«يا أيها الذين آمنوا اصبروا» على الطاعات والمصائب وعن المعاصي «وصابروا» الكُفَّار فلا يكونوا أشد صبرا منكم «ورابطوا» أقيموا على الجهاد «واتقوا الله» في جميع أحوالكم «لعلَّكم تفلحون» تفوزون بالجنة وتنجون من النار.
وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ) قال الحسن البصري ، رحمه الله : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم ، وهو الإسلام ، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء ، حتى يموتوا مسلمين ، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم . وكذلك قال غير واحد من علماء السلف .
وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات . وقيل : انتظار الصلاة بعد الصلاة ، قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ، ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهم .
وروى ابن أبي حاتم هاهنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي ، من حديث مالك بن أنس ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، مولى الحرقة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " .
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي ، أنبأنا ابن أبي كريمة ، عن محمد بن يزيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل علي أبو هريرة يوما فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ) ؟ قلت : لا . قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ، يصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها ، فعليهم أنزلت : ( اصبروا ) أي : على الصلوات الخمس ( وصابروا ) [ على ] أنفسكم وهواكم ( ورابطوا ) في مساجدكم ( واتقوا الله ) فيما عليكم ( لعلكم تفلحون ) .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت ، عن داود بن صالح ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - بنحوه .
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جده ، عن شرحبيل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط " .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا موسى بن سهل الرملي ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا محمد بن مهاجر ، حدثني يحيى بن يزيد ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن شرحبيل ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب ؟ " قلنا : بلى يا رسول الله . قال : " إسباغ الوضوء في أماكنها ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط " .
وقال ابن مردويه : حدثني محمد بن علي ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي ، أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي ، أنبأنا عثمان بن عبد الرحمن ، أنبأنا الوازع بن نافع ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي أيوب ، رضي الله عنه ، قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟ " قلنا : نعم ، يا رسول الله ، وما هو ؟ قال : " إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة " .
قال : " وهو قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) فذلك هو الرباط في المساجد " وهذا حديث غريب من هذا الوجه جدا .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ، حدثني داود بن صالح قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية ( اصبروا وصابروا ورابطوا ) ؟ قال : قلت : لا . قال : إنه - يا ابن أخي - لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة . رواه ابن جرير ، وقد تقدم سياق ابن مردويه ، وأنه من كلام أبي هريرة ، فالله أعلم .
وقيل : المراد بالمرابطة هاهنا مرابطة الغزو في نحور العدو ، وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين ، وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك ، وذكر كثرة الثواب فيه ، فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها " .
حديث آخر : روى مسلم ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا ابن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، أخبرني أبو هانئ الخولاني ، أن عمرو بن مالك الجنبي أخبره : أنه سمع فضالة بن عبيد يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ميت يختم على عمله ، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله ، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر " .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي من حديث أبي هانئ الخولاني . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا .
حديث آخر : وروى الإمام أحمد أيضا عن يحيى بن إسحاق وحسن بن موسى وأبي سعيد [ وعبد الله بن يزيد ] قالوا : حدثنا ابن لهيعة حدثنا مشرح بن هاعان ، سمعت عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ميت يختم له على عمله ، إلا المرابط في سبيل الله ، فإنه يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن من الفتان " .
وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده ، عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد ، به إلى قوله : " حتى يبعث " دون ذكر " الفتان " . وابن لهيعة إذا صرح بالتحديث فهو حسن ، ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد .
حديث آخر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني الليث ، عن زهرة بن معبد عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مات مرابطا في سبيل الله ، أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه ، وأمن من الفتان ، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع " .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا موسى ، أنبأنا ابن لهيعة ، عن موسى بن وردان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات مرابطا وقي فتنة القبر ، وأمن من الفزع الأكبر ، وغدا عليه وريح برزقه من الجنة ، وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أم الدرداء ترفع الحديث قالت من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام ، أجزأت عنه رباط سنة " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا كهمس ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال عثمان ، رضي الله عنه - وهو يخطب على منبره - : إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها " .
وهكذا رواه أحمد أيضا عن روح عن كهمس عن مصعب بن ثابت ، عن عثمان . وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن مصعب بن ثابت ، عن عبد الله بن الزبير قال : خطب عثمان بن عفان الناس فقال : يا أيها الناس ، إني سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم وبصحابتكم ، فليختر مختار لنفسه أو ليدع . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة صيامها وقيامها " .
طريق أخرى عن عثمان [ رضي الله عنه ] قال الترمذي : حدثنا الحسن بن علي الخلال ، حدثنا هشام بن عبد الملك ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد ، عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال : سمعت عثمان - وهو على المنبر - يقول : إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ، ثم بدا لي أن أحدثكموه ، ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " .
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، قال محمد - يعني البخاري - : أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث ، فالله أعلم وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة وعنده زيادة في آخره فقال - يعني عثمان - : فليرابط امرؤ كيف شاء ، هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، حدثنا محمد بن المنكدر قال : مر سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط ، وهو في مرابط له ، وقد شق عليه وعلى أصحابه فقال : أفلا أحدثك - يا ابن السمط - بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى . قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " رباط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال : خير - من صيام شهر وقيامه ، ومن مات فيه وقي فتنة القبر ، ونما له عمله إلى يوم القيامة " .
تفرد به الترمذي من هذا الوجه ، وقال : هذا حديث حسن . وفي بعض النسخ زيادة : وليس إسناده بمتصل ، وابن المنكدر لم يدرك سلمان .
