت عن أبي صخر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار ، وعباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، معي مفتاحه ، ولو أشاء بت فيه . وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، ولو أشاء بت في المسجد . فقال علي - رضي الله عنه - : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج ) الآية كلها .

وهكذا قال السدي ، إلا أنه قال : افتخر علي ، والعباس ، وشيبة بن عثمان ، وذكر نحوه .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن عمرو ، عن الحسن قال : نزلت في علي ، وعباس وعثمان ، وشيبة ، تكلموا في ذلك ، فقال العباس : ما أراني إلا تارك سقايتنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقيموا على سقايتكم ، فإن لكم فيها خيرا .

ورواه محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن فذكر نحوه .

وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث مرفوع ، فلا بد من ذكره هاهنا ، قال عبد الرزاق :

أخبرنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير [ عن رجل ] عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن رجلا قال : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام ، إلا أن أعمر المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم . فزجرهم عمر - رضي الله عنه - وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة - ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا عليه . فنزلت ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) إلى قوله : ( لا يستوون عند الله )

طريق أخرى : قال الوليد بن مسلم : حدثني معاوية بن سلام ، عن جده أبي سلام الأسود ، عن النعمان بن بشير الأنصاري قال : كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالي ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام . وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم . فزجرهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته فيما اختلفتم فيه . قال : ففعل ، فأنزل الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين )

رواه مسلم في صحيحه ، وأبو داود - وابن جرير وهذا لفظه - وابن مردويه ، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه .

قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، قال : إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله ، وقيام على السقاية ، خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره ، فذكر الله استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين : ( قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون ) [ المؤمنون : 66 ، 67 ] يعني : أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال : ( به سامرا ) كانوا يسمرون به ، ويهجرون القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - فخير الله الإيمان والجهاد مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به إن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه .

قال الله : ( لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) يعني : الذين زعموا أنهم أهل العمارة ، فسماهم الله " ظالمين " بشركهم ، فلم تغن عنهم العمارة شيئا .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية ، قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي [ الحاج ] ونفك العاني ، قال الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) يعني أن ذلك كان في الشرك ، ولا أقبل ما كان في الشرك .

وقال الضحاك بن مزاحم : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه ، الذين أسروا يوم بدر ، يعيرونهم بالشرك ، فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونفك العاني ، ونحجب البيت ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله : ( أجعلتم سقاية الحاج [ وعمارة المسجد الحرام ] ) الآية .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : نزلت في علي ، والعباس - رضي الله عنهما - تكلما في ذلك .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرت عن أبي صخر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار ، وعباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، معي مفتاحه ، ولو أشاء بت فيه . وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، ولو أشاء بت في المسجد . فقال علي - رضي الله عنه - : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج ) الآية كلها .

وهكذا قال السدي ، إلا أنه قال : افتخر علي ، والعباس ، وشيبة بن عثمان ، وذكر نحوه .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن عمرو ، عن الحسن قال : نزلت في علي ، وعباس وعثمان ، وشيبة ، تكلموا في ذلك ، فقال العباس : ما أراني إلا تارك سقايتنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقيموا على سقايتكم ، فإن لكم فيها خيرا .

ورواه محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن فذكر نحوه .

وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث مرفوع ، فلا بد من ذكره هاهنا ، قال عبد الرزاق :

أخبرنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير [ عن رجل ] عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن رجلا قال : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام ، إلا أن أعمر المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم . فزجرهم عمر - رضي الله عنه - وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة - ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا عليه . فنزلت ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) إلى قوله : ( لا يستوون عند الله )

طريق أخرى : قال الوليد بن مسلم : حدثني معاوية بن سلام ، عن جده أبي سلام الأسود ، عن النعمان بن بشير الأنصاري قال : كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالي ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام . وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم . فزجرهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته فيما اختلفتم فيه . قال : ففعل ، فأنزل الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين )

رواه مسلم في صحيحه ، وأبو داود - وابن جرير وهذا لفظه - وابن مردويه ، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه .

قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، قال : إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله ، وقيام على السقاية ، خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره ، فذكر الله استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين : ( قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون ) [ المؤمنون : 66 ، 67 ] يعني : أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال : ( به سامرا ) كانوا يسمرون به ، ويهجرون القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - فخير الله الإيمان والجهاد مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به إن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه .

قال الله : ( لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) يعني : الذين زعموا أنهم أهل العمارة ، فسماهم الله " ظالمين " بشركهم ، فلم تغن عنهم العمارة شيئا .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية ، قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي [ الحاج ] ونفك العاني ، قال الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) يعني أن ذلك كان في الشرك ، ولا أقبل ما كان في الشرك .

وقال الضحاك بن مزاحم : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه ، الذين أسروا يوم بدر ، يعيرونهم بالشرك ، فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونفك العاني ، ونحجب البيت ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله : ( أجعلتم سقاية الحاج [ وعمارة المسجد الحرام ] ) الآية .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : نزلت في علي ، والعباس - رضي الله عنهما - تكلما في ذلك .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرت عن أبي صخر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار ، وعباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، معي مفتاحه ، ولو أشاء بت فيه . وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، ولو أشاء بت في المسجد . فقال علي - رضي الله عنه - : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج ) الآية كلها .

وهكذا قال السدي ، إلا أنه قال : افتخر علي ، والعباس ، وشيبة بن عثمان ، وذكر نحوه .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن عمرو ، عن الحسن قال : نزلت في علي ، وعباس وعثمان ، وشيبة ، تكلموا في ذلك ، فقال العباس : ما أراني إلا تارك سقايتنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقيموا على سقايتكم ، فإن لكم فيها خيرا .

ورواه محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن فذكر نحوه .

وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث مرفوع ، فلا بد من ذكره هاهنا ، قال عبد الرزاق :

أخبرنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير [ عن رجل ] عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن رجلا قال : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام ، إلا أن أعمر المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم . فزجرهم عمر - رضي الله عنه - وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة - ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا عليه . فنزلت ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) إلى قوله : ( لا يستوون عند الله )

طريق أخرى : قال الوليد بن مسلم : حدثني معاوية بن سلام ، عن جده أبي سلام الأسود ، عن النعمان بن بشير الأنصاري قال : كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالي ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام . وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم . فزجرهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة - ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته فيما اختلفتم فيه . قال : ففعل ، فأنزل الله - عز وجل - : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين )

رواه مسلم في صحيحه ، وأبو داود - وابن جرير وهذا لفظه - وابن مردويه ، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه .

أمر الله تعالى بمباينة الكفار به ، وإن كانوا آباء أو أبناء ، ونهى عن موالاتهم إذا ( استحبوا ) أي : اختاروا الكفر على الإيمان ، وتوعد على ذلك كما قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) الآية [ المجادلة : 22 ] .

وروى الحافظ [ أبو بكر ] البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله ، فأنزل الله فيه هذه الآية : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر ) الآية [ المجادلة : 22 ] .

ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله وعلى رسوله وجهاد في سبيله ، فقال : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ) أي : اكتسبتموها وحصلتموها ( وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها ) أي : تحبونها لطيبها وحسنها ، أي : إن كانت هذه الأشياء ( أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا ) أي : فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ؛ ولهذا قال : ( حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين )

وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لهيعة عن زهرة بن معبد ، عن جده قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ، فقال : والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه . فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي . فقال رسول الله : الآن يا عمر .

انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عن يحيى بن سليمان ، عن ابن وهب ، عن حيوة بن شريح ، عن أبي عقيل زهرة بن معبد ، أنه سمع جده عبد الله بن هشام ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا .

وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين .

وروى الإمام أحمد ، وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني ، عن عطاء الخراساني ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم بأذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم .

وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون ، عن أبي جناب ، عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو ذلك ، وهذا شاهد للذي قبله ، والله أعلم .

قال ابن جريج ، عن مجاهد : هذه أول آية نزلت من [ سورة ] " براءة " .

يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله وأن ذلك من عنده تعالى ، وبتأييده وتقديره ، لا بعددهم ولا بعددهم ، ونبههم على أن النصر من عنده ، سواء قل الجمع أو كثر ، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ثم أنزل [ الله ] نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، سمعت يونس يحدث عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة .

وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ثم قال : هذا حديث حسن غريب ، لا يسنده كبير أحد غير جرير بن حازم ، وإنما روي عن الزهري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا .

وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره ، عن أكثم بن الجون ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحوه ، والله أعلم .

وقد كانت وقعة " حنين " بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة ، وذلك لما فرغ عليه السلام من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو جشم وبنو سعد بن بكر ، وأوزاع من بني هلال ، وهم قليل ، وناس من بني عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ، وقد أقبلوا معهم النساء والولدان والشاء والنعم ، وجاءوا بقضهم وقضيضهم فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيشه الذي جاء معه للفتح ، وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء في ألفين أيضا ، فسار بهم إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له " حنين " ، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح ، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد ، كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله - عز وجل - وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه - عليه الصلاة والسلام - ويدعو المسلمين إلى الرجعة [ ويقول ] أين يا عباد الله ؟ إلي أنا رسول الله ، ويقول في تلك الحال :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال : ثمانون ، فمنهم : أبو بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - والعباس وعلي ، والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم - رضي الله عنهم - ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان ، التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها ، على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة ، فجعلوا يقولون : يا لبيك ، يا لبيك ، وانعطف الناس فجعلوا يتراجعون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع ، لبس درعه ، ثم انحدر عنه ، وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فلما رجعت شرذمة منهم ، أمرهم عليه السلام أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من التراب بعدما دعا ربه واستنصره ، وقال : اللهم أنجز لي ما وعدتني ثم رمى القوم بها ، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا ، فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسارى مجدلة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن عبد الله بن يسار أبي همام ، عن أبي عبد الرحمن الفهري - واسمه يزيد بن أسيد ، ويقال : يزيد بن أنيس ، ويقال : كرز - قال : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة حنين ، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر ، فنزلنا تحت ظلال الشجر ، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي ، فانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في فسطاطه ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ، حان الرواح ؟ فقال : أجل . فقال : يا بلال فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر ، فقال : لبيك وسعديك ، وأنا فداؤك فقال : أسرج لي فرسي . فأخرج سرجا دفتاه من ليف ، ليس فيهما أشر ولا بطر .

قال : فأسرج ، فركب وركبنا ، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا ، فتشامت الخيلان ، فولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله - عز وجل - : ( ثم وليتم مدبرين ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عباد الله ، أنا عبد الله ورسوله ، ثم قال : يا معشر المهاجرين ، أنا عبد الله ورسوله . قال : ثم اقتحم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فرسه فأخذ كفا من تراب ، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني : أنه ضرب به وجوههم ، وقال : شاهت الوجوه . فهزمهم الله - عز وجل - . قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم ، عن آبائهم ، أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا ، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض ، كإمرار الحديد على الطست الجديد .

وهكذا رواه الحافظ البيهقي في " دلائل النبوة " من حديث أبي داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة به .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبيه جابر عن عبد الله قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين ، فسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه ، وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح ، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل ، فاشتدت عليهم ، وانكفأ الناس منهزمين ، لا يقبل أحد عن أحد ، وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين يقول : أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله فلا شيء ، وركبت الإبل بعضها بعضا فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس قال : يا عباس ، اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة . فأجابوه : لبيك ، لبيك ، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيقذف درعه في عنقه ، ويأخذ سيفه وقوسه ، ثم يؤم الصوت ، حتى اجتمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم مائة ، فاستعرض الناس فاقتتلوا ، وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار ، ثم جعلت آخرا بالخزرج وكانوا صبراء عند الحرب ، وأشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم ، فقال : الآن حمي الوطيس : قال : فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملقون ، فقتل الله منهم من قتل ، وانهزم منهم من انهزم ، وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم .

وفي الصحيحين من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - أنه قال له رجل : يا أبا عمارة ، أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ، فقال : لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر ، إن هوازن كانوا قوما رماة ، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا ، فأقبل الناس على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، فانهزم الناس ، فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء ، وهو يقول :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

قلت : وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة ، إنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى ، وقد انكشف عنه جيشه ، هو مع ذلك على بغلة وليست سريعة الجري ، ولا تصلح لكر ولا لفر ولا لهرب ، وهو مع هذا أيضا يركضها إلى وجوههم وينوه باسمه ليعرفه من لم يعرفه ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، وما هذا كله إلا ثقة بالله ، وتوكلا عليه ، وعلما منه بأنه سينصره ، ويتم ما أرسله به ، ويظهر دينه على سائر الأديان ؛

ولهذا قال تعالى : ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله ) أي : طمأنينته وثباته على رسوله ، ( وعلى المؤمنين ) أي : الذين معه ، ( وأنزل جنودا لم تروها ) وهم الملائكة ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير :

[ حدثنا القاسم قال ] حدثني الحسن بن عرفة قال : حدثني المعتمر بن سليمان ، عن عوف - هو ابن أبي جميلة الأعرابي - قال : سمعت عبد الرحمن مولى ابن برثن ، حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة - قال : فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم ، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ، ارجعوا . قال : فانهزمنا ، وركبوا أكتافنا ، فكانت إياها .

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثني محمد بن أحمد بن بالويه ، حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا الحارث بن حصيرة ، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ، فولى عنه الناس ، وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار ، قدمنا ولم نولهم الدبر ، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة . قال : ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته يمضي قدما ، فحادت بغلته ، فمال عن السرج ، فقلت : ارتفع رفعك الله . قال : ناولني كفا من التراب . فناولته ، قال : فضرب به وجوههم ، فامتلأت أعينهم ترابا ، قال : أين المهاجرون والأنصار ؟ قلت : هم هناك . قال : اهتف بهم . فهتفت بهم ، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم ، كأنها الشهب ، وولى المشركون أدبارهم .

ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفان ، به نحوه .

وقال الوليد بن مسلم : حدثني عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن شيبة بن عثمان قال : لما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين قد عري ، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما ، فقلت : اليوم أدرك ثأري منه - قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه ، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائما ، عليه درع بيضاء كأنها فضة ، يكشف عنها العجاج ، فقلت : عمه ولن يخذله - قال : فجئته عن يساره ، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، فقلت : ابن عمه ولن يخذله . فجئته من خلفه ، فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف ، إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق ، فخفت أن تمحشني ، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى ، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : يا شيب ، يا شيب ادن مني اللهم أذهب عنه الشيطان . قال : فرفعت إليه بصري ، ولهو أحب إلي من سمعي وبصري ، فقال : يا شيب قاتل الكفار .

رواه البيهقي من حديث الوليد ، فذكره ثم روى من حديث أيوب بن جابر ، عن صدقة بن سعيد ، عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ، والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ، ولكني أبيت أن تظهر هوازن على قريش ، فقلت وأنا واقف معه : يا رسول الله ، إني أرى خيلا بلقا ، فقال : يا شيبة ، إنه لا يراها إلا كافر . فضرب بيده في صدري ، ثم قال : اللهم اهد شيبة ، ثم ضربها الثانية ، ثم قال : اللهم اهد شيبة ، ثم ضربها الثالثة ثم قال : اللهم اهد شيبة . قال : فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه ، وذكر تمام الحديث في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى هزم الله المشر .

قال محمد بن إسحاق : حدثني والدي إسحاق بن يسار ، عمن حدثه ، عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال : إنا لمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ، والناس يقتتلون ، إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء ، حتى وقع بيننا وبين القوم ، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي ، فلم يكن إلا هزيمة القوم ، فما كنا نشك أنها الملائكة .

وقال سعيد بن السائب بن يسار ، عن أبيه قال : سمعت يزيد بن عامر السوائي - وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد - فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين ، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطن ، فيقول : كنا نجد في أجوافنا مثل هذا .

وقد تقدم له شاهد من حديث يزيد بن أبي أسيد فالله أعلم .

وفي صحيح مسلم ، عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق أنبأنا معمر ، عن همام قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نصرت بالرعب ، وأوتيت جوامع الكلم .

ولهذا قال تعالى : ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين )

وقوله : ( ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ) قد تاب الله على بقية هوازن ، وأسلموا وقدموا عليه مسلمين ، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة ، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما ، فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم ، فاختاروا سبيهم ، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة ، فرده عليهم ، وقسم أموالهم بين الغانمين ، ونفل أناسا من الطلقاء ليتألف قلوبهم على الإسلام ، فأعطاهم مائة مائة من الإبل ، وكان من جملة من أعطي مائة مالك بن عوف النضري ، واستعمله على قومه كما كان ، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها :

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها بالسمهري وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله وسط الهباءة خادر في مرصد

أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا ، عن المسجد الحرام ، وألا يقربوه بعد نزول هذه الآية . وكان نزولها في سنة تسع ؛ ولهذا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا صحبة أبي بكر - رضي الله عنهما - عامئذ ، وأمره أن ينادي في المشركين : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعا وقدرا .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) إلا أن يكون عبدا ، أو أحدا من أهل الذمة .

وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال الإمام أحمد : حدثنا حسين حدثنا شريك ، عن الأشعث - يعني : ابن سوار - عن الحسن ، عن جابر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك ، إلا أهل العهد وخدمهم .

تفرد به أحمد مرفوعا ، والموقوف أصح إسنادا .

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : كتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه قول الله : ( إنما المشركون نجس )

وقال عطاء : الحرم كله مسجد ، لقوله تعالى : ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) .

ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت [ على طهارة المؤمن ، ولما ] ورد في [ الحديث ] الصحيح : المؤمن لا ينجس وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم .

وقال أشعث ، عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ . رواه ابن جرير .

وقوله : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) قال ابن إسحاق : وذلك أن الناس قالوا : لتنقطعن عنا الأسواق ، ولتهلكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فنزلت ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) من وجه غير ذلك - ( إن شاء ) إلى قوله : ( وهم صاغرون ) أي : إن هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب ، من الجزية .

وهكذا روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة والضحاك ، وغيرهم .

( إن الله عليم ) أي : بما يصلحكم ، ( حكيم ) أي : فيما يأمر به وينهى عنه ؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله ، العادل في خلقه وأمره ، تبارك وتعالى ؛ ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة

فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ، ولا بما جاءوا به ، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه ، لا لأنه شرع الله ودينه ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد ، صلوات الله عليه ، لأن جميع الأنبياء [ الأقدمين ] بشروا به ، وأمروا باتباعه ، فلما جاء وكفروا به - وهو أشرف الرسل - علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله ، بل لحظوظهم وأهوائهم ، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء ، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ؛ ولهذا قال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ) وهذه الآية الكريمة [ نزلت ] أول الأمر بقتال أهل الكتاب ، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وكان ذلك في سنة تسع ؛ ولهذا تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو [ من ] ثلاثين ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ وحر ، وخرج - عليه السلام - يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، فنزل بها وأقام على مائها قريبا من عشرين يوما ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله .

وقد استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، أو من أشباههم كالمجوس ، لما صح فيهم الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر ، وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد - في المشهور عنه - وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : بل تؤخذ من جميع الأعاجم ، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب .

وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ، ومجوسي ، ووثني ، وغير ذلك ، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا ، والله أعلم .

وقوله : ( حتى يعطوا الجزية ) أي : إن لم يسلموا ، ( عن يد ) أي : عن قهر لهم وغلبة ، ( وهم صاغرون ) أي : ذليلون حقيرون مهانون . فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين ، بل هم أذلاء صغرة أشقياء ، كما جاء في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه .

ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم ، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ ، من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين صالح نصارى من أهل الشام :

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا ، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ، ولا قلاية ولا صومعة راهب ، ولا نجدد ما خرب منها ، ولا نحيي منها ما كان خطط المسلمين ، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ، ولا نئوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ، ولا نكتم غشا للمسلمين ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر شركا ، ولا ندعو إليه أحدا ؛ ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه ، وأن نوقر المسلمين ، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم ، في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا نتكلم بكلامهم ، ولا نكتني بكناهم ، ولا نركب السروج ، ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ، ولا نحمله معنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقاديم رءوسنا ، وأن نلزم زينا حيثما كنا ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وألا نظهر الصليب على كنائسنا ، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا ، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ، ولا نخرج شعانين ولا باعوثا ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نجاورهم بموتانا ، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ، وأن نرشد المسلمين ، ولا نطلع عليهم في منازلهم .

قال : فلما أتيت عمر بالكتاب ، زاد فيه : ولا نضرب أحدا من المسلمين ، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا ، وقبلنا عليه الأمان ، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا ، فلا ذمة لنا ، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق .

وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى ؛ لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة ، والفرية على الله تعالى ، فأما اليهود فقالوا في العزير : " إنه ابن الله " ، تعالى [ الله ] عن ذلك علوا كبيرا . وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك ، أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل ، فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم ، بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم ، حتى سقطت جفون عينيه ، فبينا هو ذات يوم إذ مر على جبانة ، وإذ امرأة تبكي عند قبر وهي تقول : وامطعماه ! واكاسياه ! [ فقال لها ويحك ] من كان يطعمك قبل هذا ؟ قالت : الله . قال : فإن الله حي لا يموت ! قالت : يا عزير فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله . قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فعرف أنه شيء قد وعظ به . ثم قيل له : اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه ، وصل هناك ركعتين ، فإنك ستلقى هناك شيخا ، فما أطعمك فكله . فذهب ففعل ما أمر به ، فإذا شيخ فقال له : افتح فمك . ففتح فمه . فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ، ثلاث مرات ، فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، قد جئتكم بالتوراة . فقالوا : يا عزير ، ما كنت كذابا . فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما ، وكتب التوراة بإصبعه كلها ، فلما تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء ، وأخبروا بشأن عزير ، فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال ، وقابلوها بها ، فوجدوا ما جاء به صحيحا ، فقال بعض جهلتهم : إنما صنع هذا لأنه ابن الله .

وأما ضلال النصارى في المسيح فظاهر ؛ ولهذا كذب الله سبحانه الطائفتين فقال : ( ذلك قولهم بأفواههم ) أي : لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم ، ( يضاهئون ) أي : يشابهون ( قول الذين كفروا من قبل ) أي : من قبلهم من الأمم ، ضلوا كما ضل هؤلاء ، ( قاتلهم الله ) وقال ابن عباس : لعنهم الله ، ( أنى يؤفكون ) ؟ أي : كيف يضلون عن الحق ، وهو ظاهر ، ويعدلون إلى الباطل ؟ .

