المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة العصر: [الآية 2]
سورة العصر | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ «. . . وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» الآية ]
فينبغي للمؤمن أن يقبل من أخيه النصح والوصية ، فإن المؤمنين أهل إنصاف ، مطلبهم واحد ، مأمورون بذلك بقوله تعالى : «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ» وقد أمرنا بالتعاون على البر والتقوى ، ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان ، بقوله «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» لذلك عليك بالنصيحة على الإطلاق ، فإنها الدين ، خرج مسلم في الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال [ الدين النصيحة ، قالوا : لمن يا رسول اللّه ؟
قال : للّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ] واعلم أن النصاح الخيط ، والمنصحة الإبرة ، والناصح الخائط . والخائط هو الذي يؤلف أجزاء الثوب حتى يصير قميصا أو ما كان ، فينتفع به بتأليفه إياها ، وما ألفه إلا بنصحه .
والناصح في دين اللّه ، هو الذي يؤلف بين عباد اللّه وبين ما فيه سعادتهم عند اللّه ، ويؤلف بين اللّه وبين خلقه ، وهو قوله : النصيحة للّه ،
وفيه تنبيه في الشفاعة عند اللّه إذا رأى العبد الناصح أن اللّه يريد مؤاخذة العبد على جريمته ،
فيقول للّه : يا رب إنك ندبت إلى العفو عن عبادك ، وجعلت ذلك من مكارم الأخلاق ، وهو أولى من جزاء المسئ بما يسوءه ؛ وذكرت للعبد أن أجر العافين عن الناس فيما أساءوا إليهم فيه ، مما توجهت عليهم به الحقوق ، على اللّه ؛
فأنت أحق بهذه الصفة لما أنت عليه من الجود ، والكرم ، والامتنان ، ولا مكره لك ؛ فأنت أهل العفو والتكرم والتجاوز عن هذا العبد المسئ المتعدي حدودك عن إساءته ،
وإسبال ذيل الكرم عليه ؛ وأما النصيحة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ففي زمانه إذا رأى منه الصاحب أمرا قد قرر خلافه - والإنسان صاحب غفلات - فينبّه الصاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ذلك ، مثل سهوه صلّى اللّه عليه وسلّم في الصلاة ، ولهذا أمر اللّه عزّ وجل نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم
بمشاورة أصحابه فيما لم يوح إليه فيه ، فإذا شاورهم تعين عليهم أن ينصحوه فيما شاورهم فيه على قدر علمهم ، وما يقتضيه نظرهم في ذلك أنه مصلحة ، كنزوله يوم بدر على غير ماء ، فنصحوه وأمروه أن يكون الماء في حيّزه صلّى اللّه عليه وسلّم ففعل ، ونصحه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في قتل أسارى بدر حين أشار بذلك ، وكحديث تأبير النخل .
وأما بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم تبق له نصيحة ، ولكن إذا كانت هذه اللام لام الأجلية بقيت النصيحة ، وأما النصيحة لأئمة المسلمين وهم ولاة الأمور منا ، القائمون بمصالح عباد اللّه الدينية ، والحكام وأهل الفتاوى في الدين من العلماء يدخلون في أئمة المسلمين أيضا ، فإن كان الحاكم عالما كان ،
وإن لم يكن من العلماء بالمسألة سأل من يعلم عن الحكم فيها ، فيتعين على المفتي أن ينصح ويفتيه بما يراه أنه حق عنده ، ويذكر له دليله على ما أفتاه به ، فيخلصه عند اللّه ، فهذه النصيحة لأئمة المسلمين ،
ولما لم تفرض العصمة لأئمة المسلمين ، وعلم أنهم قد يخطئون ويتبعون أهواءهم ، تعين على أهل الدين من العلماء بالدين أن ينصحوا أئمة المسلمين ، ويردوهم عن اتباع أهوائهم في الناس ، فيؤلفون بين ما هو الدين عليه وبينهم ،
فيعود على الناس نفع ذلك ؛ وأما النصيحة لعامتهم فمعلومة ، وهي أن يشير عليهم بما لهم فيه المصلحة التي لا تضرهم في دينهم ولا دنياهم ، فإن كان ولا بد من ضرر يقوم من ذلك إما في الدين أو في الدنيا ، فيرجحوا في النصيحة ضرر الدنيا على ضرر الدين ، فيشيرون عليهم بما يسلم لهم فيه دينهم ؛ ومهما قدروا على دفع الضرر في الدين والدنيا معا بوجه من الوجوه وعرفوه تعين عليهم في الدين أن ينصحوه في ذلك ويبينوه ،
والمستفتي بالخيار في ذلك ، بحسب ما يوفقه اللّه إليه ، فالنصيحة تعم إذ هي عين الدين ، وهي صفة الناصح ، فتسري منفعتها في جميع العالم كله من الناصح الذي يستبرئ لدينه ، ويطلب معالي الأمور ، فيرى حيوانا قد أضر به العطش ، وقد حاد ذلك الحيوان عن طريق الماء ، فيتعين عليه أن يرده إلى طريق الماء ويسقيه إن قدر على ذلك ،
