المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة المزمل: [الآية 7]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة المزمل | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» .
- إشارة - إلى التصرف في الجهات
، وما ذكر منها إلا المشرق وهو الظاهر ، والمغرب وهو الباطن ، وبالعين الواحدة التي هي الشمس إذا طلعت أحدثت اسم المشرق ، وإذا غربت أحدثت اسم المغرب ، والإنسان ظاهر وباطن «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلً» في ظاهرك وباطنك ، فإنه رب المشرق والمغرب ، وبهذا الاسم في قوله تعالى «وَكِيلًا» ثبت الملك والملك للخلق ، فإنا ما وكلناه إلا في التصرف في أمورنا فيما هو لنا ، لعلمنا بكمال علمه فينا ، فإنه يعلم منا ما لا نعلمه من نفوسنا ، والوكيل بلا شك خليفة الموكل فيما وكله فيه ، فكونه إلها ما هو كونه وكيلا ، ومن هذه الحقيقة
قال صلّى اللّه عليه وسلّم [ اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ] فأمر اللّه العبد بأن يتخذه وكيلا بعد أن ملّكه جميع ما خلقه له من منافعه ، ليتفرغ الإنسان لما خلق له من عبادة ربه ، ولا تعارض بين ذلك وبين قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) فجعل الإنفاق بيد العبد والملك للّه ،
وفي هذا القدر الذي أمرهم به من الإنفاق فيه ، أمرهم أن يتخذوه وكيلا ، فلا تنافي بين المقامين ، فالملك للّه والإنفاق للعبد بحيث الأمر ، وما أطلق له في ذلك ،
وفي الإنفاق أمر اللّه أن يوكل اللّه في ذلك ، لعلمه بمواضع الإنفاق والمصارف التي ترضي رب المال في الإنفاق ، فنزلت الشرائع أبانت له مصارف المال ، فأنفق على بصيرة بنظر الوكيل ، فمن أنفق فيما لم يأمره الوكيل بالإنفاق فيه ، فعلى المنفق قيمة ما استهلك من مال
من استخلفه فيه ، ولا شيء له ، فإنه مفلس بحكم الأصل ، فلا حكم عليه ، وهذا هو آخر تهليل ورد في القرآن الذي وصل إلينا ، وهي ستة وثلاثون مقاما ،
[ التوحيد السادس والثلاثون في القرآن وهو توحيد الوكالة: ]
وهذا التوحيد السادس والثلاثون ، هو توحيد الوكالة ، وهو من توحيد الهوية ، وفي هذا التوحيد ملّك اللّه العالم الإنساني جميع ما خلقه له من منافعه ، وأمره أن يوكل اللّه في ذلك ، فأعطى هذا التوحيد الإنسان رفع الحكم عنه فيما أتلف من مال من استخلفه ،
[ تحقيق : «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» الآية ]
-تحقيق - الوكالة نيابة عن الموكلفيما وكله فيه أن يقوم مقامه ، فأثبت لك الشيء وسألك أن تستنيبه فيه بحكم الوكالة ، فمن كلّ وجه النيابة مشروعة ، وهل تصح من جهة الحقيقة أم لا ؟ فمنا من يقول : إنها تصحّ من جهة الحقيقة ،
فإن الأموال ما خلقت إلا لنا ، إذ لا حاجة للّه إليها ، فهي لنا حقيقة ، ثم وكلنا الحق تعالى أن يتصرف لنا فيها ، لعلمنا أنه أعلم بالمصلحة ، فتصرف على وجه الحكمة التي تقتضي أن تعود على الموكل منه منفعة ، فأتلف ماله هذا الوكيل الحق تعالى ،
بغرق أو حرق أو خسف ، أو ما شاء ، تجارة له ، ليكسبه بذلك في الدار الآخرة أكثر مما قيل إنه في ظاهر الأمر إتلاف ، وما هو إتلاف بل هي تجارة ، بيع بنسيئة ،
يسمى مثل هذا تجارة رزء ، لكن ربحها عظيم ، وهذا علم يعرفه الوكيل لا الموكل ، وهو يحفظ عليه ماله لمصلحة أخرى يقتضيها علمه فيها ،
ومنا من وكّل اللّه ، فاستخلفه الوكيل في التصرف على حدّ ما يرسمه الوكيل ، لعلم الوكيل بالمصلحة ، فصار الموكل وكيلا عن وكيله ، وهو الذي لا يتعدى الأمر المشروع في تصرفه ، فهو وإن كان المال له فالتصرف فيه بحكم وكيله ، وهذا نظر غريب ، ومنا من قال : لا تصح من جهة الحقيقة ،
فإن اللّه ما خلق الأشياء - والأموال من الأشياء - إلا له تعالى ، لتسبيحه ، ووقعت المنفعة لنا بحكم التبعية ، فإذا خلق الأشياء من أجله لا من أجلنا ، فما لنا شيء نوكله فيه ، لكن نحن وكلاؤه في الأشياء ، فحدّ لنا حدودا فنتصرف فيها على ما حدّ لنا ،
فإن زدنا على ما رسم لنا أو نقصنا عاقبنا ، فلو كانت الأموال لنا لكان تصرفنا فيها مطلقا ، وما وقع الأمر هكذا ، بل حجر علينا التصرف فيها ،
فما هي وكالة مفوضة بل مقيدة بوجوه مخصوصة من رب المال الذي هو الحق الموكل ، وعلى كل وجه فالنيابة حاصلة ، إما منه تعالى ، وإما منا ،
وقد ثبتت في أي طرف كان وفي هذه الآية أمر اللّه عبده بالسكون تحت مجاري الأقدار ، وما يأتي به اللّه إليه في الليل والنهار ، فيكون هو سبحانه الذي يتصرف في أمر عبده ، حتى يوفيه ما قدر له
من كل ما يصيبه ، حتى إنّه لو كان مما يصيبه السفر والانتقال ، لنقله الحق بهذه الصفة التي هو عليها من السكون في محفة عناية إلهية ، لا يعرف الحركة المتعبة ، مستريحا مظللا عليه مخدوما ، والتوكل اعتماد القلب على اللّه تعالى ،
مع عدم الاضطراب عند فقد الأسباب الموضوعة في العالم التي من شأن النفوس أن تركن إليها ، فإن اضطرب فليس بمتوكل ، وهو من صفات المؤمنين ، فالمؤمن العالم يتخذ اللّه وكيلا يسلم إليه أموره ، ويجعل زمامها بيده ،
فهو أعلم بما يصلح له ، ونبه تعالى بهذا الأمر أنه لا ينبغي الوكالة إلا لمن هو إله ، لأنه عالم بالمصالح إذ هو خالقها ، فاتخاذه تعالى وكيلا إنما هو في المصلحة لنا لا في عين الأشياء ، فالعبد يتخذ اللّه وكيلا نائبا عنه فيما ملّكه إياه ، شكرا على ما أولاه ،
والذين اتخذوه وكيلا صاروا أمواتا بين يديه ، فصاروا كالميت بين يدي الغاسل ، ولهذا أعطاهم صفة التقديس وهي الطهارة
- إشارة - العجب ممّن اتخذ مستخلفه وكيل
، فلو لا الأمر الرباني ، لرده الأدب الكياني ، فإنه ليس للعبد من الجرأة أن يوكل سيده ، فلما تبرع بذلك لعباده ، ونزل إليهم من كبريائه بلطفه الخفي ، اتخذوه وكيلا ، وأورثهم هذا النزول إدلالا ، كما أنه لولا أن الحق أعطى العبد الاستقلال بالخلافة ما قال له عن نفسه تعالى آمرا «فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا»
ولا قال له صلّى اللّه عليه وسلّم [ أنت الخليفة في الأهل والصاحب في السفر ] وهو صلّى اللّه عليه وسلّم القائل [ إن اللّه أدبني فأحسن أدبي ]
- شعر :
أنا صاحب الملك الذي قال إنني *** أنا نائب فيه بأصدق قيل
ولو لم يكن ملكي لما صح أن أرى *** موكله والحق فيه وكيلي
وعن أمرنا كانت وكالتنا له *** وبرهان دعواي وعين دليلي
كتاب له حق وفيه اعترافه *** بما قلت فيه فالسبيل سبيلي
يقول بأضداد الأمور وجوده *** فقد حرت فيه وهو خير جليل
عجبت له من غائب وهو حاضر *** بتنفيذ أخبار وبعث رسول
إلى من ؟ وإن العين عين وجوده *** وممن ؟ فقد حرنا فكيف وصولي
إلى منزل ما فيه عين غريبة *** ولا حيرة فيها شفاء غليل
[ حقيقة التوكيل ومخاطبة الحق للشيخ في سره : ]
يقول الشيخ الأكبر رضي اللّه عنه :
خاطبني الحق في سري ، من اتخذني وكيلا فقد ولاني ، ومن ولاني فله مطالبتي وعليّ إقامة الحساب فيما ولاني فيه ، يقول الشيخ رضي
اللّه عنه : فانعكس الأمر وتبدلت المراتب ، هذا صنع اللّه مع عباده الذين اصطفاهم وارتضاهم ، وما فوق هذا الامتنان امتنان ترقى الهمة إلى طلبه .
[سورة المزمل (73) : الآيات 10 إلى 11]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11)
كما أبطن اللّه رحمته في عذابه ونقمته ، مثل ما يقع بالمريض من عذابه بالمرض ، رحمته به فيما يكفر عنه من الذنوب ، وكذلك من انتقم منه في إقامة الحد ارتفعت عنه المطالبة في الدار الآخرة ، كذلك أبطن نقمته في نعمته ، فهو ينعم الآن بما به يتعذب ، لبطون العذاب في الدار الآخرة ، فسبحان من أبطن رحمته في عذابه وعذابه في رحمته ، ونعمته في نقمته ونقمته في نعمته.
[سورة المزمل (73) : الآيات 12 إلى 20]
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
واللّه يقدر الليل والنهار ، بالإيلاج والغشيان والتكوير ، لإيجاد ما سبق في علمه أن يظهر فيه ، من الأحكام والأعيان في العالم العنصري ،
وأما قوله تعالى" فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» اعلم أن التعوذ باللّه من الشيطان الرجيم عند افتتاح قراءة القرآن في صلاة وفي غيرها فرض ،
للأمر الإلهي الوارد في قوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) وقراءة البسملة في القراءة في الصلاة فرضا كانت الصلاة أو نفلا في الفاتحة والسورة أولى من تركها ، فإن الفرض على المصلي أن يقرأ ما تيسر من القرآن ،
وقد عيّن اللّه الذي أراد من القرآن في الصلاة ، وهو الذي تيسر ، فقد عرّف بعد ما نكر ، وذلك هو الفاتحة ، فإن تيسر له قراءة البسملة قرأها ،
وإن لم يتيسر قراءتها في الفاتحة وغيرها فلا حرج ، وأما الفاتحة فلا بد منها في الصلاة ، وإن لم يقرأ الفاتحة فما هي الصلاة التي قسمها الحق بينه وبين عبده ،
والبسملة عندنا آية من القرآن حيثما وردت من القرآن ، وهي آية إلا في سورة النمل في كتاب سليمان عليه السلام ، فإنها جزء من آية ما هي آية كاملة ، فقراءة الفاتحة فاتحة الكتاب في الصلاة واجبة ، وإن تركها لم تجزه صلاته ، وما عداها من القرآن ما فيه توقيت ،
ويستحب القراءة في الصلاة كلها ، والعاقل الأديب مع اللّه إذا دخل في الصلاة لا يناجيه إلا بقراءة أم القرآن ، فهي الجامعة لكلامه ، فكان الحديث الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الذي رواه عن ربه تعالى ، مفسرا لما تيسر من القرآن ،
وإذا ورد أمر مجمل من الشارع ، ثم ذكر الشارع وجها خاصا مما يكون تفسيرا لذلك المجمل،
[ واجب الأدباء من العلماء تجاه المجمل من كلام اللّه تعالى :]
كان الواجب عند الأدباء من العلماء أن لا يتعدوا في تفسير ذلك المجمل ما فسره به قائله وهو اللّه تعالى ، وأن يقفوا عنده ، وشرع المناجاة بالكلام الإلهي في حال القيام في الصلاة خاصة ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [ يقول
اللّه قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : نصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد الحمد للّه رب العالمين ، يقول اللّه : حمدني عبدي - الحديث –
[ «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» ]
فالفاتحة قرآن من حيث ما اجتمع العبد والرب في الصلاة ، وهي فرقان من حيث ما تميز به العبد من الربّ مما اختص به في القراءة من الصلاة ، والعبد في الفاتحة قد أبان الحق بمنزلته فيها ، وأنه لا صلاة له إلا بها ، فإنها تعرفه بمنزلته من ربه ، وأنها منزلة مقسمة بين عبد ورب .
كما ثبت ، فقال تعالى «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» الزكاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع ، فلا خلاف في ذلك ، وهي واجبة على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك للنصاب ملكا تاما ، والزكاة واجبة في المال لا على المكلف ، وإنما هو مكلف في إخراجها من المال ،
والأولى أن يكون كل ناظر في المال هو المخاطب بإخراج الزكاة منه ، وعلى ذلك فإن الوصي على المحجور عليه يخرج عنه الزكاة وليس له فيه شيء ،
ولهذا قلنا : إنها حق في المال ؛ فإن الصغير لا يجب عليه شيء ، وقد أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالتجارة في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة ،
وعلى ذلك فإن الصدقة أي الزكاة واجبة في مال اليتيم يخرجها وليه ، وواجبة في مال المجنون والمحجور عليه يخرجها وليه ، وواجبة في مال العبد يخرجها العبد ، وأما أهل الذمة فالذي أذهب إليه أنه لا يجوز أخذ الزكاة من كافر ،
وإن كانت واجبة عليه مع جميع الواجبات ، لأنه لا يقبل منه شيء مما كلف به إلا بعد حصول الإيمان به ، فإن كان من أهل الكتاب ففيه عندنا نظر ،
فإن أخذ الجزية منهم قد يكون تقريرا من الشارع لهم على دينهم الذي هم عليه ، فهو مشروع لهم ، فيجب عليهم إقامة دينهم ، فإن كان فيه أداء زكاة وجاءوا به . قبلت منهم ، وليس لنا طلب الزكاة من مشرك ، وإن جاء بها قبلناها ،
والكافر هنا المشرك ليس الموحد ، فلا زكاة على أهل الذمة بمعنى أنها لا تجزي عنهم إذا أخرجوها ، مع كونها واجبة عليهم كسائر فروض الشريعة ، لعدم الشرط المصحح لها وهو الإيمان بجميع ما جاءت به الشريعة ، لا بها ولا ببعض ما جاء به الشرع ، فلو آمن بالزكاة وحدها أو بشيء من الفرائض أنها فريضة ، أو بشيء من النوافل أنها نافلة ،
ولو ترك الإيمان بأمر واحد من فرض أو نفل لم يقبل منه إيمانه إلا أن يؤمن بالجميع ، ومع هذا فليس لنا أن نسأل ذميا زكاته ، فإن أتى بها من نفسه فليس لنا ردها ، لأنه جاء بها إلينا من غير مسئلة ، فيأخذها السلطان لبيت مال المسلمين ، لا يأخذها زكاة ولا يردها ، فإن ردها فقد عصى أمر
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم- حكمة فرض الزكاة -
الأصل الذي ظهرت عنه الأشياء من أسمائه الاسم القدوس ، وهو الطاهر لذاته من دنس المحدثات ، فلما ظهرت الأشياء في أعيانها وحصلت فيها دعاوي الملاك بالملكية ، طرأ عليها من نسبة الملك إلى غير منشئها ما أزالها عن الطهارة الأصلية ، التي كانت لها من إضافتها إلى منشئها قبل أن يلحقها هذا الدنس العرضي بملك الغير لها ، وكفى بالحدث حدثا ، فجعل الزكاة طهارة للأموال.
واتفق العلماء على أن الزكاة تجب في ثمانية أشياء محصورة في المولدات ، من معدن ونبات وحيوان ، فالمعدن الذهب والفضة ، والنبات الحنطة والشعير والتمر ، والحيوان الإبل والبقر والغنم ، فكذلك من جهة الاعتبار في الإنسان ، جعل اللّه عليه زكاة جوارحه الثمانية ، وهي السمع والبصر واللسان واليد والرجل والبطن والفرج والقلب ، عيّن اللّه فيها نصيبا يرجع إلى اللّه عن أمر اللّه ، لينسبها إلى مالكها الأصلي ،
فتكتسب الطهارة في كل عضو ، فزكاة البصر ما يجب للّه تعالى فيه من الحق ، كالغضّ عن المحرمات ، والنظر فيما يؤدي النظر إليه من القربة عند اللّه كالنظر في المصحف ، وفي وجه العالم ، وفي وجه من يسرّ بنظرك إليه من أهل وولد وأمثالهم ،
وكالنظر إلى الكعبة ، إلى غير ذلك ، وعلى هذا النحو تنظر في جميع الأعضاء المكلفة في الإنسان ، في تصريفها فيما ينبغي وكفها عما ينبغي «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً»
خاطب الحق أصحاب الجدة واختبر عباده بالمال ، ثم اختبرهم بالسؤال منه ، وأنزل الحق نفسه منزلة السائلين من عباده أهل الحاجة أهل الثروة منهم ،
بقوله في الحديث [ يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني ، واستسقيتك فلم تسقني ]
أما العلماء فالتذوا بسماع هذا الخطاب حيث كانوا ، فإذا أقرضوه رأوا أن الصدقة تقع بيد الرحمن ، فحصل لهم بالمال وإعطائه مناولة الحق منهم ذلك ، فكانت لهم وصلة المناولة ، وعلمنا بتقييد القرض بالحسن أنه تعالى يريد أن نرى النعمة منه وأنها نعمته ،
فالحسن في العمل أن تشهد اللّه فيه ، فإنه من الإحسان ، وهو أن تعبد اللّه كأنك تراه ، وذلك أن تعلم أن المال مال اللّه ، وأن ملكك إياه بتمليك اللّه ،
وبعد التمليك نزل إليك في ألطافه إلى باب المقارضة .
يقول لك : يغيب عنك طلبي منك القرض في هذا المال ، من أن تعرف أن هذا المال هو عين مالي ، ما هو لك ، فكما لا يعز عليك ولا يصعب إذا رأيت أحدا يتصرف في ماله كيف شاء ، كذلك لا يعز عليك ولا يصعب ما أطلبه منك مما جعلتك مستخلفا فيه ،
لعلمك بأني ما طلبت منك إلا ما أمنتك
عليه ، لأعطيه من أشاء من عبادي ، والزكاة معينة ، ما أعطيتها قط لك ، بل أمنتك عليها ، والأمين لا يصعب عليه أداء الأمانة إلى أهلها ، فإذا جاءك المصدق الذي هو رسول رب الأمانة ووكيلها ، أد إليه أمانته عن طيب نفس ،
فإن الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه ، فإنك إذا رأيته علمت أن المال ماله والعبد عبده ، والتصرف له ولا مكره له ، وتعلم أن هذه الأشياء إن عملتها لا يعود على اللّه منها نفع ، وإذا أنت لم تعملها لا يتضرر بذلك ، وأن الكل يعود عليك ، فالزم الأحسن إليك تكن محسنا إلى نفسك ، وإذا كنت محسنا كنت متقيا أذى شح نفسك ،
فجمع لك هذا الفعل الإحسان والتقوى ، ولما كان كل قرض جر نفعا فهو ربا ، واللّه لا ينهى عن الربا ويأخذه منا ، لذلك كان العبد المقرض أن لا يقرض لأجل التضاعف ، بل لأجل الأمر ، فلا يخطر له عند الإعطاء النفع ، وللمعطى الذي هو المقترض أن يحسن في الوفاء ، ويزيد فوق ذلك ما شاء من غير أن يكون شرطا في نفس القرض ،
فإن اللّه قد وعد بتضاعف الأجر في القرض ، فالإحسان في الجزاء يوم القيامة للّه تعالى على ذلك ،
وهذا معنى قوله تعالى «حَسَناً» في وصف القرض ، فإن اللّه يعاملنا بما شرع لنا لا بغير ذلك ، واللّه تعالى أمر عباده هنا بهذه الثلاثة : الصلاة والزكاة والقرض الحسن ، والقرض هنا صدقة التطوع ، فورد الأمر بالقرض كما ورد بإعطاء الزكاة ،
والفرق بينهما أن الزكاة موقتة بالزمان والنصاب وبالأصناف الذين تدفع إليهم ، والقرض ليس كذلك ، وقد تدخل الزكاة هنا في القرض ،
فكأنه يقول «وَآتُوا الزَّكاةَ» قرضا للّه بها فيضاعفها لكم ، فالقرض الذي لا يدخل في الزكاة غير موقّت لا في نفسه ولا في الزمان ولا بصنف من الأصناف ، والزكاة المشروعة والصدقة لفظتان بمعنى واحد ،
قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وقال تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) فسماها صدقة ، فالواجب منها يسمى زكاة وصدقة ، وغير الواجب فيها تسمى صدقة التطوع ولا تسمى زكاة شرعا ، أي لم يطلق الشرع عليه هذه اللفظة ، مع وجود المعنى فيها من النمو والبركة والتطهير ، فإن الفرض قد عيّن اللّه أصنافه ورتبه على نصاب معين وزمان معين ، والتطوع من ذلك لا يقف عند شيء ،
فإن التطوع إعطاء ربوبية فلا يتقيد ، والفرض إعطاء عبودية فهو بحسب ما يرسم له سيده ، وإعطاء العبودية أفضل ، فإن الفرض أفضل من النفل ، وأين عبودية الاضطرار من عبودية الاختيار ؟ وسماها اللّه صدقة أي كلفة شديدة على النفس ،
لخروجها عن طبعها في ذلك ، لأن النفس مجبولة على حب المال وجمعه ، ولهذا آنسها الحق تعالى بقول نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم للأنفس [ إن الصدقة تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ]
وذلك لأمرين : أحدهما ليكون السائل يأخذها من يد الرحمن لا من يد المتصدق ،
فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول [ إنها تقع بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل ] فتكون المنة للّه على السائل لا للمتصدق ، فإن اللّه طلب منه القرض ، والسائل ترجمان الحق في طلب هذا القرض ،
فلا يخجل السائل إذا كان مؤمنا من المتصدق ، ولا يرى أن له فضلا عليه ، فإن المتصدق إنما أعطى اللّه القرض الذي سأل منه وليربيها له ،
وهذا من الغيرة الإلهية والفضل الإلهي ، والأمر الآخر ، ليعلمه أنها مودعة في موضع تربو له فيه وتزيد ، هذا كله ليسخو بإخراجها ويتّقي شح نفسه ، وفي جبلة الإنسان طلب الأرباح في التجارة ونمو المال ،
فلهذا جاء الخبر بأن اللّه يربي الصدقات ، ليكون العبد في إخراج المال من الحرص عليه الطبيعي لأجل المعاوضة والزيادة والبركة بكونه زكاة ، كما هو في جمع المال وشح النفس من الحرص عليه الطبيعي ، فرفق اللّه به حيث لم يخرجه عما جبله اللّه عليه ، فالبخيل بالصدقة بعد هذا التعريف الإلهي وما تعطيه جبلة النفوس من تضاعف الأموال ،
دليل على قلة الإيمان عند هذا البخيل ، إذ لو كان مؤمنا على يقين من ربه ، مصدقا له فيما أخبر به عن نفسه في قرض عبده وتجارته ، لسارع بالطبع إلى ذلك كما يسارع به في الدنيا مع أشكاله ، عاجلا وآجلا ، ولهذا سماها اللّه صدقة ،
أي هي أمر شديد على النفس ، تقول العرب : رمح صدق ؛ أي صلب شديد قوي ، أي تجد النفس لإخراج هذا المال للّه شدة وحرجا ، كما قال ثعلبة ابن حاطب ، ولما كان القرض فيه سد الخلة ، قالت اليهود (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي من أجل فقره طلب القرض منا ، وغابوا عن الذي أراده الحق تعالى من ذلك ، من غاية وصلته بخلقه ،
كما جاء في الصحيح [ جعت فلم تطعمني ] ثم قال تعالى «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ» وإن كان الخير كل فعل مقرب إلى اللّه من صدقة وغيرها ، ولكن مع هذا فقد انطلق على المال خصوصا اسم الخير ،
قال تعالى (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)
وقال تعالى (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) يعني المال «هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
(74) سورة المدّثر مكيّة
------------
(9) الفتوحات ج 3 / 287 - ج 4 / 280 - ج 3 / 166 - ج 2 / 420 - ج 1 / 671 - ج 2 / 294 ، 199 - ج 1 / 488 - ج 4 / 395 - ج 3 / 478 - ج 4 / 408 - الديوان / 165 ، 166 - الفتوحات ج 2 / 371تفسير ابن كثير:
ولهذا قال : ( إن لك في النهار سبحا طويلا ) قال ابن عباس وعكرمة وعطاء بن أبي مسلم : الفراغ والنوم .
وقال أبو العالية ومجاهد وابن مالك والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس وسفيان الثوري : فراغا طويلا .
وقال قتادة : فراغا وبغية ومنقلبا .
وقال السدي : ( سبحا طويلا ) تطوعا كثيرا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : ( [ إن لك في النهار ] سبحا طويلا ) قال : لحوائجك ، فأفرغ لدينك الليل . قال : وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله من على العباد فخففها ووضعها ، وقرأ : ( قم الليل إلا قليلا ) إلى آخر الآية ، ثم قال : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) حتى بلغ : ( فاقرءوا ما تيسر منه ) [ الليل نصفه أو ثلثه . ثم جاء أمر أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه وعن أمته ] فقال : قال : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ الإسراء : 49 ] وهذا الذي قاله كما قاله .
والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا يحيى ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام : أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارا له بها ويجعله في الكراع والسلاح ، ثم يجاهد الروم حتى يموت ، فلقي رهطا من قومه فحدثوه أن رهطا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أليس لكم في أسوة ؟ " فنهاهم عن ذلك ، فأشهدهم على رجعتها ، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر ، فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : ائت عائشة فاسألها ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك . قال : فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها ، فقال : ما أنا بقاربها ; إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا ، فأبت فيهما إلا مضيا ، فأقسمت عليه ، فجاء معي ، فدخلنا عليها فقالت : حكيم ؟ وعرفته ، قال : نعم . قالت : من هذا معك ؟ قال : سعيد بن هشام . قالت : من هشام ؟ قال : ابن عامر . قال : فترحمت عليه وقالت : نعم المرء كان عامر . قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ، فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : ألست تقرأ هذه السورة : ( يا أيها المزمل ) ؟ قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة ، فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو [ ويستغفر ثم ينهض وما يسلم . ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد ربه ويذكره ويدعو ] ثم يسلم تسليما يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم ، أوتر بسبع ، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها ، وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض ، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا قام ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان .
فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها ، فقال : صدقت ، أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة .
هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه . وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث قتادة بنحوه .
طريق أخرى عن عائشة في هذا المعنى : قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا زيد بن الحباب - وحدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران قالا جميعا ، واللفظ لابن وكيع : عن موسى بن عبيدة ، حدثني محمد بن طحلاء ، عن أبي سلمة ، عن عائشة قالت : كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فاجتمعوا ، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيما ، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل - فقال : " أيها الناس ، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل ، وخير الأعمال ما ديم عليه " . ونزل القرآن : ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر ، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه ، فرحمهم فردهم إلى الفريضة ، وترك قيام الليل .
ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف . والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة ، وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة ، وليس كذلك ، وإنما هي مكية . وقوله في هذا السياق : إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر - غريب ; فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مسعر ، عن سماك الحنفي ، سمعت ابن عباس يقول : أول ما نزل : أول المزمل ، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن أبي أسامة به .
وقال الثوري ومحمد بن بشر العبدي كلاهما عن مسعر ، عن سماك ، عن ابن عباس : كان بينهما سنة . وروى ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب عن أبي عبد الرحمن قال : لما نزلت : ( يا أيها المزمل ) قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، حتى نزلت : ( فاقرءوا ما تيسر منه ) قال : فاستراح الناس .
وكذا قال الحسن البصري .
وقال ابن أبي حاتم : [ حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي ] عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال : فقلت - يعني لعائشة - : أخبرينا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : ألست تقرأ : ( يا أيها المزمل ) ؟ قلت : بلى . قالت : فإنها كانت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى انتفخت أقدامهم ، وحبس آخرها في السماء ستة عشر شهرا ، ثم نزل .
وقال معمر عن قتادة : ( قم الليل إلا قليلا ) قاموا حولا أو حولين ، حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم ، فأنزل الله تخفيفها بعد في آخر السورة .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر عن سعيد - هو ابن جبير - قال : لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها المزمل ) قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل ، كما أمره ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه ، فأنزل الله عليه بعد عشر سنين : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ) إلى قوله : ( وأقيموا الصلاة ) فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عمرو بن رافع ، عن يعقوب القمي به .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا [ أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا ] فشق ذلك على المؤمنين ، ثم خفف الله عنهم ورحمهم ، فأنزل بعد هذا : ( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض ) إلى قوله : ( فاقرءوا ما تيسر منه ) فوسع الله - وله الحمد - ولم يضيق .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
{ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا } أي: ترددا على حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام.
تفسير البغوي
( إن لك في النهار سبحا طويلا ) أي : تصرفا وتقلبا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك ، وأصل " السبح " سرعة الذهاب ، ومنه السباحة في الماء وقيل : " سبحا طويلا " أي : فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك فصل من الليل .
وقرأ يحيى بن يعمر " سبخا " بالخاء المعجمة أي : استراحة وتخفيفا للبدن ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ، وقد دعت على سارق : " لا تسبخي عنه بدعائك عليه " [ أي : لا تخففي ] .
الإعراب:
(إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (لَكَ) متعلقان بخبر محذوف (فِي النَّهارِ) حال (سَبْحاً) اسم إن المؤخر و(طَوِيلًا) صفة والجملة مستأنفة لا محل لها.