[ وقوله ] ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ) روى الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن جرير من طرق ، عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ، ورغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم عدي المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنق عدي صليب من فضة ، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عدي ، ما تقول ؟ أيفرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ ما يفرك ؟ أيفرك أن يقال : لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم من إله إلا الله ؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم ، وشهد شهادة الحق ، قال : فلقد رأيت وجهه استبشر ثم قال : إن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون .

وهكذا قال حذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وغيرهما في تفسير : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .

وقال السدي : استنصحوا الرجال ، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم .

ولهذا قال تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ) أي : الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله حل ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ .

( لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) أي : تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .

قول تعالى : يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب ( أن يطفئوا نور الله ) أي : ما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم ، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس ، أو نور القمر بنفخه ، وهذا لا سبيل إليه ، فكذلك ما أرسل الله به رسوله لا بد أن يتم ويظهر ؛ ولهذا قال تعالى مقابلا لهم فيما راموه وأرادوه : ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون )

والكافر : هو الذي يستر الشيء ويغطيه ، ومنه سمي الليل " كافرا " ؛ لأنه يستر الأشياء ، والزارع كافرا ؛ لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال : ( أعجب الكفار نباته ) [ الحديد : 20 ] .

ثم قال تعالى : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ) فالهدى : هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة ، والإيمان الصحيح ، والعلم النافع . ودين الحق : هي الأعمال [ الصالحة ] الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة .

( ليظهره على الدين كله ) أي : على سائر الأديان ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن أبي يعقوب : سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قبيصة - أو : قبيصة بن مسعود - يقول : صلى هذا الحي من " محارب " الصبح ، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثنا سليم بن عامر ، عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، عزا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر ، فكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني ابن جابر ، سمعت سليم بن عامر قال : سمعت المقداد بن الأسود يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر ، إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها .

وفي المسند أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن أبي حذيفة ، عن عدي بن حاتم سمعه يقول : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا عدي ، أسلم تسلم . فقلت : إني من أهل دين . قال : أنا أعلم بدينك منك . فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال : نعم ، ألست من الركوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟ . قلت : بلى . قال : فإن هذا لا يحل لك في دينك . قال : فلم يعد أن قالها فتواضعت لها ، قال : أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ، تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ قلت : لم أرها ، وقد سمعت بها . قال : فوالذي نفسي بيده ، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز . قلت : كسرى بن هرمز ؟ . قال : نعم ، كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد . قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ، لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قالها .

وقال مسلم : حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرقاشي ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن الأسود بن العلاء ، عن أبي سلمة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى . فقلت : يا رسول الله ، إن كنت لأظن حين أنزل الله - عز وجل - : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ) إلى قوله : ( ولو كره المشركون ) أن ذلك تام ، قال : إنه سيكون من ذلك ما شاء الله - عز وجل - ثم يبعث الله ريحا طيبة [ فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ] فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم .

قال السدي : الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى .

وهو كما قال ، فإن الأحبار هم علماء اليهود ، كما قال تعالى : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ) [ المائدة : 63 ] والرهبان : عباد النصارى ، والقسيسون : علماؤهم ، كما قال تعالى : ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) [ المائدة : 82 ] .

والمقصود : التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى . وفي الحديث الصحيح : لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة . قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ . وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : ومن الناس إلا هؤلاء ؟ .

والحاصل : التحذير من التشبه بهم في أحوالهم وأقوالهم ؛ ولهذا قال تعالى : ( ليأكلون أموال الناس بالباطل ) وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس ، يأكلون أموالهم بذلك ، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم ، فلما بعث الله رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم ، طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات ، فأطفأها الله بنور النبوة ، وسلبهم إياها ، وعوضهم بالذلة والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله .

وقوله تعالى : ( ويصدون عن سبيل الله ) أي : وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ، ويلبسون الحق بالباطل ، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير ، وليسوا كما يزعمون ، بل هم دعاة إلى النار ، ويوم القيامة لا ينصرون .

وقوله : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) هؤلاء هم القسم الثالث من رءوس الناس ، فإن الناس عالة على العلماء وعلى العباد وعلى أرباب الأموال ، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس ، كما قال بعضهم :

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها ؟

وأما الكنز فقال مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة .

وروى الثوري وغيره عن عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر قال : ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز وقد روي هذا عن ابن عباس ، وجابر ، وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا وعمر بن الخطاب ، نحوه - رضي الله عنهم - : أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض .

وروى البخاري من حديث الزهري ، عن خالد بن أسلم قال : خرجنا مع عبد الله بن عمر ، فقال : هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت جعلها الله طهرا للأموال .

وكذا قال عمر بن عبد العزيز ، وعراك بن مالك : نسخها قوله تعالى : ( خذ من أموالهم ) [ التوبة : 103 ] .

وقال سعيد بن محمد بن زياد ، عن أبي أمامة أنه قال : حلية السيوف من الكنز ، ما أحدثكم إلا ما سمعت .

وقال الثوري ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن علي - رضي الله عنه - قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، فما كان أكثر منه فهو كنز .

وهذا غريب . وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منهما أحاديث كثيرة ؛ ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي ، فقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، أخبرني أبو حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن علي - رضي الله عنه - في قوله : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : تبا للذهب ، تبا للفضة يقولها ثلاثا ، قال : فشق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال : عمر - رضي الله عنه - أنا أعلم لكم ذلك فقال : يا رسول الله ، إن أصحابك قد شق عليهم [ و ] قالوا : فأي مال نتخذ ؟ قال : لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني سالم ، حدثني عبد الله بن أبي الهذيل ، حدثني صاحب لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : تبا للذهب والفضة . قال : فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، قولك : تبا للذهب والفضة ، ماذا ندخر ؟ . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة تعين على الآخرة .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن أبيه ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : لما نزل في الفضة والذهب ما نزل قالوا : فأي المال نتخذ ؟ قال [ عمر : أنا أعلم ذلك لكم فأوضع على بعير فأدركه ، وأنا في أثره ، فقال : يا رسول الله ، أي المال نتخذ ؟ قال ] ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم في أمر الآخرة .

ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من غير وجه ، عن سالم بن أبي الجعد وقال الترمذي : حسن ، وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان .

قلت : ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا والله أعلم .

حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حميد بن مالك ، حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي ، حدثنا أبي ، حدثنا غيلان بن جامع المحاربي ، عن عثمان أبي اليقظان ، عن جعفر بن إياس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ) الآية ، كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده ما لا يبقى بعده . فقال عمر : أنا أفرج عنكم . فانطلق عمر واتبعه ثوبان ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية . فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم . قال : فكبر عمر ، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته .

ورواه أبو داود ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى ، به ، وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس - رضي الله عنه - في سفر ، فنزل منزلا ، فقال لغلامه : ائتنا بالشفرة نعبث بها . فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه ، فلا تحفظونها علي ، واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم ، إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب .

وقوله تعالى : ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) أي : يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما ، كما في قوله : ( ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 48 ، 49 ] أي : هذا بذاك ، وهو الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ؛ ولهذا يقال : من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله ، عذب به . وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم ، عذبوا بها ، كما كان أبو لهب - لعنه الله - جاهدا في عداوة الرسول ، صلوات الله [ وسلامه ] عليه ، وامرأته تعينه في ذلك ، كانت يوم القيامة عونا على عذابه أيضا ( في جيدها ) أي : [ في ] عنقها ( حبل من مسد ) [ المسد : 5 ] أي : تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ، ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه - كان - في الدنيا ، كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها ، كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة ، فيحمى عليها في نار جهنم - وناهيك بحرها - فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .

قال سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود : والله الذي لا إله غيره ، لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار دينارا ، ولا درهم درهما ، ولكن يوسع جلده ، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته .

وقد رواه ابن مردويه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، والله أعلم .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه وهو يفر منه ، ويقول : أنا كنزك ! لا يدرك منه شيئا إلا أخذه .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن ثوبان أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ، يتبعه ، يقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك ! ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقصقصها ثم يتبعها سائر جسده .

ورواه ابن حبان في صحيحه ، من حديث يزيد ، عن سعيد به وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه .

وفي صحيح مسلم ، من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبهته وظهره ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وذكر تمام الحديث .

وقال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن حصين ، عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالربذة ، فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ؟ قال : كنا بالشام ، فقرأت : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) فقال معاوية : ما هذه فينا ، ما هذه إلا في أهل الكتاب . قال : قلت : إنها لفينا وفيهم .

ورواه ابن جرير من حديث عبثر بن القاسم ، عن حصين ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - فذكره ، وزاد : فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن أقبل إليه ، قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنح قريبا . قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .

قلت : كان من مذهب أبي ذر - رضي الله عنه - تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي [ الناس ] بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، وأنزله بالربذة وحده ، وبها مات - رضي الله عنه - في خلافة عثمان . وقد اختبره معاوية - رضي الله عنه - وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ؟ فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت ، فهات الذهب ! فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به .

وهكذا روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنها عامة .

وقال السدي : هي في أهل القبلة .

وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل - قال : فوضع القوم رءوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا - قال : وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية ، فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم . فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا .

وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر : ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر عليه ثالثة وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين

فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن عبد الله بن الصامت - رضي الله عنه - أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية له ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوسا . قال : قلت : لو ادخرته للحاجة تنوبك وللضيف ينزل بك ! قال : إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله - عز وجل - .

ورواه عن يزيد ، عن همام ، به ، وزاد : إفراغا .

وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته ، عن محمد بن مهدي : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن صدقة بن عبد الله ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي فروة الرهاوي ، عن عطاء ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا . قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال : ما سئلت فلا تمنع ، وما رزقت فلا تخبأ ، قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو ذاك وإلا فالنار إسناده ضعيف .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا عتيبة ، عن بريد بن أصرم قال : سمعت عليا - رضي الله عنه - يقول : مات رجل من أهل الصفة ، وترك دينارين - أو : درهمين - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيتان ، صلوا على صاحبكم .

وقد روي هذا من طرق أخر .

وقال قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال : مات رجل من أهل الصفة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كية . ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيتان .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي ، حدثنا معاوية بن يحيى الأطرابلسي ، حدثني أرطاة ، حدثني أبو عامر الهوزني ، سمعت ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض ، إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن خداش ، حدثنا سيف بن محمد الثوري ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ، ولكن يوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون سيف هذا كذاب متروك .

قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا أيوب ، أخبرنا محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجته ، فقال : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة [ حرم ، ثلاثة ] متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان . ثم قال : أي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا : بلى . ثم قال : أي شهر هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس ذا الحجة ؟ قلنا : بلى . ثم قال : أي بلد هذا ؟ . قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليست البلدة ؟ قلنا : بلى . قال : فإن دماءكم وأموالكم - قال : وأحسبه قال : وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا لا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب منكم ، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه .

ورواه البخاري في التفسير وغيره ، ومسلم من حديث أيوب ، عن محمد - وهو ابن سيرين - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، به .

وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا روح ، حدثنا أشعث ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ، ورجب مضر بين جمادى وشعبان .

ورواه البزار ، عن محمد بن معمر به ، ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ، وقد رواه ابن عون وقرة ، عن ابن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، به .

وقال ابن جرير أيضا : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا زيد بن حباب ، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي ، حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر قال : خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : أيها الناس ، إن الزمان قد استدار ، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .

وروى ابن مردويه من حديث موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، مثله أو نحوه .

وقال حماد بن سلمة : حدثني علي بن زيد ، عن أبي حرة حدثني الرقاشي ، عن عمه - وكانت له صحبة - قال : كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق ؛ أذود الناس عنه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ، منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم .

وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : ( منها أربعة حرم ) قال : محرم ، ورجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض - تقرير منه صلوات الله وسلامه عليه ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة ولا نقص ، ولا نسيء ولا تبديل ، كما قال في تحريم مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وهكذا قال هاهنا : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض أي : الأمر اليوم شرعا كما ابتدأ الله ذلك في كتابه يوم خلق السماوات والأرض .

وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث : إن المراد بقوله : قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، أنه اتفق أن حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك السنة في ذي الحجة ، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء ، يحجون في كثير من السنين ، بل أكثرها ، في غير ذي الحجة ، وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة ، وفي هذا نظر ، كما سنبينه إذا تكلمنا على النسيء .

وأغرب منه ما رواه الطبراني ، عن بعض السلف ، في جملة حديث : أنه اتفق حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد ، وهو يوم النحر ، عام حجة الوداع ، والله أعلم .

[ حاشية فصل ] .

ذكر الشيخ علم الدين السخاوي في جزء جمعه سماه " المشهور في أسماء الأيام والشهور " : أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما ، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه ؛ لأن العرب كانت تتقلب به ، فتحله عاما وتحرمه عاما ، قال : ويجمع على محرمات ، ومحارم ، ومحاريم .

صفر : سمي بذلك لخلو بيوتهم منه ، حين يخرجون للقتال والأسفار ، يقال : " صفر المكان " : إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال .

شهر ربيع الأول : سمي بذلك لارتباعهم فيه . والارتباع الإقامة في عمارة الربع ، ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء ، وعلى أربعة ، كرغيف وأرغفة .

ربيع الآخر : كالأول .

جمادى : سمي بذلك لجمود الماء فيه . قال : وكانت الشهور في حسابهم لا تدور . وفي هذا نظر ؛ إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة ، ولا بد من دورانها ، فلعلهم سموه بذلك ، أول ما سمي عند جمود الماء في البرد ، كما قال الشاعر :

وليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر العبد في ظلماتها الطنبا لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

حتى يلف على خرطومه الذنبا

ويجمع على جماديات ، كحبارى وحباريات ، وقد يذكر ويؤنث ، فيقال : جمادى الأولى والأول ، وجمادى الآخر والآخرة .

رجب : من الترجيب ، وهو التعظيم ، ويجمع على أرجاب ، ورجاب ، ورجبات .

شعبان : من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شعابين وشعبانات .

ورمضان : من شدة الرمضاء ، وهو الحر ، يقال : " رمضت الفصال " : إذا عطشت ، ويجمع على رمضانات ورماضين وأرمضة قال : وقول من قال : " إنه اسم من أسماء الله " ، خطأ لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إليه .

قلت : قد ورد فيه حديث ؛ ولكنه ضعيف ، وبينته في أول كتاب الصيام .

شوال : من شالت الإبل بأذنابها للطراق ، قال : ويجمع على شواول وشواويل وشوالات .

القعدة : بفتح القاف - قلت : وكسرها - لقعودهم فيه عن القتال والترحال ، ويجمع على ذوات القعدة .

الحجة : بكسر الحاء - قلت : وفتحها - سمي بذلك لإيقاعهم الحج فيه ، ويجمع على ذوات الحجة .

أسماء الأيام : أولها الأحد ، ويجمع على آحاد ، وأحاد ووحود . ثم يوم الاثنين ، ويجمع على أثانين . الثلاثاء : يمد ، ويذكر ويؤنث ، ويجمع على ثلاثاوات وأثالث . ثم الأربعاء بالمد ، ويجمع على أربعاوات وأرابيع . والخميس : يجمع على أخمسة وأخامس ، ثم الجمعة - بضم الميم ، وإسكانها ، وفتحها أيضا - ويجمع على جمع وجمعات .

السبت : مأخوذ من السبت ، وهو القطع ؛ لانتهاء العدد عنده . وكانت العرب تسمي الأيام أول ، ثم أهون ، ثم جبار ، ثم دبار ، ثم مؤنس ، ثم العروبة ، ثم شيار ، قال الشاعر - من العرب العرباء العاربة المتقدمين - :

أرجي أن أعيش وأن يومي بأول أو بأهون أو جبار

أو التالي دبار فإن أفته فمؤنس أو عروبة أو شيار

وقوله تعالى : ( منها أربعة حرم ) فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية تحرمه ، وهو الذي كان عليه جمهورهم ، إلا طائفة منهم يقال لهم : " البسل " ، كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر ، تعمقا وتشديدا .

وأما قوله : " ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، [ فإنما أضافه إلى مضر ، ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ] لا كما كانت تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال ، وهو رمضان اليوم ، فبين عليه [ الصلاة و ] السلام أنه رجب مضر لا رجب ربيعة . وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ، ثلاثة سرد وواحد فرد ؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة ، فحرم قبل شهر الحج شهر ، وهو ذو القعدة ؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك ، وحرم بعده شهر آخر ، وهو المحرم ؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والاعتمار به ، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا .

وقوله تعالى : ( ذلك الدين القيم ) أي : هذا هو الشرع المستقيم ، من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم ، والحذو بها على ما سبق في كتاب الله الأول .

وقال تعالى : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) أي : في هذه الأشهر المحرمة ؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي ، وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم .

وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، في قوله : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) قال : في الشهور كلها .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ) الآية ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) في كلهن ، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما ، وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .

وقال قتادة في قوله : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا ، من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء . قال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل .

وقال الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن الحنفية : بألا تحرموهن كحرمتهن .

وقال محمد بن إسحاق : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) أي : لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك ، فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر ( يضل به الذين كفروا ) الآية [ التوبة : 37 ] . .

وهذا القول اختيار ابن جرير .

وقوله : ( وقاتلوا المشركين كافة ) أي : جميعكم ( كما يقاتلونكم كافة ) أي : جميعهم ، ( واعلموا أن الله مع المتقين )

وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام : هل هو منسوخ أو محكم ؟ على قولين :

أحدهما - وهو الأشهر : أنه منسوخ ؛ لأنه تعالى قال هاهنا : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) وأمر بقتال المشركين ، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عاما ، فلو كان محرما في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ؛ ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاصر أهل الطائف في شهر حرام - وهو ذو القعدة - كما ثبت في الصحيحين : أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ، ورجع فلهم ، فلجئوا إلى الطائف - عمد إلى الطائف فحاصرها أربعين يوما ، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام .

والقول الآخر : أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام ، وأنه لم ينسخ تحريم الحرام ، لقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ) [ الآية ] [ المائدة : 2 ] وقال : ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) الآية [ البقرة : 194 ] وقال : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) [ الآية ] [ التوبة : 50 ] .

وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة ، لا أشهر التسيير على أحد القولين .

وأما قوله تعالى : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) فيحتمل أنه منقطع عما قبله ، وأنه حكم مستأنف ، ويكون من باب التهييج والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم ، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ) [ البقرة : 194 ] وقال تعالى : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) الآية [ البقرة : 191 ] ، وهكذا الجواب عن حصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندما قصدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة ، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما . وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياما ، ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا هو أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة ، والله أعلم . ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك وقد حررنا ذلك في السيرة ، والله أعلم .

هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة ، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله ، فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم ، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر ، فيحلون الشهر الحرام ، ويحرمون الشهر الحلال ، ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم - وهو عمير بن قيس المعروف - بجذل الطعان :

لقد علمت معد أن قومي كرام الناس أن لهم كراما ألسنا الناسئين على معد

شهور الحل نجعلها حراما فأي الناس لم ندرك بوتر

وأي الناس لم نعلك لجاما

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) قال : النسيء أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام ، وكان يكنى " أبا ثمامة " ، فينادي : ألا إن أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب ، ألا وإن صفر العام الأول حلال . فيحله للناس ، فيحرم صفرا عاما ، ويحرم المحرم عاما ، فذلك قول الله : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) [ إلى قوله : ( الكافرين ) وقوله ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ] يقول : يتركون المحرم عاما ، وعاما يحرمونه .

وروى العوفي عن ابن عباس نحوه .

وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له ، فيقول : يا أيها الناس ، إني لا أعاب ولا أحاب ، ولا مرد لما أقول ، إنا قد حرمنا المحرم ، وأخرنا صفرا . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفرا ، وأخرنا المحرم . فهو قوله : ( ليواطئوا عدة ما حرم الله ) قال : يعني الأربعة ( فيحلوا ما حرم الله ) لتأخير هذا الشهر الحرام .

وروي عن أبي وائل ، والضحاك ، وقتادة نحو هذا .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) الآية ، قال : هذا رجل من بني كنانة يقال له : " القلمس " ، وكان في الجاهلية ، وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده ، فلما كان هو قال : اخرجوا بنا ، قالوا له : هذا المحرم ! قال : ننسئه العام ، هما العام صفران ، فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما محرمين . قال : ففعل ذلك ، فلما كان عام قابل قال : لا تغزوا في صفر ، حرموه مع المحرم ، هما محرمان .

فهذه صفة غريبة في النسيء ، وفيها نظر ؛ لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط ، وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر ، فأين هذا من قوله تعالى : ( يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله ) .

وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا ، فقال عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) الآية ، قال : فرض الله - عز وجل - الحج في ذي الحجة . قال : وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة ، والمحرم ، وصفرا ، وربيع ، وربيع ، وجمادى ، وجمادى ، ورجبا ، وشعبان ، ورمضان ، وشوالا وذا القعدة . وذا الحجة يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ، ثم يعودون فيسمون صفرا صفرا ، ثم يسمون رجبا جمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ثم يسمون شوالا رمضان ، ثم يسمون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ، فيحجون فيه ، واسمه عندهم ذو الحجة ، ثم عادوا بمثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عامين ، حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في القعدة ثم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته التي حج ، فوافق ذا الحجة ، فذلك حين يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض .

وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا ، وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة ، وأنى هذا ؟ وقد قال الله تعالى : ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ) الآية [ التوبة : 3 ] ، وإنما نودي بذلك في حجة أبي بكر ، فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى : ( يوم الحج الأكبر ) ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره - من دوران السنة عليهم وحجهم في كل شهر عامين - فإن النسيء حاصل بدون هذا ، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفر ، وبعده ربيع وربيع إلى آخر [ السنة والسنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في العام القابل يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه ، وبعده صفر ، وربيع وربيع إلى آخرها ] فيحلونه عاما ويحرمونه عاما ؛ ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ، أي : في تحريم أربعة أشهر من السنة ، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم ، وتارة ينسئونه إلى صفر ، أي : يؤخرونه . وقد قدمنا الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر ، أي أن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها ، على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي ، لا كما يعتمده جهلة العرب ، من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض ، والله أعلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة ، فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : " وإنما النسيء من الشيطان ، زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ويحرمونه عاما " . فكانوا يحرمون المحرم عاما ، ويستحلون صفرا ويستحلون المحرم ، وهو النسيء .

وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب " السيرة " كلاما جيدا ومفيدا حسنا ، فقال : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله ، وحرم منها ما أحل الله - عز وجل - " القلمس " ، وهو : حذيفة بن عبد مدركة فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد ، ثم ابنه أمية بن قلع ، ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام . فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيبا ، فحرم رجبا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم عاما ، ويجعل مكانه صفرا ، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله ، يعني : ويحرم ما أحل الله .

هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارة القيظ ، فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ) أي : إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله ( اثاقلتم إلى الأرض ) أي : تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار ، ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) أي : ما لكم فعلتم هكذا ؟ أرضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة .

ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا ، ورغب في الآخرة ، فقال : ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) كما قال الإمام أحمد .

حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع ؟ وأشار بالسبابة .

انفرد بإخراجه مسلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي ، حدثنا الربيع بن روح ، حدثنا محمد بن خالد الوهبي ، حدثنا زياد - يعني الجصاص - عن أبي عثمان قال : قلت : يا أبا هريرة ، سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول : سمعت نبي الله يقول : إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة ، قال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة ، ثم تلا هذه الآية : ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل )

فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل .

وقال [ سفيان ] الثوري ، عن الأعمش في الآية : ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) قال : كزاد الراكب .

وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه ، فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال : أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا ؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أف لك من دار ، إن كان كثيرك لقليل ، وإن كان قليلك لقصير ، وإن كنا منك لفي غرور .

ثم توعد تعالى على ترك الجهاد فقال : ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) قال ابن عباس : استنفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيا من العرب ، فتثاقلوا عنه ، فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم .

( ويستبدل قوما غيركم ) أي : لنصرة نبيه وإقامة دينه ، كما قال تعالى : ( إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) [ محمد : 38 ] .

( ولا تضروه شيئا ) أي : ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد ، ونكولكم وتثاقلكم عنه ، ( والله على كل شيء قدير ) أي : قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم .

وقد قيل : إن هذه الآية ، وقوله : ( انفروا خفافا وثقالا ) وقوله ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ) [ التوبة : 120 ] إنهن منسوخات بقوله تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) [ التوبة : 122 ] روي هذا عن ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وزيد بن أسلم . ورده ابن جرير وقال : إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجهاد ، فتعين عليهم ذلك ، فلو تركوه لعوقبوا عليه .

وهذا له اتجاه ، والله [ سبحانه و ] تعالى أعلم [ بالصواب ] .

يقول تعالى : ( إلا تنصروه ) أي : تنصروا رسوله ، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه ، كما تولى نصره ( إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين ) [ إذ هما في الغار ] ) أي : عام الهجرة ، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه ، فخرج منهم هاربا صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة ، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ، ثم يسيرا نحو المدينة ، فجعل أبو بكر - رضي الله عنه - يجزع أن يطلع عليهم أحد ، فيخلص إلى الرسول - عليه السلام - منهم أذى ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسكنه ويثبته ويقول : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا عفان ، حدثنا همام ، أنبأنا ثابت ، عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . قال : فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما .

أخرجاه في الصحيحين .

ولهذا قال تعالى : ( فأنزل الله سكينته عليه ) أي : تأييده ونصره عليه ، أي : على الرسول في أشهر القولين : وقيل : على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس وغيره ، قالوا : لأن الرسول لم تزل معه سكينة ، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ؛ ولهذا قال : ( وأيده بجنود لم تروها ) أي الملائكة ، ( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا )

قال ابن عباس : يعني ( كلمة الذين كفروا ) الشرك و ( كلمة الله ) هي : لا إله إلا الله .

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .

وقوله : ( والله عزيز ) أي : في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب ، لا يضام من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه ، ( حكيم ) في أقواله وأفعاله .

قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح : هذه الآية : ( انفروا خفافا وثقالا ) أول ما نزل من سورة " براءة " .

وقال معتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم حضرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرا ، فيقول : إني لا آثم ، فأنزل الله : ( انفروا خفافا وثقالا ) الآية .

أمر الله تعالى بالنفير العام مع الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عام غزوة تبوك ، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب ، وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر ، فقال : ( انفروا خفافا وثقالا )

وقال علي بن زيد ، عن أنس ، عن أبي طلحة : كهولا وشبابا ما أسمع الله عذر أحدا ، ثم خرج إلى الشام ، فقاتل حتى قتل .

وفي رواية : قرأ أبو طلحة سورة براءة ، فأتى على هذه الآية : ( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ) فقال : أرى ربنا يستنفرنا شيوخا وشبابا جهزوني يا بني . فقال بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك . فأبى ، فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها .

وهكذا روي عن ابن عباس ، وعكرمة وأبي صالح ، والحسن البصري ، وشمر بن عطية ، ومقاتل بن حيان ، والشعبي وزيد بن أسلم : أنهم قالوا في تفسير هذه الآية : ( انفروا خفافا وثقالا ) قالوا : كهولا وشبابا ، وكذا قال عكرمة والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد .

وقال مجاهد : شبابا وشيوخا ، وأغنياء ومساكين . وكذا قال أبو صالح ، وغيره .

وقال الحكم بن عتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( انفروا خفافا وثقالا ) يقول : انفروا نشاطا وغير نشاط . وكذا قال قتادة .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( انفروا خفافا وثقالا ) قالوا : فإن فينا الثقيل ، وذا الحاجة ، والضيعة والشغل ، والمتيسر به أمر ، فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم .

وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا : في العسر واليسر . وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية ، وهذا اختيار ابن جرير .

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافا وركبانا ، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة . وهذا تفصيل في المسألة .

وقد روي عن ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله .

وقال السدي : قوله : ( انفروا خفافا وثقالا ) يقول : غنيا وفقيرا ، وقويا وضعيفا فجاءه رجل يومئذ ، زعموا أنه المقداد ، وكان عظيما سمينا ، فشكا إليه وسأله أن يأذن له ، فأبى ، فنزلت يومئذ ( انفروا خفافا وثقالا ) فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله ، فقال : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ) [ التوبة : 91 ] .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب ، عن محمد قال : شهد أبو أيوب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا وهو في آخرين إلا عاما واحدا قال : وكان أبو أيوب يقول : قال الله : ( انفروا خفافا وثقالا ) فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا .

وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمر السكوني ، حدثنا بقية ، حدثنا حريز ، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة ، حدثني أبو راشد الحبراني قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فضل عنها من عظمه ، يريد الغزو ، فقلت له : لقد أعذر الله إليك فقال : أتت علينا سورة " البحوث " ( انفروا خفافا وثقالا )

وبه قال ابن جرير : حدثني حيان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو - وكان واليا على حمص - قبل الأفسوس ، إلى الجراجمة فلقيت شيخا كبيرا هما ، وقد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته ، فيمن أغار . فأقبلت إليه فقلت : يا عم ، لقد أعذر الله إليك . قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي ، استنفرنا الله خفافا وثقالا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله ، عز وجل .

ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله ، فقال : ( وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) أي : هذا خير لكم في الدنيا والآخرة ، ولأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا ، مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرده إلى منزله نائلا ما نال من أجر أو غنيمة .

ولهذا قال تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ البقرة : 216 ] .

ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد :

حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ؛ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : أسلم . قال : أجدني كارها . قال : أسلم وإن كنت كارها .

يقول تعالى موبخا للذين تخلفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، وقعدوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما استأذنوه في ذلك ، مظهرين أنهم ذوو أعذار ، ولم يكونوا كذلك ، فقال : ( لو كان عرضا قريبا ) قال ابن عباس : غنيمة قريبة ، ( وسفرا قاصدا ) أي : قريبا أيضا ، ( لاتبعوك ) أي : لكانوا جاءوا معك لذلك ، ( ولكن بعدت عليهم الشقة ) أي : المسافة إلى الشام ، ( وسيحلفون بالله ) أي : لكم إذا رجعتم إليهم ( لو استطعنا لخرجنا معكم ) أي : لو لم تكن لنا أعذار لخرجنا معكم ، قال الله تعالى : ( يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون )

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حصين بن [ يحيى بن ] سليمان الرازي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن مسعر عن عون قال : هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا ؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة فقال : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) وكذا قال مورق العجلي وغيره .

وقال قتادة : عاتبه كما تسمعون ، ثم أنزل التي في سورة النور ، فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء : ( فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ) [ النور : 62 ] وكذا روي عن عطاء الخراساني .

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس قالوا : استأذنوا رسول الله ، فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا .

ولهذا قال تعالى : ( حتى يتبين لك الذين صدقوا ) أي : في إبداء الأعذار ، ( وتعلم الكاذبين )

يقول تعالى : هلا تركتهم لما استأذنوك ، فلم تأذن لأحد منهم في القعود ، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب ، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو [ وإن لم تأذن لهم فيه . ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو ] أحد يؤمن بالله ورسوله ، فقال : ( لا يستأذنك ) أي : في القعود عن الغزو ( الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) ؛ لأن أولئك يرون الجهاد قربة ، ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا .

( والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك ) أي : في القعود ممن لا عذر له ( الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي : لا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم ، ( وارتابت قلوبهم ) أي : شكت في صحة ما جئتهم به ، ( فهم في ريبهم يترددون ) أي : يتحيرون ، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى ، وليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هلكى ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا .

يقول تعالى : ( ولو أرادوا الخروج ) أي : معك إلى الغزو ( لأعدوا له عدة ) أي : لكانوا تأهبوا له ، ( ولكن كره الله انبعاثهم ) أي : أبغض أن يخرجوا معك قدرا ، ( فثبطهم ) أي : أخرهم ، ( وقيل اقعدوا مع القاعدين ) أي : قدرا .

ثم بين [ الله تعالى ] وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال : ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) أي : لأنهم جبناء مخذولون ، ( ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) أي : ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة ، ( وفيكم سماعون لهم ) أي : مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم ، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير .

وقال مجاهد ، وزيد بن أسلم ، وابن جرير : ( وفيكم سماعون لهم ) أي : عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم .

وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جميع الأحوال ، والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين .

وقال محمد بن إسحاق : كان - فيما بلغني - من استأذن من ذوي الشرف منهم : عبد الله بن أبي ابن سلول ، والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله - لعلمه بهم - أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده ، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : ( وفيكم سماعون لهم ) .

ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال : ( والله عليم بالظالمين ) فأخبر بأنه [ يعلم ] ما كان ، وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ؛ ولهذا قال تعالى : ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا ، كما قال تعالى : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) [ الأنعام : 28 ] وقال تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) [ الأنفال : 23 ] وقال تعالى : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ) [ النساء : 66 - 68 ] والآيات في هذا كثيرة .

يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين : ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور ) أي : لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماله مدة طويلة ، وذلك أول مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه . فدخلوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ؛ ولهذا قال تعالى : ( حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون )

يقول تعالى : ومن المنافقين من يقول لك يا محمد : ( ائذن لي ) في القعود ( ولا تفتني ) بالخروج معك ، بسبب الجواري من نساء الروم ، قال الله تعالى : ( ألا في الفتنة سقطوا ) أي : قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا . كما قال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وغيرهم قالوا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم - وهو في جهازه - للجد بن قيس أخي بني سلمة : هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر ؟ فقال : يا رسول الله ، أوتأذن لي ولا تفتني ، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن . فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : قد أذنت لك . ففي الجد بن قيس نزلت هذه : ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) الآية ، أي : إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به ، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرغبة بنفسه عن نفسه - أعظم .

وهكذا روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : أنها نزلت في الجد بن قيس . وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة ، وفي الصحيح : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : الجد بن قيس ، على أنا نبخله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وأي داء أدوأ من البخل ، ولكن سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور .

وقوله تعالى : ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) أي : لا محيد لهم عنها ، ولا محيص ، ولا مهرب .

يعلم تبارك وتعالى نبيه بعداوة هؤلاء له ؛ لأنه مهما أصابه من ( حسنة ) أي : فتح ونصر وظفر على الأعداء ، مما يسره ويسر أصحابه ، ساءهم ذلك ، ( وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ) أي : قد احترزنا من متابعته من قبل هذا ، ( ويتولوا وهم فرحون )

فأرشد الله تعالى رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة ، فقال : ( قل ) أي : لهم ( لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) أي : نحن تحت مشيئة الله وقدره ، ( هو مولانا ) أي : سيدنا وملجؤنا ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) أي : ونحن متوكلون عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

يقول تعالى : ( قل ) لهم يا محمد : ( هل تربصون بنا ) ؟ أي : تنتظرون بنا ( إلا إحدى الحسنيين ) شهادة أو ظفر بكم . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم . ( ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ) أي : ننتظر بكم هذا أو هذا ، إما أن يصيبكم الله بقارعة من عنده أو بأيدينا ، بسبي أو بقتل ، ( فتربصوا إنا معكم متربصون )

وقوله : ( قل أنفقوا طوعا أو كرها ) أي : مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين ( لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين )

ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك ، وهو أنهم لا يتقبل منهم ، ( إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ) أي : [ قد كفروا ] والأعمال إنما تصح بالإيمان ، ( ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ) أي : ليس لهم قصد صحيح ، ولا همة في العمل ، ( ولا ينفقون ) نفقة ( إلا وهم كارهون )

وقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لا يمل حتى تملوا ، وأنه طيب لا يقبل إلا طيبا ؛ فلهذا لا يتقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين .

يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه : ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) كما قال تعالى : ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) [ طه : 131 ] وقال : ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) [ المؤمنون : 55 ، 56 ] .

وقوله : ( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) قال الحسن البصري : بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله .

وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ، [ في الحياة الدنيا ] إنما يريد الله ليعذبهم بها [ في الآخرة ] .

واختار ابن جرير قول الحسن ، وهو القول القوي الحسن .

وقوله : ( وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) أي : ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ، ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه .

يخبر الله تعالى نبيه - صلوات الله وسلامه عليه - عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم ( يحلفون بالله إنهم لمنكم ) يمينا مؤكدة ، ( وما هم منكم ) أي : في نفس الأمر ، ( ولكنهم قوم يفرقون ) أي : فهو الذي حملهم على الحلف .

( لو يجدون ملجأ ) أي : حصنا يتحصنون به ، وحرزا يحترزون به ، ( أو مغارات ) وهي التي في الجبال ، ( أو مدخلا ) وهو السرب في الأرض والنفق . قال ذلك في الثلاثة ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . ( لولوا إليه وهم يجمحون ) أي : يسرعون في ذهابهم عنكم ، لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة ، وودوا أنهم لا يخالطونكم ، ولكن للضرورة أحكام ؛ ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم ؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عز ونصر ورفعة ؛ فلهذا كلما سر المؤمنون ساءهم ذلك ، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين ؛ ولهذا قال : ( لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون )

يقول تعالى : ( ومنهم ) أي ومن المنافقين ( من يلمزك ) أي : يعيب عليك ) في ) قسم ) الصدقات ) إذا فرقتها ، ويتهمك في ذلك ، وهم المتهمون المأبونون ، وهم مع هذا لا ينكرون للدين ، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم ؛ ولهذا إن ( أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) أي : يغضبون لأنفسهم .

قال ابن جريج : أخبرني داود بن أبي عاصم قال : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقة ، فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت . قال : ووراءه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل ؟ فنزلت هذه الآية .

وقال قتادة في قوله : ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ) يقول : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات . وذكر لنا أن رجلا من [ أهل ] البادية حديث عهد بأعرابية ، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم ذهبا وفضة ، فقال : يا محمد ، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ، ما عدلت . فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : ويلك فمن ذا يعدل عليك بعدي . ثم قال نبي الله : احذروا هذا وأشباهه ، فإن في أمتي أشباه هذا ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، فإذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم . وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه ، إنما أنا خازن .

وهذا الذي ذكره قتادة شبيه بما رواه الشيخان من حديث الزهري ، عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة - واسمه حرقوص - لما اعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قسم غنائم حنين ، فقال له : اعدل ، فإنك لم تعدل . فقال : لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رآه مقفيا : إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماءوذكر بقية الحديث .

ثم قال تعالى منبها لهم على ما هو خير من ذلك لهم ، فقال : ( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) فتضمنت هذه الآية الكريمة أدبا عظيما وسرا شريفا ، حيث جعل الرضا بما آتاه الله ورسوله والتوكل على الله وحده ، وهو قوله : ( وقالوا حسبنا الله ) وكذلك الرغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسول وامتثال أوامره ، وترك زواجره ، وتصديق أخباره ، والاقتفاء بآثاره .

لما ذكر [ الله ] تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولمزهم إياه في قسم الصدقات ، بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها ، وتولى أمرها بنفسه ، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره ، فجزأها لهؤلاء المذكورين ، كما رواه الإمام أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم - وفيه ضعف - عن زياد بن نعيم ، عن زياد بن الحارث الصدائي - رضي الله عنه - قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية : هل يجب استيعاب الدفع إليها أو إلى ما أمكن منها ؟ على قولين :

أحدهما : أنه يجب ذلك ، وهو قول الشافعي وجماعة .

والثاني : أنه لا يجب استيعابها ، بل يجوز الدفع إلى واحد منها ، ويعطى جميع الصدقة مع وجود الباقين . وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف ، منهم : عمر ، وحذيفة ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وسعيد بن جبير ، وميمون بن مهران .

قال ابن جرير : وهو قول عامة أهل العلم ، وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف هاهنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء .

ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا ، والله أعلم .

وإنما قدم الفقراء هاهنا لأنهم أحوج من البقية على المشهور ، لشدة فاقتهم وحاجتهم ، وعند أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، وهو كما قال ، قال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أنبأنا ابن عون ، عن محمد قال : قال عمر - رضي الله عنه - : الفقير ليس بالذي لا مال له ، ولكن الفقير الأخلق الكسب . قال ابن علية : الأخلق : المحارف عندنا .

والجمهور على خلافه . وروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وابن زيد ، واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير : هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ، والمسكين : هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس .

وقال قتادة : الفقير : من به زمانة ، والمسكين : الصحيح الجسم .

وقال الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم : هم فقراء المهاجرين . قال سفيان الثوري : يعني : ولا يعطى الأعراب منها شيئا .

وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى .

وقال عكرمة : لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وإنما المساكين مساكين أهل الكتاب .

ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية .

فأما " الفقراء " ، فعن ابن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي .

ولأحمد أيضا ، والنسائي ، وابن ماجه عن أبي هريرة ، مثله .

وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه : أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألانه من الصدقة ، فقلب إليهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب .

رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي بإسناد جيد قوي .

وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح [ والتعديل : أبو بكر العبسي قال : قرأ عمر - رضي الله عنه - : ( إنما الصدقات للفقراء ) قال : هم أهل الكتاب ] روى عنه عمر بن نافع ، سمعت أبي يقول ذلك .

قلت : وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الإسناد ، فإن أبا بكر هذا ، وإن لم ينص أبو حاتم على جهالته ، لكنه في حكم المجهول .

وأما المساكين : فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ، فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان . قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا .

رواه الشيخان : البخاري ومسلم .

وأما العاملون عليها : فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطا على ذلك ، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تحرم عليهم الصدقة ، لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث : أنه انطلق هو والفضل بن عباس يسألان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستعملهما على الصدقة ، فقال : إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس .

وأما المؤلفة قلوبهم : فأقسام : منهم من يعطى ليسلم ، كما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - صفوان بن أمية من غنائم حنين ، وقد كان شهدها مشركا . قال : فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا زكريا بن عدي ، أنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ، وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي .

ورواه مسلم والترمذي ، من حديث يونس ، عن الزهري ، به .

ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه ، ويثبت قلبه ، كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل ، مائة من الإبل وقال : إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم .

وفي الصحيحين عن أبي سعيد : أن عليا بعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذهيبة في تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس ، وعيينة بن بدر ، وعلقمة بن علاثة ، وزيد الخير ، وقال : أتألفهم .

ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه . ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه ، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد . ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله أعلم .

وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيه خلاف ، فروي عن عمر ، وعامر الشعبي وجماعة : أنهم لا يعطون بعده ؛ لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ، ومكن لهم في البلاد ، وأذل لهم رقاب العباد .

وقال آخرون : بل يعطون ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوازن ، وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم .

وأما الرقاب : فروي عن الحسن البصري ، ومقاتل بن حيان ، وعمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد أنهم المكاتبون ، وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه ، وهو قول الشافعي والليث .

وقال ابن عباس ، والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، ومالك ، وإسحاق ، أي : إن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب ، أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا . وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة ، وأن الله يعتق بكل عضو منها عضوا من معتقها حتى الفرج بالفرج ، وما ذاك إلا لأن الجزاء من جنس العمل ، ( وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ) [ الصافات : 39 ] .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاثة حق على الله عونهم : الغازي في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف .

رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود .

وفي المسند عن البراء بن عازب قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار . فقال : أعتق النسمة وفك الرقبة . فقال : يا رسول الله ، أوليسا واحدا ؟ قال : لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها .

وأما الغارمون : فهم أقسام : فمنهم من تحمل حمالة أو ضمن دينا فلزمه ، فأجحف بماله ، أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب ، فهؤلاء يدفع إليهم . والأصل في هذا الباب حديث قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها ، فقال : أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها . قال : ثم قال : يا قبيصة ، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك . ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش : أو قال : سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، فيقولون : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة ، حتى يصيب قواما من عيش - أو قال : سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة سحت ، يأكلها صاحبها سحتا . رواه مسلم .

وعن أبي سعيد قال : أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدقوا عليه . فتصدق الناس فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه : خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك . رواه مسلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، أنبأنا صدقة بن موسى ، عن أبي عمران الجوني ، عن قيس بن زيد عن قاضي المصرين عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه ، فيقول : يا ابن آدم ، فيم أخذت هذا الدين ؟ وفيم ضيعت حقوق الناس ؟ فيقول : يا رب ، إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ، ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة . فيقول الله : صدق عبدي ، أنا أحق من قضى عنك اليوم . فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه ، فترجح حسناته على سيئاته ، فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته .

وأما في سبيل الله : فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وعند الإمام أحمد ، والحسن ، وإسحاق : والحج من سبيل الله ، للحديث .

وكذلك ابن السبيل : وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره ، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال . وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء ، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه . والدليل على ذلك الآية وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجه من حديث معمر ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : العامل عليها ، أو رجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني .

وقد رواه السفيانان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء مرسلا . ولأبي داود عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله ، وابن السبيل ، أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك .

وقوله : ( فريضة من الله ) أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه ( والله عليم حكيم ) أي : عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده ، ( حكيم ) فيما يفعله ويقوله ويشرعه ويحكم به ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .

يقول تعالى : ومن المنافقين قوم يؤذون رسول - الله - صلى الله عليه وسلم - بالكلام فيه ويقولون : ( هو أذن ) أي : من قال له شيئا صدقه ، ومن حدثه فينا صدقه ، فإذا جئنا وحلفنا له صدقنا . روي معناه عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . قال الله تعالى : ( قل أذن خير لكم ) أي : هو أذن خير ، يعرف الصادق من الكاذب ، ( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ) أي : ويصدق المؤمنين ، ( ورحمة للذين آمنوا منكم ) أي : وهو حجة على الكافرين ؛ ولهذا قال : ( والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) .

قال قتادة في قوله تعالى : ( يحلفون بالله لكم ليرضوكم ) الآية ، قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم شر من الحمير . قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد لحق ، ولأنت أشر من الحمار . قال : فسعى بها الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : ما حملك على الذي قلت ؟ فجعل يلتعن ، ويحلف بالله ما قال ذلك . وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب . فأنزل الله - عز وجل - : ( يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين )

وقوله تعالى : ( ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ) أي : ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حاد الله ، أي : شاقه وحاربه وخالفه ، وكان في حد والله ورسوله في حد ( فأن له نار جهنم خالدا فيها ) أي : مهانا معذبا ، ( ذلك الخزي العظيم ) أي : وهذا هو الذل العظيم ، والشقاء الكبير .

قال مجاهد : يقولون القول بينهم ، ثم يقولون : عسى الله ألا يفشي علينا سرنا هذا .

وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : ( وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ) [ المجادلة : 8 ] وقال في هذه الآية : ( قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ) أي : إن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ، ويبين له أمركم كما قال : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ) إلى قوله : ( ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ) [ محمد : 29 ، 30 ] ؛ ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة " الفاضحة " ، فاضحة المنافقين .

قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا ، وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عند اللقاء . فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب . فقال : ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) إلى قوله : ( مجرمين ) وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متعلق بنسعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلسك ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء . فقال رجل في المسجد : كذبت ، ولكنك منافق . لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر : وأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة وهو يقول : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) .

وقد رواه الليث ، عن هشام بن سعد ، بنحو من هذا .

وقال ابن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ، أخو بني أمية بن زيد ، من بني عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له : مخشن بن حمير يشيرون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين ، فقال مخشن بن حمير : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر : أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا . فانطلق إليهمعمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على راحلته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، [ فأنزل الله - عز وجل - : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) ] فقال مخشن بن حمير : يا رسول الله ، قعد بي اسمي واسم أبي . فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر .

وقال قتادة : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) قال : فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، وركب من المنافقين يسيرون بين يديه ، فقالوا : يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها . هيهات هيهات . فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما قالوا ، فقال : علي بهؤلاء النفر . فدعاهم ، فقال : قلتم كذا وكذا . فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب .

وقال عكرمة في تفسير هذه الآية : كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول : اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها ، تقشعر منها الجلود ، وتجب منها القلوب ، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت ، قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره .

وقوله : ( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) أي : بهذا المقال الذي استهزأتم به ( إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ) أي : لا يعفى عن جميعكم ، ولا بد من عذاب بعضكم ، ( بأنهم كانوا مجرمين ) أي : مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة .

قول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين ، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، كان هؤلاء ( يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ) أي : عن الإنفاق في سبيل الله ، ( نسوا الله ) أي : نسوا ذكر الله ، ( فنسيهم ) أي : عاملهم معاملة من نسيهم ، كقوله تعالى : ( وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ) [ الجاثية : 34 ] ( إن المنافقين هم الفاسقون ) أي : الخارجون عن طريق الحق ، الداخلون في طريق الضلالة .

وقوله : ( وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم ) أي : على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم ، ( خالدين فيها ) أي : ماكثين فيها مخلدين ، هم والكفار ، ( هي حسبهم ) أي : كفايتهم في العذاب ، ( ولعنهم الله ) أي : طردهم وأبعدهم ، ( ولهم عذاب مقيم ) .

يقول تعالى : أصاب هؤلاء من عذاب الله في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم ، وقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، ( فاستمتعوا بخلاقهم ) قال الحسن البصري : بدينهم ، ( كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ) أي : في الكذب والباطل ، ( أولئك حبطت أعمالهم ) أي : بطلت مساعيهم ، فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة ( في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ) ؛ لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب .

قال ابن جريج عن عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( كالذين من قبلكم ) الآية ، قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة ، ( كالذين من قبلكم ) هؤلاء بنو إسرائيل ، شبهنا بهم ، لا أعلم إلا أنه قال : والذي نفسي بيده ، لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه .

قال ابن جريج : وأخبرني زياد بن سعد ، عن محمد بن زيد بن مهاجر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده ، لتتبعن سنن الذين من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، وباعا بباع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ أهل الكتاب ؟ قال : فمه .

وهكذا رواه أبو معشر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره وزاد : قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم القرآن . ( كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ) قال أبو هريرة : الخلاق : الدين . ( وخضتم كالذي خاضوا ) قالوا : يا رسول الله ، كما صنعت فارس والروم ؟ قال : فهل الناس إلا هم .

وهذا الحديث له شاهد في الصحيح .

يقول تعالى واعظا لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل : ( ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم ) أي : ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل ( قوم نوح ) وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض ، إلا من آمن بعبده ورسوله نوح ، عليه السلام ، ( وعاد ) كيف أهلكوا بالريح العقيم ، لما كذبوا هودا ، عليه السلام ، ( وثمود ) كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحا - عليه السلام - وعقروا الناقة ، ( وقوم إبراهيم ) كيف نصره الله عليهم وأيده بالمعجزات الظاهرة عليهم ، وأهلك ملكهم النمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني لعنه الله ، ( وأصحاب مدين ) وهم قوم شعيب - عليه السلام - وكيف أصابتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة ، ( والمؤتفكات ) قوم لوط ، وقد كانوا يسكنون في مدائن ، وقال في الآية الأخرى : ( والمؤتفكة أهوى ) [ النجم : 53 ، ] أي : الأمة المؤتفكة ، وقيل : أم قراهم ، وهي " سدوم " . والغرض : أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطا - عليه السلام - وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين .

( أتتهم رسلهم بالبينات ) أي : بالحجج والدلائل القاطعات ، ( فما كان الله ليظلمهم ) أي : بإهلاكه إياهم ؛ لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) أي : بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق ، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار .

لما ذكر [ الله ] تعالى صفات المنافقين الذميمة ، عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة ، فقال : ( بعضهم أولياء بعض ) أي : يتناصرون ويتعاضدون ، كما جاء في الصحيح : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه وفي الصحيح أيضا : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم ، كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر .

وقوله : ( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) كما قال تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) [ آل عمران : 104 ] .

وقوله تعالى : ( ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ) أي : يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه ، ( ويطيعون الله ورسوله ) أي : فيما أمر ، وترك ما عنه زجر ، ( أولئك سيرحمهم الله ) أي : سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات ، ( إن الله عزيز حكيم ) أي : عزيز ، من أطاعه أعزه ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ( حكيم ) في قسمته هذه الصفات لهؤلاء ، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة ، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله تبارك وتعالى .

يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في ( جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) أي : ماكثين فيها أبدا ، ( ومساكن طيبة ) أي : حسنة البناء ، طيبة القرار ، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي عمران الجوني ، عن أبي بكر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن .

وبه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ، طولها ستون ميلا في السماء ، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم ، لا يرى بعضهم بعضا أخرجاه .

وفي الصحيحين أيضا ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من آمن بالله ورسوله ، وأقام الصلاة وصام رمضان ، فإن حقا على الله أن يدخله الجنة ، هاجر في سبيل الله ، أو جلس في أرضه التي ولد فيها . قالوا : يا رسول الله ، أفلا نخبر الناس ؟ قال : إن في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن .

وعند الطبراني والترمذي وابن ماجه ، من رواية زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول . . . فذكر مثله .

وللترمذي عن عبادة بن الصامت ، مثله .

وعن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أهل الجنة ليتراءون في الغرفة في الجنة ، كما تراءون الكوكب في السماء . أخرجاه في الصحيحين .

ثم ليعلم أن أعلى منزلة في الجنة مكان يقال له : " الوسيلة " لقربه من العرش ، وهو مسكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنة ، كما قال الإمام أحمد [ بن حنبل ] .

حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن ليث ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة ، قيل : يا رسول الله ، وما الوسيلة ؟ قال : أعلى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رجل واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو .

وفي صحيح مسلم ، من حديث كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أني أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة .

[ وفي صحيح البخاري ، من حديث محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة ] .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سلوا الله لي الوسيلة ، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا - أو شفيعا - يوم القيامة .

وفي مسند الإمام أحمد ، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي ، عن أبي مدلة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قلنا : يا رسول الله ، حدثنا عن الجنة ، ما بناؤها ؟ قال : لبنة ذهب ، ولبنة فضة ، وملاطها المسك ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم لا يبأس ، ويخلد لا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه .

وروي عن ابن عمر مرفوعا ، نحوه .

وعند الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها . فقام أعرابي فقال : يا رسول الله ، لمن هي ؟ فقال : لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام .

ثم قال : حديث غريب .

ورواه الطبراني ، من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري ، كل منهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه وكل من الإسنادين جيد حسن ، وعنده أن السائل هو " أبو مالك " ، فالله أعلم .

وعن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا هل مشمر إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خطر لها ، هي - ورب الكعبة - نور يتلألأ وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد ، في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية . قالوا : نعم يا رسول الله ، نحن المشمرون لها ، قال : قولوا : إن شاء الله . فقال القوم : إن شاء الله . رواه ابن ماجه .

وقوله تعالى : ( ورضوان من الله أكبر ) أي : رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم ، كما قال الإمام مالك - رحمه الله - عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - عز وجل - يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك يا ربنا وسعديك ، والخير في يدك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك . فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا أخرجاه من حديث مالك .

وقال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي : حدثنا الفضل الرخامي ، حدثنا الفرياني ، عن سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله - عز وجل - : هل تشتهون شيئا فأزيدكم ؟ قالوا : يا ربنا ، ما خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضواني أكبر .

ورواه البزار في مسنده ، من حديث الثوري ، وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه " صفة الجنة " : هذا عندي على شرط الصحيح ، والله أعلم .

أمر تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين ، وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة . وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف ، سيف للمشركين : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) [ التوبة : 5 ] وسيف للكفار أهل الكتاب : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] وسيف للمنافقين : ( جاهد الكفار والمنافقين ) [ التوبة : 73 ، التحريم : 9 ] وسيف للبغاة : ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) [ الحجرات : 9 ] .

وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ، وهو اختيار ابن جرير .

وقال ابن مسعود في قوله تعالى : ( جاهد الكفار والمنافقين ) قال : بيده ، [ فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ] فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه .

وقال ابن عباس : أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان ، وأذهب الرفق عنهم .

وقال الضحاك : جاهد الكفار بالسيف ، واغلظ على المنافقين بالكلام ، وهو مجاهدتهم . وعن مقاتل والربيع مثله .

وقال الحسن وقتادة : مجاهدتهم : إقامة الحدود عليهم .

وقد يقال : إنه لا منافاة بين هذه الأقوال ، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا ، وتارة بهذا بحسب الأحوال ، والله أعلم .

وقوله : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي ، وذلك أنه اقتتل رجلان : جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار : ألا تنصروا أخاكم ؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : " سمن كلبك يأكلك " ، وقال : ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) [ المنافقون : 8 ] فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية .

وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمه موسى بن عقبة قال : فحدثنا عبد الله بن الفضل ، أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول : حزنت على من أصيب بالحرة من قومي ، فكتب إلي زيد بن أرقم - وبلغه شدة حزني - يذكر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار - وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار - قال ابن الفضل : فسأل أنسا بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم ، فقال : هو الذي يقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوفى الله له بأذنه . وذاك حين سمع رجلا من المنافقين يقول - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب - : لئن كان هذا صادقا فنحن شر من الحمير ، فقال زيد بن أرقم : فهو والله صادق ، ولأنت شر من الحمار . ثم رفع ذلك إلى رسول الله ، فجحده القائل ، فأنزل الله هذه الآية تصديقا لزيد - يعني قوله : ( يحلفون بالله ما قالوا ) الآية .

رواه البخاري في صحيحه ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة . إلى قوله : هذا الذي أوفى الله له بأذنه ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة ، وقد رواه محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة بإسناده ثم قال : قال ابن شهاب . فذكر ما بعده عن موسى ، عن ابن شهاب .

والمشهور في هذه القصة أنها كانت في غزوة بني المصطلق ، فلعل الراوي وهم في ذكر الآية ، وأراد أن يذكر غيرها فذكرها ، والله أعلم . [ حاشية ]

قال " الأموي " في مغازيه : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن جده قال : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذني قومي فقالوا : إنك امرؤ شاعر ، فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض العلة ، ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه . وذكر الحديث بطوله إلى أن قال : وكان ممن تخلف من المنافقين ، ونزل فيه القرآن منهم ممن كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجلاس بن سويد بن الصامت ، وكان على أم عمير بن سعد ، وكان عمير في حجره ، فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين ، قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير [ قال ] فسمعها عمير بن سعد فقال : والله - يا جلاس - إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم علي أن يصله شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون علي من الأخرى . فمشى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ما قال الجلاس . فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ، ولقد كذب علي . فأنزل الله - عز وجل - فيه : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) إلى آخر الآية . فوقفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها . فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ، ونزع فأحسن النزوع هكذا جاء هذا مدرجا في الحديث متصلا به ، وكأنه - والله أعلم - من كلام ابن إسحاق نفسه ، لا من كلام كعب بن مالك .

وقال عروة بن الزبير : نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت ، أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها . فقال مصعب : أما والله - يا عدو الله - لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قلت : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخفت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة ، أو أن أخلط بخطيئته ، فقلت : يا رسول الله ، أقبلت أنا والجلاس من قباء ، فقال كذا وكذا ، ولولا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك . قال : فدعا الجلاس فقال : يا جلاس ، أقلت الذي قاله مصعب ؟ فحلف ، فأنزل الله : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) الآية .

وقال محمد بن إسحاق : كان الذي قال تلك المقالة - فيما بلغني - الجلاس بن سويد بن الصامت ، فرفعها عليه رجل كان في حجره ، يقال له : عمير بن سعيد ، فأنكرها ، فحلف بالله ما قالها : فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع ، وحسنت توبته ، فيما بلغني .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه . فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله - عز وجل - : ( يحلفون بالله ما قالوا ) الآية .

وذلك بين فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب " دلائل النبوة " من حديث محمد بن إسحاق ، عن الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن [ أبي ] البختري ، عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقود به ، وعمار يسوق الناقة - أو أنا : أسوقه ، وعمار يقوده - حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، قال : فأنبهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ بهم ] فصرخ بهم فولوا مدبرين ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل عرفتم القوم ؟ قلنا : لا يا رسول الله ، قد كانوا متلثمين ، ولكنا قد عرفنا الركاب . قال : هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون ما أرادوا ؟ قلنا : لا . قال : أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة ، فيلقوه منها . قلنا : يا رسول الله ، أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال : لا ، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى [ إذا ] أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم ، ثم قال : اللهم ارمهم بالدبيلة . قلنا : يا رسول الله ، وما الدبيلة ؟ قال : شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك .

وقال الإمام أحمد - رحمه الله - : حدثنا يزيد ، أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك ، أمر مناديا فنادى : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ العقبة فلا يأخذها أحد . فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوده حذيفة ويسوقه عمار ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله ، وأقبل عمار - رضي الله عنه - يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة : قد ، قد . حتى هبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ فلما هبط ] نزل ورجع عمار ، فقال : يا عمار ، هل عرفت القوم ؟ فقال : قد عرفت عامة الرواحل ، والقوم متلثمون . قال : هل تدري ما أرادوا ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أرادوا أن ينفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطرحوه . قال : فسار عمار رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال : أربعة عشر . فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر . قال : فعذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله ، وما علمنا ما أراد القوم . فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .

وهكذا روى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزبير نحو هذا ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي ، وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة ، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون ، وهم متلثمون ، فأرادوا سلوك العقبة ، فأطلع الله على مرادهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر حذيفة فرجع إليهم ، فضرب وجوه رواحلهم ، ففزعوا ورجعوا مقبوحين ، وأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة وعمارا بأسمائهم ، وما كانوا هموا به من الفتك به ، صلوات الله وسلامه عليه ، وأمرهما أن يكتما عليهم .

وكذلك روى يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، إلا أنه سمى جماعة منهم ، فالله أعلم .

وكذا قد حكي في معجم الطبراني ، قاله البيهقي . ويشهد لهذه القصة بالصحة ، ما رواه مسلم :

حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا أبو أحمد الكوفي ، حدثنا الوليد بن جميع ، حدثنا أبو الطفيل قال : كان [ بين ] رجل من أهل العقبة [ وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله ، كم كان أصحاب العقبة ] قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك . قال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا علمنا بما أراد القوم . وقد كان في حرة فمشى ، فقال : إن الماء قليل ، فلا يسبقني إليه أحد ، فوجد قوما قد سبقوه ، فلعنهم يومئذ .

وما رواه مسلم أيضا ، من حديث قتادة ، عن أبي نضرة ، عن قيس بن عباد ، عن عمار بن ياسر قال : أخبرني حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : في أصحابي اثنا عشر منافقا ، لا يدخلون الجنة ، ولا يجدون ريحها حتى يلج [ الجمل ] في سم الخياط : ثمانية تكفيكهم الدبيلة : سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم .

ولهذا كان حذيفة يقال له : " صاحب السر ، الذي لا يعلمه غيره " أي : من تعيين جماعة من المنافقين ، وهم هؤلاء ، قد أطلعه عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون غيره ، والله أعلم . وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ، ثم روى عن علي بن عبد العزيز ، عن الزبير بن بكار أنه قال : هم معتب بن قشير ، ووديعة بن ثابت ، وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من بني عمرو بن عوف ، والحارث بن يزيد الطائي ، وأوس بن قيظي ، والحارث بن سويد ، وسعد بن زرارة وقيس بن فهد ، وسويد وداعس من بني الحبلي ، وقيس بن عمرو بن سهل ، وزيد بن اللصيت ، وسلالة بن الحمام ، وهما من بني قينقاع ، أظهرا الإسلام .

وقوله : ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) أي : وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سفارته ، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله لما جاء به ، كما قال ، عليه السلام للأنصار : ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن .

وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب كما قال تعالى : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) [ البروج : 8 ] وكما قال - عليه السلام - ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله .

ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال : ( فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ) أي : وإن يستمروا على طريقهم ( يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا ) أي : بالقتل والهم والغم ، ( والآخرة ) أي : بالعذاب والنكال والهوان والصغار ، ( وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) أي : وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم ، ولا يحصل لهم خيرا ، ولا يدفع عنهم شرا .

يقول تعالى : ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه : لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله ، وليكونن من الصالحين . فما وفى بما قال ، ولا صدق فيما ادعى ، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله - عز وجل - يوم القيامة ، عياذا بالله من ذلك .

وقد ذكر كثير من المفسرين ، منهم ابن عباس ، والحسن البصري : أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في " ثعلبة بن حاطب الأنصاري " .

وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير هاهنا وابن أبي حاتم ، من حديث معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن ، مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادع الله أن يرزقني مالا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه . قال : ثم قال مرة أخرى ، فقال : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت . قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم ارزق ثعلبة مالا . قال : فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما . ثم نمت وكثرت ، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود ، حتى ترك الجمعة . فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ، يسألهم عن الأخبار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما فعل ثعلبة ؟ فقالوا : يا رسول الله ، اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة . فأخبروه بأمره فقال : يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة . وأنزل الله جل ثناؤه : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) الآية [ التوبة : 103 ] قال : ونزلت عليه فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين على الصدقة : رجلا من جهينة ، ورجلا من سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ، وقال لهما : مرا بثعلبة ، وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما . فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما هذه إلا جزية . ما هذه إلا أخت الجزية . ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي . فانطلقا وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله ، فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك . قال : بلى ، فخذوها ، فإن نفسي بذلك طيبة ، وإنما هي له ، فأخذوها منه ، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فنظر فيه ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية . انطلقا حتى أرى رأيي . فانطلقا حتى أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ، ودعا للسلمي بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي ، فأنزل الله - عز وجل - : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) إلى قوله : ( وبما كانوا يكذبون ) قال : وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أقارب ثعلبة ، فسمع ذلك ، فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة . قد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ، فجعل يحثو على رأسه التراب ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ هذا ] عملك ، قد أمرتك فلم تطعني . فلما أبى أن يقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى منزله ، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبل منه شيئا . ثم أتى أبا بكر - رضي الله عنه - حين استخلف ، فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله ، وموضعي من الأنصار ، فاقبل صدقتي . فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يقبلها ، فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما ولي عمر - رضي الله عنه - أتاه فقال : يا أمير المؤمنين ، اقبل صدقتي . فقال : لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ، وأنا أقبلها منك ! فقبض ولم يقبلها ؛ ثم ولي عثمان - رضي الله عنه - [ فأتاه ] فسأله أن يقبل صدقته ، فقال : لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك ! فلم يقبلها منه ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان .

يقول تعالى : ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه : لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله ، وليكونن من الصالحين . فما وفى بما قال ، ولا صدق فيما ادعى ، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله - عز وجل - يوم القيامة ، عياذا بالله من ذلك .

وقد ذكر كثير من المفسرين ، منهم ابن عباس ، والحسن البصري : أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في " ثعلبة بن حاطب الأنصاري " .

وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير هاهنا وابن أبي حاتم ، من حديث معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن ، مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادع الله أن يرزقني مالا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه . قال : ثم قال مرة أخرى ، فقال : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت . قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم ارزق ثعلبة مالا . قال : فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما . ثم نمت وكثرت ، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود ، حتى ترك الجمعة . فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ، يسألهم عن الأخبار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما فعل ثعلبة ؟ فقالوا : يا رسول الله ، اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة . فأخبروه بأمره فقال : يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة . وأنزل الله جل ثناؤه : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) الآية [ التوبة : 103 ] قال : ونزلت عليه فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين على الصدقة : رجلا من جهينة ، ورجلا من سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ، وقال لهما : مرا بثعلبة ، وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما . فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما هذه إلا جزية . ما هذه إلا أخت الجزية . ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي . فانطلقا وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله ، فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك . قال : بلى ، فخذوها ، فإن نفسي بذلك طيبة ، وإنما هي له ، فأخذوها منه ، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فنظر فيه ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية . انطلقا حتى أرى رأيي . فانطلقا حتى أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ، ودعا للسلمي بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي ، فأنزل الله - عز وجل - : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) إلى قوله : ( وبما كانوا يكذبون ) قال : وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أقارب ثعلبة ، فسمع ذلك ، فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة . قد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ، فجعل يحثو على رأسه التراب ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ هذا ] عملك ، قد أمرتك فلم تطعني . فلما أبى أن يقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى منزله ، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبل منه شيئا . ثم أتى أبا بكر - رضي الله عنه - حين استخلف ، فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله ، وموضعي من الأنصار ، فاقبل صدقتي . فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يقبلها ، فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما ولي عمر - رضي الله عنه - أتاه فقال : يا أمير المؤمنين ، اقبل صدقتي . فقال : لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ، وأنا أقبلها منك ! فقبض ولم يقبلها ؛ ثم ولي عثمان - رضي الله عنه - [ فأتاه ] فسأله أن يقبل صدقته ، فقال : لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك ! فلم يقبلها منه ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان .

وقوله تعالى : ( بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) أي : أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم ، كما جاء في الصحيح ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان وله شواهد كثيرة ، والله أعلم .

وقوله : ( ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ) يخبرهم تعالى أنه يعلم السر وأخفى ، وأنه أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا عليها ، فإنه أعلم بهم من أنفسهم ؛ لأنه تعالى علام الغيوب ، أي : يعلم كل غيب وشهادة ، وكل سر ونجوى ، ويعلم ما ظهر وما بطن .

وهذه أيضا من صفات المنافقين : لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم ، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا : هذا مراء ، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا . كما قال البخاري :

حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو النعمان البصري ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن أبي مسعود قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا ، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا . فنزلت ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ) الآية .

وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه ، من حديث شعبة به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا الجريري ، عن أبي السليل قال : وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع فقال : حدثني أبي - أو : عمي أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبقيع ، وهو يقول : من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة ؟ قال : فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين ، وأنا أريد أن أتصدق بهما ، فأدركني ما يدرك ابن آدم ، فعقدت على عمامتي . فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد سوادا [ ولا ] أصغر منه ولا أدم ، ببعير ساقه ، لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها ، فقال : يا رسول الله ، أصدقة ؟ قال : نعم ، فقال : دونك هذه الناقة . قال : فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه فوالله لهي خير منه . قال : فسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : كذبت بل هو خير منك ومنها ثلاث مرات ، ثم قال : ويل لأصحاب المئين من الإبل ثلاثا . قالوا : إلا من يا رسول الله ؟ قال : إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ، ثم قال : قد أفلح المزهد المجهد ثلاثا : المزهد في العيش ، المجهد في العبادة .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، وقال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء . وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم . فجمع الناس صدقاتهم ، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله ، هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء ، حتى نلت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما ، وأتيتك بالآخر . فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينثره في الصدقات . فسخر منه رجال ، وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا . وما يصنعان بصاعك من شيء . ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل بقي أحد من أهل الصدقات ؟ فقال : لا ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات . فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : أمجنون أنت ؟ قال : ليس بي جنون . قال : فعلت ما فعلت ؟ قال : نعم ، مالي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي ، وأما أربعة آلاف فلي . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت . ولمزه المنافقون فقالوا : والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء . وهم كاذبون ، إنما كان به متطوعا ، فأنزل الله - عز وجل - عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال تعالى في كتابه : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآية .

وكذا روي عن مجاهد ، وغير واحد .

وقال ابن إسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف ، تصدق بأربعة آلاف درهم ، وعاصم بن عدي أخا بني العجلان ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في الصدقات ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم فتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء . وكان الذي تصدق بجهده : أبو عقيل أخو بني أنيف الإراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا . قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ، عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما ربي ، وألفين لعيالي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت . وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ، أصبت صاعين من تمر : صاع أقرضه لربي ، وصاع لعيالي . قال : فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ! وقالوا : ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم [ سخر الله منهم ] ) الآية .

ثم رواه عن أبي كامل ، عن أبي عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه مرسلا قال : ولم يسنده أحد إلا طالوت .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن موسى بن عبيدة ، حدثني خالد بن يسار ، عن ابن أبي عقيل ، عن أبيه قال : بت أجر الجرير على ظهري ، على صاعين من تمر ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به ، وجئت بالآخر أتقرب [ به ] إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، فقال : انثره في الصدقة . قال : فسخر القوم وقالوا : لقد كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين . فأنزل الله : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) الآيتين .

وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب به . وقال : اسم أبي عقيل : حباب . ويقال : عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة .

وقوله : ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) وهذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، فعاملهم معاملة من سخر بهم ، انتصارا للمؤمنين في الدنيا ، وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا أليما .

يخبر تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار ، وأنه لو استغفر لهم ، ولو سبعين مرة فإن الله لا يغفر لهم .

وقد قيل : إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم ؛ لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها ، ولا تريد التحديد بها ، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها .

وقيل : بل لها مفهوم ، كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لما نزلت هذه الآية : أسمع ربي قد رخص لي فيهم ، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة ، لعل الله أن يغفر لهم ! فقال الله من شدة غضبه عليهم : ( سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ) [ المنافقون : 6 ] .

وقال الشعبي : لما ثقل عبد الله بن أبي ، انطلق ابنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أبي قد احتضر ، فأحب أن تشهده وتصلي عليه . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما اسمك . قال الحباب بن عبد الله . قال : بل أنت عبد الله بن عبد الله ، إن الحباب اسم شيطان . قال : فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق ، وصلى عليه ، فقيل له : أتصلي عليه [ وهو منافق ] ؟ قال : إن الله قال : ( إن تستغفر لهم سبعين مرة ) ولأستغفرن له سبعين وسبعين وسبعين .

وكذا روي عن عروة بن الزبير ومجاهد بن جبير ، وقتادة بن دعامة . رواها ابن جرير بأسانيده .

يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، وفرحوا بمقعدهم بعد خروجه ، ( وكرهوا أن يجاهدوا ) معه ( بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا ) أي : بعضهم لبعض : ( لا تنفروا في الحر ) ؛ وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، فلهذا قالوا ( لا تنفروا في الحر ) قال الله تعالى لرسوله : ( قل ) لهم : ( نار جهنم ) التي تصيرون إليها بسبب مخالفتكم ( أشد حرا ) مما فررتم منه من الحر ، بل أشد حرا من النار ، كما قال الإمام مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءا [ من نار جهنم فقالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية . قال : إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا ] أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل [ الله ] فيها منفعة لأحد وهذا أيضا إسناده صحيح .

وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه ، عن عباس الدوري ، عن يحيى بن أبي بكير عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل المظلم . ثم قال الترمذي : لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى .

كذا قال . وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن إبراهيم بن محمد ، عن محمد بن الحسين بن مكرم ، عن عبيد الله بن سعد عن عمه ، عن شريك - وهو ابن عبد الله النخعي - به . وروى أيضا ابن مردويه من رواية مبارك بن فضالة ، عن ثابت ، عن أنس قال : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( نارا وقودها الناس والحجارة ) [ التحريم : 6 ] قال : أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ، وألف عام حتى احمرت ، وألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل ، لا يضيء لهبها .

وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نجيح - وقد اختلف فيه - عن الحسن ، عن أنس مرفوعا : لو أن شرارة بالمشرق - أي من نار جهنم - لوجد حرها من بالمغرب .

وروى الحافظ أبو يعلى عن إسحاق بن أبي إسرائيل ، عن أبي عبيدة الحداد ، عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب ، عن جعفر بن أبي وحشية ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كان هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون ، وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه ، لاحترق المسجد ومن فيه غريب .

وقال الأعمش عن أبي إسحاق ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار ، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أحدا من أهل النار أشد عذابا منه ، وإنه أهونهم عذابا . أخرجاه في الصحيحين ، من حديث الأعمش .

وقال مسلم أيضا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا زهير بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار ، يغلي دماغه من حرارة نعليه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن ابن عجلان ، سمعت أبي ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أدنى أهل النار عذابا رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه .

وهذا إسناد جيد قوي ، رجاله على شرط مسلم ، والله أعلم .

والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة ، وقال الله تعالى في كتابه العزيز : ( كلا إنها لظى نزاعة للشوى ) [ المعارج : 15 ، 16 ] وقال تعالى : ( يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ) [ الحج : 19 - 22 ] وقال تعالى : ( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) [ النساء : 56 ] .

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة [ الأخرى ] ( قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ) أي : لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ، ليتقوا به حر جهنم ، الذي هو أضعاف أضعاف هذا ، ولكنهم كما قال الآخر :

كالمستجير من الرمضاء بالنار

وقال الآخر :

عمرك بالحمية أفنيته مخافة البارد والحار

وكان أولى بك أن تتقي من المعاصي حذر النار

ثم قال [ الله ] تعالى جل جلاله ، متوعدا لهؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا : ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون )

قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الدنيا قليل ، فليضحكوا فيها ما شاءوا ، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله - عز وجل - استأنفوا بكاء لا ينقطع أبدا . وكذا قال أبو رزين ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن خثيم ، وعون العقيلي وزيد بن أسلم .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش ، حدثنا محمد بن حميد عن ابن المبارك ، عن عمران بن زيد ، حدثنا يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يا أيها الناس ، ابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول ، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون . فلو أن سفنا أزجيت فيها لجرت .

ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، به .

وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن العباس ، حدثنا حماد الجزري ، عن زيد بن رفيع ، رفعه قال : إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ، ثم بكوا القيح زمانا ، قال : فتقول لهم الخزنة : يا معشر الأشقياء ، تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا ، هل تجدون اليوم من تستغيثون به ؟ قال : فيرفعون أصواتهم : يا أهل الجنة ، يا معشر الآباء والأمهات والأولاد ، خرجنا من القبور عطاشا ، وكنا طول الموقف عطاشا ، ونحن اليوم عطاش ، فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم ، ثم يجيبهم : ( إنكم ماكثون ) [ الزخرف : 77 ] فييأسون من كل خير .

يقول تعالى آمرا لرسوله عليه الصلاة والسلام ( فإن رجعك الله ) أي : ردك الله من غزوتك هذه ( إلى طائفة منهم ) قال قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا ( فاستأذنوك للخروج ) أي : معك إلى غزوة أخرى ، ( فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ) أي : تعزيرا لهم وعقوبة . ثم علل ذلك بقوله : ( إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ) وهذا كقوله تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) [ الأنعام : 110 ] فإن من جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، كما قال في عمرة الحديبية : ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ) [ الفتح : 15 ] .

وقوله تعالى : ( فاقعدوا مع الخالفين ) قال ابن عباس : أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة . وقال قتادة : ( فاقعدوا مع الخالفين ) أي : مع النساء .

قال ابن جرير : وهذا لا يستقيم ؛ لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ، ولو أريد النساء لقال : فاقعدوا مع الخوالف ، أو الخالفات ، ورجح قول ابن عباس ، رضي الله عنهما .

أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبرأ من المنافقين ، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات ، وألا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له ؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله ، وماتوا عليه . وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه ، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين ، كما قال البخاري :

حدثنا عبيد بن إسماعيل ، عن أبي أسامة ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله - هو ابن أبي - جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما خيرني الله فقال : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) وسأزيده على السبعين . قال : إنه منافق ! قال : فصلى عليه [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فأنزل الله - عز وجل - آية : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره )

وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي أسامة حماد بن أسامة ، به .

ثم رواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر ، عن أنس بن عياض ، عن عبيد الله - وهو ابن عمر العمري - به ، وقال : فصلى عليه ، وصلينا معه ، وأنزل الله : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) الآية .

وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن عبيد الله ، به .

وقد روي من حديث عمر بن الخطاب نفسه أيضا بنحو من هذا ، فقال الإمام أحمد :

حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : لما توفي عبد الله بن [ أبي دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه ، فقام إليه ، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره ، فقلت : يا رسول الله ، أعلى عدو الله عبد الله بن ] أبي القائل يوم كذا : كذا وكذا - يعدد أيامه - قال : ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : أخر عني يا عمر ، إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) [ التوبة : 80 ] لو أعلم أنى إن زدت على السبعين غفر له لزدت . قال : ثم صلى عليه ، ومشى معه ، وقام على قبره حتى فرغ منه - قال : فعجب لي وجراءتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ورسوله أعلم ! قال : فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ولا تعجبك ) فما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده على منافق ، ولا قام على قبره ، حتى قبضه الله ، عز وجل .

وهكذا رواه الترمذي في " التفسير " من حديث محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، به وقال : حسن صحيح . ورواه البخاري عن يحيى بن بكير ، عن الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، به ، فذكر مثله ، وقال : أخر عني يا عمر . فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت ، ولو أعلم أنى إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها . قال : فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) الآية ، فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم . .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عبيد ، حدثنا عبد الملك ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبي ، أتى ابنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إنك إن لم تأته لم نزل نعير بهذا . فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجده قد أدخل في حفرته ، فقال : أفلا قبل أن تدخلوه ! فأخرج من حفرته ، وتفل عليه من قرنه إلى قدمه ، وألبسه قميصه .

ورواه النسائي ، عن أبي داود الحراني ، عن يعلى بن عبيد ، عن عبد الملك - وهو ابن أبي سليمان - به .

وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن عثمان ، أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، سمع جابر بن عبد الله قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في قبره ، فأمر به فأخرج ، ووضع على ركبتيه ، ونفث عليه من ريقه ، وألبسه قميصه والله أعلم .

وقد رواه أيضا في غير موضع مع مسلم والنسائي ، من غير وجه ، عن سفيان بن عيينة ، به .

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، حدثنا مجالد ، حدثنا عامر ، حدثنا جابر ( ح ) وحدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي ، حدثنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : لما مات رأس المنافقين - قال يحيى بن سعيد : بالمدينة - فأوصى أن يصلي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء ابنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أبي أوصى أن يكفن في قميصك - وهذا الكلام في حديث عبد الرحمن بن مغراء - قال يحيى في حديثه : فصلى عليه ، وألبسه قميصه ، فأنزل الله تعالى : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) وزاد عبد الرحمن : وخلع النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه ، فأعطاه إياه ، ومشى فصلى عليه ، وقام على قبره ، فأتاه جبريل - عليه السلام - لما ولى قال : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) وهذا إسناد لا بأس به ، وما قبله شاهد له .

وقال الإمام أبو جعفر الطبري : حدثنا [ أحمد بن إسحاق ، حدثنا ] أبو أحمد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي ، فأخذ جبريل بثوبه وقال : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره )

ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده ، من حديث يزيد الرقاشي وهو ضعيف .

وقال قتادة : أرسل عبد الله بن أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مريض ، فلما دخل عليه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أهلكك حب يهود . قال : يا رسول الله ، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ، ولم أرسل إليك لتؤنبني ! ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه أباه ، فأعطاه إياه ، وصلى عليه ، وقام على قبره ، فأنزل الله - عز وجل - : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره )

وقد ذكر بعض السلف أنه إنما ألبسه قميصه ؛ لأن عبد الله بن أبي لما قدم العباس طلب له قميص ، فلم يوجد على تفصيله إلا ثوب عبد الله بن أبي ؛ لأنه كان ضخما طويلا ففعل ذلك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكافأة له ، فالله أعلم ، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين ، ولا يقوم على قبره ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعي لجنازة سأل عنها ، فإن أثني عليها خيرا قام فصلى عليها ، وإن أثني عليها غير ذلك قال لأهلها : شأنكم بها ، ولم يصل عليها .

وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله ، حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان ؛ لأنه كان يعلم أعيان منافقين قد أخبره بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولهذا كان يقال له : " صاحب السر " الذي لا يعلمه غيره ، أي من الصحابة .

وقال أبو عبيد في كتاب " الغريب " ، في حديث عمر أنه أراد أن يصلي على جنازة رجل ، فمرزه حذيفة ، كأنه أراد أن يصده عن الصلاة عليها ، ثم حكي عن بعضهم أن " المرز " بلغة أهل اليمامة هو : القرص بأطراف الأصابع .

ولما نهى الله - عز وجل - عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم ، كان هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين ، فشرع ذلك ، وفي فعله الأجر الجزيل ، لما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان . قيل : وما القيراطان ؟ قال : أصغرهما مثل أحد .

وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فقد قال أبو داود : حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي ، أخبرنا هشام ، عن عبد الله بن بحير ، عن هانئ - وهو أبو سعيد البربري ، مولى عثمان بن عفان - عن عثمان - رضي الله عنه - قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل .

انفرد بإخراجه أبو داود ، رحمه الله .

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم " كما قال تعالى " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " وقال " أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وقوله " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " قال الحسن البصري بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله وقال قتادة هذا من المقدم والمؤخر تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.

واختار ابن جرير قول الحسن وهو القول القوي الحسن.

وقوله " وتزهق أنفسهم وهم كافرون " أي ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم.

عياذا بالله من ذلك وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه.

يقول تعالى منكرا وذاما للمتخلفين عن الجهاد ، الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول ، واستأذنوا الرسول في القعود ، وقالوا : ( ذرنا نكن مع القاعدين ) ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء - وهن الخوالف - بعد خروج الجيش ، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس ، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما ، كما قال [ الله ] تعالى ، عنهم في الآية الأخرى : ( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ) [ الأحزاب : 19 ] أي : علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن ، وفي الحرب أجبن شيء ، وكما قال الشاعر :

أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة وفي الحرب أشباه النساء العوارك

.

وقال تعالى في الآية الأخرى : ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم [ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض ] ) [ الآية ] [ محمد : 20 - 22 ] )

وقوله : ( وطبع على قلوبهم ) أي : بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله ، ( فهم لا يفقهون ) أي : لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه .

لما ذكر تعالى ذم المنافقين ، بين ثناء المؤمنين ، وما لهم في آخرتهم ، فقال : ( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا ) إلى آخر الآيتين من بيان حالهم ومآلهم .

وقوله : ( وأولئك لهم الخيرات ) أي : في الدار الآخرة ، في جنات الفردوس والدرجات العلى .

لما ذكر تعالى ذنب المنافقين وبين ثناءه على المؤمنين وما لهم في آخرتهم فقال " لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا " إلى آخر الآيتين من بيان حالهم ومآلهم وقال " وأولئك لهم الخيرات " أي في الدار الآخرة في جنات الفردوس والدرجات العلى.

ثم بين تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه ، ويبينون له ما هم فيه من الضعف ، وعدم القدرة على الخروج ، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة .

قال الضحاك ، عن ابن عباس : إنه كان يقرأ : " وجاء المعذرون " بالتخفيف ، ويقول : هم أهل العذر .

وكذا روى ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد سواء .

قال ابن إسحاق : وبلغني أنهم نفر من بني غفار منهم : خفاف بن إيماء بن رحضة .

وهذا القول هو الأظهر في معنى الآية ؛ لأنه قال بعد هذا : ( وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) أي : لم يأتوا فيعتذروا .

وقال ابن جريج عن مجاهد : ( وجاء المعذرون من الأعراب ) قال : نفر من بني غفار ، جاءوا فاعتذروا ، فلم يعذرهم الله . وكذا قال الحسن ، وقتادة ، ومحمد بن إسحاق ، والقول الأول أظهر والله أعلم ، لما قدمنا من قوله بعده : ( وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) أي : وقعد آخرون من الأعراب عن المجيء للاعتذار ، ثم أوعدهم بالعذاب الأليم ، فقال : ( سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ) .

م بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد فيها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه ، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد ، ومنه العمى والعرج ونحوهما ، ولهذا بدأ به . ما هو عارض بسبب مرض عن له في بدنه ، شغله عن الخروج في سبيل الله ، أو بسبب فقره لا يقدر على التجهز للحرب ، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ، ولم يرجفوا بالناس ، ولم يثبطوهم ، وهم محسنون في حالهم هذا ؛ ولهذا قال : ( ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم )

وقال سفيان الثوري ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي ثمامة - رضي الله عنه - قال : قال الحواريون : يا روح الله ، أخبرنا عن الناصح لله ؟ قال : الذي يؤثر حق الله على حق الناس ، وإذا حدث له أمران - أو : بدا له أمر الدنيا وأمر الآخرة - بدأ بالذي للآخرة ثم تفرغ للذي للدنيا .

وقال الأوزاعي : خرج الناس إلى الاستسقاء ، فقام فيهم بلال بن سعد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا معشر من حضر : ألستم مقرين بالإساءة ؟ قالوا : اللهم نعم . فقال : اللهم ، إنا نسمعك تقول : ( ما على المحسنين من سبيل ) اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقنا . ورفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا .

وقال قتادة : نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي ، حدثنا ابن جابر ، عن ابن فروة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت أكتب " براءة " فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فأنزل الله ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) الآية .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه ، فيهم عبد الله بن مغفل المزني فقالوا : يا رسول الله ، احملنا ، فقال لهم : والله لا أجد ما أحملكم عليه . فتولوا ولهم بكاء ، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملا ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه ، فقال : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) إلى قوله تعالى : ( فهم لا يعلمون ) .

وقال مجاهد في قوله : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) نزلت في بني مقرن من مزينة .

وقال محمد بن كعب : كانوا سبعة نفر ، من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير ، ومن بني واقف : هرمي بن عمرو ، ومن بني مازن بن النجار : عبد الرحمن بن كعب - ويكنى أبا ليلى - ومن بني المعلى : [ سلمان بن صخر ، ومن بني حارثة : عبد الرحمن بن يزيد أبو عبلة ، وهو الذي تصدق بعرضه فقبله الله منه ] ، ومن بني سلمة : عمرو بن عنمة وعبد الله بن عمرو المزني .

وقال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاءون - وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير وعلبة بن زيد أخو بني حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ، أخو بني مازن بن النجار ، وعمرو بن الحمام بن الجموح ، أخو بني سلمة ، وعبد الله بن المغفل المزني ؛ وبعض الناس يقول : بل هو عبد الله بن عمرو المزني ، وهرمي بن عبد الله ، أخو بني واقف ، وعرباض بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا أهل حاجة ، فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن الأودي ، حدثنا وكيع ، عن الربيع ، عن الحسن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد خلفتم بالمدينة أقواما ، ما أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم واديا ، ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شركوكم في الأجر ، ثم قرأ : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ) الآية .

وأصل هذا الحديث في الصحيحين من حديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ، ولا سرتم [ مسيرا ] إلا وهم معكم . قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال : نعم ، حبسهم العذر .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد خلفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ، ولا سلكتم طريقا إلا شركوكم في الأجر ، حبسهم المرض .

ورواه مسلم ، وابن ماجه ، من طرق ، عن الأعمش ، به .

ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء ، وأنبهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال ، ( وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ) .

خبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم ، ( قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ) أي : لن نصدقكم ، ( قد نبأنا الله من أخباركم ) أي : قد أعلمنا الله أحوالكم ، ( وسيرى الله عملكم ورسوله ) أي : سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا ، ( ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) أي : فيخبركم بأعمالكم ، خيرها وشرها ، ويجزيكم عليها .

ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون معتذرين لتعرضوا عنهم فلا تؤنبوهم ، ( فأعرضوا عنهم ) احتقارا لهم ، ( إنهم رجس ) أي : خبثاء نجس بواطنهم واعتقاداتهم ، ( ومأواهم ) في آخرتهم ) جهنم ) ( جزاء بما كانوا يكسبون ) أي : من الآثام والخطايا .

وأخبر أنهم وإن رضوا عنهم بحلفهم لهم ، ( فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) أي : الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله ، فإن الفسق هو الخروج ، ومنه سميت الفأرة " فويسقة " لخروجها من جحرها للإفساد ، ويقال : " فسقت الرطبة " : إذا خرجت من أكمامها

أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين ، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد ، وأجدر ، أي : أحرى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، كما قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني فقال زيد : ما يريبك من يدي ؟ إنها الشمال . فقال الأعرابي : والله ما أدري ، اليمين يقطعون أو الشمال ؟ فقال زيد بن صوحان صدق الله : ( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله )

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن " .

ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن سفيان الثوري ، به وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الثوري .

ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا وإنما كانت البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) [ يوسف : 109 ] ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه أضعافها حتى رضي ، قال : " لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي ، أو ثقفي أو أنصاري ، أو دوسي " ؛ لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة ، والطائف ، والمدينة ، واليمن ، فهم ألطف أخلاقا من الأعراب : لما في طباع الأعراب من الجفاء .

حديث [ الأعرابي ] في تقبيل الولد : قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة وابن نمير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم ؟ قالوا : نعم . قالوا : ولكنا والله ما نقبل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأملك أن كان الله نزع منكم الرحمة ؟ " . وقال ابن نمير : " من قلبك الرحمة "

وقوله : ( والله عليم حكيم ) أي : عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم ، ( حكيم ) فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق ، لا يسأل عما يفعل ، لعلمه وحكمته .

وأخبر تعالى أن منهم ( من يتخذ ما ينفق ) أي : في سبيل الله ( مغرما ) أي : غرامة وخسارة ، ( ويتربص بكم الدوائر ) أي : ينتظر بكم الحوادث والآفات ، ( عليهم دائرة السوء ) أي : هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم ، ( والله سميع عليم ) أي : سميع لدعاء عباده ، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان .

وقوله : ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) هذا هو القسم الممدوح من الأعراب ، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله ، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم ، ( ألا إنها قربة لهم ) أي : ألا إن ذلك حاصل لهم ، ( سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم )

يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم ، والنعيم المقيم .

قال الشعبي : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية .

وقال أبو موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة : هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال محمد بن كعب القرظي : مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ فقال : أبي بن كعب . فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه . فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم . قال : وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، فقال أبي : تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة : ( وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ) [ الجمعة : 3 ] وفي سورة الحشر : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) [ الحشر : 10 ] وفي الأنفال : ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) [ الأنفال : 75 ] إلى آخر الآية ، رواه ابن جرير

قال : وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع " الأنصار " عطفا على ( والسابقون الأولون )

فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان : فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم ، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة ، رضي الله عنه ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم ، عياذا بالله من ذلك . وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة ، وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن ، إذ يسبون من رضي الله عنهم ؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ، ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالي الله ، ويعادون من يعادي الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ، ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون .

يخبر تعالى رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقين ، وفي أهل المدينة أيضا منافقون ( مردوا على النفاق ) أي : مرنوا واستمروا عليه : ومنه يقال : شيطان مريد ومارد ، ويقال : تمرد فلان على الله ، أي : عتا وتجبر .

وقوله : ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) لا ينافي قوله تعالى : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ) الآية [ محمد : 30 ] ؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين . وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء ، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال :

حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن رجل ، عن جبير بن مطعم ، رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب " وأصغى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال : " إن في أصحابي منافقين "

ومعناه : أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم . وتقدم في تفسير قوله : ( وهموا بما لم ينالوا ) [ التوبة : 74 ] أنه عليه السلام أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا ، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم ، والله أعلم .

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " أبي عمر البيروتي " من طريق هشام بن عمار : حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا بن جابر ، حدثني شيخ بيروت يكنى أبا عمر ، أظنه حدثني عن أبي الدرداء ؛ أن رجلا يقال له " حرملة " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الإيمان هاهنا - وأشار بيده إلى لسانه - والنفاق هاهنا - وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر الله إلا قليلا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حبي ، وحب من يحبني ، وصير أمره إلى خير " . فقال : يا رسول الله ، إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ قال : " من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر على دينه فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا " قال : وكذا رواه أبو أحمد الحاكم ، عن أبي بكر الباغندي ، عن هشام بن عمار ، به .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في هذه الآية أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ؟ فلان في الجنة وفلان في النار . فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري ! لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك . قال نبي الله نوح : ( قال وما علمي بما كانوا يعملون ) [ الشعراء : 112 ] وقال نبي الله شعيب : ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) [ هود : 86 ] وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) .

وقال السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : " اخرج يا فلان ، فإنك منافق ، واخرج يا فلان فإنك منافق " . فأخرج من المسجد ناسا منهم ، فضحهم . فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا ، واختبئوا هم من عمر ، ظنوا أنه قد علم بأمرهم . فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر ، قد فضح الله المنافقين اليوم . قال ابن عباس : فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد ، والعذاب الثاني عذاب القبر

وكذا قال الثوري ، عن السدي ، عن أبي مالك نحو هذا .

وقال مجاهد في قوله : ( سنعذبهم مرتين ) يعني : القتل والسباء وقال - في رواية - بالجوع ، وعذاب القبر ، ( ثم يردون إلى عذاب عظيم )

وقال ابن جريج : عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، ثم يردون إلى عذاب النار .

وقال الحسن البصري : عذاب في الدنيا ، وعذاب في القبر

وقال عبد الرحمن بن زيد : أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد ، وقرأ قول الله ( فلا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ) [ التوبة : 85 ] فهذه المصائب لهم عذاب ، وهي للمؤمنين أجر ، وعذاب في الآخرة في النار ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) قال : النار .

وقال محمد بن إسحاق : ( سنعذبهم مرتين ) قال : هو - فيما بلغني - ما هم فيه من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه ، عذاب الآخرة والخلد فيه .

وقال سعيد ، عن قتادة في قوله : ( سنعذبهم مرتين ) عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين ، فقال : " ستة منهم تكفيكهم الدبيلة : سراج من نار جهنم ، يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتا " . وذكر لنا أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان إذا مات رجل ممن يرى أنه منهم ، نظر إلى حذيفة ، فإن صلى عليه وإلا تركه . وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة : أنشدك بالله ، أمنهم أنا ؟ قال : لا . ولا أومن منها أحدا بعدك .

لما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة رغبة عنها وتكذيبا وشكا ، شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة ، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) أي : أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم ، ولهم أعمال أخر صالحة ، خلطوا هذه بتلك ، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه .

وهذه الآية - وإن كانت نزلت في أناس معينين - إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلطين المتلوثين .

وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة : إنه الذبح ، وأشار بيده إلى حلقه .

وقال ابن عباس : ( وآخرون ) نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه ، تخلفوا عن غزوة تبوك ، فقال بعضهم : أبو لبابة وخمسة معه ، وقيل : وسبعة معه ، وقيل : وتسعة معه ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد ، وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أنزل الله هذه الآية : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعفا عنهم .

وقال البخاري : حدثنا مؤمل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عوف ، حدثنا أبو رجاء ، حدثنا سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : " أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة ، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء ، قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر . فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي : هذه جنة عدن ، وهذا منزلك . قالا أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح ، فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، فتجاوز الله عنهم " .

هكذا رواه مختصرا ، في تفسير هذه الآية .

أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها ، وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في " أموالهم " إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ؛ ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون ، وإنما كان هذا خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا احتجوا بقوله تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد الصديق أبو بكر وسائر الصحابة ، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة ، كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قال الصديق : والله لو منعوني عقالا - وفي رواية : عناقا - يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه .

وقوله : ( وصل عليهم ) أي : ادع لهم واستغفر لهم ، كما رواه مسلم في صحيحه ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم ، فأتاه أبي بصدقته فقال : " اللهم صل على آل أبي أوفى " وفي الحديث الآخر : أن امرأة قالت : يا رسول الله ، صل علي وعلى زوجي . فقال : " صلى الله عليك ، وعلى زوجك " .

وقوله : ( إن صلاتك ) : قرأ بعضهم : " صلواتك " على الجمع ، وآخرون قرءوا : ( إن صلاتك ) على الإفراد .

( سكن لهم ) قال ابن عباس : رحمة لهم . وقال قتادة : وقار .

وقوله : ( والله سميع ) أي : لدعائك ( عليم ) أي : بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له .

قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا أبو العميس ، عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة ، عن ابن لحذيفة ، عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته ، وأصابت ولده ، وولد ولده .

ثم رواه عن أبي نعيم ، عن مسعر ، عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة ، عن ابن لحذيفة - قال مسعر : وقد ذكره مرة عن حذيفة - : إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده .

وقوله : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منها يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها .

وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها ، حتى تصير التمرة مثل أحد . كما جاء بذلك الحديث ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما قال الثوري ووكيع ، كلاهما عن عباد بن منصور ، عن القاسم بن محمد أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم ، كما يربي أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد " ، وتصديق ذلك في كتاب الله ، عز وجل : ( [ ألم يعلموا أن الله ] هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) و [ قوله ] ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) [ البقرة : 276 ] .

وقال الثوري والأعمش كلاهما ، عن عبد الله بن السائب ، عن عبد الله بن أبي قتادة قال : قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : إن الصدقة تقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل . ثم قرأ هذه الآية : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) .

وقد روى ابن عساكر في تاريخه ، في ترجمة عبد الله بن الشاعر السكسكي الدمشقي - وأصله حمصي ، وكان أحد الفقهاء ، روى عن معاوية وغيره ، وحكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي - قال : غزا الناس في زمان معاوية ، رضي الله عنه ، وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية . فلما قفل الجيش ندم وأتى الأمير ، فأبى أن يقبلها منه ، وقال : قد تفرق الناس ولن أقبلها منك ، حتى تأتي الله بها يوم القيامة فجعل الرجل يستقرئ الصحابة ، فيقولون له مثل ذلك ، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه ، فأبى عليه . فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع ، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ فذكر له أمره ، فقال أمطيعني أنت ؟ فقال : نعم ، فقال : اذهب إلى معاوية فقل له : اقبل مني خمسك ، فادفع إليه عشرين دينارا ، وانظر الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرجل ، فقال معاوية ، رضي الله عنه : لأن أكون أفتيته بها أحب إلي من كل شيء أملكه ، أحسن الرجل " .

قال مجاهد : هذا وعيد ، يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى ، وعلى الرسول ، وعلى المؤمنين . وهذا كائن لا محالة يوم القيامة ، كما قال : ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) [ الحاقة : 18 ] ، وقال تعالى : ( يوم تبلى السرائر ) [ الطارق : 9 ] ، وقال ( وحصل ما في الصدور ) [ العاديات : 10 ] وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان " . .

وقد ورد : أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ ، كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الصلت بن دينار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم ، فإن كان خيرا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : " اللهم ، ألهمهم أن يعملوا بطاعتك " .

وقال الإمام أحمد : أخبرنا عبد الرزاق ، عن سفيان ، عمن سمع أنسا يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات ، فإن كان خيرا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ، لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا " .

وقال البخاري : قالت عائشة ، رضي الله عنها : إذا أعجبك حسن عمل امرئ ، فقل : ( اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) .

وقد ورد في الحديث شبيه بهذا ، قال الإمام أحمد :

حدثنا يزيد ، حدثنا حميد ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له ؟ فإن العامل يعمل زمانا من عمره - أو : برهة من دهره - بعمل صالح لو مات عليه لدخل الجنة ، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا ، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ ، لو مات عليه دخل النار ، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا ، وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قبل موته " . قالوا : يا رسول الله وكيف يستعمله : قال : " يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه " تفرد به أحمد من هذا الوجه .

قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، والضحاك وغير واحد : هم الثلاثة الذين خلفوا ، أي : عن التوبة ، وهم : مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد ، كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال ، لا شكا ونفاقا ، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري ، كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون ، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء ، وأرجى هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية ، وهي قوله : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) الآية [ التوبة : 117 ] ، ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت [ وضاقت عليهم أنفسهم ] ) الآية [ التوبة : 118 ] ، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك .

وقوله : ( إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ) أي : هم تحت عفو الله ، إن شاء فعل بهم هذا ، وإن شاء فعل بهم ذاك ، ولكن رحمته تغلب غضبه ، وهو ( عليم حكيم ) أي : عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو ، حكيم في أفعاله وأقواله ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .

سبب نزول هذه الآيات الكريمات : أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له : " أبو عامر الراهب " ، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش فألبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد ، فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله ، وكانت العاقبة للمتقين .

وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصيب ذلك اليوم ، فجرح في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى ، وشج رأسه ، صلوات الله وسلامه عليه .

وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبوه . فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شر . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا ، فنالته هذه الدعوة .

وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ، ورأى أمر الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه في ارتفاع وظهور ، ذهب إلىهرقل ، ملك الروم ، يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم ، فوعده ومناه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ، ليحتجوا بصلاته ، عليه السلام ، فيه على تقريره وإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : " إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " .

فلما قفل ، عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء ، الذي أسس من أول يوم على التقوى . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا [ وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ] ) وهم أناس من الأنصار ، ابتنوا مسجدا ، فقال لهم أبو عامر ، ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتي بجند من الروم وأخرج محمدا وأصحابه . فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا ، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة . فأنزل الله ، عز وجل : ( لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ) إلى ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) .

وكذا روي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وقتادة وغير واحد من العلماء .

وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم ، قالوا : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني : من تبوك - حتى نزل بذي أوان - بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه . فقال : " إني على جناح سفر وحال شغل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه " . فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي - أو : أخاه عامر بن عدي - أخا بلعجلان فقال : " انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه " . فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي . فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل ، فأشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه . ونزل فيهم من القرآن ما نزل : ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا ) إلى آخر القصة . وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا خذام بن خالد ، من بني عبيد بن زيد ، أحد بني عمرو بن عوف ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق ، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وهو إلى بني أمية بن زيد ، ومعتب بن قشير ، من [ بني ] ضبيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأذعر ، من بني ضبيعة بن زيد ، وعباد بن حنيف ، أخو سهل بن حنيف ، من بني عمرو بن عوف ، وجارية بن عامر ، وابناه : مجمع بن جارية ، وزيد بن جارية ونبتل [ بن ] الحارث ، وهم من بني ضبيعة ، وبحزج وهو من بني ضبيعة ، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة ، [ ووديعة بن ثابت ، وهو إلى بني أمية ] رهط أبي لبابة بن عبد المنذر .

وقوله : ( وليحلفن ) أي : الذين بنوه ( إن أردنا إلا الحسنى ) أي : ما أردناه ببنيانه إلا خيرا ورفقا بالناس ، قال الله تعالى : ( والله يشهد إنهم لكاذبون ) أي : فيما قصدوا وفيما نووا ، وإنما بنوه ضرارا لمسجد قباء ، وكفرا بالله ، وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ، وهو أبو عامر الفاسق ، الذي يقال له : " الراهب " لعنه الله .

وقوله : ( لا تقم فيه أبدا ) نهي من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، والأمة تبع له في ذلك ، عن أن يقوم فيه ، أي : يصلي فيه أبدا .

ثم حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى ، وهي طاعة الله ، وطاعة رسوله ، وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله ؛ ولهذا قال تعالى : ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ) والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة في مسجد قباء كعمرة " . وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف ، كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة فالله أعلم .

وقال أبو داود : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن يونس بن الحارث ، عن إبراهيم بن أبي ميمونة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نزلت هذه الآية في أهل قباء : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) قال : كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت فيهم الآية .

ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث يونس بن الحارث ، وهو ضعيف ، وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه .

وقال الطبراني : حدثنا الحسن بن علي المعمري ، حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال : " ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم ؟ " . فقال : يا رسول الله ، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه - أو قال : مقعدته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم . " هو هذا " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا أبو أويس ، حدثنا شرحبيل ، عن عويم بن ساعدة الأنصاري : أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء ، فقال : " إن الله تعالى قد أحسن [ عليكم الثناء ] في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ " فقالوا : والله - يا رسول الله - ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا .

ورواه ابن خزيمة في صحيحه .

وقال هشيم ، عن عبد الحميد المدني ، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة . " ما هذا الذي أثنى الله عليكم : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) قالوا : يا رسول الله ، إنا نغسل الأدبار بالماء .

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا محمد بن سعد ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، عن شرحبيل بن سعد قال : سمعت خزيمة بن ثابت يقول : نزلت هذه الآية : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) قال : كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط .

حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك - يعني : ابن مغول - سمعت سيارا أبا الحكم ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني : قباء ، فقال : " إن الله ، عز وجل ، قد أثنى عليكم في الطهور خيرا ، أفلا تخبروني ؟ " . يعني : قوله تعالى : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجده مكتوبا علينا في التوراة : الاستنجاء بالماء .

وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف ، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير . وقاله عطية العوفي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والشعبي ، والحسن البصري ، ونقله البغوي عن سعيد بن جبير ، وقتادة .

وقد ورد في الحديث الصحيح : أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في جوف المدينة ، هو المسجد الذي أسس على التقوى . وهذا صحيح . ولا منافاة بين الآية وبين هذا ؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده :

حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد ، عن أبي بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا " . تفرد به أحمد .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الآخر : هو مسجد قباء .

فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه ، فقال : " هو مسجدي هذا " تفرد به أحمد أيضا .

حديث آخر : قال أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ليث ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو مسجدي هذا " تفرد به أحمد .

طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث ، حدثني عمران بن أبي أنس ، عن ابن أبي سعيد ، عن أبيه أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو مسجدي " .

وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة ، عن الليث وصححه الترمذي ، ورواه مسلم كما سيأتي .

طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى ، عن أنيس بن أبي يحيى ، حدثني أبي قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال : اختلف رجلان : رجل من بني خدرة ، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال العمري : هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك ، فقال : " هو هذا المسجد " لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " في ذاك [ خير كثير ] يعني : مسجد قباء .

طريق أخرى : قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد - حدثنا حميد الخراط المدني ، سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت : كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال أبي : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه ، فقلت : يا رسول الله ، أين المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال : فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ، ثم قال : " هو مسجدكم هذا " . ثم قال : [ فقلت له : هكذا ] سمعت أباك يذكره ؟ .

رواه مسلم منفردا به عن محمد بن حاتم ، عن يحيى بن سعيد ، به ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره ، عن حاتم بن إسماعيل ، عن حميد الخراط ، به .

وقد قال بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب . واختاره ابن جرير .

وقوله : ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع جماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، سمعت شبيبا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ بهم الروم فأوهم ، فلما انصرف قال : " إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء " .

ثم رواه من طريقين آخرين ، عن عبد الملك بن عمير ، عن شبيب أبي روح من ذي الكلاع : أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها .

وقال أبو العالية في قوله تعالى : ( والله يحب المطهرين ) إن الطهور بالماء لحسن ، ولكنهم المطهرون من الذنوب .

وقال الأعمش : التوبة من الذنب ، والتطهير من الشرك .

وقد ورد في الحديث المروي من طرق ، في السنن وغيرها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : " قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون ؟ " فقالوا : نستنجي بالماء .

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز قال : وجدته في كتاب أبي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء . ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نتبع الحجارة الماء .

ثم قال : تفرد به محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، ولم يرو عنه سوى ابنه .

قلت : وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء ولم يعرفه كثير من المحدثين المتأخرين ، أو كلهم ، والله أعلم .

يقول تعالى : لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى الله ورضوان ، ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، فإنما بنى هؤلاء بنيانهم ( على شفا جرف هار ) أي : طرف حفيرة مثاله ( في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ) أي : لا يصلح عمل المفسدين .

قال جابر بن عبد الله : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن جريج ذكر لنا أن رجالا حفروا فوجدوا الدخان يخرج منه . وكذا قال قتادة .

وقال خلف بن ياسين الكوفي : رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، وفيه جحر يخرج منه الدخان ، وهو اليوم مزبلة . رواه ابن جرير رحمه الله .

وقوله : ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) أي : شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع ، أورثهم نفاقا في قلوبهم ، كما أشرب عابدو العجل حبه .

وقوله : ( إلا أن تقطع قلوبهم ) أي : بموتهم . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، وحبيب بن أبي ثابت ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف .

( والله عليم ) أي : بأعمال خلقه ، ( حكيم ) في مجازاتهم عنها ، من خير وشر .

خبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة ، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له ؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم .

وقال شمر بن عطية : ما من مسلم إلا ولله ، عز وجل ، في عنقه بيعة ، وفى بها أو مات عليها ، ثم تلا هذه الآية .

ولهذا يقال : من حمل في سبيل الله بايع الله ، أي : قبل هذا العقد ووفى به .

وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة ، رضي الله عنه ، لرسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبة - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ! فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : " الجنة " . قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) الآية .

وقوله : ( يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ) أي : سواء قتلوا أو قتلوا ، أو اجتمع لهم هذا وهذا ، فقد وجبت لهم الجنة ؛ ولهذا جاء في الصحيحين : " وتكفل الله لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ، وتصديق برسلي ، بأن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه ، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة " .

وقوله : ( وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ) تأكيد لهذا الوعد ، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة ، وأنزله على رسله في كتبه الكبار ، وهي التوراة المنزلة على موسى ، والإنجيل المنزل على عيسى ، والقرآن المنزل على محمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

وقوله : ( ومن أوفى بعهده من الله ) [ أي : ولا واحد أعظم وفاء بما عاهد عليه من الله ] فإنه لا يخلف الميعاد ، وهذا كقوله تعالى : ( ومن أصدق من الله حديثا ) [ النساء : 87 ] ( ومن أصدق من الله قيلا ) [ النساء : 122 ] ؛ ولهذا قال : ( فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) أي : فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد ، بالفوز العظيم ، والنعيم المقيم .

هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة : ( التائبون ) من الذنوب كلها ، التاركون للفواحش ، ( العابدون ) أي : القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها ، وهي الأقوال والأفعال فمن أخص الأقوال الحمد ؛ فلهذا قال : ( الحامدون ) ومن أفضل الأعمال الصيام ، وهو ترك الملاذ من الطعام والشراب والجماع ، وهو المراد بالسياحة هاهنا ؛ ولهذا قال : ( السائحون ) كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى : ( سائحات ) [ التحريم : 5 ] أي : صائمات ، وكذا الركوع والسجود ، وهما عبارة عن الصلاة ، ولهذا قال : ( الراكعون الساجدون ) وهم مع ذلك ينفعون خلق الله ، ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه ، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه ، علما وعملا فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق ؛ ولهذا قال : ( وبشر المؤمنين ) لأن الإيمان يشمل هذا كله ، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به .

[ بيان أن المراد بالسياحة الصيام ] :

قال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله بن مسعود قال : ( السائحون ) الصائمون . وكذا روي عن سعيد بن جبير ، والعوفي عن ابن عباس .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن السياحة : هم الصائمون . وكذا قال الضحاك ، رحمه الله .

وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إبراهيم بن يزيد ، عن الوليد بن عبد الله ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : سياحة هذه الأمة الصيام .

وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والضحاك بن مزاحم ، وسفيان بن عيينة وغيرهم : أن المراد بالسائحين : الصائمون .

وقال الحسن البصري : ( السائحون ) الصائمون شهر رمضان .

وقال أبو عمرو العبدي : ( السائحون ) الذين يديمون الصيام من المؤمنين .

وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا ، وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا حكيم بن حزام ، حدثنا سليمان ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السائحون هم الصائمون "

[ ثم رواه عن بندار ، عن ابن مهدي ، عن إسرائيل ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أنه قال : ( السائحون ) الصائمون ] .

وهذا الموقوف أصح .

وقال أيضا : حدثني يونس ، عن ابن وهب ، عن عمر بن الحارث ، عن عمرو بن دينار ، عن عبيد بن عمير قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال : " هم الصائمون " .

وهذا مرسل جيد .

فهذه أصح الأقوال وأشهرها ، وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، وهو ما روى أبو داود في سننه ، من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ، ائذن لي في السياحة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " .

وقال ابن المبارك ، عن ابن لهيعة : أخبرني عمارة بن غزية : أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله ، والتكبير على كل شرف " .

وعن عكرمة أنه قال : هم طلبة العلم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المهاجرون . رواهما ابن أبي حاتم .

وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض ، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري ، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن " .

وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( والحافظون لحدود الله ) قال : القائمون بطاعة الله . وكذا قال الحسن البصري ، وعنه رواية : ( والحافظون لحدود الله ) قال : لفرائض الله ، وفي رواية : القائمون على أمر الله .

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : " أي عم ، قل : لا إله إلا الله . كلمة أحاج لك بها عند الله ، عز وجل " . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ [ قال : فلم يزالا يكلمانه ، حتى قال آخر شيء كلمهم به : على ملة عبد المطلب ] . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " . فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) قال : ونزلت فيه : ( إنك لا تهدي من أحببت ) [ القصص : 56 ] أخرجاه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، وهما مشركان ، فقلت : أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان ؟ فقال : أولم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) إلى قوله : ( فلما تبين له أنه عدو لله ) قال : " لما مات " ، فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل ، أو هو في الحديث " لما مات " .

قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال : لما مات .

وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم ، وقال : يا رسول الله ، ما لك ؟ قال : " إني سألت ربي ، عز وجل ، في الاستغفار لأمي ، فلم يأذن لي ، فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، لتذكركم زيارتها خيرا ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فكلوا وأمسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية ، فاشربوا في أي وعاء ولا تشربوا مسكرا " .

وروى ابن جرير ، من حديث علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قبر ، فجلس إليه ، فجعل يخاطب ، ثم قام مستعبرا . فقلنا : يا رسول الله ، إنا رابنا ما صنعت . قال : " إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي " . فما رئي باكيا أكثر من يومئذ .

وقال ابن أبي حاتم ، في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن جريج عن أيوب بن هانئ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر ، فاتبعناه ، فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب ، فدعاه ثم دعانا ، فقال : " ما أبكاكم ؟ " فقلنا : بكينا لبكائك . قال : " إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي " ثم أورده من وجه آخر ، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه ، وفيه : " وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، وأنزل علي : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تذكر الآخرة " .

حديث آخر في معناه : قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي المروزي ، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر ، فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه : أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمه ، فناجى ربه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه ، وبكى هؤلاء لبكائه ، وقالوا : ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أحدث في أمته شيء لا تطيقه . فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم ، فقال : " ما يبكيكم ؟ " . قالوا : يا نبي الله ، بكينا لبكائك ، فقلنا : لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه ، قال : " لا وقد كان بعضه ، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة ، فأبى الله أن يأذن لي ، فرحمتها وهي أمي ، فبكيت ، ثم جاءني جبريل فقال : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) فتبرأ أنت من أمك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه ، فرحمتها وهي أمي ، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعا ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين : دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج " . وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كداء وكانت عسفان لهم .

وهذا حديث غريب وسياق عجيب ، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب " السابق واللاحق " بسند مجهول ، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت . وكذلك ما رواه السهيلي في " الروض " بسند فيه جماعة مجهولون : أن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به .

وقد قال الحافظ ابن دحية : [ هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع ، قال الله تعالى : ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) [ النساء : 18 ] . وقال أبو عبد الله القرطبي : إن مقتضى هذا الحديث . . . ورد على ابن دحية ] في هذا الاستدلال بما حاصله : أن هذه حياة جديدة ، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى علي العصر ، قال الطحاوي : وهو [ حديث ] ثابت ، يعني : حديث الشمس .

قال القرطبي : فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا ، قال : وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب ، فآمن به .

قلت : وهذا كله متوقف على صحة الحديث ، فإذا صح فلا مانع منه والله أعلم .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه ، فنهاه الله عن ذلك فقال : " فإن إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه " ، فأنزل الله : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) الآية .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : كانوا يستغفرون لهم ، حتى نزلت هذه الآية ، فلما [ نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ] ثم أنزل الله : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ) الآية .

وقال قتادة في هذه الآية : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفك العاني ، ويوفي بالذمم ؛ أفلا نستغفر لهم ؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلى ، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه " . فأنزل الله : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) حتى بلغ : ( الجحيم ) ثم عذر الله تعالى إبراهيم ، فقال : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) قال : وذكر لنا أن نبي الله قال : " أوحي إلي كلمات ، فدخلن في أذني ووقرن في قلبي : أمرت ألا أستغفر لمن مات مشركا ، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ، ومن أمسك فهو شر له ، ولا يلوم الله على كفاف " .

وقال الثوري ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جبير قال : مات رجل يهودي وله ابن مسلم ، فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا ، فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) لم يدع .

[ قلت ] وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره ، عن علي بن أبي طالب قال : لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله ، إن عمك الشيخ الضال قد مات . قال : " اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني " . وذكر تمام الحديث .

ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرت به جنازة عمه أبي طالب قال : " وصلتك رحم يا عم " .

وقال عطاء بن أبي رباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين ، يقول الله ، عز وجل : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) .

وروى ابن جرير ، عن ابن وكيع ، عن أبيه ، عن عصمة بن زامل ، عن أبيه قال : سمعت أبا هريرة يقول : رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه . قلت : ولأبيه ؟ قال : لا . قال : إن أبي مات مشركا .

وقوله : ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) قال ابن عباس : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . وفي رواية : لما مات تبين له أنه عدو لله .

وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، رحمهم الله .

وقال عبيد بن عمير ، وسعيد بن جبير : إنه يتبرأ منه [ في ] يوم القيامة حين يلقى أباه ، وعلى وجه أبيه الغبرة والقترة فيقول : يا إبراهيم ، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك . فيقول : أي ربي ، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون ؟ فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقال : انظر إلى ما وراءك ، فإذا هو بذيخ متلطخ ، أي : قد مسخ ضبعانا ، ثم يسحب بقوائمه ، ويلقى في النار .

وقوله : ( إن إبراهيم لأواه حليم ) قال سفيان الثوري وغير واحد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الأواه : الدعاء . وكذا روي من غير وجه ، عن ابن مسعود .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى : حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، حدثنا شهر بن حوشب ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل : يا رسول الله ، ما الأواه ؟ قال : " المتضرع " ، قال : ( إن إبراهيم لأواه حليم )

ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك ، عن عبد الحميد بن بهرام ، به ، قال : المتضرع : الدعاء .

وقال الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين عن أبي العبيدين أنه سأل ابن مسعود عن الأواه ، فقال : هو الرحيم .

وبه قال مجاهد ، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل ، والحسن البصري ، وقتادة : أنه الرحيم ، أي : بعباد الله .

وقال ابن المبارك ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الأواه : الموقن بلسان الحبشة . وكذا قال العوفي ، عن ابن عباس : أنه الموقن . وكذا قال مجاهد ، والضحاك . وقال علي بن أبي طلحة ، ومجاهد ، عن ابن عباس : الأواه : المؤمن - زاد علي بن أبي طلحة عنه : المؤمن التواب . وقال العوفي عنه : هو المؤمن بلسان الحبشة . وكذا قال ابن جريج : هو المؤمن بلسان الحبشة .

وقال أحمد : حدثنا موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له " ذو البجادين " : " إنه أواه " ، وذلك أنه رجل كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء .

ورواه ابن جرير .

وقال سعيد بن جبير ، والشعبي : الأواه : المسبح . وقال ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه . وقال شفي بن ماتع ، عن أيوب : الأواه : الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها .

وعن مجاهد : الأواه : الحفيظ الوجل ، يذنب الذنب سرا ، ثم يتوب منه سرا .

ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم ، رحمه الله .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا المحاربي ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم بن يناق : أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إنه أواه " .

وقال أيضا حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان ، حدثنا المنهال بن خليفة ، عن حجاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا ، فقال : " رحمك الله إن كنت لأواها " ! يعني : تلاء للقرآن وقال شعبة ، عن أبي يونس الباهلي قال : سمعت رجلا بمكة - وكان أصله روميا ، وكان قاصا - يحدث عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه : " أوه أوه " ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه أواه . قال : فخرجت ذات ليلة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح .

هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه .

وروي عن كعب الأحبار أنه قال : ( إن إبراهيم لأواه ) قال : كان إذا ذكر النار قال : " أوه من النار " .

وقال ابن جريج عن ابن عباس : ( إن إبراهيم لأواه ) قال : فقيه .

قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير : وأولى الأقوال قول من قال : إنه الدعاء ، وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه في قوله : ( أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا . قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ) [ مريم : 46 ، 47 ] ، فحلم عنه مع أذاه له ، ودعا له واستغفر ؛ ولهذا قال تعالى : ( إن إبراهيم لأواه حليم )

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : " أي عم ، قل : لا إله إلا الله . كلمة أحاج لك بها عند الله ، عز وجل " . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ [ قال : فلم يزالا يكلمانه ، حتى قال آخر شيء كلمهم به : على ملة عبد المطلب ] . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " . فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) قال : ونزلت فيه : ( إنك لا تهدي من أحببت ) [ القصص : 56 ] أخرجاه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، وهما مشركان ، فقلت : أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان ؟ فقال : أولم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) إلى قوله : ( فلما تبين له أنه عدو لله ) قال : " لما مات " ، فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل ، أو هو في الحديث " لما مات " .

قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال : لما مات .

وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم ، وقال : يا رسول الله ، ما لك ؟ قال : " إني سألت ربي ، عز وجل ، في الاستغفار لأمي ، فلم يأذن لي ، فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، لتذكركم زيارتها خيرا ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فكلوا وأمسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية ، فاشربوا في أي وعاء ولا تشربوا مسكرا " .

وروى ابن جرير ، من حديث علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قبر ، فجلس إليه ، فجعل يخاطب ، ثم قام مستعبرا . فقلنا : يا رسول الله ، إنا رابنا ما صنعت . قال : " إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي " . فما رئي باكيا أكثر من يومئذ .

وقال ابن أبي حاتم ، في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن جريج عن أيوب بن هانئ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر ، فاتبعناه ، فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب ، فدعاه ثم دعانا ، فقال : " ما أبكاكم ؟ " فقلنا : بكينا لبكائك . قال : " إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي " ثم أورده من وجه آخر ، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه ، وفيه : " وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، وأنزل علي : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تذكر الآخرة " .

حديث آخر في معناه : قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي المروزي ، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر ، فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه : أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمه ، فناجى ربه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه ، وبكى هؤلاء لبكائه ، وقالوا : ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أحدث في أمته شيء لا تطيقه . فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم ، فقال : " ما يبكيكم ؟ " . قالوا : يا نبي الله ، بكينا لبكائك ، فقلنا : لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه ، قال : " لا وقد كان بعضه ، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة ، فأبى الله أن يأذن لي ، فرحمتها وهي أمي ، فبكيت ، ثم جاءني جبريل فقال : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) فتبرأ أنت من أمك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه ، فرحمتها وهي أمي ، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعا ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين : دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج " . وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كداء وكانت عسفان لهم .

وهذا حديث غريب وسياق عجيب ، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب " السابق واللاحق " بسند مجهول ، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت . وكذلك ما رواه السهيلي في " الروض " بسند فيه جماعة مجهولون : أن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به .

وقد قال الحافظ ابن دحية : [ هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع ، قال الله تعالى : ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) [ النساء : 18 ] . وقال أبو عبد الله القرطبي : إن مقتضى هذا الحديث . . . ورد على ابن دحية ] في هذا الاستدلال بما حاصله : أن هذه حياة جديدة ، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى علي العصر ، قال الطحاوي : وهو [ حديث ] ثابت ، يعني : حديث الشمس .

قال القرطبي : فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا ، قال : وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب ، فآمن به .

قلت : وهذا كله متوقف على صحة الحديث ، فإذا صح فلا مانع منه والله أعلم .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه ، فنهاه الله عن ذلك فقال : " فإن إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه " ، فأنزل الله : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) الآية .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : كانوا يستغفرون لهم ، حتى نزلت هذه الآية ، فلما [ نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ] ثم أنزل الله : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ) الآية .

وقال قتادة في هذه الآية : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفك العاني ، ويوفي بالذمم ؛ أفلا نستغفر لهم ؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلى ، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه " . فأنزل الله : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) حتى بلغ : ( الجحيم ) ثم عذر الله تعالى إبراهيم ، فقال : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) قال : وذكر لنا أن نبي الله قال : " أوحي إلي كلمات ، فدخلن في أذني ووقرن في قلبي : أمرت ألا أستغفر لمن مات مشركا ، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ، ومن أمسك فهو شر له ، ولا يلوم الله على كفاف " .

وقال الثوري ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جبير قال : مات رجل يهودي وله ابن مسلم ، فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا ، فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) لم يدع .

[ قلت ] وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره ، عن علي بن أبي طالب قال : لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله ، إن عمك الشيخ الضال قد مات . قال : " اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني " . وذكر تمام الحديث .

ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرت به جنازة عمه أبي طالب قال : " وصلتك رحم يا عم " .

وقال عطاء بن أبي رباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين ، يقول الله ، عز وجل : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) .

وروى ابن جرير ، عن ابن وكيع ، عن أبيه ، عن عصمة بن زامل ، عن أبيه قال : سمعت أبا هريرة يقول : رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه . قلت : ولأبيه ؟ قال : لا . قال : إن أبي مات مشركا .

وقوله : ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) قال ابن عباس : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . وفي رواية : لما مات تبين له أنه عدو لله .

وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، رحمهم الله .

وقال عبيد بن عمير ، وسعيد بن جبير : إنه يتبرأ منه [ في ] يوم القيامة حين يلقى أباه ، وعلى وجه أبيه الغبرة والقترة فيقول : يا إبراهيم ، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك . فيقول : أي ربي ، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون ؟ فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقال : انظر إلى ما وراءك ، فإذا هو بذيخ متلطخ ، أي : قد مسخ ضبعانا ، ثم يسحب بقوائمه ، ويلقى في النار .

وقوله : ( إن إبراهيم لأواه حليم ) قال سفيان الثوري وغير واحد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الأواه : الدعاء . وكذا روي من غير وجه ، عن ابن مسعود .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى : حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، حدثنا شهر بن حوشب ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل : يا رسول الله ، ما الأواه ؟ قال : " المتضرع " ، قال : ( إن إبراهيم لأواه حليم )

ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك ، عن عبد الحميد بن بهرام ، به ، قال : المتضرع : الدعاء .

وقال الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين عن أبي العبيدين أنه سأل ابن مسعود عن الأواه ، فقال : هو الرحيم .

وبه قال مجاهد ، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل ، والحسن البصري ، وقتادة : أنه الرحيم ، أي : بعباد الله .

وقال ابن المبارك ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الأواه : الموقن بلسان الحبشة . وكذا قال العوفي ، عن ابن عباس : أنه الموقن . وكذا قال مجاهد ، والضحاك . وقال علي بن أبي طلحة ، ومجاهد ، عن ابن عباس : الأواه : المؤمن - زاد علي بن أبي طلحة عنه : المؤمن التواب . وقال العوفي عنه : هو المؤمن بلسان الحبشة . وكذا قال ابن جريج : هو المؤمن بلسان الحبشة .

وقال أحمد : حدثنا موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له " ذو البجادين " : " إنه أواه " ، وذلك أنه رجل كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء .

ورواه ابن جرير .

وقال سعيد بن جبير ، والشعبي : الأواه : المسبح . وقال ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه . وقال شفي بن ماتع ، عن أيوب : الأواه : الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها .

وعن مجاهد : الأواه : الحفيظ الوجل ، يذنب الذنب سرا ، ثم يتوب منه سرا .

ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم ، رحمه الله .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا المحاربي ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم بن يناق : أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إنه أواه " .

وقال أيضا حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان ، حدثنا المنهال بن خليفة ، عن حجاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا ، فقال : " رحمك الله إن كنت لأواها " ! يعني : تلاء للقرآن وقال شعبة ، عن أبي يونس الباهلي قال : سمعت رجلا بمكة - وكان أصله روميا ، وكان قاصا - يحدث عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه : " أوه أوه " ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه أواه . قال : فخرجت ذات ليلة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح .

هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه .

وروي عن كعب الأحبار أنه قال : ( إن إبراهيم لأواه ) قال : كان إذا ذكر النار قال : " أوه من النار " .

وقال ابن جريج عن ابن عباس : ( إن إبراهيم لأواه ) قال : فقيه .

قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير : وأولى الأقوال قول من قال : إنه الدعاء ، وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه في قوله : ( أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا . قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ) [ مريم : 46 ، 47 ] ، فحلم عنه مع أذاه له ، ودعا له واستغفر ؛ ولهذا قال تعالى : ( إن إبراهيم لأواه حليم )

يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل : إنه لا يضل قوما بعد بلاغ الرسالة إليهم ، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة ، كما قال تعالى : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) الآية [ فصلت : 17 ] .

وقال مجاهد في قوله تعالى : ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) قال : بيان الله ، عز وجل ، للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة ، فافعلوا أو ذروا .

وقال ابن جرير : يقول الله تعالى : وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا ، فأما قبل أن يبين لكم كراهيته ذلك بالنهي عنه ، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه ، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال ، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي ، وأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه .

وقوله : ( إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) قال ابن جرير : هذا تحريض من الله لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر ، وأن يثقوا بنصر الله مالك السماوات والأرض ، ولم يرهبوا من أعدائه فإنه لا ولي لهم من دون الله ، ولا نصير لهم سواه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، عن حكيم بن حزام قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم : " هل تسمعون ما أسمع ؟ " قالوا ما نسمع من شيء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأسمع أطيط السماء ، وما تلام أن تئط ، وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم " .

وقال كعب الأحبار : ما من موضع خرمة إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها ، يرفع علم ذلك إلى الله ، وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب ، وإن حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مخه مسيرة مائة عام .

قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مجدبة وحر شديد ، وعسر من الزاد والماء .

قال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر ، على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم فيها جهد شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، [ ثم يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ] فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم .

وقال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عتبة بن أبي عتبة ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن عبد الله بن عباس ؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع [ حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء ، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ] حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ، إن الله عز وجل ، قد عودك في الدعاء خيرا ، فادع لنا . قال : " تحب ذلك " . قال : نعم ! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظلت ثم سكبت ، فملؤوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر .

وقال ابن جرير في قوله : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) أي : من النفقة والظهر والزاد والماء ، ( من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) أي : عن الحق ويشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتاب ، بالذي نالهم من المشقة والشدة في سفره وغزوه ، ( ثم تاب عليهم ) يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم ، والرجوع إلى الثبات على دينه ، ( إنه بهم رءوف رحيم ) .

قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله ، عن عمه محمد بن مسلم الزهري ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فقال كعب بن مالك : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غيرها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ، ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر ، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا ، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - فقال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله ، عز وجل ، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل ، وأنا إليها أصعر . فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، وقلت : الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعدما فصلوا لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي . ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل [ ذلك ] يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم - وليت أني فعلت - ثم لم يقدر ذلك لي ، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد [ خروج ] رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فطفت فيهم ] يحزنني ألا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذره الله ، عز وجل ، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : " ما فعل كعب بن مالك ؟ " قال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه ، والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت ! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب ، وأقول : بماذا أخرج من سخطه غدا ؟ أستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي . فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما ، زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا . فأجمعت صدقه ، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس . فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له - وكانوا بضعة وثمانين رجلا - فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي : " تعال " ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : " ما خلفك ، ألم تك قد اشتريت ظهرك " ؟ قال : فقلت : يا رسول الله ، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ، لقد أعطيت جدلا ولكنه والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ، ليوشكن الله يسخطك علي ، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه ، إني لأرجو أقرب عقبى ذلك [ عفوا ] من الله ، عز وجل والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك " . فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني ، فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون فقد كان كافيك [ من ذنبك ] استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك . قال : فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي : قال : ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم ، [ لقيه معك ] رجلان ، قالا ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك . قلت : فمن هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العامري ، وهلال بن أمية الواقفي . فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة . قال : فمضيت حين ذكروهما لي - قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم ، وأقول في نفسي : حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه ، وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض ، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي ، وأحب الناس إلي - فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة ، أنشدك الله : هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال : فسكت . قال : فعدت فنشدته [ فسكت ، فعدت فنشدته ] فقال : الله ورسوله أعلم . قال : ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار . فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ، ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ قال : فطفق الناس يشيرون له إلي ، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان ، وكنت كاتبا فإذا فيه : أما بعد ، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . قال : فقلت حين قرأتها : وهذا أيضا من البلاء . قال : فتيممت به التنور فسجرته حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك . قال : فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال : بل اعتزلها ولا تقربها . قال : وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك قال : فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك ، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر . قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : " لا ولكن لا يقربنك " قالت : وإنه والله ما به حركة إلى شيء ، والله ما يزال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا . قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه . قال : فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب ؟ قال : فلبثنا [ بعد ذلك ] عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال : ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا : قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك ، أبشر . قال : فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء فرج ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض إلي رجل فرسا ، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس . فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني ، فنزعت ثوبي ، فكسوتهما إياه ببشارته ، والله ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ، يقولون : ليهنك توبة الله عليك . حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس ، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول ، حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة . قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " . قال : قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : " لا بل من عند الله " . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، حتى يعرف ذلك منه . فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله . قال : " أمسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك " . قال : فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول الله ، إنما نجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت . قال : فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى ، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي . قال : وأنزل الله تعالى : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) قال كعب : فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه [ حين كذبوه ] ؛ فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، قال الله تعالى : ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون . يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) [ التوبة : 95 ، 96 ] . قال : وكنا خلفنا - أيها الثلاثة - عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله أمرنا ، حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال الله تعالى : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخلفنا عن الغزو ، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه ، فقبل منه .

هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، رواه صاحبا الصحيح : البخاري ومسلم من حديث الزهري ، بنحوه .

فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها . وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها ، كما رواه الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) قال : هم كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن ربيعة وكلهم من الأنصار .

وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي وغير واحد - وكلهم قال : مرارة بن ربيعة .

[ وكذا في مسلم : مرارة بن ربيعة في بعض نسخه ، وفي بعضها : مرارة بن الربيع ] .

وفي رواية عن سعيد بن جبير : ربيع بن مرارة .

وقال الحسن البصري : ربيع بن مرارة أو مرارة بن ربيع .

وفي رواية عن الضحاك : مرارة بن الربيع ، كما وقع في الصحيحين ، وهو الصواب .

وقوله : " فسموا رجلين شهدا بدرا " ، قيل : إنه خطأ من الزهري ، فإنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا ، والله أعلم .

ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب ، من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، أي : مع سعتها ، فسددت عليهم المسالك والمذاهب ، فلا يهتدون ما يصنعون ، فصبروا لأمر الله ، واستكانوا لأمر الله ، وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم ، وأنه كان عن غير عذر ، فعوقبوا على ذلك هذه المدة ، ثم تاب الله عليهم ، فكان عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم

؛ ولهذا قال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) أي : اصدقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم ، ومخرجا ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن شقيق ؛ عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابا " .

أخرجاه في الصحيحين .

وقال شعبة ، عن عمرو بن مرة ، سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه قال : [ إن ] الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين ) - هكذا قرأها - ثم قال : فهل تجدون لأحد فيه رخصة .

وعن عبد الله بن عمر : ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

وقال الضحاك : مع أبي بكر وعمر وأصحابهما .

وقال الحسن البصري : إن أردت أن تكون مع الصادقين ، فعليك بالزهد في الدنيا ، والكف عن أهل الملة .

يعاتب تعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب ، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة ، فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر ؛ لأنهم ( لا يصيبهم ظمأ ) وهو : العطش ( ولا نصب ) وهو : التعب ( ولا مخمصة ) وهي : المجاعة ( ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ) أي : ينزلون منزلا يرهب عدوهم ( ولا ينالون ) منه ظفرا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم ، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم ، أعمالا صالحة وثوابا جزيلا ( إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) كما قال تعالى : ( إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) [ الكهف : 30 ] .

يقول تعالى : ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل الله ( نفقة صغيرة ولا كبيرة ) أي : قليلا ولا كثيرا ( ولا يقطعون واديا ) أي : في السير إلى الأعداء ( إلا كتب لهم ) ولم يقل هاهنا " به " لأن هذه أفعال صادرة عنهم ؛ ولهذا قال : ( ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) .

وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، من هذه الآية الكريمة حظ وافر ، ونصيب عظيم ، وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة ، والأموال الجزيلة ، كما قال عبد الله بن الإمام أحمد :

حدثنا أبو موسى العنزي ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني سكن بن المغيرة ، حدثني الوليد بن أبي هاشم ، عن فرقد أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن خباب السلمي قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة ، فقال عثمان بن عفان ، رضي الله عنه : علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها . قال : ثم حث ، فقال عثمان : علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها . قال : ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث ، فقال عثمان بن عفان : علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها . قال : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا - يحركها . وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب : " ما على عثمان ما عمل بعد هذا " .

وقال عبد الله أيضا : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ضمرة ، حدثنا عبد الله بن شوذب ، عن عبد الله بن القاسم ، عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة ، عن عبد الرحمن بن سمرة قال : جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال : فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول : " ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم " . يرددها مرارا .

وقال قتادة في قوله تعالى : ( ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ) الآية : ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدا إلا ازدادوا من الله قربا .

هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع الرسول في غزوة تبوك ، فإنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قال تعالى : ( انفروا خفافا وثقالا ) [ التوبة : 41 ] ، وقال : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ) [ التوبة : 120 ] ، قالوا : فنسخ ذلك بهذه الآية .

وقد يقال : إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها ، وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم ، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو ، فيجتمع لهم الأمران في هذا : النفير المعين وبعده ، صلوات الله وسلامه عليه ، تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد ؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) يعني : عصبة ، يعني : السرايا ، ولا يتسروا إلا بإذنه ، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إن الله قد أنزل على نبيكم قرآنا ، وقد تعلمناه . فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ، ويبعث سرايا أخرى ، فذلك قوله : ( ليتفقهوا في الدين ) يقول : ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم ، وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم ( لعلهم يحذرون ) .

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، خرجوا في البوادي ، فأصابوا من الناس معروفا ، ومن الخصب ما ينتفعون به ، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى ، فقال الناس لهم : ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا . فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا ، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الله ، عز وجل : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) يبتغون الخير ، ( ليتفقهوا [ في الدين ] ) وليستمعوا ما في الناس ، وما أنزل الله بعدهم ، ( ولينذروا قومهم ) الناس كلهم ( إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .

وقال قتادة في هذه الآية : هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش ، أمرهم الله ألا يعروا نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتقيم طائفة مع رسول الله تتفقه في الدين ، وتنطلق طائفة تدعو قومها ، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم .

وقال الضحاك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه ، إلا أهل الأعذار . وكان إذا أقام فاسترت السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه ، فكان الرجل إذا استرى فنزل بعده قرآن ، تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه ، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا . فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين ، وهو قوله : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) يقول إذا أقام رسول الله ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) يعني بذلك : أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد ، ولكن إذا قعد نبي الله تسرت السرايا ، وقعد معه عظم الناس .

وقال [ علي ] بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس : قوله : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) فإنها ليست في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم ، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ، ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون . فضيقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم . فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين ، فردهم رسول الله إلى عشائرهم ، وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم ، فذلك قوله : ( ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة ، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم . فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ، ويتفقهون في دينهم ، ويقولون لنبي الله : ما تأمرنا أن نفعله ؟ وأخبرنا [ ما نقول ] لعشائرنا إذا قدمنا انطلقنا إليهم . قال : فيأمرهم نبي الله بطاعة الله وطاعة رسوله ، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة . وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا : إن من أسلم فهو منا ، وينذرونهم ، حتى إن الرجل ليفارق أباه وأمه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم ، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة .

وقال عكرمة : لما نزلت هذه الآية : [ الشريفة ] ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) [ التوبة : 39 ] ، و ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا [ عن رسول الله ] ) [ التوبة : 120 ] ، قال المنافقون : هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه . وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم ، فأنزل الله ، عز وجل : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) الآية ، ونزلت : ( والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له ) الآية [ الشورى : 16 ] .

وقال الحسن البصري : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) قال : ليتفقه الذين خرجوا ، بما يردهم الله من الظهور على المشركين ، والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم .

أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ؛ ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة ، والطائف ، واليمن واليمامة ، وهجر ، وخيبر ، وحضرموت ، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال أهل الكتاب ، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب ، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال ، وكان ذلك سنة تسع من هجرته ، عليه السلام .

ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجته حجة الوداع . ثم عاجلته المنية ، صلوات الله وسلامه عليه ، بعد الحجة بأحد وثمانين يوما ، فاختاره الله لما عنده .

وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر ، رضي الله عنه ، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل ، فثبته الله تعالى به فوطد القواعد ، وثبت الدعائم . ورد شارد الدين وهو راغم . ورد أهل الردة إلى الإسلام ، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام ، وبين الحق لمن جهله ، وأدى عن الرسول ما حمله . ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان وإلى الفرس عبدة النيران ، ففتح الله ببركة سفارته البلاد ، وأرغم أنفس كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد . وأنفق كنوزهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك رسول الإله .

وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده ، وولي عهده الفاروق الأواب ، شهيد المحراب ، أبي حفص عمر بن الخطاب ، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين ، وقمع الطغاة والمنافقين ، واستولى على الممالك شرقا وغربا . وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدا وقربا . ففرقها على الوجه الشرعي ، والسبيل المرضي .

ثم لما مات شهيدا وقد عاش حميدا ، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار . على خلافة أمير المؤمنين [ أبي عمرو ] عثمان بن عفان شهيد الدار . فكسا الإسلام [ بجلاله ] رياسة حلة سابغة . وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة ، وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وعلت كلمة الله وظهر دينه . وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها ، فكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار ، امتثالا لقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) وقوله تعالى : ( وليجدوا فيكم غلظة ) [ أي : وليجد الكفار منكم غلظة ] عليهم في قتالكم لهم ، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن ، غليظا على عدوه الكافر ، كما قال تعالى : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ الفتح : 29 ] ، وقال تعالى : ( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) [ التوبة : 73 ، والتحريم : 9 ] ، وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا الضحوك القتال " ، يعني : أنه ضحوك في وجه وليه ، قتال لهامة عدوه .

وقوله : ( واعلموا أن الله مع المتقين ) أي : قاتلوا الكفار ، وتوكلوا على الله ، واعلموا أن الله معكم إن اتقيتموه وأطعتموه .

وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة ، في غاية الاستقامة ، والقيام بطاعة الله تعالى ، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم ، ولم تزل الفتوحات كثيرة ، ولم تزل الأعداء في سفال وخسار . ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك ، طمع الأعداء في أطراف البلاد ، وتقدموا إليها ، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض ، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام ، فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة ، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام ، ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد . فكلما قام ملك من ملوك الإسلام ، وأطاع أوامر الله ، وتوكل على الله ، فتح الله عليه من البلاد ، واسترجع من الأعداء بحسبه ، وبقدر ما فيه من ولاية الله . والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين ، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم ، إنه جواد كريم .

يقول تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة ) فمن المنافقين ( من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) ؟ أي : يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا ؟ قال الله تعالى : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) .

وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء ، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول " شرح البخاري " رحمه الله

( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) أي : زادتهم شكا إلى شكهم ، وريبا إلى ريبهم ، كما قال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت : 44 ] ، وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم ، كما أن سيئ المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا .

يقول تعالى : أولا يرى هؤلاء المنافقون ( أنهم يفتنون ) أي : يختبرون ( في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) أي : لا يتوبون من ذنوبهم السالفة ، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم .

قال مجاهد : يختبرون بالسنة والجوع .

وقال قتادة : بالغزو في السنة مرة أو مرتين .

وقال شريك ، عن جابر - هو الجعفي - عن أبي الضحى ، عن حذيفة : ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) قال : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين ، فيضل بها فئام من الناس كثير . رواه ابن جرير .

وفي الحديث عن أنس : " لا يزداد الأمر إلا شدة ، ولا يزداد الناس إلا شحا ، وما من عام إلا والذي بعده شر منه " ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم .

وقوله : ( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( نظر بعضهم إلى بعض ) أي : تلفتوا ، ( هل يراكم من أحد ثم انصرفوا ) أي : تولوا عن الحق وانصرفوا عنه ، وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يقيمونه كما قال تعالى : ( فما لهم عن التذكرة معرضين . كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة ) [ المدثر : 49 - 51 ] ، وقال تعالى : ( فمال الذين كفروا قبلك مهطعين . عن اليمين وعن الشمال عزين ) [ المعارج : 36 ، 37 ] ، أي : ما لهؤلاء القوم يتقللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق ، وذهابا إلى الباطل .

وقوله : ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) كقوله : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) [ الصف : 5 ] ، ( بأنهم قوم لا يفقهون ) أي : لا يفهمون عن الله خطابه ، ولا يقصدون لفهمه ولا يريدونه ، بل هم في شده عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه .

يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم ، أي : من جنسهم وعلى لغتهم ، كما قال إبراهيم ، عليه السلام : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) [ البقرة : 129 ] ، وقال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) [ آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أي : منكم وبلغتكم ، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصفته ، ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته ، وذكر الحديث .

وقال سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه في قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سفاح " .

وقد وصل هذا من وجه آخر ، كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه " الفاصل بين الراوي والواعي " : حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي لحدثني ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء " .

وقوله : ( عزيز عليه ما عنتم ) أي : يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " وفي الصحيح : " إن هذا الدين يسر " وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة ، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه .

( حريص عليكم ) أي : على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم .

قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن فطر ، عن أبي الطفيل ، عن أبي ذر قال . تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما - قال : وقال صلى الله عليه وسلم : " ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا [ أبو ] قطن ، حدثنا المسعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن عبدة النهدي ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار ، كتهافت الفراش ، أو الذباب " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان ، فيما يرى النائم ، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه . فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته . فقال : إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة ، وحياضا رواء أتتبعوني ؟ فقالوا : نعم . قال : فانطلق بهم ، فأوردهم رياضا معشبة ، وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا ، فقال لهم : ألم ألقكم على تلك الحال ، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ فقالوا : بلى . قال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه ، وحياضا هي أروى من هذه ، فاتبعوني . فقالت طائفة : صدق ، والله لنتبعنه وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه .

وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي ، عن عكرمة عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينه في شيء - قال عكرمة : أراه قال : " في دم " - فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال : " أحسنت إليك ؟ " قال الأعرابي : لا ولا أجملت . فغضب بعض المسلمين ، وهموا أن يقوموا إليه ، فأشار رسول الله إليهم : أن كفوا . فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله ، دعا الأعرابي إلى البيت ، فقال له : " إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت " فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، وقال : " أحسنت إليك ؟ " فقال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك جئتنا تسألنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت ، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء ، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب عن صدورهم " . قال : نعم . فلما جاء الأعرابي . قال إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه ، فقال ما قال ، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، [ كذلك يا أعرابي ؟ ] قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة ، فشردت عليه ، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا . فقال لهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فأنا أرفق بها ، وأعلم بها . فتوجه إليها وأخذ لها من قتام الأرض ، ودعاها حتى جاءت واستجابت ، وشد عليها رحلها وإنه لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار " . ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه .

قلت : وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان ، والله أعلم .

وقوله : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) كما قال تعالى : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون . وتوكل على العزيز الرحيم ) [ الشعراء : 215 - 217 ] .

وهكذا أمره تعالى .

وهذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : ( فإن تولوا ) أي : تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة ، ( فقل حسبي الله ) أي : الله كافي ، لا إله إلا هو عليه توكلت ، كما قال تعالى : ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) [ المزمل : 9 ] .

( وهو رب العرش العظيم ) أي : هو مالك كل شيء وخالقه ، لأنه رب العرش العظيم ، الذي هو ، سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى ، وعلمه محيط بكل شيء ، وقدره نافذ في كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل .

قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني محمد بن أبي بكر ، حدثنا بشر بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن أبي بن كعب قال : آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر السورة .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا روح بن عبد المؤمن ، حدثنا عمر بن شقيق ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، رضي الله عنه ؛ أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر ، رضي الله عنه ، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب ، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة ( براءة ) : ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) [ التوبة : 127 ] ، فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن . فقال لهم أبي بن كعب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) إلى : ( وهو رب العرش العظيم ) قال : " هذا آخر ما أنزل من القرآن " قال : فختم بما فتح به ، بالله الذي لا إله إلا هو ، وهو قول الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] غريب أيضا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن بحر ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد ، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه ، قال : أتى الحارث بن خزمة بهاتين الآيتين من آخر ( براءة ) : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى عمر بن الخطاب ، فقال : من معك على هذا ؟ قال : لا أدري ، والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتها وحفظتها . فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة ، فانظروا سورة من القرآن ، فضعوها فيها . فوضعوها في آخر ( براءة ) .

وقد تقدم أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار على أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهما ، بجمع القرآن ، فأمر زيد بن ثابت فجمعه . وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك . وفي الصحيح أن زيدا قال : فوجدت آخر سورة " براءة " مع خزيمة بن ثابت - أو : أبي خزيمة وقدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها ، والله أعلم .

وقد روى أبو داود ، عن يزيد بن محمد ، عن عبد الرزاق بن عمر - وقال : كان من ثقات المسلمين من المتعبدين ، عن مدرك بن سعد - قال يزيد : شيخ ثقة - عن يونس بن ميسرة ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، سبع مرات ، إلا كفاه الله ما أهمه .

وقد رواه ابن عساكر في ترجمة " عبد الرزاق بن عمر " هذا ، من رواية أبى زرعة الدمشقي ، عنه ، عن أبي سعد مدرك بن أبي سعد الفزاري ، عن يونس بن ميسرة بن حليس ، عن أم الدرداء ، سمعت أبا الدرداء يقول : ما من عبد يقول : حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، سبع مرات ، صادقا كان بها أو كاذبا ، إلا كفاه الله ما همه .

وهذه زيادة غريبة . ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد ، عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق ، عن جده عبد الرزاق بن عمر ، بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة . وهذا منكر ، والله أعلم .

آخر سورة ( براءة ) ، والحمد لله وحده .

اسم السورة سورة التوبة (At-Tauba - The Repentance)
ترتيبها 9
عدد آياتها 129
عدد كلماتها 2506
عدد حروفها 10873
معنى اسمها (التَّوْبَةُ): الاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ، وَالنَّدَمُ عَلَيهِ، والعَزْمُ عَلى عَدَمِ العَودَةِ إِلَيهِ.
سبب تسميتها دَعْوةُ المُشْرِكِينَ إِلَى التَّوبَةِ إِلَى اللهِ والإِيمَانِ بِهِ؛ ولِذَا لَمْ تَبْدَأ السُّورةُ بالبَسْمَلَةِ. وتَوبَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَى المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ: (الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عن غَزْوَةِ تَبُوكَ)
أسماؤها الأخرى اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (التَّوْبَةِ)، وتُسَمَّى سُورَةَ (بَرَاءَة)، وَسُورَةَ (الفَاضِحَةِ)، وَسُورَةَ (العَذَابِ)
مقاصدها بَيَانُ أَحْوَالِ المُشْرِكِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَأَحْكَامِهِم، وبيَانُ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ
أسباب نزولها سُورَةٌ مَدَنيَّةٌ، لَمْ يُنقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِها سَبَبُ نُزُولٍ
فضلها هِيَ مِنَ السَّبعِ، قَالَ ﷺ: «مَن أخَذَ السَّبعَ الْأُوَلَ منَ القُرآنِ فَهُوَ حَبْرٌ» أَيْ: عَالِم .(حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحمَد). قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ بَرَاءَةَ، وَعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ». (أَثَرٌ صَحِيحٌ، سُنَنَ سَعِيدِ بِن مَنصُوْر)
مناسبتها مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (التَّوْبَةِ) بِآخِرهَا: الحَدِيثُ عَنْ صِفَةِ إِعْرَاضِ المُشْرِكِين، فقَالَ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿وَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ ...٣﴾، ، الآيَاتِ، وَقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُ ...١٢٩﴾ ...الآيَاتِ. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (التَّوْبَةِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الأَنْفَالِ): ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ (الأَنفَالِ) خِيَانةَ المُشْرِكِينَ للهِ ولِرسُولِهِ، فَقَالَ: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدۡ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ ...٧١﴾، ثُمَّ افتَتَحَ (التَّوْبَةَ) بِالبَرَاءَةِ مِنْهُم، فَقَالَ: ﴿بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١﴾.
اختر الًجزء:
اختر السورة:
اختر الًصفحة:


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!