وكذلك لو رأى من ليس على ملة الإسلام يفعل فعلا من سفساف الأخلاق تعين على الناصح أن يرده عن ذلك مهما قدر إلى مكارم الأخلاق ، وإن لم يقدر عليه تعين عليه أن يبين له عيب ذلك ، فربما انتفع بتلك النصيحة الشخص ، بما له في ذلك من الثناء الحسن ،
وينتفع بتلك النصيحة من اندفع عنه ضرر هذا الذي أراد أن يضره ، وإن لم يكن مسلما ، ويحتاج الناصح إلى علم كثير من علم الشريعة ،
لأنه العلم العام الذي يعم جميع أحوال الناس ، وعلم زمانه ومكانه ، وما ثمّ إلا الحال والزمان والمكان ، وبقي للناصح علم الترجيح إذا تقابلت هذه الأمور ، فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال أو المكان ؛
وكذلك كل واحد منها ، فينظر في الترجيح فيفعل بحسب ما يترجح عنده ، وذلك على قدر إيمانه ، فإن الناصح في دين اللّه يحتاج إلى علم كثير ، وعقل وفكر صحيح ، وروية حسنة ، واعتدال مزاج وتؤدة ، وإن لم تكن فيه هذه الخصال كان الخطأ أسرع إليه من الإصابة. وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة ، وكل إنسان يقبل النصح من غيره لا من نفسه ، والمؤمن مرآة أخيه ، لأن النفس عمياء عن عيوبها ، بصيرة بعيوب غيرها ، ولذلك يحتاج المؤمن إلى الإخوان لتبيين آفات نفسه ، فلسان حال الأخ في عقد الأخوة ، كل واحد منا بصير في عيوب أخيه لعماه عن عيوب نفسه ، واستيلاء رمسه ، فأخوك من صدقك لا من صدّقك ، ومن جرحك لا من مدحك ،
وإليه ننظر قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : [ من أرضى الناس بسخط اللّه صار مادحه منهم ذاما ، ومن أرضى اللّه بسخط الناس أرضى اللّه عنه الناس ويهبه العين الصحيحة ] يرى الطالب معاديه بالعرف العام وليا ، والمسئ إليه محسنا ، إذ هو إنما يعادي عدوه ، فهو وليه من حيث لا يدري ، قال الشاعر :
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم *** والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزكي بعضهم *** بعضا ليدفع معور
عن معورفمادحك إنما يتولى عدوك ، فاحذره ولا تأنس إليه ، فتميل في كل أحوالك إليه ،
واعلم أنه من التزم النصح قل أولياؤه ، فإن الغالب على الناس اتباع الأهواء ، ولذلك يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : [ ما ترك الحق لعمر من صديق ] وكذلك قال أويس القرني : إن الموت وذكره لم يتركا لمؤمن فرحا ،
وإن علم المؤمن بحقوق اللّه لم يترك في ماله فضة ولا ذهبا ، وإن قيامه للّه بالحق لم يترك له صديقا ولنا في ذلك :
لما لزمت النصح والتحقيقا *** لم يتركا لي في الوجود صديق
أما من استشهد بقول القائل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساوي
فذلك مقام من أحبك لنفسه ، وأما من أحبك لك فلا سبيل ، ولما كان حب اللّه إيانا لنا لا لنفسه نبهنا على معايبنا ، وأظهر لنا نقائصنا ، ودلنا على مكارم الأخلاق ، ومحامد الأفعال ، وأوضح لنا مناهجها ، ورفع لنا معارجها ، ولما أحببناه لأنفسنا ولم يتمكن في الحقيقة أن نحبه له تعالى عن ذلك ، رضينا بما يصدر منه مما لا يوافق أغراضنا ، وتمجه نفوسنا ، وتكرهه طباعنا ، والسعيد هو الذي رضي بذلك منه تعالى ، ومن سواه يضجر ويسخط ، فنسأل اللّه تعالى العفو والعافية في ذلك لنا وللمسلمين :
قسما بسورة العصر *** إن الإنسان في خسر
غير من أوصوا نفوسهمو *** بينهم بالحق والصبر
فهمو القوم الذين نجوا *** من عذاب اللّه في القبر
ثم في يوم النشور إذا *** جمعوا للعرض في الحشر
(104) سورة الهمزة مكيّة
------------
(3) الفتوحات ج 1 / 522 - كتاب روح القدس - كتاب تلقيح الأذهان - الفتوحات ج 1 / 470 - كتاب روح القدس - الديوان / 440تفسير ابن كثير:
فأقسم تعالى بذلك على أن الإنسان لفي خسر أي في خسارة وهلاك.
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
أن كل إنسان خاسر، والخاسر ضد الرابح.
والخسار مراتب متعددة متفاوتة:
قد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم.
تفسير البغوي
( إن الإنسان لفي خسر ) أي خسران ونقصان ، قيل : أراد به [ الكافر ] بدليل أنه استثنى المؤمنين ، و " الخسران " : ذهاب رأس مال الإنسان في هلاك نفسه وعمره [ بالمعاصي ] ، وهما أكبر رأس ماله .
الإعراب:
(إِنَّ الْإِنْسانَ) إن واسمها (لَفِي) اللام المزحلقة (في خُسْرٍ) جار ومجرور خبر إن والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها.