موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة النحل: [تفسير ابن كثير]

كتاب "تفسير القرآن العظيم" للإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى 774 هـ)، وهو تفسير بالمأثور يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة والتابعين، كما اهتم باللغة العربية وعلومها، واهتم بالأسانيد ونقدها، واهتم بذكر القراءات المختلفة وأسباب نزول الآيات، كما يشتمل على الأحكام الفقهية، ويعتني بالأحاديث النبوية، ويخلو من الإسرائيليات.
سورة النحل

تفسير سورة النحل وهي مكية .

أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرا بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة [ كما قال تعالى ] : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ) [ الأنبياء : 1 ] وقال : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) [ القمر : 1 ] .

وقوله : ( فلا تستعجلوه ) أي : قرب ما تباعد فلا تستعجلوه .

يحتمل أن يعود الضمير على الله ، ويحتمل أن يعود على العذاب ، وكلاهما متلازم ، كما قال تعالى : ( ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) [ العنكبوت : 53 ، 54 ] .

وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب ، فقال في قوله : ( أتى أمر الله ) أي : فرائضه وحدوده .

وقد رده ابن جرير فقال : لا نعلم أحدا استعجل الفرائض والشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه ، استبعادا وتكذيبا .

قلت : كما قال تعالى : ( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) [ الشورى : 18 ] .

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عياش ، عن محمد بن عبد الله - مولى المغيرة بن شعبة - عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن حجيرة ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس ، فما تزال ترتفع في السماء ، ثم ينادي مناد فيها : يا أيها الناس ، فيقبل الناس بعضهم على بعض : هل سمعتم ؟ فمنهم من يقول : نعم ، ومنهم من يشك ، ثم ينادي الثانية : يا أيها الناس ، فيقول الناس بعضهم لبعض : هل سمعتم ؟ فيقولون : نعم ، ثم ينادي الثالثة : يا أيها الناس ، أتى أمر الله فلا تستعجلوه . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فوالذي نفسي بيده ، إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا ، وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئا أبدا ، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا - قال - ويشتغل الناس .

ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره ، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد ، تعالى وتقدس علوا كبيرا ، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة ، فقال : ( سبحانه وتعالى عما يشركون ) .

يقول تعالى : ( ينزل الملائكة بالروح ) أي : الوحي كما قال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) [ الشورى : 52 ] .

وقوله : ( على من يشاء من عباده ) وهم الأنبياء ، كما قال : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] وقال : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) [ الحج : 75 ] وقال : ( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) [ غافر : 15 ، 16 ] .

وقوله : ( أن أنذروا ) أي : لينذروا أنه لا إله إلا أنا ) [ كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا ) ] فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] وقال في هذه [ الآية ] : ( فاتقون ) أي : فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري .

يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السماوات ، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت ، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث ، بل ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) [ النجم : 31 ] .

ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره [ من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهم يخلقون فكيف ناسب أن يعبد معه غيره ] وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له ، فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له .

ثم نبه على خلق جنس الإنسان من نطفة ) أي : ضعيفة مهينة ، فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ، ويحارب رسله ، وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا ، كما قال تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ) [ الفرقان : 54 ، 55 ] وقال : ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) [ يس : 77 ، 79 ] .

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بسر بن جحاش قال : بصق رسول الله في كفه ، ثم قال : يقول الله : ابن آدم ، أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : أتصدق . وأنى أوان الصدقة ؟ .

يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج ، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع ، من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون ، ومن ألبانها يشربون ، ويأكلون من أولادها ،

وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة ولهذا قال : ( ولكم فيها جمال حين تريحون ) وهو وقت رجوعها عشيا من المرعى فإنها تكون أمده خواصر ، وأعظمه ضروعا ، وأعلاه أسنمة ، وحين تسرحون ) أي : غدوة حين تبعثونها إلى المرعى .

وتحمل أثقالكم ) وهي الأحمال المثقلة التي تعجزون عن نقلها وحملها ، إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة ، وما جرى مجرى ذلك ، تستعملونها في أنواع الاستعمال ، من ركوب وتحميل ، كما قال تعالى : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون ) [ المؤمنون : 21 ، 22 ] وقال تعالى : ( الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون ) [ غافر : 79 ، 81 ] ولهذا قال هاهنا بعد تعداد هذه النعم : ( إن ربكم لرءوف رحيم ) أي : ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم ، كما قال : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ) [ يس : 71 ، 72 ] وقال : ( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) [ الزخرف : 12 - 14 ] .

قال ابن عباس : ( لكم فيها دفء ) أي : ثياب ، والمنافع : ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( دفء ومنافع ) نسل كل دابة .

وقال مجاهد : ( لكم فيها دفء ) قال : لباس ينسج ، ومنافع تركب ، ولحم ولبن .

وقال قتادة : ( دفء ومنافع ) يقول : لكم فيها لباس ، ومنفعة ، وبلغة .

وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة .

هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده ، يمتن به عليهم ، وهو : الخيل والبغال والحمير ، التي جعلها للركوب والزينة بها ، وذلك أكبر المقاصد منها ، ولما فصلها من الأنعام وأفردها بالذكر استدل من استدل من العلماء - ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل - بذلك على ما ذهب إليه فيها ، كالإمام أبي حنيفة - رحمه الله - ومن وافقه من الفقهاء ; لأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير ، وهي حرام ، كما ثبتت به السنة النبوية ، وذهب إليه أكثر العلماء .

وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أنبأنا هشام الدستوائي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن مولى نافع بن علقمة ، أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكان يقول : قال الله : ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ) فهذه للأكل ، ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها ) فهذه للركوب .

وكذا روي من طريق سعيد بن جبير وغيره ، عن ابن عباس ، بمثله . وقال مثل ذلك الحكم بن عتيبة - رضي الله عنه - أيضا ، واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده :

حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب ، عن أبيه ، عن جده ، عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الخيل ، والبغال ، والحمير .

وأخرجه أبو داود والنسائي ، وابن ماجه من حديث صالح بن يحيى بن المقدام - وفيه كلام - به .

ورواه أحمد أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال :

حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا سليمان بن سليم ، عن صالح بن يحيى بن المقدام ، عن جده المقدام بن معد يكرب قال : غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة ، فقرم أصحابنا إلى اللحم ، فسألوني رمكة ، فدفعتها إليهم فحبلوها ، وقلت : مكانكم حتى آتي خالدا فأسأله ، فأتيته فسألته ، فقال : غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة خيبر ، فأسرع الناس في حظائر يهود ، فأمرني أن أنادي : " الصلاة جامعة ، ولا يدخل الجنة إلا مسلم " ثم قال : " أيها الناس ، إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود ، ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها ، وحرام عليكم لحوم الأتن الأهلية وخيلها وبغالها ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير " .

والرمكة : هي الحجرة . وقوله : حبلوها ، أي : أوثقوها في الحبل ليذبحوها . والحظائر : البساتين القريبة من العمران .

وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر ، والله أعلم .

فلو صح هذا الحديث لكان نصا في تحريم لحوم الخيل ، ولكن لا يقاوم ما ثبت في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل .

ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم ، عن جابر قال : ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال والحمير ، ولم ينهنا عن الخيل .

وفي صحيح مسلم ، عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت : نحرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة .

فهذه أدل وأقوى وأثبت ، وإلى ذلك صار جمهور العلماء : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحابهم ، وأكثر السلف والخلف ، والله أعلم .

وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس قال : كانت الخيل وحشية ، فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - .

وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته : أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب ، والله أعلم .

فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب ، ومنها البغال . وقد أهديت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغلة ، فكان يركبها ، مع أنه قد نهى عن إنزاء الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل .

قال الإمام أحمد : حدثني محمد بن عبيد ، حدثنا عمر من آل حذيفة ، عن الشعبي ، عن دحية الكلبي قال : قلت : يا رسول الله ، ألا أحمل لك حمارا على فرس ، فتنتج لك بغلا فتركبها ؟ قال : " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " .

لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية ، نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية ، كما قال تعالى : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) [ البقرة : 197 ] وقال : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ) [ الأعراف : 26 ] .

ولما ذكر في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة - شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها ما هي موصلة إليه ، فقال : ( وعلى الله قصد السبيل ) كما قال : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [ الأنعام : 153 ] وقال : ( هذا صراط علي مستقيم ) [ الحجر : 41 ] .

قال مجاهد : في [ قوله ] : ( وعلى الله قصد السبيل ) قال : طريق الحق على الله .

وقال السدي : ( وعلى الله قصد السبيل ) قال : الإسلام .

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : ( وعلى الله قصد السبيل ) يقول : وعلى الله البيان ، أي : تبين الهدى والضلال .

وكذا روى علي بن أبي طلحة ، عنه . وكذا قال قتادة ، والضحاك . وقول مجاهد هاهنا أقوى من حيث السياق ; لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقا تسلك إليه ، فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق ، وهي الطريق التي شرعها ورضيها وما عداها مسدودة ، والأعمال فيها مردودة ; ولهذا قال تعالى : ( ومنها جائر ) أي : حائد مائل زائغ عن الحق .

قال ابن عباس وغيره : هي الطرق المختلفة ، والآراء والأهواء المتفرقة ، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ، وقرأابن مسعود : " ومنكم جائر " .

ثم أخبر أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته ، فقال : ( ولو شاء لهداكم أجمعين ) كما قال : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) [ يونس : 99 ] وقال : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [ هود : 118 ، 119 ] .

لما ذكر سبحانه ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب ، شرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء - وهو العلو - مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولأنعامهم ، فقال : ( لكم منه شراب ) أي : جعله عذبا زلالا يسوغ لكم شرابه ، ولم يجعله ملحا أجاجا .

( ومنه شجر فيه تسيمون ) أي : وأخرج لكم به شجرا ترعون فيه أنعامكم . كما قال ابن عباس ، وعكرمة والضحاك ، وقتادة وابن زيد في قوله : ( فيه تسيمون ) أي : ترعون .

ومنه الإبل السائمة ، والسوم : الرعي .

وروى ابن ماجه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السوم قبل طلوع الشمس .

وقوله : ( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ) أي : يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد ، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها ; ولهذا قال : ( إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) أي : دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : ( أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون ) [ النمل : 60 ]

ثم قال تعالى :

ينبه تعالى عباده على آياته العظام ، ومننه الجسام ، في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان ، والشمس والقمر يدوران ، والنجوم الثوابت والسيارات ، في أرجاء السموات نورا وضياء لمهتدين بها في الظلمات ، وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه ، يسير بحركة مقدرة ، لا يزيد عليها ولا ينقص منها ، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسييره ، كما قال : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) [ الأعراف : 54 ] ; ولهذا قال : ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) أي : لدلالات على قدرته الباهرة وسلطانه العظيم ، لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه .

وقوله : ( وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه ) لما نبه سبحانه على معالم السماوات ، نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة ، من الحيوانات والمعادن والنباتات [ والجمادات ] على اختلاف ألوانها وأشكالها ، وما فيها من المنافع والخواص ( إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ) أي : آلاء الله ونعمه فيشكرونها .

يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج ، ويمتن على عباده بتذليله لهم ، وتيسيره للركوب فيه ، وجعله السمك والحيتان فيه ، وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها ، في الحل والإحرام وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر النفيسة ، وتسهيله للعباد استخراجها من قرارها حلية يلبسونها ، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره ، أي : تشقه .

وقيل : تمخر الرياح ، وكلاهما صحيح بجؤجئها وهو صدرها المسنم - الذي أرشد العباد إلى صنعتها ، وهداهم إلى ذلك ، إرثا عن أبيهم نوح - عليه السلام - فإنه أول من ركب السفن ، وله كان تعليم صنعتها ، ثم أخذها الناس عنه قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، يسيرون من قطر إلى قطر ، وبلد إلى بلد ، وإقليم إلى إقليم ، تجلب ما هنا إلى هنالك ، وما هنالك إلى هنا ; ولهذا قال تعالى : ( ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) أي : نعمه وإحسانه .

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية البغدادي : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن [ عمر ، عن ] سهيل بن أبى صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رفعه ] قال : كلم الله هذا البحر الغربي ، وكلم البحر الشرقي ، فقال للبحر الغربي : إني حامل فيك عبادا من عبادي ، فكيف أنت صانع فيهم ؟ قال : أغرقهم . فقال : بأسك في نواحيك . وأحملهم على يدي . وحرمه الحلية والصيد . وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادا من عبادي ، فما أنت صانع بهم ؟ فقال : أحملهم على يدي ، وأكون لهم كالوالدة لولدها . فأثابه الحلية والصيد .

ثم قال البزار : لا نعلم من رواه عن سهيل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر وهو منكر الحديث . وقد رواه سهيل عن النعمان بن أبي عياش عن عبد الله بن عمرو موقوفا .

ثم ذكر تعالى الأرض ، وما جعل فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات ، لتقر الأرض ولا تميد أي : تضطرب بما عليها من الحيوان فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك ; ولهذا قال : ( والجبال أرساها ) [ النازعات : 32 ] .

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن قتادة ، سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كانت تميد ، فقالوا ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا فأصبحوا وقد خلقت الجبال ، لم تدر الملائكة مم خلقت الجبال .

وقال سعيد عن قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عبادة : أن الله تعالى لما خلق الأرض ، جعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا ، فأصبحت صبحا وفيها رواسيها .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : أي رب ، تجعل علي بني آدم يعملون علي الخطايا ويجعلون علي الخبث ؟ قال : فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان إقرارها كاللحم يترجرج . .

وقوله : ( وأنهارا وسبلا ) أي : وجعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى مكان آخر ، رزقا للعباد ، ينبع في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر ، فيقطع البقاع والبراري والقفار ، ويخترق الجبال والآكام ، فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله . وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة ، وجنوبا وشمالا وشرقا وغربا ، ما بين صغار وكبار ، وأودية تجري حينا وتنقطع في وقت ، وما بين نبع وجمع ، وقوي السير وبطيئه ، بحسب ما أراد وقدر ، وسخر ويسر فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه .

وكذلك جعل فيها سبلا أي : طرقا يسلك فيها من بلاد إلى بلاد ، حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممرا ومسلكا ، كما قال تعالى : ( وجعلنا فيها فجاجا سبلا ) [ الأنبياء : 31 ] .

وقوله : ( وعلامات ) أي : دلائل من جبال كبار وآكام صغار ، ونحو ذلك ، يستدل بها المسافرون برا وبحرا إذا ضلوا الطريق [ بالنهار ] .

وقوله : ( وبالنجم هم يهتدون ) أي : في ظلام الليل ، قاله ابن عباس .

وعن مالك في قوله : ( وعلامات ) يقولون : النجوم ، وهي الجبال .

ثم قال تعالى منبها على عظمته ، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان ، التي لا تخلق شيئا بل هم يخلقون ; ولهذا قال : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون )

ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم ، فقال : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ) أي : يتجاوز عنكم ، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم ، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم ، ولكنه غفور رحيم ، يغفر الكثير ، ويجازي على اليسير .

وقال ابن جرير : يقول : ( إن الله لغفور رحيم ) لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك ، إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته ، ( رحيم ) بكم أن يعذبكم ، [ أي ] : بعد الإنابة والتوبة .

يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر ، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، كما قال الخليل : ( أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) [ الصافات : 95 ، 96 ] .

وقوله : ( أموات غير أحياء ) أي : هي جمادات لا أرواح فيها فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل .

( وما يشعرون أيان يبعثون ) أي : لا يدرون متى تكون الساعة ، فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء ؟ إنما يرتجى ذلك من الذي يعلم كل شيء ، وهو خالق كل شيء .

يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك ، كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك : ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) وقال تعالى : ( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ) [ الزمر : 45 ] .

وقوله : ( وهم مستكبرون ) أي : عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده ، كما قال : ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) [ غافر : 60 ]

ولهذا قال هاهنا : ( لا جرم ) أي : حقا ( أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) أي : وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء ، ( إنه لا يحب المستكبرين )

يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء المكذبين : ( ماذا أنزل ربكم قالوا ) معرضين عن الجواب : ( أساطير الأولين ) أي : لم ينزل شيئا ، إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين ، أي : مأخوذ من كتب المتقدمين ، كما قال تعالى : ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) [ الفرقان : 5 ] أي : يفترون على الرسول ، ويقولون [ فيه ] أقوالا مختلفة متضادة ، كلها باطلة كما قال تعالى : ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) [ الفرقان : 9 ] وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ ، وكانوا يقولون : ساحر ، وشاعر ، وكاهن ، ومجنون . ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي ، لما ( فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ) [ المدثر : 18 - 24 ] أي : ينقل ويحكى ، فتفرقوا عن قوله ورأيه ، قبحهم الله .

قال الله تعالى : ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) أي : إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك فيتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم ، أي : يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم ، كما جاء في الحديث : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " .

وقال [ الله ] تعالى : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) [ العنكبوت : 13 ] .

وهكذا روى العوفي عن ابن عباس في قوله : ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) إنها كقوله : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) [ العنكبوت : 13 ] .

وقال مجاهد : يحملون أثقالهم : ذنوبهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئا .

قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( قد مكر الذين من قبلهم ) قال : هو نمرود الذي بنى الصرح .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد نحوه .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صرحا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد )

وقال آخرون : بل هو بختنصر . وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا ، كما قال في سورة إبراهيم : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) [ إبراهيم : 46 ] .

وقال آخرون : هذا من باب المثل ؛ لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح ، عليه السلام : ( ومكروا مكرا كبارا ) [ نوح : 22 ] أي : احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : ( بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ) [ الآية ] [ سبأ : 33 ] .

وقوله : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) أي : اجتثه من أصله ، وأبطل عملهم ، وأصلها كما قال تعالى : ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) [ المائدة : 64 ] .

وقوله : ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ) [ الحشر : 2 ] .

وقال هاهنا : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون)

(ثم يوم القيامة يخزيهم ) أي : يظهر فضائحهم ، وما كانت تجنه ضمائرهم ، فيجعله علانية ، كما قال تعالى : ( يوم تبلى السرائر ) [ الطارق : 9 ] أي : تظهر وتشتهر ، كما في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان " .

وهكذا هؤلاء ، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ، ويخزيهم الله على رءوس الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا : ( أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ) تحاربون وتعادون في سبيلهم [ أي ] : أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا ؟ ( هل ينصرونكم أو ينتصرون ) [ الشعراء : 93 ] ( فما له من قوة ولا ناصر ) [ الطارق : 10 ] . فإذا توجهت عليهم الحجة ، وقامت عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة ، وأسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار ( قال الذين أوتوا العلم ) - وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : ( إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) أي : الفضيحة والعذاب اليوم [ محيط ] بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه .

يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم : ( فألقوا السلم ) أي : أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين : ( ما كنا نعمل من سوء ) كما يقولون يوم المعاد : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] ( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ) [ المجادلة : 18 ] .

قال الله مكذبا لهم في قيلهم ذلك : ( بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون)

أي : بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان ، لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله .

وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، ويأتي أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها ، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم ، وخلدت في نار جهنم ، ( لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ) [ فاطر : 36 ] كما قال الله تعالى : ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) [ غافر : 46 ] .

هذا خبر عن السعداء ، بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء ، فإن أولئك قيل لهم : ( ماذا أنزل ربكم ) فقالوا معرضين عن الجواب : لم ينزل شيئا ، إنما هذا أساطير الأولين . وهؤلاء ( قالوا خيرا ) أي : أنزل خيرا ، أي : رحمة وبركة وحسنا لمن اتبعه وآمن به .

ثم أخبروا عما وعد الله [ به ] عباده فيما أنزله على رسله فقالوا : ( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ) كما قال تعالى : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) [ النحل : 97 ] أي : من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة .

ثم أخبر بأن دار الآخرة خير ، أي : من الحياة الدنيا ، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا ، كما قال تعالى : ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير ) [ القصص : 80 ] وقال تعالى : ( وما عند الله خير للأبرار ) [ آل عمران : 198 ] وقال تعالى ( والآخرة خير وأبقى ) [ الأعلى : 17 ] وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وللآخرة خير لك من الأولى ) [ الضحى : 4 ] .

ثم وصفوا الدار الآخرة فقالوا : ( ولنعم دار المتقين )

وقوله : ( جنات عدن ) بدل من [ قوله ] : ( دار المتقين ) أي : لهم في [ الدار ] الآخرة ( جنات عدن ) أي : إقامة يدخلونها ( تجري من تحتها الأنهار ) أي : بين أشجارها وقصورها ، ( لهم فيها ما يشاءون ) كما قال تعالى : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ) [ الزخرف : 71 ] وفي الحديث : " إن السحابة لتمر بالملأ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم ، فلا يشتهي أحد منهم شيئا إلا أمطرته عليهم ، حتى إن منهم لمن يقول : أمطرينا كواعب أترابا ، فيكون ذلك " .

( كذلك يجزي الله المتقين ) أي : كذلك يجزي الله كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله .

ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار ، أنهم طيبون ، أي : مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء ، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة ، كما قال تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم ) [ فصلت : 30 - 32 ] .

وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) [ إبراهيم : 27 ] .

يقول تعالى متهددا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا : هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم بقبض أرواحهم ، قاله قتادة .

( أو يأتي أمر ربك ) أي : يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال .

وقوله : ( كذلك فعل الذين من قبلهم ) أي : هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى ذاقوا بأس الله ، وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال . ( وما ظلمهم الله ) ; لأنه تعالى أعذر إليهم ، وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه ، ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) أي : بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به

فلهذا أصابتهم عقوبة الله على ذلك ، ( وحاق بهم ) أي : أحاط بهم من العذاب الأليم ( ما كانوا به يستهزئون ) أي : يسخرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله ; فلهذا يقال يوم القيامة : ( هذه النار التي كنتم بها تكذبون ) [ الطور : 14 ] .

يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الشرك واعتذارهم محتجين بالقدر ، في قولهم : ( لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ) أي : من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك ، مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ، ما لم ينزل الله به سلطانا .

ومضمون كلامهم : أنه لو كان تعالى كارها لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكنا منه . قال الله رادا عليهم شبهتهم : ( فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) أي : ليس الأمر كما تزعمون أنه لم يعيره عليكم ولم ينكره ، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ، ونهاكم عنه آكد النهي ،

وبعث في كل أمة رسولا أي : في كل قرن من الناس وطائفة رسولا وكلهم يدعو إلى عبادة الله ، وينهى عن عبادة ما سواه : ( أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك ، منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب ، وكلهم كما قال الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] وقال تعالى : ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) [ الزخرف : 45 ] وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : ( لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ) فمشيئته تعالى الشرعية منتفية ; لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله ، وأما مشيئته الكونية - وهي تمكينهم من ذلك قدرا - فلا حجة لهم فيها ؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة ، وهو لا يرضى لعباده الكفر ، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة .

ثم إنه تعالى قد أخبر أنه عير عليهم ، وأنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل ; فلهذا قال : ( فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي : اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف ( دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) [ محمد : 10 ] ( ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير ) [ الملك : 18 ] .

ثم أخبر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم ، إذا كان الله قد أراد إضلالهم ، كما قال تعالى : ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ) [ المائدة : 41 ] وقال نوح لقومه : ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ) [ هود : 34 ] وقال في هذه الآية الكريمة : ( إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ) كما قال تعالى : ( من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ الأعراف : 186 ] وقال تعالى : ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) [ يونس : 96 ، 97 ] .

فقوله : ( فإن الله ) أي : شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ; فلهذا قال : ( لا يهدي من يضل ) أي : من أضله فمن الذي يهديه من بعد الله ؟ أي : لا أحد ( وما لهم من ناصرين ) أي : ينقذونهم من عذابه ووثاقه ، ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) [ الأعراف : 54 ] .

يقول تعالى مخبرا عن المشركين : أنهم حلفوا فأقسموا ( بالله جهد أيمانهم ) أي : اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان على أنه ( لا يبعث الله من يموت ) أي : استبعدوا ذلك ، فكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك ، وحلفوا على نقيضه . فقال تعالى مكذبا لهم وردا عليهم : ( بلى ) أي : بلى سيكون ذلك ، ( وعدا عليه حقا ) أي : لا بد منه ، ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) أي : فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر .

ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد ، فقال : ( ليبين لهم ) أي : للناس ( الذي يختلفون فيه ) أي : من كل شيء ، و ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) [ النجم : 31 ] ( وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ) أي : في أيمانهم وأقسامهم : لا يبعث الله من يموت ; ولهذا يدعون يوم القيامة إلى نار جهنم دعا ، وتقول لهم الزبانية : ( هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون ) [ الطور : 14 - 16 ] .

ثم أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : " كن " فيكون ، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة ، فيكون كما يشاء ، كما قال ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) [ القمر : 50 ] وقال : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) [ لقمان : 28 ]وقال في هذه الآية الكريمة : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] أي : أن يأمر به دفعة واحدة فإذا هو كائن ، كما قال الشاعر :

إذا ما أراد الله أمرا فإنما يقول له : " كن " قولة فيكون

أي : أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به ، فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف ؛ لأنه [ هو ] الواحد القهار العظيم ، الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه .

وقال ابن أبي حاتم : ذكر الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء : أنه سمع أبا هريرة يقول : قال الله تعالى : سبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني ، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني ، فأما تكذيبه إياي فقال : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ) قال : وقلت : ( بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وأما سبه إياي فقال : ( إن الله ثالث ثلاثة ) [ المائدة : 73 ] وقلت : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) [ سورة الإخلاص ] .

هكذا ذكره موقوفا ، وهو في الصحيحين مرفوعا ، بلفظ آخر .

خبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته ، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه .

ويحتمل أن يكون سبب نزول هذه الآية الكريمة في مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة ، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ، ليتمكنوا من عبادة ربهم ، ومن أشرافهم : عثمان بن عفان ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعفر بن أبي طالب ، ابن عم الرسول وأبو سلمة بن عبد الأسد في جماعة قريب من ثمانين ، ما بين رجل وامرأة ، صديق وصديقة ، رضي الله عنهم وأرضاهم . وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال : ( لنبوئنهم في الدنيا حسنة ) قال ابن عباس والشعبي ، وقتادة : المدينة . وقيل : الرزق الطيب ، قاله مجاهد .

ولا منافاة بين القولين ، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا ، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله بما هو خير له منه وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد وحكمهم على رقاب العباد ، فصاروا أمراء حكاما ، وكل منهم للمتقين إماما ، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا ، فقال : ( ولأجر الآخرة أكبر ) أي : مما أعطيناهم في الدنيا ( لو كانوا يعلمون ) أي : لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ; ولهذا قال هشيم ، عن العوام ، عمن حدثه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم قرأ هذه الآية : ( لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) .

ثم وصفهم تعالى فقال : ( الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) أي : صبروا على أقل من آذاهم من قومهم ، متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة .

قال الضحاك ، عن ابن عباس : لما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسولا أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا . فأنزل الله : ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ) [ يونس : 2 ] وقال ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) يعني : أهل الكتب الماضية : أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم ، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا ، [ و ] قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) ليسوا من أهل السماء كما قلتم .

وهكذا روي عن مجاهد ، عن ابن عباس ، أن المراد بأهل الذكر : أهل الكتاب . وقاله مجاهد ، والأعمش .

وقول عبد الرحمن بن زيد - الذكر : القرآن واستشهد بقوله : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ الحجر : 9 ] - صحيح ، [ و ] لكن ليس هو المراد هاهنا ; لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه .

وكذا قول أبي جعفر الباقر : " نحن أهل الذكر " - ومراده أن هذه الأمة أهل الذكر - صحيح ، فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة ، وعلماء أهل بيت الرسول - عليهم السلام والرحمة - من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة ، كعلي ، وابن عباس ، وبني علي : الحسن والحسين ، ومحمد بن الحنفية ، وعلي بن الحسين زين العابدين ، وعلي بن عبد الله بن عباس ، وأبي جعفر الباقر - وهو محمد بن علي بن الحسين - وجعفر ابنه ، وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم ، ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم ، وعرف كل ذي حق حقه ، ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمع إليه قلوب عباده المؤمنين .

والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت أن الرسل الماضين قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا بشرا كما هو بشر ، كما قال تعالى : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ) [ الإسراء : 93 ، 94 ] وقال تعالى : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) [ الفرقان : 20 ] وقال ( وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ] ) [ الأنبياء : 8 ، 9 ] وقال : ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) [ الأحقاف : 9 ] وقال تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) [ الكهف : 110 ] .

ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشرا إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا : هل كان أنبياؤهم بشرا أو ملائكة ؟

ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم ) بالبينات ) أي : بالدلالات والحجج ، ( والزبر ) وهي الكتب . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك وغيرهم .

والزبر : جمع زبور ، تقول العرب : زبرت الكتاب إذا كتبته ، وقال تعالى : ( وكل شيء فعلوه في الزبر ) [ القمر : 52 ] وقال : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) [ الأنبياء : 105 ] .

ثم قال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر ) يعني : القرآن ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) من ربهم أي : لعلمك بمعنى ما أنزل عليك ، وحرصك عليه ، واتباعك له ، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم ، فتفصل لهم ما أجمل ، وتبين لهم ما أشكل : ( ولعلهم يتفكرون ) أي : ينظرون لأنفسهم فيهتدون ، فيفوزون بالنجاة في الدارين .

يخبر تعالى عن حلمه [ وإمهاله ] وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها ، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها ، مع قدرته على ( أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ) أي : من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم ، كما قال تعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ) [ الملك : 16 ، 17 ]

وقوله ( أو يأخذهم في تقلبهم ) أي : في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها ، من أسفار ونحوها من الأشغال الملهية .

قال قتادة والسدي : ( تقلبهم ) أي : أسفارهم .

وقال مجاهد ، والضحاك : ( في تقلبهم ) في الليل والنهار ، كما قال تعالى : ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ) [ الأعراف : 97 ، 98 ] . وقوله ( فما هم بمعجزين ) أي : لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه .

وقوله : ( أو يأخذهم على تخوف ) أي : أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم ، فإنه يكون أبلغ وأشد حالة الأخذ ; فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد ; ولهذا قال العوفي ، عن ابن عباس : ( أو يأخذهم على تخوف ) يقول : إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك . وكذا روي عن مجاهد ، والضحاك ، وقتادة وغيرهم .

ثم قال تعالى : ( فإن ربكم لرءوف رحيم ) أي : حيث لم يعاجلكم بالعقوبة ، كما ثبت في الصحيحين " [ لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم " . وفي الصحيحين ] إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) [ هود : 102 ] وقال تعالى : ( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ) [ الحج : 48 ] .

يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء ، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها : جمادها وحيواناتها ، ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة ، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال ، أي : بكرة وعشيا ، فإنه ساجد بظله لله تعالى .

قال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله - عز وجل - . وكذا قال قتادة ، والضحاك ، وغيرهم .

وقوله : ( وهم داخرون ) أي : صاغرون .

وقال مجاهد أيضا : سجود كل شيء فيه . وذكر الجبال قال : سجودها فيها .

وقال أبو غالب الشيباني : أمواج البحر صلاته .

ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم .

ثم قال : ( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة ) كما قال : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [ الرعد : 15 ] وقوله : ( والملائكة وهم لا يستكبرون ) أي : تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته ،

( يخافون ربهم من فوقهم ) أي : يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله ، ( ويفعلون ما يؤمرون ) أي : مثابرين على طاعته تعالى ، وامتثال أوامره ، وترك زواجره .

يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو وأنه لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له فإنه مالك كل شئ وخالقه وربه.

( وله الدين واصبا ) قال ابن عباس ، ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران ، والسدي ، وقتادة ، وغير واحد : أي دائما .

وعن ابن عباس أيضا : واجبا . وقال مجاهد : خالصا . أي : له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض ، كقوله : ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) [ آل عمران : 83 ] . هذا على قول ابن عباس وعكرمة ، فيكون من باب الخبر ، وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب ، أي : ارهبوا أن تشركوا به شيئا ، وأخلصوا له الطلب ، كما في قوله تعالى : ( ألا لله الدين الخالص ) [ الزمر : 3 ] .

ثم أخبر أنه مالك النفع والضر ، وأن ما بالعبد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليه وإحسانه إليه .

( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) أي : لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو ، فإنكم عند الضرورات تلجئون إليه ، وتسألونه وتلحون في الرغبة مستغيثين به كما قال تعالى : ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ) [ الإسراء : 67 ]

وقال هاهنا : ( ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم )

قيل : " اللام " هاهنا لام العاقبة . وقيل : لام التعليل ، بمعنى : قيضنا لهم ذلك ليكفروا ، أي : يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم ، وأنه المسدي إليهم النعم ، الكاشف عنهم النقم .

ثم توعدهم قائلا ) فتمتعوا ) أي : اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا ( فسوف تعلمون ) أي : عاقبة ذلك .

ليكفروا بما آتيناهم )

قيل : " اللام " هاهنا لام العاقبة . وقيل : لام التعليل ، بمعنى : قيضنا لهم ذلك ليكفروا ، أي : يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم ، وأنه المسدي إليهم النعم ، الكاشف عنهم النقم .

ثم توعدهم قائلا ) فتمتعوا ) أي : اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا ( فسوف تعلمون ) أي : عاقبة ذلك .

يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد ، وجعلوا لها نصيبا مما رزقهم الله فقالوا : ( هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله [ بغير علم ] وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) [ الأنعام : 136 ] أي : جعلوا لآلهتهم نصيبا مع الله وفضلوهم أيضا على جانبه ، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه ، وائتفكوه ، وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم ، فقال : ( تالله لتسألن عما كنتم تفترون )

ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، وجعلوها بنات الله ، وعبدوها معه ، فأخطؤوا خطأ كبيرا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث ، فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ، ولا ولد له ، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد - وهو البنات - وهم لا يرضونها لأنفسهم ، كما قال : ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ) [ النجم : 21 ، 22 ] وقال هاهنا : ( ويجعلون لله البنات سبحانه ) أي : عن قولهم وإفكهم ( ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون ) [ الصافات : 151 - 154 ] .

وقوله : ( ولهم ما يشتهون ) أي : يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا

فإنه ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا ) أي : كئيبا من الهم ، ( وهو كظيم ) ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن

( يتوارى من القوم ) أي : يكره أن يراه الناس ( من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ) أي : إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ، ولا يعتني بها ، ويفضل أولاده الذكور عليها ، ( أم يدسه في التراب ) أي : يئدها : وهو : أن يدفنها فيه حية ، كما كانوا يصنعون في الجاهلية ، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله ؟ ! ( ألا ساء ما يحكمون ) أي : بئس ما قالوا ، وبئس ما قسموا ، وبئس ما نسبوا إليه ، كما قال تعالى : ( وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ) [ الزخرف : 17 ]

وقال هاهنا : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ) أي : النقص إنما ينسب إليهم ، ( ولله المثل الأعلى ) أي : الكمال المطلق من كل وجه ، وهو منسوب إليه ، ( وهو العزيز الحكيم )

يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم ، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، أي : لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بني آدم ، ولكن الرب - جل جلاله - يحلم ويستر ، وينظر ( إلى أجل مسمى ) أي : لا يعاجلهم بالعقوبة ; إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا .

قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص أنه قال : كاد الجعل أن يعذب بذنب بني آدم ، وقرأ : ( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ) .

وكذا روى الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة قال : قال عبد الله : كاد الجعل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم .

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي ، حدثنا محمد بن جابر الحنفي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة قال : سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، قال : فالتفت إليه فقال : بلى والله ، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها [ هزالا ] بظلم الظالم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، أنبأنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله بن مسرح ، حدثنا سليمان بن عطاء ، عن مسلمة بن عبد الله ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي ، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : ذكرنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة ، يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده ، فيلحقه دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر " .

وقوله : ( ويجعلون لله ما يكرهون ) أي : من البنات ومن الشركاء الذين هم [ من ] عبيده ، وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله .

وقوله : ( وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ) إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا ، وإن كان ثم معاد ففيه أيضا لهم الحسنى ، وإخبار عن قيل من قال منهم ، كقوله : ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ) [ هود : 9 ، 10 ] وكقوله : ( ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ ) [ فصلت : 50 ] وقوله : ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ] ) [ مريم : 77 ، 78 ] وقال إخبارا عن أحد الرجلين : أنه ( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) [ الكهف : 35 ، 36 ] - فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل ، كما ذكر ابن إسحاق : أنه وجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حكم ومواعظ ، فمن ذلك : تعملون السيئات ويجزون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب .

وقال مجاهد ، وقتادة : ( وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ) أي الغلمان .

وقال ابن جرير : ( أن لهم الحسنى ) أي : يوم القيامة ، كما قدمنا بيانه ، وهو الصواب ، ولله الحمد .

ولهذا قال الله تعالى رادا عليهم في تمنيهم [ ذلك ] ( لا جرم ) أي : حقا لا بد منه ( أن لهم النار ) أي : يوم القيامة ، ( وأنهم مفرطون )

قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون .

وهذا كقوله تعالى : ( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ) [ الأعراف : 51 ] .

وعن قتادة أيضا : ( مفرطون ) أي : معجلون إلى النار ، من الفرط وهو السابق إلى الورد ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار ، وينسون فيها ، أي : يخلدون .

ذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلا فكذبت الرسل ، فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة ، فلا يهيدنك تكذيب قومك لك ، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل ، فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه ، ( فهو وليهم اليوم ) أي : هم تحت العقوبة والنكال ، والشيطان وليهم ، ولا يملك لهم خلاصا ، ولا صريخ لهم ولهم عذاب أليم .

ثم قال تعالى لرسوله : أنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه ، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه ) وهدى ) أي : للقلوب ، ( ورحمة ) أي : لمن تمسك به ، ( لقوم يؤمنون )

وكما جعل تعالى القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها ، كذلك يحيي [ الله ] الأرض بعد موتها بما ينزله عليها من السماء من ماء ، ( إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ) أي : يفهمون الكلام ومعناه .

يقول تعالى : ( وإن لكم ) أيها الناس ( في الأنعام ) وهي : الإبل والبقر والغنم ، ( لعبرة ) أي : لآية ودلالة على قدرة خالقها وحكمته ولطفه ورحمته ، ( نسقيكم مما في بطونه ) وأفرد هاهنا [ الضمير ] عودا على معنى النعم ، أو الضمير عائد على الحيوان ; فإن الأنعام حيوانات ، أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان .

وفي الآية الأخرى : ( مما في بطونها ) [ المؤمنون : 21 ] ويجوز هذا وهذا ، كما في قوله تعالى : ( كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره ) [ المدثر : 54 ، 55 ] وفي قوله تعالى : ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان ) [ النمل : 35 ، 36 ] أي : المال .

وقوله : ( من بين فرث ودم لبنا خالصا ) أي : يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان ، فيسري كل إلى موطنه ، إذا نضج الغذاء في معدته تصرف منه دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ، ولا يتغير به .

وقوله : ( لبنا خالصا سائغا للشاربين ) أي : لا يغص به أحد .

ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا ، ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة ، من ثمرات النخيل والأعناب ، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه ؛ ولهذا امتن به عليهم فقال : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ) دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ، ودل على التسوية بين السكر المتخذ من العنب ، والمتخذ من النخل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ، وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل ، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك ، وليس هذا موضع بسط ذلك ، كما قال ابن عباس في قوله : ( سكرا ورزقا حسنا ) قال : السكر : ما حرم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما . وفي رواية : السكر حرامه ، والرزق الحسن حلاله . يعني : ما يبس منهما من تمر وزبيب ، وما عمل منهما من طلاء - وهو الدبس - وخل ونبيذ ، حلال يشرب قبل أن يشتد ، كما وردت السنة بذلك .

( إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) ناسب ذكر العقل هاهنا ، فإنه أشرف ما في الإنسان ; ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة ؛ صيانة لعقولها . قال الله تعالى : ( وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ) [ يس : 34 - 36 ] .

لمراد بالوحي هاهنا : الإلهام والهداية والإرشاد إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها ، ومن الشجر ، ومما يعرشون . ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها ، بحيث لا يكون بينها خلل .

ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة ، أي : سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها ، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة ، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل ، فتبني الشمع من أجنحتها ، وتقيء العسل من فيها وتبيض الفراخ من دبرها ، ثم تصبح إلى مراعيها .

وقال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ( فاسلكي سبل ربك ذللا ) أي : مطيعة . فجعلاه حالا من السالكة . قال ابن زيد : وهو كقول الله تعالى : ( وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ) [ يس : 72 ] قال : ألا ترى أنهم ينقلون النحل من بيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم .

والقول الأول أظهر ، وهو أنه حال من الطريق ، أي : فاسلكيها مذللة لك ، نص عليه مجاهد . وقال ابن جرير : كلا القولين صحيح .

وقد قال أبو يعلى الموصلي : حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا سكين بن عبد العزيز ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عمر الذباب أربعون يوما ، والذباب كله في النار إلا النحل " .

وقوله تعالى ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه ) أي : ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة ، على اختلاف مراعيها ومأكلها منها .

وقوله : ( فيه شفاء للناس ) أي : في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم . قال بعض من تكلم على الطب النبوي : لو قال فيه : " الشفاء للناس " لكان دواء لكل داء ، ولكن قال ( فيه شفاء للناس ) أي : يصلح لكل أحد من أدواء باردة ، فإنه حار ، والشيء يداوى بضده .

وقال مجاهد بن جبر في قوله : ( فيه شفاء للناس ) يعني : القرآن .

وهذا قول صحيح في نفسه ، ولكن ليس هو الظاهر هاهنا من سياق الآية ; فإن الآية إنما ذكر فيها العسل ، ولم يتابع مجاهد على قوله هاهنا ، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) الآية [ الإسراء : 82 ] . وقوله تعالى : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ يونس : 57 ] .

والدليل على أن المراد بقوله تعالى : ( فيه شفاء للناس ) هو العسل - الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة ، عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخي استطلق بطنه . فقال : " اسقه عسلا " . فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا ، قال : " اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ، ما زاده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " صدق الله ، وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه فبرئ .

قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات ، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت ، فأسرعت في الاندفاع ، فزاد إسهاله ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه ، وصلح مزاجه ، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته - عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام - .

وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الحلواء والعسل . هذا لفظ البخاري .

وفي صحيح البخاري : من حديث سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنهى أمتي عن الكي " .

وقال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، سمعت جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن كان في شيء من أدويتكم ، أو يكون في شيء من أدويتكم خير : ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي " .

ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة ، عن جابر به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله ، أنبأنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا عبد الله بن الوليد ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاث إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية تصيب ألما ، وأنا أكره الكي ولا أحبه " .

ورواه الطبراني عن هارون بن ملول المصري ، عن أبي عبد الرحمن المقرئ ، [ عن حيوة بن شريح ] عن عبد الله بن الوليد به . ولفظه : " إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم " . . . وذكره وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه .

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه : حدثنا علي بن سلمة - هو اللبقي - حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن " .

وهذا إسناد جيد ، تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعا . وقد رواه ابن جرير ، عن سفيان بن وكيع ، عن أبيه ، عن سفيان - هو الثوري - به موقوفا : ولهو أشبه .

وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحفة ، وليغسلها بماء السماء ، وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها ، فليشتر به عسلا فليشربه بذلك ، فإنه شفاء . أي : من وجوه ، قال الله : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ) [ الإسراء : 82 ] وقال : ( ونزلنا من السماء ماء مباركا ) [ ق : 9 ] وقال : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) [ النساء : 4 ] وقال في العسل : ( فيه شفاء للناس )

وقال ابن ماجه أيضا : حدثنا محمود بن خداش ، حدثنا سعيد بن زكريا القرشي ، حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي ، عن عبد الحميد بن سالم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء " .

الزبير بن سعيد متروك .

وقال ابن ماجه أيضا : حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سرح الفريابي ، حدثنا عمرو بن بكر السكسكي ، حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة . سمعت أبا أبي بن أم حرام - وكان قد صلى القبلتين - يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " عليكم بالسنى والسنوت ، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام " . قيل : يا رسول الله ، وما السام ؟ قال : " الموت " .

قال عمرو : قال ابن أبي عبلة : " السنوت " : الشبت . وقال آخرون : بل هو العسل الذي [ يكون ] في زقاق السمن ، وهو قول الشاعر :

هم السمن بالسنوت لا ألس فيهم وهم يمنعون الجار أن يقردا

كذا رواه ابن ماجه . وقوله : " لا ألس فيهم " أي : لا خلط . وقوله : " يمنعون الجار أن يقردا " [ أي يضطهد ويظلم ] .

وقوله : ( إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) أي : إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامة والاجتناء من سائر الثمار ، ثم جمعها للشمع والعسل ، وهو من أطيب الأشياء ، ( لآية لقوم يتفكرون ) في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها ، فيستدلون بذلك على أنه [ الفاعل ] القادر ، الحكيم العليم ، الكريم الرحيم .

يخبر تعالى عن تصرفه في عباده ، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ، ثم بعد ذلك يتوفاهم ، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم - وهو الضعف في الخلقة - كما قال الله تعالى : ( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) [ الروم : 54 ] .

وقد روي عن علي - رضي الله عنه - في أرذل العمر [ قال ] خمس وسبعون سنة . وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم ; ولهذا قال : ( لكي لا يعلم بعد علم شيئا ) أي : بعدما كان عالما أصبح لا يدري شيئا من الفند والخرف ; ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية :

حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور ، عن شعيب ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو : " أعوذ بك من البخل والكسل ، والهرم وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " .

ورواه مسلم من حديث هارون الأعور به .

وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين عاما - لا أبا لك - يسأم رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم

يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء ، وهم يعترفون أنها عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبياتهم في حجهم : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " . فقال تعالى منكرا عليهم : إنكم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيده له في الإلهية والتعظيم ، كما قال في الآية الأخرى : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) الآية [ الروم : 28 ] .

قال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : يقول : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ، فذلك قوله : ( أفبنعمة الله يجحدون )

وقال في الرواية الأخرى عنه : فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم .

وقال مجاهد في هذه الآية : هذا مثل للآلهة الباطلة .

وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله ، فهل منكم من أحد شارك مملوكه في زوجته وفي فراشه ، فتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ فإن لم ترض لنفسك هذا ، فالله أحق أن ينزه منك .

وقوله : ( أفبنعمة الله يجحدون ) أي : أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، فجحدوا نعمته وأشركوا معه غيره .

وعن الحسن البصري قال : كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري : واقنع برزقك من الدنيا ، فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق ، بل يبتلي به كلا ، فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله . رواه ابن أبي حاتم .

يذكر تعالى نعمه على عبيده ، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم [ وزيهم ] ولو جعل الأزواج من نوع آخر لما حصل ائتلاف ومودة ورحمة ، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا ، وجعل الإناث أزواجا للذكور .

ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة ، وهم أولاد البنين . قاله ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، وابن زيد .

قال شعبة ، عن أبى بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( بنين وحفدة ) هم الولد وولد الولد .

وقال سنيد : حدثنا حجاج عن أبي بكر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بنوك حين يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك . قال جميل :

حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال

وقال مجاهد : ( بنين وحفدة ) ابنه وخادمه . وقال في رواية : الحفدة : الأنصار والأعوان والخدام .

وقال طاوس : الحفدة : الخدم وكذا قال قتادة ، وأبو مالك ، والحسن البصري .

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة أنه قال : الحفدة : من خدمك من ولدك وولد ولدك .

قال الضحاك : إنما كانت العرب يخدمها بنوها .

وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : ( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) يقول : بنو امرأة الرجل ليسوا منه . ويقال : الحفدة : الرجل يعمل بين يدي الرجل ، يقال : فلان يحفد لنا قال : ويزعم رجال أن الحفدة أختان الرجل .

وهذا [ القول ] الأخير الذي ذكره ابن عباس قاله ابن مسعود ، ومسروق ، وأبو الضحى ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والقرظي . ورواه عكرمة ، عن ابن عباس .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هم الأصهار .

قال ابن جرير : وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى : " الحفد " وهو الخدمة ، الذي منه قوله في القنوت : " وإليك نسعى ونحفد " ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والأصهار والخدم فالنعمة حاصلة بهذا كله ; ولهذا قال : ( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة )

قلت : فمن جعل ) وحفدة ) متعلقا بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد ، وأولاد الأولاد ، والأصهار ; لأنهم أزواج البنات ، وأولاد الزوجة ، وكما قال الشعبي والضحاك فإنهم غالبا يكونون تحت كنف الرجل وفي حجره وفي خدمته . وقد يكون هذا هو المراد من قوله [ عليه الصلاة ] والسلام في حديث بصرة بن أكثم : " والولد عبد لك " رواه أبو داود .

وأما من جعل الحفدة هم الخدم فعنده أنه معطوف على قوله : ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) أي : وجعل لكم الأزواج والأولاد .

( ورزقكم من الطيبات ) من المطاعم والمشارب .

ثم قال تعالى منكرا على من أشرك في عبادة المنعم غيره : ( أفبالباطل يؤمنون ) وهم : الأصنام والأنداد ، ( وبنعمة الله هم يكفرون ) أي : يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره .

وفي الحديث الصحيح : " إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه " ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ " .

يقول تعالى إخبارا عن المشركين الذين عبدوا معه غيره ، مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له ، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ( ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ) أي : لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر ، ولا يملكون ذلك ، أي : ليس لهم ذلك ولا يقدرون عليه لو أرادوه

ولهذا قال تعالى ( فلا تضربوا لله الأمثال ) أي : لا تجعلوا له أندادا وأشباها وأمثالا ( إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ) أي : أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا الله وأنتم بجهلكم تشركون به غيره .

قال العوفي ، عن ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن : وكذا قال قتادة ، واختاره ابن جرير .

والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر ، والمرزوق الرزق الحسن فهو ينفق منه سرا وجهرا هو المؤمن .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى ، فهل يستوي هذا وهذا ؟

ولما كان الفرق ما بينهما بينا واضحا ظاهرا لا يجهله إلا كل غبي ، قال [ الله ] تعالى : ( الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) [ ثم قال الله تعالى ]

قال مجاهد : وهذا أيضا المراد به الوثن والحق تعالى ، يعني : أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ، ولا يقدر على شيء بالكلية ، فلا مقال ، ولا فعال ، وهو مع هذا ) كل ) أي : عيال وكلفة على مولاه ، ( أينما يوجهه ) أي : يبعثه ( لا يأت بخير ) ولا ينجح مسعاه ) هل يستوي ) من هذه صفاته ، ( ومن يأمر بالعدل ) أي : بالقسط ، فقاله حق وفعاله مستقيمة ( وهو على صراط مستقيم ) وبهذا قال السدي ، وقتادة وعطاء الخراساني . واختار هذا القول ابن جرير .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : هو مثل للكافر والمؤمن أيضا ، كما تقدم .

وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، حدثنا حماد ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إبراهيم ، عن عكرمة ، عن يعلى بن أمية ، عن ابن عباس في قوله : ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ) نزلت في رجل من قريش وعبده . وفي قوله : ( [ وضرب الله ] مثلا رجلين أحدهما أبكم [ لا يقدر على شيء ] ) إلى قوله : ( وهو على صراط مستقيم ) قال : هو عثمان بن عفان . قال : والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير قال هو : مولى لعثمان بن عفان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما .

يخبر تعالى عن كماله وقدرته على الأشياء في علمه غيب السماوات والأرض ، واختصاصه بذلك ، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه [ الله ] تعالى على ما يشاء - وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع ، وأنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ، كما قال : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) [ القمر : 50 ] أي : فيكون ما يريد كطرف العين . وهكذا قال هاهنا : ( وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير ) كما قال : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) [ لقمان : 28 ] .

م ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، ثم بعد هذا يرزقهم تعالى السمع الذي به يدركون الأصوات ، والأبصار اللاتي بها يحسون المرئيات ، والأفئدة - وهي العقول - التي مركزها القلب على الصحيح ، وقيل : الدماغ والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها . وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده .

وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ؛ ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى ، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه ، كما جاء في صحيح البخاري ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يقول تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن دعاني لأجيبنه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه " .

فمعنى الحديث : أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله - عز وجل - فلا يسمع إلا الله ، ولا يبصر إلا الله ، أي : ما شرعه الله له ، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله - عز وجل - مستعينا بالله في ذلك كله ; ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح ، بعد قوله : " ورجله التي يمشي بها " : " فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي " ; ولهذا قال تعالى : ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) كما قال في الآية الأخرى : ( قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ) [ الملك : 23 ، 24 ] .

ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض ، كيف جعله يطير بجناحيه بين السماء والأرض ، في جو السماء ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى ، الذي جعل فيها قوى تفعل ذلك ، وسخر الهواء يحملها ويسر الطير لذلك ، كما قال تعالى في سورة الملك : ( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير ) [ الملك : 19 ] . وقال هاهنا : ( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )

يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده ، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم ، يأوون إليها ، ويستترون بها ، وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع ، وجعل لهم أيضا ( من جلود الأنعام بيوتا ) أي : من الأدم ، يستخفون حملها في أسفارهم ، ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ولهذا قال : ( تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها ) أي : الغنم ، ( وأوبارها ) أي : الإبل ، ( وأشعارها ) أي : المعز - والضمير عائد على الأنعام - ( أثاثا ) أي : تتخذون منه أثاثا وهو المال . وقيل : المتاع . وقيل : الثياب والصحيح أعم من هذا كله ، فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك ، ويتخذ مالا وتجارة .

وقال ابن عباس : الأثاث : المتاع . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وعطية العوفي ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، وقتادة .

وقوله : ( إلى حين ) أي : إلى أجل مسمى ووقت معلوم .

وقوله : ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا ) قال قتادة : يعني : الشجر .

( وجعل لكم من الجبال أكنانا ) أي : حصونا ومعاقل ، كما ( جعل لكم سرابيل تقيكم الحر ) وهي الثياب من القطن والكتان والصوف ، ( وسرابيل تقيكم بأسكم ) كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك ، ( كذلك يتم نعمته عليكم ) أي : هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم ، وما تحتاجون إليه ؛ ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته ، (لعلكم تسلمون )

هكذا فسره الجمهور ، وقرءوه بكسر اللام من " تسلمون " أي : من الإسلام .

وقال قتادة في قوله : ( كذلك يتم نعمته عليكم [ لعلكم تسلمون ] ) هذه السورة تسمى : سورة النعم .

وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام ، عن حنظلة السدوسي ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها " تسلمون " بفتح اللام ، يعني من الجراح . رواه أبو عبيد القاسم بن سلام ، عن عباد ، وأخرجه ابن جرير من الوجهين ، ورد هذه القراءة .

وقال عطاء الخراساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا ) وما جعل [ لكم ] من السهل أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال ؟ ألا ترى إلى قوله : ( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ) وما جعل لكم من غير ذلك أعظم منه وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر ، ألا ترى إلى قوله : ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) [ النور : 43 ] لعجبهم من ذلك ، وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : ( سرابيل تقيكم الحر ) وما بقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر .

وقوله "فإن تولوا" أي بعد هذا البيان وهذا الامتنان فلا عليك منهم "فإنما عليك البلاغ المبين" وقد أديته إليهم.

( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ) أي : يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك ، وهو المتفضل به عليهم ، ومع هذا ينكرون ذلك ، ويعبدون معه غيره ، ويسندون النصر والرزق إلى غيره ، ( وأكثرهم الكافرون ) - كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مجاهد أن أعرابيا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله ، فقرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ) قال الأعرابي : نعم . قال : ( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ) قال الأعرابي : نعم . ثم قرأ عليه كل ذلك يقول الأعرابي : نعم ، حتى بلغ : ( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) فولى الأعرابي ، فأنزل الله : ( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ) .

يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة وأنه يبعث من كل أمة شهيدا وهو نبيها يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى "ثم لا يؤذن للذين كفروا" أي في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه كقوله " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون" فلهذا قال "ولا هم يستعتبون.

( وإذا رأى الذين ظلموا ) أي : أشركوا ( العذاب فلا يخفف عنهم ) أي : لا يفتر عنهم ساعة واحدة ، ( ولا هم ينظرون ) أي : [ و ] لا يؤخر عنهم ، بل يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب ، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فيشرف عنق منها على الخلائق ، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، فتقول : إني وكلت بكل جبار عنيد ، الذي جعل مع الله إلها آخر ، وبكذا وكذا وتذكر أصنافا من الناس ، كما جاء في الحديث . ثم تنطوي عليهم وتتلقطهم من الموقف كما يتلقط الطائر الحب قال الله تعالى : ( إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ) [ الفرقان : 12 - 14 ] وقال تعالى : ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ) [ الكهف : 53 ] . وقال تعالى : ( لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ) [ الأنبياء : 39 ، 40 ] .

ثم أخبر تعالى عن تبرئ آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها ، فقال : ( وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم ) أي : الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ( قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ) أي : قالت لهم الآلهة : كذبتم ، ما نحن أمرناكم بعبادتنا . كما قال تعالى : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) [ الأحقاف : 5 ، 6 ] وقال تعالى : ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ) [ مريم : 81 ، 82 ] . وقال الخليل عليه الصلاة والسلام : ( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) [ العنكبوت : 25 ] وقال تعالى : ( ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ) [ الكهف : 52 ] والآيات في هذا كثيرة .

وقوله : ( وألقوا إلى الله يومئذ السلم ) - قال قتادة ، وعكرمة : ذلوا واستسلموا يومئذ ، أي : استسلموا لله جميعهم ، فلا أحد إلا سامع مطيع ، كما قال : ( أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ) [ مريم : 38 ] أي : ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ ! وقال تعالى : ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ) [ السجدة : 12 ] وقال : ( وعنت الوجوه للحي القيوم ) [ طه : 111 ] أي : خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت .

( وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ) أي : ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجيز .

ثم قال تعالى : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ) أي : عذابا على كفرهم ، وعذابا على صدهم الناس عن اتباع الحق ، كما قال تعالى : ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) [ الأنعام : 26 ] أي : ينهون الناس ، عن اتباعه ، ويبتعدون هم منه أيضا ( وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ) [ الأنعام : 26 ]

وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم ، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم ، كما قال [ الله ] تعالى : ( قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) [ الأعراف : 38 ] .

وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله في قول الله : ( زدناهم عذابا فوق العذاب ) قال : زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال .

وحدثنا سريج بن يونس ، حدثنا إبراهيم بن سليمان ، حدثنا الأعمش ، عن الحسن ، عن ابن عباس أنه قال : ( زدناهم عذابا فوق العذاب ) قال : هي خمسة أنهار فوق العرش يعذبون ببعضها بالليل وببعضها بالنهار .

يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - : ( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ) يعني أمته .

أي : اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع . وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدر سورة " النساء " فلما وصل إلى قوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [ النساء : 41 ] . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حسبك " . قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : فالتفت فإذا عيناه تذرفان .

وقوله : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) قال ابن مسعود : [ و ] قد بين لنا في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء .

وقال مجاهد : كل حلال وحرام .

وقول ابن مسعود أعم وأشمل ; فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق ، وعلم ما سيأتي ، وحكم كل حلال وحرام ، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ، ومعاشهم ومعادهم .

( وهدى ) أي : للقلوب ، ( ورحمة وبشرى للمسلمين )

وقال الأوزاعي : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) أي : بالسنة .

ووجه اقتران قوله : ( ونزلنا عليك الكتاب ) مع قوله : ( وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ) أن المراد - والله أعلم - : إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب - الذي أنزله عليك - سائلك عن ذلك يوم القيامة ، ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) [ الأعراف : 6 ] ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) [ الحجر : 92 ، 93 ] ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ) [ المائدة : 109 ] وقال تعالى : ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) [ القصص : 85 ] أي : إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ، ومعيدك يوم القيامة ، وسائلك عن أداء ما فرض عليك . هذا أحد الأقوال ، وهو متجه حسن .

يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل ، وهو القسط والموازنة ، ويندب إلى الإحسان ، كما قال تعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) [ النحل : 126 ] وقال ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) [ الشورى : 40 ] وقال ( والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ) [ المائدة : 45 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا من شرعية العدل والندب إلى الفضل .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( إن الله يأمر بالعدل ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله .

وقال سفيان بن عيينة : العدل في هذا الموضع : هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا . والإحسان : أن تكون سريرته أحسن من علانيته . والفحشاء والمنكر : أن تكون علانيته أحسن من سريرته .

وقوله : ( وإيتاء ذي القربى ) أي : يأمر بصلة الأرحام ، كما قال : ( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ) [ الإسراء : 26 ] .

وقوله : ( وينهى عن الفحشاء والمنكر ) فالفواحش : المحرمات . والمنكرات : ما ظهر منها من فاعلها ; ولهذا قيل في الموضع الآخر : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) [ الأعراف : 33 ] . وأما البغي فهو : العدوان على الناس . وقد جاء في الحديث : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا - مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة - من البغي وقطيعة الرحم " .

وقوله ) يعظكم ) أي : يأمركم بما يأمركم به من الخير ، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر ، ( لعلكم تذكرون )

قال الشعبي ، عن شتير بن شكل : سمعت ابن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الآية . رواه ابن جرير .

وقال سعيد عن قتادة : قوله : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الآية ، ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه . وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها .

قلت : ولهذا جاء في الحديث : " إن الله يحب معالي الأخلاق ، ويكره سفسافها " .

وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه " كتاب معرفة الصحابة " : حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي ، حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم ، حدثنا الحسن بن داود المنكدري ، حدثنا عمر بن علي المقدمي ، عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال : بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا ، لم تكن لتخف إليه ، قال : فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه ، فانتدب رجلان فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا نحن رسل أكثم بن صيفي ، وهو يسألك : من أنت ؟ وما أنت ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله ، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله " . قال : ثم تلا عليهم هذه الآية : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) قالوا : اردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه . فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه ، فسألنا عن نسبه ، فوجدناه زاكي النسب وسطا في مضر ، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها ، فلما سمعهن أكثم قال : إني قد أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رءوسا ، ولا تكونوا فيه أذنابا .

وقد ورد في نزول هذه الآية الكريمة حديث حسن رواه الإمام أحمد :

حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثني عبد الله بن عباس قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء بيته جالس ، إذ مر به عثمان بن مظعون ، فكشر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا تجلس ؟ " فقال : بلى . قال : فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبله ، فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره في السماء ، فنظر ساعة إلى [ السماء ] فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمنته في الأرض ، فتحرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له ، وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له ، شخص بصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء كما شخص أول مرة ، فأتبعه بصره حتى توارى في السماء . فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال : يا محمد ، فيما كنت أجالسك ؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة ، قال : " وما رأيتني فعلت ؟ " قال : رأيتك شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك ، فتحرفت إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك . قال : " وفطنت لذلك ؟ " فقال عثمان : نعم . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس " . قال : رسول الله ؟ قال : " نعم " . قال : فما قال لك ؟ قال : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي ، وأحببت محمدا - صلى الله عليه وسلم - .

إسناد جيد متصل حسن ، قد بين فيه السماع المتصل . ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصرا .

حديث آخر : عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك ، قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا هريم ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ، إذ شخص بصره فقال : " أتاني جبريل ، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ] ) .

وهذا إسناد لا بأس به ، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين ، والله أعلم .

وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة ; ولهذا قال : ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها )

ولا تعارض بين هذا وبين قوله : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا [ وتصلحوا بين الناس ] ) [ البقرة : 224 ] وبين قوله تعالى : ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم ) [ المائدة : 89 ] أي : لا تتركوها بلا تكفير ، وبين قوله - عليه السلام - فيما ثبت عنه في الصحيحين : إني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " . وفي رواية : " وكفرت عن يميني " لا تعارض بين هذا كله ، ولا بين الآية المذكورة هاهنا وهي قوله : ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها [ وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ] ) ; لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع ; ولهذا قال مجاهد في قوله : ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) يعني : الحلف ، أي : حلف الجاهلية ; ويؤيده ما رواه الإمام أحمد :

حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - حدثنا ابن نمير وأبو أسامة ، عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " .

وكذا رواه مسلم ، عن ابن أبي شيبة به .

ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه .

وأما ما ورد في الصحيحين ، عن عاصم الأحول ، عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال : حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا - فمعناه : أنه آخى بينهم ، فكانوا يتوارثون به ، حتى نسخ الله ذلك ، والله أعلم .

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن مزيدة في قوله : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) قال : نزلت في بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من أسلم بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام ، فقال : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام ، ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) البيعة ، لا يحملنكم قلة محمد [ وأصحابه ] وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي تبايعتم على الإسلام .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا صخر بن جويرية ، عن نافع قال : لما خلع الناس يزيد بن معاوية ، جمع ابن عمر بنيه وأهله ، ثم تشهد ، ثم قال : أما بعد ، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة ، فيقال هذه غدرة فلان وإن من أعظم الغدر - إلا أن يكون الإشراك بالله - أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله ، ثم ينكث بيعته ، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر فيكون صيلم بيني وبينه " . المرفوع منه في الصحيحين .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حجاج ، عن عبد الرحمن بن عابس ، عن أبيه ، عن حذيفة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من شرط لأخيه شرطا ، لا يريد أن يفي له به ، فهو كالمدلي جاره إلى غير منعة " .

وقوله : ( إن الله يعلم ما تفعلون ) تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها .

وقوله : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ) قال عبد الله بن كثير ، والسدي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه .

وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده .

وهذا القول أرجح وأظهر ، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا .

وقوله : ( أنكاثا ) يحتمل أن يكون اسم مصدر ، نقضت غزلها أنكاثا ، أي : أنقاضا . ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان ، أي : لا تكونوا أنكاثا ، جمع نكث من ناكث ; ولهذا قال بعده : ( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ) أي : خديعة ومكرا ، ( أن تكون أمة هي أربى من أمة ) أي : يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم . فنهى الله عن ذلك ؛ لينبه بالأدنى على الأعلى إذا كان قد نهى عن الغدر - والحالة هذه - فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى .

وقد قدمنا - ولله الحمد - في سورة " الأنفال " قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمد ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل ، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم ، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عبسة : الله أكبر يا معاوية وفاء لا غدرا ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقدة حتى ينقضي أمدها " . فرجع معاوية بالجيش - رضي الله عنه - وأرضاه .

قال ابن عباس : ( أن تكون أمة هي أربى من أمة ) أي : أكثر .

وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك . وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد نحوه .

وقوله : ( إنما يبلوكم الله به ) قال سعيد بن جبير : يعني بالكثرة ، رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن جرير : أي : بأمره إياكم بالوفاء والعهد .

( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) فيجازي كل عامل بعمله ، من خير وشر .

قول تعالى : ( ولو شاء الله لجعلكم ) أيها الناس ( أمة واحدة ) ، كما قال تعالى : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) [ يونس : 99 ] أي : لوفق بينكم . ولما جعل اختلافا ولا تباغض ولا شحناء ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) [ هود : 118 ، 119 ] وهكذا قال هاهنا : ( ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم ، فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير .

ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ومكرا ؛ لئلا تزل قدم بعد ثبوتها : مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها وزل عن طريق الهدى ، بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله ؛ لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به ، لم يبق له وثوق بالدين ، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام ; ولهذا قال : ( وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم )

ثم قال تعالى : ( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ) أي : لا تعتاضوا عن الإيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها ، فإنها قليلة ، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له ، أي : جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه ، وحفظ عهده رجاء موعوده ; ولهذا قال : ( إن كنتم تعلمون)

( ما عندكم ينفد ) أي : يفرغ وينقضي ، فإنه - إلى أجل - معدود محصور مقدر متناه . ( وما عند الله باق ) أي : وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له فإنه دائم لا يحول ولا يزول ، ( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) قسم من الرب - عز وجل متلقى باللام - أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم ، أي : ويتجاوز عن سيئها .

هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه من ذكر أو أنثى من بني آدم ، وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله - بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة .

والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب .

وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه فسرها بالقناعة . وكذا قال ابن عباس ، وعكرمة ، ووهب بن منبه .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنها السعادة .

وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة : لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة .

وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا ، وقال الضحاك أيضا : هي العمل بالطاعة والانشراح بها .

والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه " .

ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقرئ به

وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانئ ، عن أبي علي الجنبي عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قد أفلح من هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع به " . وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .

وقال الإمام أحمد ، حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا [ ويثاب عليها في الآخرة ، وأما الكافر فيعطيه حسناته في الدنيا ] حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا " . انفرد بإخراجه مسلم .

هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - : إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم . وهو أمر ندب ليس بواجب ، حكى الإجماع على ذلك الإمام أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة . وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير ، ولله الحمد والمنة .

والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارئ قراءته ويخلط عليه ، ويمنعه من التدبر والتفكر ، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني : أنها تكون بعد التلاوة ، واحتجا بهذه الآية . ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضا ، ومحمد بن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، والصحيح الأول ؛ لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة ، والله أعلم .

وقوله : ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) قال الثوري : ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه .

وقال آخرون : معناه لا حجة له عليهم . وقال آخرون : كقوله : ( إلا عبادك منهم المخلصين ) .

( إنما سلطانه على الذين يتولونه ) قال مجاهد : يطيعونه .

وقال آخرون : اتخذوه وليا من دون الله .

( والذين هم به مشركون ) أي : أشركوا في عبادة الله تعالى . ويحتمل أن تكون الباء سببية ، أي : صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى .

وقال آخرون : معناه : أنه شركهم في الأموال والأولاد .

يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم ، وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة ، وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا للرسول : ( إنما أنت مفتر ) أي : كذاب ، وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .

وقال مجاهد : ( بدلنا آية مكان آية ) أي : رفعناها وأثبتنا غيرها .

وقال قتادة : هو كقوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) [ البقرة : 106 ] .

فقال تعالى مجيبا لهم : ( قل نزله روح القدس ) أي : جبريل ، ( من ربك بالحق ) أي : بالصدق والعدل ، ( ليثبت الذين آمنوا ) فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا وتخبت له قلوبهم ، ( وهدى وبشرى للمسلمين ) أي : وجعله هاديا [ مهديا ] وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله .

يقول تعالى مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت : أن محمدا إنما يعلمه - هذا الذي يتلوه علينا من القرآن - بشر ، ويشيرون إلى رجل أعجمي - كان بين أظهرهم - غلام لبعض بطون قريش ، وكان بياعا يبيع عند الصفا ، فربما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء ، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية ، أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه ; فلهذا قال الله تعالى رادا عليهم في افترائهم ذلك : ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) يعني : القرآن أي : فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة - التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على نبي أرسل - كيف يتعلم من رجل أعجمي ؟ ! لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل .

قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني - يقال له جبر - عبد لبعض بني الحضرمي ، [ فكانوا يقولون : والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني غلام بني الحضرمي ] فأنزل الله : ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين )

وكذا قال عبد الله بن كثير . وعن عكرمة وقتادة : كان اسمه يعيش .

وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن مسلم بن عبد الله الملائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم قينا بمكة ، وكان اسمه بلغام ، وكان أعجمي اللسان ، وكان المشركون يرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل عليه ويخرج من عنده ، قالوا : إنما يعلمه بلغام ، فأنزل الله هذه الآية : ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) .

وقال الضحاك بن مزاحم : هو سلمان الفارسي ، وهذا القول ضعيف ; لأن هذه الآية مكية ، وسلمان إنما أسلم بالمدينة . وقال عبيد الله بن مسلم : كان لنا غلامان روميان يقرآن كتابا لهما بلسانهما ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بهما ، فيقوم فيسمع منهما ، فقال المشركون : يتعلم منهما ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال الزهري ، عن سعيد بن المسيب : الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتد بعد ذلك عن الإسلام ، وافترى هذه المقالة ، قبحه الله .

يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزله على رسوله ، ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله ، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا ، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة .

ثم أخبر تعالى أن رسوله ليس بمفتر ولا كذاب ; لأنه ( إنما يفتري الكذب ) على الله وعلى رسوله شرار الخلق ، ( الذين لا يؤمنون بآيات الله ) من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس . والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا ، معروفا بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمد ; ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيما قال له : " أوكنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا ، فقال : هرقل فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله - عز وجل - " .

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر ، وشرح صدره بالكفر واطمأن به : أنه قد غضب عليه ؛ لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه ، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة ; لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا ، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق ، فطبع على قلوبهم فلا يعقلون بها شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ، ولا أغنت عنهم شيئا ، فهم غافلون عما يراد بهم .

( لا جرم ) أي : لا بد ولا عجب أن من هذه صفته ، ( أنهم في الآخرة هم الخاسرون ) أي : الذين خسروا أنفسهم وأهاليهم يوم القيامة .

وأما قوله : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى ، وقلبه يأبى ما يقول ، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله .

وقد روى العوفي عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فوافقهم على ذلك مكرها وجاء معتذرا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه الآية . وهكذا قال الشعبي ، وأبو مالك وقتادة .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة [ بن ] محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كيف تجد قلبك ؟ " قال : مطمئنا بالإيمان قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن عادوا فعد " .

ورواه البيهقي بأبسط من ذلك ، وفيه أنه سب النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر آلهتهم بخير ، وأنه قال : يا رسول الله ، ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير . قال : " كيف تجد قلبك ؟ " قال : مطمئنا بالإيمان . فقال : " إن عادوا فعد " . وفي ذلك أنزل الله : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) .

ولهذا اتفق العلماء على أنه يجوز أن يوالي المكره على الكفر ؛ إبقاء لمهجته ، ويجوز له أن يستقتل ، كما كان بلال - رضي الله عنه - يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول : أحد ، أحد . ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها - رضي الله عنه وأرضاه - . وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع . فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، أن عليا - رضي الله عنه - حرق ناسا ارتدوا عن الإسلام ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لم أكن لأحرقهم بالنار ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تعذبوا بعذاب الله " . وكنت قاتلهم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه " فبلغ ذلك عليا فقال : ويح أم ابن عباس . رواه البخاري .

وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي بردة قال : قدم على أبي موسى معاذ بن جبل باليمن ، فإذا رجل عنده ، قال : ما هذا ؟ قال رجل كان يهوديا فأسلم ، ثم تهود ، ونحن نريده على الإسلام منذ - قال : أحسب - شهرين فقال : والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه ، فضربت عنقه . فقال : قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه - أو قال : من بدل دينه فاقتلوه .

وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر .

والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ، ولو أفضى إلى قتله ، كما قال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة : أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم ، فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي ، فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ، على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت ! فقال : إذا أقتلك ، قال : أنت وذاك ، فأمر به فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه ، وهو يعرض عليه دين النصرانية ، فيأبى ثم أمر به فأنزل ، ثم أمر بقدر - وفي رواية ببقرة من نحاس - فأحميت ، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح ، وعرض عليه فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها ، فرفع في البكرة ليلقى فيها ، فبكى فطمع فيه ودعاه فقال له : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة ، تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله . وفي بعض الروايات : أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير ، فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن لأشمتك في ، فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك ، فقال : وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال : نعم . فقبل رأسه ، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده ، فلما رجع قال عمر بن الخطاب : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ ، فقام فقبل رأسه .

لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق.

فطبع على قلوبهم فهم لا يعقلون بها شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ولا أغنت عنهم شيئا فهم غافلون عما يراد بهم.

لا جرم أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته "أنهم في الآخرة هم الخاسرون" أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا ، فأخبر الله تعالى أنه ) من بعدها ) أي : تلك الفعلة ، وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم ، رحيم بهم يوم معادهم .

( يوم تأتي كل نفس تجادل ) أي : تحاج ) عن نفسها ) ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة ( وتوفى كل نفس ما عملت ) أي : من خير وشر ، ( وهم لا يظلمون ) أي : لا ينقص من ثواب الخير ولا يزاد على ثواب الشر ولا يظلمون نقيرا .

هذا مثل أريد به أهل مكة فإنها كانت أمنة مطمئنة مستقره يتخطف الناس من حولها ومن دخلها كان آمنا لا يخاف كما قال تعالى "وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا" وهكذا قال ههنا "يأتيها رزقها رغدا" أي هنيئا سهلا "من كل مكان فكفرت بأنعم الله" أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم كما قال تعالى "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار" ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال "فأذاقها الله لباس الجوع والخوف" أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه وقوله والخوف وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه.

وجعلوا كل ما لهم في سفال ودمار ، حتى فتحها الله عليهم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم ، وامتن به عليهم في قوله : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) [ آل عمران : 164 ] وقال تعالى : ( فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا [ يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ] ) [ الطلاق : 10 ، 11 ] الآية . وقوله : ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ) إلى قوله : ( ولا تكفرون ) [ البقرة : 151 ، 152 ] .

وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ، بدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ، ورزقهم بعد العيلة ، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم ، وسادتهم وقادتهم وأئمتهم .

وهذا الذي قلناه - من أن هذا المثل مضروب لمكة - قاله العوفي ، عن ابن عباس . وإليه ذهب مجاهد ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله .

وقال ابن جرير : حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن زيد ، حدثنا عبد الرحمن بن شريح ، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه أنه سمع مشرح بن هاعان يقول : سمعت سليم بن عتر يقول : صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعثمان - رضي الله عنه - محصور ب المدينة ، فكانت تسأل عنه : ما فعل ؟ حتى رأت راكبين ، فأرسلت إليهما تسألهما ، فقالا قتل . فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها القرية التي قال الله : ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله ) قال أبو شريح : وأخبرني عبيد الله بن المغيرة ، عمن حدثه : أنه كان يقول : إنها المدينة .

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك فإنه المنعم المتفضل به ابتداء الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.

ثم ذكر ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من الميتة والدم ولحم الخنزير .

( وما أهل لغير الله به ) أي : ذبح على غير اسم الله ، ومع هذا ( فمن اضطر ) أي : احتاج في غير بغي ولا عدوان ، ( فإن الله غفور رحيم )

وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة " البقرة " بما فيه كفاية عن إعادته ، ولله الحمد [ والمنة ] .

ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين ، الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وضعوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم ، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وغير ذلك مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم ، فقال : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ) ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس [ له ] فيها مستند شرعي ، أو حلل شيئا مما حرم الله ، أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه .

و " ما " في قوله : ( لما ) مصدرية ، أي : ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم .

أما في الدنيا فمتاع قليل وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم كما قال "نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ" وقال "إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون".

لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وأنه أرخص فيه عند الضرورة - وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر - ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها ، وما كانوا فيه من الآصار والأغلال والحرج والتضييق ، فقال : ( وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ) يعني : في " سورة الأنعام " في قوله : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما [ أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ] ) [ الأنعام : 146 ] ; ولهذا قال هاهنا : ( وما ظلمناهم ) أي : فيما ضيقنا عليهم ، ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) أي : فاستحقوا ذلك ، كما قال : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ) [ النساء : 160 ] .

ثم أخبر تعالى تكرما وامتنانا في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه فقال "ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة" قال بعض السلف كل من عصى الله فهو جاهل "ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا" أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات "إن ربك من بعدها" أي تلك الفعلة والزلة "لغفور رحيم".

يمدح [ تبارك و ] تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم ، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ، ويبرئه من المشركين ، ومن اليهودية والنصرانية فقال : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ) فأما " الأمة " فهو الإمام الذي يقتدى به . والقانت : هو الخاشع المطيع . والحنيف : المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد ; ولهذا قال : ( ولم يك من المشركين )

قال سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن أبي العبيدين : أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت ، فقال : الأمة : معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله .

وعن مالك قال : قال ابن عمر : الأمة الذي يعلم الناس دينهم .

وقال الأعمش ، [ عن الحكم ] عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال : من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رق له ، فقال : أخبرني عن الأمة فقال : الذي يعلم الناس الخير .

وقال الشعبي : حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود : إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا ، فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله : ( إن إبراهيم كان أمة ) فقال : أتدري ما الأمة وما القانت ؟ قلت : الله [ ورسوله ] أعلم ، قال : الأمة الذي يعلم [ الناس ] الخير . والقانت : المطيع لله ورسوله ، وكذلك كان معاذ معلم الخير ، وكان مطيعا لله ورسوله .

وقد روي من غير وجه ، عن ابن مسعود حرره ابن جرير .

وقال مجاهد : ( أمة ) أي : أمة وحده ، والقانت : المطيع . وقال مجاهد أيضا : كان إبراهيم أمة ، أي : مؤمنا وحده ، والناس كلهم إذ ذاك كفار .

وقال قتادة : كان إمام هدى ، والقانت : المطيع لله .

وقوله : ( شاكرا لأنعمه ) أي : قائما بشكر نعم الله عليه ، كما قال : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37 ] أي : قام بجميع ما أمره الله تعالى به .

وقوله : ( اجتباه ) أي : اختاره واصطفاه ، كما قال : ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ) [ الأنبياء : 51 ] .

ثم قال : ( وهداه إلى صراط مستقيم ) وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي .

وقوله : ( وآتيناه في الدنيا حسنة ) أي : جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة ، ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين )

وقال مجاهد في قوله : ( وآتيناه في الدنيا حسنة ) أي : لسان صدق .

وقوله : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) أي : ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنا أوحينا إليك - يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء - : ( أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) كما قال : في " الأنعام " : ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ الأنعام : 161 ] ثم قال تعالى منكرا على اليهود .

لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يوما من الأسبوع ، يجتمع الناس فيه للعبادة ، فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة ; لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة ، واجتمعت [ الناس ] فيه وتمت النعمة على عباده . ويقال : إنه تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى ، فعدلوا عنه واختاروا السبت ; لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا من المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة ، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة ، ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه ، مع أمره إياهم بمتابعة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثه . وأخذ مواثيقهم وعهودهم على ذلك ; ولهذا قال تعالى : ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه )

قال مجاهد : اتبعوه وتركوا الجمعة .

ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به ، حتى بعث الله عيسى ابن مريم ، فيقال : إنه حولهم إلى يوم الأحد . ويقال إنه : لم [ يترك شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها وإنه لم ] يزل محافظا على السبت حتى رفع ، وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد ، مخالفة لليهود ، وتحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة ، والله أعلم .

وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا ، والنصارى بعد غد " . لفظ البخاري .

وعن أبي هريرة وحذيفة - رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة ، والمقضي بينهم قبل الخلائق " . رواه مسلم [ والله أعلم ] .

يقول تعالى آمرا رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الخلق إلى الله ) بالحكمة )

قال ابن جرير : وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة ( والموعظة الحسنة ) أي : بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ؛ ليحذروا بأس الله تعالى .

وقوله : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) أي : من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال ، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب ، كما قال : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) [ العنكبوت : 46 ] فأمره تعالى بلين الجانب ، كما أمر موسى وهارون - عليهما السلام - حين بعثهما إلى فرعون فقال : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] .

وقوله : ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) أي : قد علم الشقي منهم والسعيد ، وكتب ذلك عنده وفرغ منه ، فادعهم إلى الله ، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات ، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير ، عليك البلاغ ، وعلينا الحساب ، ( إنك لا تهدي من أحببت ) [ القصص : 56 ] و ( ليس عليك هداهم ) [ البقرة : 272 ] .

يأمر تعالى بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق ، كما قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن خالد ، عن ابن سيرين : أنه قال في قوله تعالى : ( فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) إن أخذ منكم رجل شيئا ، فخذوا منه مثله .

وكذا قال مجاهد ، وإبراهيم ، والحسن البصري ، وغيرهم . واختاره ابن جرير .

وقال ابن زيد : كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين ، فأسلم رجال ذوو منعة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب ، فنزلت هذه الآية ، ثم نسخ ذلك بالجهاد .

وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة " النحل " كلها بمكة ، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد ، حيث قتل حمزة - رضي الله عنه - ومثل به فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلا منهم " فلما سمع المسلمون ذلك قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط . فأنزل الله : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) إلى آخر السورة .

وهذا مرسل ، وفيه [ رجل ] مبهم لم يسم ، وقد روي هذا من وجه آخر متصل ، فقال الحافظ أبو بكر البزار :

حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا صالح المري ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف على حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - حين استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه - أو قال : لقلبه [ منه ] - فنظر إليه وقد مثل به فقال : " رحمة الله عليك ، إن كنت - لما علمت - لوصولا للرحم ، فعولا للخيرات ، والله لولا حزن من بعدك عليك ، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع - أو كلمة نحوها - أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك . فنزل جبريل - عليه السلام - على محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه السورة وقرأ : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) إلى آخر الآية ، فكفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني : عن يمينه - وأمسك عن ذلك .

وهذا إسناد فيه ضعف ; لأن صالحا - هو ابن بشير المري - ضعيف عند الأئمة ، وقال البخاري : هو منكر الحديث .

وقال الشعبي وابن جريج : نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم : لنمثلن بهم . فأنزل الله فيهم ذلك .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا هدية بن عبد الوهاب المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، حدثنا عيسى بن عبيد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربين عليهم . فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم . فنادى مناد : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا - ناسا سماهم - فأنزل الله تبارك وتعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نصبر ولا نعاقب " .

وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن ، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل ، كما في قوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ثم قال ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) [ الشورى : 40 ] . وقال ( والجروح قصاص ) ثم قال ( فمن تصدق به فهو كفارة له ) [ المائدة : 45 ] وقال في هذه الآية الكريمة : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) ثم قال ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين )

وقوله : ( واصبر وما صبرك إلا بالله ) تأكيد للأمر بالصبر ، وإخبار بأن ذلك إنما ينال بمشيئة الله وإعانته ، وحوله وقوته .

ثم قال تعالى : ( ولا تحزن عليهم ) أي : على من خالفك ، لا تحزن عليهم ; فإن الله قدر ذلك ، ( ولا تك في ضيق ) أي : غم ( مما يمكرون ) أي : مما يجهدون [ أنفسهم ] في عداوتك وإيصال الشر إليك ، فإن الله كافيك وناصرك ، ومؤيدك ، ومظهرك ومظفرك بهم .

وقوله : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) أي : معهم بتأييده ونصره ومعونته وهذه معية خاصة ، كقوله : ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ) [ الأنفال : 12 ] وقوله لموسى وهارون : ( لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ) [ طه : 46 ] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصديق وهما في الغار : ( لا تحزن إن الله معنا ) [ التوبة : 40 ] وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم ، كقوله تعالى : ( وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ) [ الحديد : 4 ] وكقوله تعالى : ( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ) [ المجادلة : 7 ] وكما قال تعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا [ إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ] ) [ يونس : 61 ] .

ومعنى : ( الذين اتقوا ) أي : تركوا المحرمات ، ( والذين هم محسنون ) أي : فعلوا الطاعات ، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم ، وينصرهم ويؤيدهم ، ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا مسعر ، عن ابن عون ، عن محمد بن حاطب قال : كان عثمان - رضي الله عنه - من الذين آمنوا ، والذين اتقوا ، والذين هم محسنون .

[ آخر تفسير سورة النحل ولله الحمد أجمعه والمنة ، وبه المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل ]

اسم السورة سورة النحل (An-Nahl - The Bee)
ترتيبها 16
عدد آياتها 128
عدد كلماتها 1845
عدد حروفها 7642
معنى اسمها (النَّحْلُ): الْحَشَرَةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَمُفْرَدُهَا النَّحْلَةُ، تُقَالُ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى
سبب تسميتها انْفِرَادُ السُّورَةِ بِذِكْرِ مُفْرَدَةِ (النَّحْلِ)، وَدِلَالَةُ هَذَا الاسْمِ عَلَى الْمَقْصِدِ الْعَامِّ لِلسُّورَةِ وَمَوضُوعَاتِهَا
أسماؤها الأخرى اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (النَّحْلِ)، وتُسَمَّى سُورَةَ (النِعَم)
مقاصدها التَّذْكِيرُ بِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى الْكَثِيرَةِ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ سُبْحَانَهُ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْكُفْرِ بِهَا
أسباب نزولها سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، لَمْ يُنقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِها سَبَبُ نُزُولٍ
فضلها لَم يَصِحَّ حَدِيثٌ أَو أَثَرٌ خَاصٌّ فِي فَضلِ السُّورَةِ سِوَى أَنَّهَا مِنَ المِئِينِ
مناسبتها مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (النَّحْلِ) بِِآخِرِهَا: الأَمْرُ بِالتَّقْوَى والْحَدِيثُ عَنْ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ، فقَالَ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ ٢﴾، وَقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ ١٢٨﴾. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (النَّحْلِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الحِجْرِ): خُتِمَتِ (الحِجْرُ) بِتَوجِيهِ النَّبِيِّ ﷺ بِمُدَاوَمَةِ العِبَادَةِ حتَّى يَنْقَضِيَ أَجَلُهُ، فَقَالَ: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩﴾، وَافتُتِحَتِ (النَّحْلُ) بِقَضَاءِ أَمْرِ اللهِ وَعَدَمِ اسْتِعْجَالِهِ؛ فَقَالَ: ﴿أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١﴾.
اختر الًجزء:
اختر السورة:
اختر الًصفحة:


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!