المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة ابراهيم: [تفسير البغوي]
كتاب معالم التنزيل، للحسين بن مسعود البغوي، المحدّث والفقيه الشافعي، توفي (510 هـ). وهو تفسير متوسط نقل فيه مصنفه الصحيح من تفسير الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولا يذكر الضعيف.
![]() |
![]() |
![]() |
سورة ابراهيم | ||
![]() |
مكية [ وهي إحدى وخمسون ] آية إلا آيتين من قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " إلى قوله : " فإن مصيركم إلى النار "
( الر كتاب ) أي : هذا كتاب ( أنزلناه إليك ) يا محمد يعني : القرآن ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) أي : لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان . ( بإذن ربهم ) [ بأمر ربهم ] .
وقيل : بعلم ربهم .
( إلى صراط العزيز الحميد ) أي : إلى دينه ، و " العزيز " ، هو الغالب ، و " الحميد " : هو المستحق للحمد .
( الله الذي ) قرأ أبو جعفر ، وابن عامر : " الله " بالرفع على الاستئناف ، وخبره فيما بعده . وقرأ الآخرون بالخفض نعتا للعزيز الحميد . وكان يعقوب إذا وصل خفض .
وقال أبو عمرو : الخفض على التقديم والتأخير ، مجازه : إلى صراط الله العزيز الحميد ( الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ) .
( الذين يستحبون ) يختارون ( الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ) أي : يمنعون الناس عن قبول دين الله ( ويبغونها عوجا ) أي : يطلبونها زيغا وميلا يريد : يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد .
وقيل : الهاء راجعة إلى الدنيا ، معناه : يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق ، أي : لجهة الحرام . ( أولئك في ضلال بعيد ) .
قوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) بلغتهم ليفهموا عنه . فإن قيل : كيف هذا وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كافة الخلق ؟
قيل : بعث من العرب بلسانهم ، والناس تبع لهم ، ثم بث الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عز وجل ويترجمون لهم بألسنتهم .
( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ) .
( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) أي : من الكفر إلى الإيمان بالدعوة ( وذكرهم بأيام الله ) قال ابن عباس وأبي بن كعب ، ومجاهد ، وقتادة : بنعم الله
وقال مقاتل : بوقائع الله في الأمم السالفة . يقال : فلان عالم بأيام العرب ، أي بوقائعهم ، وإنما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة ، فاجتزأ بذكر الأيام عنها لأنها كانت معلومة عندهم .
( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) و " الصبار " : الكثير الصبر ، و " الشكور " : الكثير الشكر ، وأراد : لكل مؤمن ، لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين .
( وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ) قال الفراء : العلة الجالبة لهذه الواو أن الله تعالى أخبرهم أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح ، وبالتذبيح ، وحيث طرح الواو في " يذبحون " و " يقتلون " أراد تفسير العذاب الذي كانوا يسومونهم ( ويستحيون نساءكم ) يتركوهن أحياء ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) .
( وإذ تأذن ربكم ) أي : أعلم ، يقال : أذن وتأذن بمعنى واحد ، مثل أوعد وتوعد ( لئن شكرتم ) نعمتي فآمنتم وأطعتم ( لأزيدنكم ) في النعمة .
وقيل : الشكر : قيد الموجود ، وصيد المفقود .
وقيل : لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب .
( ولئن كفرتم ) نعمتي فجحدتموها ولم تشكروها ( إن عذابي لشديد ) .
( وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) أي : غني عن خلقه ، حميد : محمود في أفعاله ، لأنه فيها متفضل وعادل .
( ألم يأتكم نبأ الذين ) خبر الذين ( من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ) يعني : من كان بعد قوم نوح ، وعاد ، وثمود .
وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثم قال : كذب النسابون .
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : بين إبراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله تعالى .
وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أبا إلى آدم ، وكذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم أولئك الآباء أحد إلا الله عز وجل .
( جاءتهم رسلهم بالبينات ) بالدلالات الواضحات ( فردوا أيديهم في أفواههم ) قال ابن مسعود : عضوا على أيديهم غيظا كما قال ( عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) ( آل عمران - 119 ) .
قال ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم .
قال مجاهد ، وقتادة : كذبوا الرسل وردوا ما جاءوا به ، يقال : رددت قول فلان في فيه أي كذبته .
وقال الكلبي : يعني أن الأمم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم ، أي : وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أن اسكتوا .
وقال مقاتل : فردوا أيديهم على أفواه الرسل يسكتونهم بذلك .
وقيل : الأيدي بمعنى النعم . معناه : ردوا ما لو قبلوا كانت أيادي ونعما في أفواههم ، أي : بأفواههم ، يعني بألسنتهم .
( وقالوا ) يعني الأمم للرسل ( إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) موجب للريبة موقع للتهمة .
( قالت رسلهم أفي الله شك ) هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه ( فاطر السماوات والأرض ) خالقهما ( يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) أي : ذنوبكم و " من " صلة ( ويؤخركم إلى أجل مسمى ) إلى حين استيفاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب .
( قالوا ) للرسل : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) في الصورة ، ولستم ملائكة وإنما ( تريدون ) بقولكم ( أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ) حجة بينة على صحة دعواكم .
( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) بالنبوة والحكمة ( وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) .
( وما لنا ألا نتوكل على الله ) وقد عرفنا أن لا ننال شيئا إلا بقضائه وقدره ( وقد هدانا سبلنا ) بين لنا الرشد ، وبصرنا طريق النجاة . ( ولنصبرن ) اللام لام القسم ، مجازه : والله لنصبرن ( على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) .
( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) يعنون : إلا أن ترجعوا ، أو حتى ترجعوا إلى ديننا . ( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) .
( ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) أي : من بعد هلاكهم .
( ذلك لمن خاف مقامي ) أي : قيامه بين يدي كما قال : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ( الرحمن - 46 ) ، فأضاف قيام العبد إلى نفسه ، كما تقول : ندمت على ضربك ، أي : على ضربي إياك ( وخاف وعيد ) أي عقابي .
قوله عز وجل : ( واستفتحوا ) أي : استنصروا . قال ابن عباس ، ومقاتل : يعني الأمم ، وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا ، نظيره قوله تعالى : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) ( الأنفال - 32 ) .
وقال مجاهد ، وقتادة : واستفتحوا يعني الرسل ، وذلك أنهم لما يئسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب كما قال نوح عليه السلام ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ( نوح - 26 ) وقال موسى عليه السلام : ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) ( يونس - 88 ) . ، الآية
( وخاب ) خسر . وقيل : هلك ( كل جبار عنيد ) والجبار : الذي لا يرى فوقه أحدا . والجبرية : طلب العلو بما لا غاية وراءه . وهذا الوصف لا يكون إلا لله عز وجل .
وقيل : الجبار : الذي يجبر الخلق على مراده ، والعنيد : المعاند للحق ومجانبه . قاله مجاهد .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : هو المعرض عن الحق .
وقال مقاتل : هو المتكبر .
وقال قتادة : " العنيد " الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله .
( من ورائه جهنم ) أي : أمامه ، كقوله تعالى ( وكان وراءهم ملك ) ( الكهف - 76 ) أي : أمامهم .
قال أبو عبيدة : هو من الأضداد .
وقال الأخفش : هو كما يقال هذا الأمر من ورائك يريد أنه سيأتيك ، وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه .
وقال مقاتل : " من ورائه جهنم " أي : بعده .
( ويسقى من ماء صديد ) أي : من ماء هو صديد ، وهو ما يسيل من أبدان الكفار من القيح والدم .
وقال محمد بن كعب : ما يسيل من فروج الزناة ، يسقاه الكافر .
( يتجرعه ) أي : يتحساه ويشربه ، لا بمرة واحدة ، بل جرعة جرعة ، لمرارته وحرارته ( ولا يكاد يسيغه ) و " يكاد " : صلة ، أي : لا يسيغه ، كقوله تعالى : ( لم يكد يراها ) ( النور - 40 ) أي : لم يرها .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لا يجيزه .
وقيل : معناه يكاد لا يسيغه ، ويسيغه فيغلي في جوفه .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن بسر ، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " ويسقى من ماء صديد يتجرعه " ، قال : يقرب إلى فيه فيتكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه ، حتى يخرج من دبره، يقول الله عز وجل : ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) ( محمد - 15 ) ، ويقول : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ) ( الكهف - 29 ) .
وقوله عز وجل : ( ويأتيه الموت من كل مكان ) يعني : يجد هم الموت وألمه من كل مكان من أعضائه .
قال إبراهيم التيمي : حتى من تحت كل شعرة من جسده .
وقيل : يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه ، ومن فوقه ومن تحته ، وعن يمينه وعن شماله .
( وما هو بميت ) فيستريح ، قال ابن جريج : تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة . نظيرها (ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) ( الأعلى - 13 ) .
( ومن ورائه ) أمامه ( عذاب غليظ ) شديد ، وقيل : العذاب الغليظ الخلود في النار .
( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم ) يعني : أعمال الذين كفروا بربهم - كقوله تعالى : ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم ) ( الزمر - 60 ) - أي : ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة ( كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) وصف اليوم بالعصوف ، والعصوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيها ، كما يقال : يوم حار ويوم بارد ، لأن الحر والبرد فيه .
وقيل : معناه : في يوم عاصف الريح ، فحذف الريح لأنها قد ذكرت من قبل . وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار ، يريد : أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذرته الريح لا ينتفع به ، فذلك قوله تعالى :
( لا يقدرون ) يعني : الكفار ( مما كسبوا ) في الدنيا ( على شيء ) في الآخرة ( ذلك هو الضلال البعيد ) .
( ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض ) قرأ حمزة ، والكسائي " خالق السماوات والأرض " وفي سورة النور " خالق كل دابة " مضافا .
وقرأ الآخرون " خلق " على الماضي " والأرض " وكل بالنصب .
و " بالحق " أي : لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمر عظيم ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ) سواكم أطوع لله منكم .
( وما ذلك على الله بعزيز ) منيع شديد ، يعني أن الأشياء تسهل في القدرة ، لا يصعب على الله تعالى شيء وإن جل وعظم .
قوله عز وجل : ( وبرزوا لله جميعا ) [ أي : خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا جميعا ] ( فقال الضعفاء ) يعني : الأتباع ( للذين استكبروا ) أي : تكبروا على الناس وهم القادة والرؤساء : ( إنا كنا لكم تبعا ) جمع تابع ، مثل : حرس وحارس ( فهل أنتم مغنون ) دافعون ( عنا من عذاب الله من شيء ) .
( قالوا ) يعني القادة المتبوعين : ( لو هدانا الله لهديناكم ) أي : لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى ، فلما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) مهرب ولا منجاة .
قال مقاتل : يقولون في النار : تعالوا نجزع ، فيجزعون خمسمائة عام ، فلا ينفعهم الجزع ، ثم يقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فحينئذ يقولون : ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) .
قال محمد بن كعب القرظي بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة . فقال الله تعالى : ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب ) ( غافر - 49 ) ، فردت الخزنة عليهم : " أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى " ، فردت الخزنة عليهم : ( فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) ( غافر - 50 ) فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا : ( يا مالك ليقض علينا ربك ) ( الزخرف - 77 ) سألوا الموت ، فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ستون وثلاثمائة يوما ، واليوم كألف سنة مما تعدون ، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين إنكم ماكثون ، فلما يئسوا مما قبله قال بعضهم لبعض : إنه قد نزل بكم من البلاء ما ترون فهلموا فلنصبر ، فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم ، فأجمعوا على الصبر ، فطال صبرهم ، ثم جزعوا فنادوا : " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " ، أي : من منجى .
قال : فقام إبليس عند ذلك فخطبهم ، فقال : " إن الله وعدكم وعد الحق " الآية ، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودوا : ( لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ) ( غافر - 10 ) قالوا فنادوا الثانية : " فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " ، فرد عليهم : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) الآيات ( السجدة - 12 ، 13 ) فنادوا الثالثة : ( ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ) ( إبراهيم 44 ) ، فرد عليهم : ( أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) الآيات ( إبراهيم - 44 ) ، ثم نادوا الرابعة : ( ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ) فرد عليهم : ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ) ، الآية ( فاطر - 37 ) قال : فمكث عليهم ما شاء الله ، ثم ناداهم : " ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون " ، فلما سمعوا ذلك قالوا : الآن يرحمنا ، فقالوا عند ذلك : " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " ، قال عند ذلك : ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) ( المؤمنون 105 - 108 ) فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء عنهم ، فأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض ، وأطبقت عليهم النار .
قوله تعالى : ( وقال الشيطان ) يعني : إبليس ( لما قضي الأمر ) أي : فرغ منه فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
وقال مقاتل : يوضع له منبر في النار ، فيرقاه فيجتمع عليه الكفار باللائمة فيقول لهم :
( إن الله وعدكم وعد الحق ) فوفى لكم به ( ووعدتكم فأخلفتكم ) وقيل : يقول لهم : قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار . ( وما كان لي عليكم من سلطان ) ولاية . وقيل : لم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه ( إلا أن دعوتكم ) هذا استثناء منقطع معناه : لكن ( دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان ولا برهان ( ما أنا بمصرخكم ) بمغيثكم ( وما أنتم بمصرخي ) بمغيثي .
قرأ الأعمش ، وحمزة " بمصرخي " بكسر الياء ، والآخرون بالنصب لأجل التضعيف ، ومن كسر فلالتقاء الساكنين ، حركت إلى الكسر ، لأن الياء أخت الكسرة ، وأهل النحو لم يرضوه ، وقيل : إنه لغة بني يربوع . والأصل ( بمصرخيني ) فذهبت النون لأجل الإضافة ، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة .
( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) أي : كفرت بجعلكم إياي شريكا في عبادته وتبرأت من ذلك .
( إن الظالمين ) الكافرين ( لهم عذاب أليم ) .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن رشدين بن سعد ، أخبرني عبد الرحمن بن زياد ، عن دخين الحجري ، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ذكر الحديث ثم قال : " يقول عيسى عليه السلام : ذلكم النبي الأمي ، فيأتوني ، فيأذن الله لي أن أقوم ، فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمها أحد ، حتى آتي ربي عز وجل فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ، ثم يقول الكفار : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ؟ فيقولون : ما هو غير إبليس ، هو الذي أضلنا ، فيأتونه فيقولون له : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا ، فإنك أنت أضللتنا . فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ، ثم تعظم جهنم ، ويقول عند ذلك : ( إن الله وعدكم وعد الحق ) الآية .
قوله عز وجل : ( وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ) يسلم بعضهم على بعض ، وتسلم الملائكة عليهم .
وقيل : المحيي بالسلام هو الله عز وجل .
( ألم تر كيف ضرب الله مثلا ) ألم تعلم ، والمثل : قول سائر لتشبيه شيء بشيء . ( كلمة طيبة ) وهي قول : لا إله إلا الله ( كشجرة طيبة ) وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمر .
وقال ظبيان ، عن ابن عباس هي شجرة في الجنة .
( أصلها ثابت ) في الأرض ( وفرعها ) أعلاها ( في السماء ) كذلك أصل هذه الكلمة : راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق ، فإذا تكلم بها عرجت ، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عز وجل . قال الله تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ( فاطر - 10 ) .
( تؤتي أكلها ) تعطي ثمرها ( كل حين بإذن ربها ) والحين في اللغة هو الوقت .
وقد اختلفوا في معناه ها هنا فقال مجاهد ، وعكرمة : الحين ها هنا : سنة كاملة ، لأن النخلة تثمر كل سنة .
وقال سعيد بن جبير ، وقتادة والحسن : ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى صرامها . وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقيل : أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها .
وقال سعيد بن المسيب : شهران من حين تؤكل إلى حين الصرام .
وقال الربيع بن أنس : " كل حين " : أي : كل غدوة وعشية ، لأن ثمر النخل يؤكل أبدا ليلا ونهارا ، صيفا وشتاء ، إما تمرا أو رطبا أو بسرا ، كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار وآخره وبركة إيمانه لا تنقطع أبدا ، بل تصل إليه في كل وقت .
والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة : هي أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ ، وأصل قائم ، وفرع عال ، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : تصديق بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالأبدان .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي ؟ قال عبد الله : فوقع الناس في شجر البوادي ، ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ، ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال : هي النخلة . قال عبد الله : فذكرت ذلك لعمر ، فقال : لأن تكون قلت هي النخلة كان أحب إلي من كذا وكذا " .
وقيل : الحكمة في تشبيهها بالنخلة من بين سائر الأشجار : أن النخلة شبه الأشجار بالإنسان من حيث إنها إذا قطع رأسها يبست ، وسائر الأشجار تتشعب من جوانبها بعد قطع رءوسها ، ولأنها تشبه الإنسان في أنها لا تحمل إلا بالتلقيح ، ولأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أكرموا عمتكم " ، قيل : ومن عمتنا ؟ قال : " النخلة " ( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) .
( ومثل كلمة خبيثة ) وهي الشرك ( كشجرة خبيثة ) وهي الحنظل .
وقيل : هي الثوم .
وقيل : هي الكشوث وهي العشقة ( اجتثت ) يعني انقلعت ( من فوق الأرض ما لها من قرار ) ثبات .
معناه : وليس لها أصل ثابت في الأرض ، ولا فرع صاعد إلى السماء ، كذلك الكافر لا خير فيه ، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح .
قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) كلمة التوحيد ، وهي قول : لا إله إلا الله ( في الحياة الدنيا ) يعني قبل الموت ( وفي الآخرة ) يعني في القبر . هذا قول أكثر أهل التفسير .
وقيل : " في الحياة الدنيا " : عند السؤال في القبر ، " وفي الآخرة " : عند البعث .
والأول أصح .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أخبرني علقمة بن مرثد قال : سمعت سعيد بن عبيدة ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فذلك قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) .
وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) قال : نزلت في عذاب القبر يقال له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، ونبيي محمد ، فذلك قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) الآية .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عياش بن الوليد ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا وضع في قبره ، وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ، لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن ، فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله . فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا " قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره ، ثم رجع إلى حديث أنس قال :
وأما المنافق والكافر ، فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين " .
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، حدثنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا عنبسة بن سعيد بن كثير ، حدثني جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت يسمع حس النعال إذا ولى عنه الناس مدبرين ، ثم يجلس ويوضع كفنه في عنقه ثم يسأل " .
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان ، يقال لأحدهما : المنكر ، وللآخر النكير ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله ، فيقولان له : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، حتى يبعثه الله تعالى ، وإن كان منافقا أو كافرا قال : سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله ، لا أدري ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه ، فتختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " .
وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن وقال : " فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ [ فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد ، فينتهرانه ، ويقولان له الثانية : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ] وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فيثبته الله عز وجل ، فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، قال : فذلك قوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي ، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أبو إسحاق حدثنا هشام بن يوسف حدثنا عبد الله بن يحيى ، عن هانئ مولى عثمان قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال : " استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت ، فإنه الآن يسأل " .
وقال عمرو بن العاص في سياق الموت وهو يبكي : فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي .
قوله تعالى : ( ويضل الله الظالمين ) أي : لا يهدي المشركين إلى الجواب بالصواب في القبر ( ويفعل الله ما يشاء ) من التوفيق ، والخذلان ، والتثبيت ، وترك التثبيت .
قوله عز وجل : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس : [ في قوله تعالى ] ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) قال : هم والله كفار قريش .
وقال عمرو : هم قريش ومحمد صلى الله عليه وسلم نعمة الله .
( وأحلوا قومهم دار البوار ) قال : البوار يوم بدر ، قوله ( بدلوا نعمة الله ) أي : غيروا نعمة الله عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم حيث ابتعثه الله تعالى منهم كفرا كفروا به فأحلوا ، أي : أنزلوا ، قومهم ممن تابعهم على كفرهم دار البوار الهلاك ، ثم بين البوار فقال :
( جهنم يصلونها ) يدخلونها ( وبئس القرار ) المستقر .
وعن علي كرم الله وجهه : الذين بدلوا نعمة الله كفرا : هم كفار قريش نحروا يوم بدر .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية ، أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين .
( وجعلوا لله أندادا ) أمثالا [ وليس لله تعالى ند ] ( ليضلوا ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتح الياء ، وكذلك في الحج ، وسورة لقمان ، والزمر : ( ليضل ) وقرأ الآخرون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس ( عن سبيله قل تمتعوا ) عيشوا في الدنيا ( فإن مصيركم إلى النار )
( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ) قال الفراء : هو جزم على الجزاء ( وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) مخاللة وصداقة . [ قرأ ابن كثير ، وابن عمرو ، ويعقوب : " لا بيع فيه ولا خلال " بالنصب فيهما على النفي العام . وقرأ الباقون : " لا بيع ولا خلال " بالرفع والتنوين ] .
( الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ) ذللها لكم ، تجرونها حيث شئتم .
( وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ) يجريان فيما يعود إلى مصالح العباد ولا يفتران ، قال ابن عباس دءوبهما في طاعة الله عز وجل .
( وسخر لكم الليل والنهار ) يتعاقبان في الضياء والظلمة ، والنقصان والزيادة .
( وآتاكم من كل ما سألتموه ) [ يعني : وآتاكم من كل شيء سألتموه ] شيئا ، فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام ، على التبعيض .
وقيل : هو على التكثير نحو قولك : فلان يعلم كل شيء ، وآتاه كل الناس ، وأنت تعني بعضهم نظيره قوله تعالى : ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) ( الأنعام - 44 ) .
وقرأ الحسن " من كل " بالتنوين ( ما ) على النفي يعني من كل ما لم تسألوه ، يعني : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها .
( وإن تعدوا نعمة الله ) أي : نعم الله ( لا تحصوها ) أي : لا تطيقوا عدها ولا القيام بشكرها .
( إن الإنسان لظلوم كفار ) أي : ظالم لنفسه بالمعصية ، كافر بربه عز وجل في نعمته .
وقيل : الظلوم ، الذي يشكر غير من أنعم عليه ، والكافر : من يجحد منعمه .
قوله عز وجل : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد ) يعني : الحرم ( آمنا ) ذا أمن يؤمن فيه ( واجنبني ) أبعدني ( وبني أن نعبد الأصنام ) يقال : جنبته الشيء ، وأجنبته جنبا ، وجنبته تجنيبا واجتنبته اجتنابا بمعنى واحد .
فإن قيل : قد كان إبراهيم عليه السلام معصوما من عبادة الأصنام ، فكيف يستقيم السؤال ؟ وقد عبد كثير من بنيه الأصنام فأين الإجابة ؟
قيل : الدعاء في حق إبراهيم عليه السلام لزيادة العصمة والتثبيت ، وأما دعاؤه لبنيه : فأراد بنيه من صلبه ، ولم يعبد منهم أحد الصنم .
وقيل : إن دعاءه لمن كان مؤمنا من بنيه .
( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) يعني ضل بهن كثير [ من الناس ] عن طريق الهدى حتى عبدوهن ، وهذا هو المقلوب ، نظيره قوله تعالى : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ) ( آل عمران - 175 ) أي : يخوفهم بأوليائه .
وقيل : نسب الإضلال إلى الأصنام لأنهن سبب فيه ، كما يقول القائل : فتنتني الدنيا ، نسب الفتنة إلى الدنيا لأنها سبب الفتنة .
( فمن تبعني فإنه مني ) أي : من أهل ديني ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) قال السدي : معناه : ومن عصاني ثم تاب .
وقال مقاتل بن حيان : ومن عصاني فيما دون الشرك .
وقيل : قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك .
قوله عز وجل : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي ) أدخل " من " للتبعيض ، ومجاز الآية : أسكنت من ذريتي ولدا ( بواد غير ذي زرع ) وهو مكة; لأن مكة واد بين جبلين ( عند بيتك المحرم ) سماه محرما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب السختياني وكثير بن [ أبي كثير بن ] المطلب بن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر - عن سعيد بن جبير [ قال ] قال ابن عباس : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام ، وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه ، فقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ) حتى بلغ " يشكرون " .
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلبط أو قال يتلوى ، وانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلذلك سعى الناس بينهما " .
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه - تريد نفسها - ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم " أو قال : " لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا " .
قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله .
وكان موضع البيت مرتفعا من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك ، حتى مرت بهم رفقة منجرهم - أو أهل بيت من جرهم - مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، ولعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا : نعم .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته . . . ذكرنا تلك القصة في سورة البقرة .
قوله تعالى : ( ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس ) الأفئدة : جمع الفؤاد ( تهوي إليهم ) تشتاق وتحن إليهم .
قال السدي : معناه أمل قلوبهم إلى هذا الموضع .
قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس ، والروم ، والترك ، والهند .
وقال سعيد بن جبير : لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : " أفئدة من الناس " وهم المسلمون .
( وارزقهم من الثمرات ) ما رزقت سكان القرى ذوات الماء ( لعلهم يشكرون ) .
( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ) من أمورنا . وقال ابن عباس ومقاتل : من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع . ( وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ) قيل : هذا صلة قول إبراهيم .
وقال الأكثرون : يقول الله عز وجل : ( وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ) .
( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر ) أعطاني ( إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) قال ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة .
وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة .
( رب اجعلني مقيم الصلاة ) يعني : ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها ( ومن ذريتي ) يعني : اجعل من ذريتي من يقيمون الصلاة .
( ربنا وتقبل دعاء ) أي : عملي وعبادتي ، سمى العبادة دعاء ، وجاء في الحديث : " الدعاء مخ العبادة " .
وقيل : معناه : استجب دعائي .
( ربنا اغفر لي ولوالدي ) فإن قيل : كيف استغفر لوالديه وهما غير مؤمنين ؟ قيل : قد قيل إن أمه أسلمت .
وقيل : أراد إن أسلما وتابا .
وقيل : قال ذلك قبل أن يتبين له أمر أبيه ، وقد بين الله تعالى عذر خليله صلى الله عليه وسلم في استغفاره لأبيه في سورة التوبة .
( وللمؤمنين ) أي : اغفر للمؤمنين كلهم ( يوم يقوم الحساب ) أي : يبدو ويظهر . وقيل : أراد يوم يقوم الناس للحساب ، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوما .
قوله عز وجل : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور ، والآية لتسلية المظلوم وتهديد للظالم .
( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) أي : لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم ، وقيل : ترتفع وتزول عن أماكنها .
( مهطعين ) قال قتادة : مسرعين .
قال سعيد بن جبير : الإهطاع النسلان كعدو الذئب .
وقال مجاهد : مديمي النظر .
ومعنى " الإهطاع " : أنهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ولا يعرفون مواطن أقدامهم .
( مقنعي رءوسهم ) أي : رافعي رءوسهم .
قال القتيبي : المقنع : الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه .
وقال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء ، لا ينظر أحد إلى أحد .
( لا يرتد إليهم طرفهم ) أي : لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر ، وهي شاخصة قد شغلهم ما بين أيديهم .
( وأفئدتهم هواء ) أي : خالية . قال قتادة : خرجت قلوبهم عن صدورهم ، فصارت في حناجرهم ، لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها ، فالأفئدة هواء لا شيء فيها ، ومنه سمي ما بين السماء والأرض هواء لخلوه .
وقيل : خالية لا تعي شيئا ولا تعقل من الخوف .
وقال الأخفش : جوفاء لا عقول لها ، والعرب تسمي كل أجوف خاو هواء .
وقال سعيد بن جبير : " وأفئدتهم هواء " أي : مترددة ، تمور في أجوافهم ، ليس لها مكان تستقر فيه .
وحقيقة المعنى : أن القلوب زائلة عن أماكنها ، والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم .
( وأنذر الناس ) خوفهم ( يوم ) أي : بيوم ( يأتيهم العذاب ) وهو يوم القيامة ( فيقول الذين ظلموا ) أشركوا ( ربنا أخرنا ) أمهلنا ( إلى أجل قريب ) هذا سؤالهم الرد إلى الدنيا ، أي : ارجعنا إليها ( نجب دعوتك ونتبع الرسل ) فيجابون :
( أولم تكونوا أقسمتم من قبل ) حلفتم في دار الدنيا ( ما لكم من زوال ) عنها أي : لا تبعثون . وهو قوله تعالى : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ) ( النحل - 38 ) .
( وسكنتم ) في الدنيا ( في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) بالكفر والعصيان قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم . ( وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) أي : عرفتم عقوبتنا إياهم ( وضربنا لكم الأمثال ) أي : بينا أن مثلكم كمثلهم .
( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ) أي : جزاء مكرهم ( وإن كان مكرهم ) قرأ علي وابن مسعود : ( وإن كان مكرهم ) بالدال ، وقرأ العامة بالنون .
( لتزول منه الجبال ) قرأ العامة لتزول بكسر اللام الأولى ونصب الثانية .
معناه : وما كان مكرهم .
قال الحسن : إن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال .
وقيل : معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال .
وقرأ ابن جريج ، والكسائي : " لتزول " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية ، معناه : إن مكرهم وإن عظم حتى بلغ محلا يزيل الجبال لم يقدروا على إزالة أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : معناه وإن كان شركهم لتزول منه الجبال ، وهو قوله تعالى : ( وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ) ( مريم - 19 ) .
ويحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معنى الآية : أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه ، وذلك أنه قال : إن كان ما يقول إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أصعد السماء فأعلم ما فيها ، فعمد إلى أربعة أفرخ من النسور فرباها حتى شبت واتخذ تابوتا ، وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل ، وقعد نمرود مع رجل في التابوت ، ونصب خشبات في أطراف التابوت ، وجعل على رءوسها اللحم ، وربط التابوت بأرجل النسور ، فطرن وصعدن طمعا في اللحم ، حتى مضى يوم وأبعدن في الهواء ، فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى ، وانظر إلى السماء هل قربناها ، ففتح [ الباب ونظر ] فقال : إن السماء كهيئتها ثم قال : افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ؟ ففعل ، فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان ، فطارت النسور يوما آخر ، وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران ، فقال لصاحبه : افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟
قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل معه القوس والنشاب ، فرمى بسهم فعاد إليه السهم متلطخا بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء - وقيل : طائر أصابه السهم - فقال : كفيت شغل إله السماء .
قال : ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات وينكص اللحم ، ففعل ، فهبطت النسور بالتابوت ، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ، ففزعت وظنت أنه قد حدث حدث من السماء ، وأن الساعة قد قامت ، فكادت تزول عن أماكنها ، فذلك قوله تعالى : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) .
( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) بالنصر لأوليائه وهلاك أعدائه ، وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده ( إن الله عزيز ذو انتقام ) .
قوله عز وجل : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ) .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يوسف ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير ، حدثني أبو حازم بن دينار ، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن خالد - هو ابن يزيد ، - عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر ، نزلا لأهل الجنة " .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية قال : تبدل الأرض بأرض كفضة بيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم تعمل فيها خطيئة .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تبدل الأرض من فضة ، والسماء من ذهب .
وقال محمد بن كعب ، وسعيد بن جبير : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه .
وقيل : معنى التبديل جعل السماوات جنانا وجعل الأرض نيرانا .
وقيل : تبديل الأرض تغييرها من هيئة إلى هيئة ، وهي تسيير جبالها ، وطم أنهارها ، وتسوية أوديتها ، وقطع أشجارها ، وجعلها قاعا صفصفا ، وتبديل السماوات : تغيير حالها بتكوير شمسها ، وخسوف قمرها وانتثار نجومها ، وكونها مرة كالدهان ، ومرة كالمهل .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مسهر ، عن داود - وهو ابن أبي هند ، - عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل : " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله ؟ فقال : " على الصراط " .
وروي عن ثوبان أن حبرا من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض ؟ قال : " هم في الظلمة دون الجسر " .
وقوله تعالى : ( وبرزوا ) خرجوا من قبورهم ( لله الواحد القهار ) الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
( وترى المجرمين يومئذ مقرنين ) مشدودين بعضهم ببعض ( في الأصفاد ) في القيود والأغلال ، واحدها صفد ، وكل من شددته شدا وثيقا فقد صفدته .
قال أبو عبيدة : صفدت الرجل فهو مصفود ، وصفدته بالتشديد فهو مصفد .
وقيل : يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة ، بيانه قوله تعالى : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ) ( الصافات - 22 ) ، يعني : قرناءهم من الشياطين .
وقيل : معناه مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد والقيود ، ومنه قيل للحبل : قرن .
( سرابيلهم ) أي : قمصهم ، واحدها سربال . ( من قطران ) هو الذي تهنأ به الإبل .
وقرأ عكرمة ، ويعقوب " من قطر آن " على كلمتين منونتين والقطر : النحاس ، والصفر المذاب ، والآن : الذي انتهى حره ، قال الله تعالى : ( يطوفون بينها وبين حميم آن ) ( الرحمن - 44 ) .
( وتغشى وجوههم النار ) أي : تعلو .
( ليجزي الله كل نفس ما كسبت ) من خير وشر ( إن الله سريع الحساب ) .
( هذا ) أي : هذا القرآن ( بلاغ ) أي : تبليغ وعظة ( للناس ولينذروا ) وليخوفوا ( به وليعلموا أنما هو إله واحد ) أي : ليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى : ( وليذكر أولو الألباب ) أي : ليتعظ أولو العقول .
![]() |
![]() |
![]() |
![](/images/arrowtop.jpg)
اسم السورة | سورة ابراهيم (Ibrahim - Abrahim) |
ترتيبها | 14 |
عدد آياتها | 52 |
عدد كلماتها | 831 |
عدد حروفها | 3461 |
معنى اسمها | (إِبْرَاهِيمُ عليه السلام): أَبُو الأَنْبِيَاءِ، يَنْتَهِي نَسَبُهُ إِلَى سَامِ بنِ نُوحٍ عليه السلام، وَهُوَ مِن أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ |
سبب تسميتها | انْفِرَادُ السُّورَةِ بِذِكْرِ أَدْعِيَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي سَبْعِ آيَاتٍ دُونَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ كَمَا فِي بَقِيَّةِ السُّوَرِ |
أسماؤها الأخرى | لا يُعرَفُ للسُّورَةِ اسمٌ آخَرُ سِوَى سُورَةِ (إِبرَاهِيمَ عليه السلام) |
مقاصدها | ذِكْرُ قِصَّةِ الرُّسُلِ عَلَيهِمُ السَّلَامِ، وَتَصْويرُ مَشَاهِدِ الخَيرِ وَالشَّرِ |
أسباب نزولها | سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، لَمْ تَصِحَّ رِوَايَةٌ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَوْ فِي نُزُولِ بَعْضِ آيَاتِهَا |
فضلها | هِيَ مِنْ ذَوَاتِ ﴿الٓر﴾، فَفِي الحَدِيثِ الطَّوِيْلِ؛ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ: أَقرِئْنِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «اقرَأْ ثَلاثًا مِنْ ذَوَاتِ ﴿الٓر﴾». (حَدِيثٌ صَحيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) |
مناسبتها | مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (إِبْرَاهِيمَ عليه السلام) بِآخِرِهَا: بَيَانُ مُهِمَّةِ الرَّسُولِ ﷺ بِالْقُرْآنِ الكَرِيمِ، فقَالَ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ...١﴾، وَقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿هَٰذَا بَلَٰغٞ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِۦ ...٥٢﴾. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (إِبْرَاهِيمَ عليه السلام) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الرَّعْدِ): ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الكِتَابَ فِي آخِرِ (الرَّعْدِ) فَقَالَ ﴿وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ ٤٣﴾، وَذَكَرَهُ فِي مُفْتَتَحِ سُورَةِ (إِبْرَاهِيمَ عليه السلام) فَقَالَ: ﴿الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ ... ١﴾. |