موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة الجاثية: [تفسير ابن كثير]

كتاب "تفسير القرآن العظيم" للإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى 774 هـ)، وهو تفسير بالمأثور يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة والتابعين، كما اهتم باللغة العربية وعلومها، واهتم بالأسانيد ونقدها، واهتم بذكر القراءات المختلفة وأسباب نزول الآيات، كما يشتمل على الأحكام الفقهية، ويعتني بالأحاديث النبوية، ويخلو من الإسرائيليات.
سورة الجاثية

قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسـره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان.

ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور.

قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة "الم" السجدة و "هل أتى على الإنسان" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم وحم والمص وص.

فواتح افتتح الله بها القرآن وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال الم اسم من أسماء القرآن وهكذا وقال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم.

وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبدالله وإسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال الم اسم من أسماء الله الأعظم.

هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن حم وطس والم فقال قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم.

يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام والحكمة في الأقوال والأفعال.

يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه وقدرته العظيمة التي خلق بهما السموات الأرض.

وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات وما في البحر من الأصناف المتنوعة.

واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران ، هذا بظلامه وهذا بضيائه ، وما أنزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه ، وسماه رزقا ; لأن به يحصل الرزق ، ( فأحيا به الأرض بعد موتها ) أي : بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء .

وقوله : ( وتصريف الرياح ) أي : جنوبا وشآما ، ودبورا وصبا ، بحرية وبرية ، ليلية ونهارية . ومنها ما هو للمطر ، ومنها ما هو للقاح ، ومنها ما هو غذاء للأرواح ، ومنها ما هو عقيم [ لا ينتج ] .

وقال أولا ) لآيات للمؤمنين ) ، ثم ) يوقنون ) ثم ) يعقلون ) وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى . وهذه الآيات شبيهة بآية " البقرة " وهي قوله : ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) [ البقرة : 164 ] . وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا عن وهب بن منبه أثرا طويلا غريبا في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة .

يقول تعالى : هذه آيات الله - يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات - ( نتلوها عليك بالحق ) أي : متضمنة الحق من الحق ، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها ، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ !

ثم قال : ( ويل لكل أفاك أثيم ) أي أفاك في قوله كذاب ، حلاف مهين أثيم في فعله وقيله كافر بآيات الله ; ولهذا قال :

( يسمع آيات الله تتلى عليه ) أي : تقرأ عليه ( ثم يصر ) أي : على كفره وجحوده استكبارا وعنادا ( كأن لم يسمعها ) أي : كأنه ما سمعها ، ( فبشره بعذاب أليم ) [ أي ] فأخبره أن له عند الله يوم القيامة عذابا أليما موجعا .

( وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا ) أي : إذا حفظ شيئا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا ، ( أولئك لهم عذاب مهين ) أي : في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به ; ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو .

ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال : ( من ورائهم جهنم ) أي : كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة ، ( ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ) أي : لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ، ( ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ) أي : ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئا ، ( ولهم عذاب عظيم )

ثم قال تعالى : ( هذا هدى ) يعني القرآن ( والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم ) وهو المؤلم الموجع .

يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر ( لتجري الفلك ) ، وهي السفن فيه بأمره تعالى ، فإنه هو الذي أمر البحر أن يحملها ( ولتبتغوا من فضله ) أي : في المتاجر والمكاسب ، ( ولعلكم تشكرون ) أي : على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية .

ثم قال تعالى : ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض ) أي : من الكواكب والجبال ، والبحار والأنهار ، وجميع ما تنتفعون به ، أي : الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ; ولهذا قال : ( جميعا منه ) أي : من عنده وحده لا شريك له في ذلك ، كما قال تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) [ النحل : 53 ] .

وروى ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ) كل شيء هو من الله ، وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه ، فذلك جميعا منه ، ولا ينازعه فيه المنازعون ، واستيقن أنه كذلك .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا الفرياني ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي أراكة قال : سأل رجل عبد الله بن عمرو قال : مم خلق الخلق ؟ قال : من النور والنار ، والظلمة والثرى . قال وائت ابن عباس فاسأله . فأتاه فقال له مثل ذلك ، فقال : ارجع إليه فسله : مم خلق ذلك كله ؟ فرجع إليه فسأله ، فتلا ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ) هذا أثر غريب ، وفيه نكارة .

( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )

وقوله : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) أي : يصفحوا عنهم ويحملوا الأذى منهم . وهذا كان في ابتداء الإسلام ، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ؛ ليكون ذلك لتأليف قلوبهم ، ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد . هكذا روي عن ابن عباس ، وقتادة .

وقال مجاهد [ في قوله ] ( لا يرجون أيام الله ) لا يبالون نعم الله .

وقوله : ( ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ) أي : إذا صفحوا عنهم في الدنيا ، فإن الله مجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة ;

ولهذا قال : ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ) أي : تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم [ عليه ] فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها .

يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم ، وجعله الملك فيهم ; ولهذا قال : ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات ) أي : من المآكل والمشارب ، ( وفضلناهم على العالمين ) أي : في زمانهم .

( وآتيناهم بينات من الأمر ) أي : حججا وبراهين وأدلة قاطعات ، فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة ، وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا ، ( إن ربك ) يا محمد ( يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) أي : سيفصل بينهم بحكمه العدل . وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم ، وأن تقصد منهجهم ;

ولهذا قال : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ) أي : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو ، وأعرض عن المشركين ،

وقال هاهنا : ( ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ) أي : وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضا ، فإنهم لا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا ، ( والله ولي المتقين ) ، وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات .

ثم قال : ( هذا بصائر للناس ) يعني : القرآن ( وهدى ورحمة لقوم يوقنون . )

يقول تعالى : ( لا يستوي المؤمنون والكافرون ، كما قال : ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ) [ الحشر : 20 ] وقال هاهنا : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات ) أي : عملوها وكسبوها ( أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ) أي : نساويهم بهم في الدنيا والآخرة ! ( ساء ما يحكمون ) أي : ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة ، وفي هذه الدار .

قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مؤمل بن إهاب ، حدثنا بكير بن عثمان التنوخي ، حدثنا الوضين بن عطاء ، عن يزيد بن مرثد الباجي ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : إن الله بنى دينه على أربعة أركان ، فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله [ وهو ] من الفاسقين . قيل : وما هن يا أبا ذر ؟ قال : يسلم حلال الله لله ، وحرام الله لله ، وأمر الله لله ، ونهي الله لله ، لا يؤتمن عليهن إلا الله .

قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - : " كما أنه لا يجتنى من الشوك العنب ، كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار " .

هذا حديث غريب من هذا الوجه . وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب " السيرة " أنهم وجدوا حجرا بمكة في أس الكعبة مكتوب عليه : تعملون السيئات وترجون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب .

وقد روى الطبراني من حديث شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ; ولهذا قال تعالى : ( ساء ما يحكمون )

وقال ( وخلق الله السموات والأرض بالحق ) أي : بالعدل ، ( ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) .

ثم قال [ تعالى ] ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) أي : إنما يأتمر بهواه ، فمهما رآه حسنا فعله ، ومهما رآه قبيحا تركه : وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين .

وعن مالك فيما روي عنه من التفسير : لا يهوى شيئا إلا عبده .

وقوله : ( وأضله الله على علم ) يحتمل قولين :

أحدهما : وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك . والآخر : وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه ، وقيام الحجة عليه . والثاني يستلزم الأول ، ولا ينعكس .

( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) أي : فلا يسمع ما ينفعه ، ولا يعي شيئا يهتدي به ، ولا يرى حجة يستضيء بها ; ولهذا قال : ( فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) كقوله : ( من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ الأعراف : 186 ] .

يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ) أي : ما ثم إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد ، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم ، وهم ينكرون البداءة والرجعة ، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه . وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى ، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ؛ ولهذا قالوا ( وما يهلكنا إلا الدهر ) قال الله تعالى : ( وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) أي : يتوهمون ويتخيلون .

فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح ، وأبو داود ، والنسائي ، من رواية سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ; يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب ليله ونهاره " وفي رواية : " لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر " .

وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار ، وهو الذي يهلكنا ، يميتنا ويحيينا ، فقال الله في كتابه : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) قال : " ويسبون الدهر ، فقال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " .

وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن منصور ، عن شريح بن النعمان ، عن ابن عيينة مثله : ثم روي عن يونس ، عن ابن وهب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قال الله تعالى : يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الليل والنهار " .

وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي ، من حديث يونس بن زيد ، به .

وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله : استقرضت عبدي فلم يعطني ، وسبني عبدي ، يقول : وادهراه . وأنا الدهر " .

قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله ، عليه الصلاة والسلام : " لا تسبوا الدهر ; فإن الله هو الدهر " : كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة ، قالوا : يا خيبة الدهر . فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله [ عز وجل ] فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل ; لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نهي عن سب الدهر بهذا الاعتبار ; لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ، ويسندون إليه تلك الأفعال .

هذا أحسن ما قيل في تفسيره ، وهو المراد ، والله أعلم . وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى ، أخذا من هذا الحديث . .

وقوله تعالى : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ) أي : إذا استدل عليهم وبين لهم الحق ، وأن الله قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها ، ( ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ) أي : أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا .

قال الله تعالى : ( قل الله يحييكم ) أي : كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود ، ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) [ البقرة : 28 ] أي : الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى . . ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) [ الروم 27 ] ، ( ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) أي : إنما يجمعكم ليوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا : ( ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ) ( يوم يجمعكم ليوم الجمع ) [ التغابن : 9 ] ( لأي يوم أجلت . ليوم الفصل ) [ المرسلات : 12 ، 13 ] ، ( وما نؤخره إلا لأجل معدود ) [ هود : 104 ] وقال هاهنا : ( ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) أي : لا شك فيه ، ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) أي : فلهذا ينكرون المعاد ، ويستبعدون قيام الأجساد ، قال الله تعالى : ( إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) [ المعارج : 6 ، 7 ] أي : يرون وقوعه بعيدا ، والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا .

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، الحاكم فيهما في الدنيا والآخرة ; ولهذا قال : ( ويوم تقوم الساعة ) أي : يوم القيامة ( يخسر المبطلون ) وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات .

وقال ابن أبي حاتم : قدم سفيان الثوري المدينة ، فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس . فقال له : يا شيخ ، أما علمت أن لله يوما يخسر فيه المبطلون ؟ قال : فما زالت تعرف في المعافري حتى لحق بالله ، عز وجل . ذكره ابن أبي حاتم .

ثم قال : ( وترى كل أمة جاثية ) أي : على ركبها من الشدة والعظمة ، ويقال : إن هذا [ يكون ] إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، حتى إبراهيم الخليل ، ويقول : نفسي ، نفسي ، نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي ، وحتى أن عيسى ليقول : لا أسألك اليوم إلا نفسي ، لا أسألك [ اليوم ] مريم التي ولدتني .

قال مجاهد ، وكعب الأحبار ، والحسن البصري : ( كل أمة جاثية ) أي : على الركب . وقال عكرمة : ( جاثية ) متميزة على ناحيتها ، وليس على الركب . والأول أولى .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عبد الله بن باباه ، أن رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] قال : " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم " .

وقال إسماعيل بن رافع المديني ، عن محمد بن كعب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، مرفوعا في حديث الصورة : فيتميز الناس وتجثو الأمم ، وهي التي يقول الله : ( وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها ) .

وهذا فيه جمع بين القولين : ولا منافاة ، والله أعلم .

وقوله : ( كل أمة تدعى إلى كتابها ) يعني : كتاب أعمالها ، كقوله : ( ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء ) [ الزمر : 69 ] ; ولهذا قال : ( اليوم تجزون ما كنتم تعملون ) أي : تجازون بأعمالكم خيرها وشرها ، كقوله تعالى : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) [ القيامة : 13 - 15 ] .

ثم قال : ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) أي : يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص ، كقوله تعالى : ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ) [ الكهف : 49 ] .

وقوله : ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) أي : إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم .

قال ابن عباس وغيره : تكتب الملائكة أعمال العباد ، ثم تصعد بها إلى السماء ، فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيديهم مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر ، مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم ، فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، ثم قرأ : ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) .

يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة ، فقال : ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أي : آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحات ، وهي الخالصة الموافقة للشرع ، ( فيدخلهم ربهم في رحمته ) ، وهي الجنة ، كما ثبت في الصحيح أن الله قال للجنة : " أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء " .

( ذلك هو الفوز المبين ) أي : البين الواضح .

ثم قال : ( وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم ) أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا : أما قرئت عليكم آيات الرحمن فاستكبرتم عن اتباعها ، وأعرضتم عند سماعها ، ( وكنتم قوما مجرمين ) أي : في أفعالكم ، مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب ؟

( وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها ) أي : إذا قال لكم المؤمنون ذلك ، ( قلتم ما ندري ما الساعة ) أي : لا نعرفها ، ( إن نظن إلا ظنا ) أي : إن نتوهم وقوعها إلا توهما ، أي مرجوحا ; ولهذا قال : ( وما نحن بمستيقنين ) أي : بمتحققين ،

قال الله تعالى : ( وبدا لهم سيئات ما عملوا ) أي : وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة ، ( وحاق بهم ) أي : أحاط بهم ( ما كانوا به يستهزئون ) أي : من العذاب والنكال ،

( وقيل اليوم ننساكم ) أي : نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم ( كما نسيتم لقاء يومكم هذا ) أي : فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به ، ( ومأواكم النار وما لكم من ناصرين )

وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة : " ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى ، يا رب . فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا . فيقول الله تعالى : فاليوم أنساك كما نسيتني " .

قال الله تعالى : ( ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا ) أي : إنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا ، تسخرون وتستهزئون بها ، ( وغرتكم الحياة الدنيا ) أي : خدعتكم فاطمأننتم إليها ، فأصبحتم من الخاسرين ; ولهذا قال : ( فاليوم لا يخرجون منها ) أي : من النار ( ولا هم يستعتبون ) أي : لا يطلب منهم العتبى ، بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب ، كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب .

ثم لما ذكر حكمه في المؤمنين والكافرين قال : ( فلله الحمد رب السموات ورب الأرض ) أي المالك لهما وما فيهما ; ولهذا قال : ( رب العالمين ) .

ثم قال : ( وله الكبرياء في السموات والأرض ) قال مجاهد : يعني السلطان . أي : هو العظيم الممجد ، الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه . وقد ورد في الحديث الصحيح : " يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدا منهما أسكنته ناري " . ورواه مسلم من حديث الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، رضي الله عنهما ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .

وقوله : ( وهو العزيز ) أي : الذي لا يغالب ولا يمانع ، ( الحكيم ) في أقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره ، تعالى وتقدس ، لا إله إلا هو .

آخر تفسير سورة الجاثية [ ولله الحمد والمنة ]

اسم السورة سورة الجاثية (Al-Jathiya - The Crouching)
ترتيبها 45
عدد آياتها 37
عدد كلماتها 488
عدد حروفها 2014
معنى اسمها جَثَا: جَلَسَ عَلَى رُكْبَتَيهِ، وَقَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٖ جَاثِيَةٗۚ ...٢٨﴾ أَي: بَارِكَةً علَى رُكَبِهَا
سبب تسميتها انْفِرَادُ السُّورَةِ بِوَصْفِ حَالِ الْأُمَمِ كَونِهَا (جَاثِيَةً) يَومَ القِيَامَةِ عَنْ بَقِيَّةِ أَحْوَالِهَا فِي مَوَاضِعِ القُرْآنِ
أسماؤها الأخرى اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (الْجَاثِيةِ)، وتُسَمَّى سُورَةَ (حَمْ الجَاثِيَة)، وَسُورَةَ (الشَّرِيعَةِ)
مقاصدها بَيَانُ صِفَاتِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَعَرْضِ شُبَهِهِم، وَمُحَاجَّتُهُمْ، وَتقْرِيرُ عَاقِبَتِهِم
أسباب نزولها سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، لَمْ يُنقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِهَا سَبَبُ نُزُولٍ
فضلها هِيَ مِنْ ذَوَاتِ ﴿حمٓ ﴾، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُقْرِئَهُ القُرْآنَ، فَقَالَ: «اقْرَأْ ثَلاثًا مِنْ ذَوَاتِ ﴿حمٓ ﴾». (حَدِيثٌ صَحيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد)
مناسبتها مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (الْجَاثِيَةِ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنِ اسْمِ اللهِ العَزِيزِ الْحَكِيمِ، فَقَالَ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿حمٓ ١ تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ ٢﴾، وَقَالَ فِي آخِرِ آيَةٍ مِنْهَا: ﴿وَلَهُ ٱلۡكِبۡرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٣٧﴾. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (الجَاثِيَةِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الدُّخَانِ): لَمَّا ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَضْلَ القُرْآنِ فِي خِتَامِ (الدُّخَانِ)؛ بِقَولِهِ: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ ٥٨﴾ اْفتَتَحَ بِذِكْرِهِ (الْجَاثِيَةَ)؛ فَقَالَ: ﴿حمٓ ١ تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ ٢﴾.
اختر الًجزء:
اختر السورة:
اختر الًصفحة:


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!