قلت : الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة ، كلاهما عن شرحبيل بن السمط - وله صحبة - عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان " وقد تقدم سياق مسلم بمفرده .
حديث آخر : قال ابن ماجه : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة ، حدثنا محمد بن يعلى السلمي ، حدثنا عمر بن صبيح ، عن عبد الرحمن بن عمرو ، عن مكحول ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لرباط يوم في سبيل الله ، من وراء عورة المسلمين محتسبا ، من غير شهر رمضان ، أعظم أجرا من عبادة مائة سنة ، صيامها وقيامها . ورباط يوم في سبيل الله ، من وراء عورة المسلمين محتسبا ، من شهر رمضان ، أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال - : من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها ، فإن رده الله تعالى إلى أهله سالما ، لم تكتب عليه سيئة ألف سنة ، وتكتب له الحسنات ، ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة " .
هذا حديث غريب ، بل منكر من هذا الوجه ، وعمر بن صبيح متهم .
حديث آخر : قال ابن ماجه : حدثنا عيسى بن يونس الرملي ، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ، عن سعيد بن خالد بن أبي طويل ، سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة : السنة ثلاثمائة وستون يوما ، واليوم كألف سنة " .
وهذا حديث غريب أيضا وسعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة ، وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه . وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به . وقال الحاكم : روى عن أنس أحاديث موضوعة .
حديث آخر : قال ابن ماجه : حدثنا محمد بن الصباح ، أنبأنا عبد العزيز بن محمد ، عن صالح بن محمد بن زائدة ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله حارس الحرس " .
فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر ، فإنه لم يدركه ، والله أعلم .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا أبو توبة ، حدثنا معاوية - يعني ابن سلام عن زيد - يعني ابن سلام - أنه سمع أبا سلام قال : حدثني السلولي : أنه حدثه سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فأطنبوا السير حتى كانت عشية ، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله ، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله [ تعالى ] " . ثم قال : " من يحرسنا الليلة ؟ " قال أنس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله . فقال " فاركب " فركب فرسا له ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا يغرن من قبلك الليلة " فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : " هل أحسستم فارسكم ؟ " قال رجل : يا رسول الله ، ما أحسسناه ، فثوب بالصلاة ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي يلتفت إلى الشعب ، حتى إذا قضى صلاته قال : " أبشروا فقد جاءكم فارسكم " فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب ، فإذا هو قد جاء ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما ، فنظرت فلم أر أحدا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل نزلت الليلة ؟ " قال : لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة ، فقال له : " أوجبت ، فلا عليك ألا تعمل بعدها " .
ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني ، عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب : حدثنا عبد الرحمن بن شريح ، سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول : سمعت أبا عامر التجيبي . قال الإمام أحمد : وقال غير زيد : أبا علي الجنبي يقول : سمعت أبا ريحانة يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، فأتينا ذات ليلة إلى شرف فبتنا عليه ، فأصابنا برد شديد ، حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة ، يدخل فيها ويلقي عليه الجحفة - يعني الترس - فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس نادى : " من يحرسنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل ؟ " فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله . فقال : " ادن " فدنا ، فقال : " من أنت ؟ " فتسمى له الأنصاري ، ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء ، فأكثر منه . فقال أبو ريحانة : فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أنا رجل آخر . فقال : " ادن " . فدنوت . فقال : من أنت ؟ قال : فقلت : أنا أبو ريحانة . فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري ، ثم قال : " حرمت النار على عين دمعت - أو بكت - من خشية الله ، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله " .
وروى النسائي منه : " حرمت النار . . . " إلى آخره عن عصمة بن الفضل ، عن زيد بن الحباب به ، وعن الحارث بن مسكين ، عن ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن شريح ، به ، وأتم ، وقال في الروايتين : عن أبي علي الجنبي .
حديث آخر : قال الترمذي : حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا بشر بن عمر ، حدثنا شعيب بن رزيق أبو شيبة ، حدثنا عطاء الخراساني ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله " . ثم قال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رزيق قال : وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة قلت : وقد تقدما ، ولله الحمد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رشدين ، عن زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن أنس ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجرة سلطان ، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم ، فإن الله يقول : ( وإن منكم إلا واردها ) [ مريم : 71 ] .
تفرد به أحمد رحمه الله [ تعالى ] .
حديث آخر : روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع " .
فهذا ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام ، ولله الحمد على جزيل الإنعام ، على تعاقب الأعوام والأيام .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا مطرف بن عبد الله المدني حدثنا مالك ، عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة ، رضي الله عنه ، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله تعالى يقول في كتابه : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال : أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس ، وودعته للخروج ، وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، وفي رواية : سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
وهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي وغبار خيل الله في
أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال : صدق أبو عبد الرحمن ، ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال : قلت : نعم قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا . وأملى علي الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال : " هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر ؟ " فقال : يا رسول الله ، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات " .
وقوله : ( واتقوا الله ) أي : في جميع أموركم وأحوالكم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ [ بن جبل ] [ رضي الله عنه ] حين بعثه إلى اليمن : " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " .
( لعلكم تفلحون ) أي : في الدنيا والآخرة .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي : أنه كان يقول في قول الله عز وجل : ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) واتقوا الله فيما بيني وبينكم ، لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني .
آخر تفسير سورة آل عمران ، ولله الحمد والمنة ، نسأله الموت على الكتاب والسنة .
فيه خمس وعشرون مسألة الأولى: قوله تعالى {إن في خلق السماوات والأرض} تقدم معنى هذه الآية في [البقرة] في غير موضع. فختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته؛ إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير وقدوس سلام غني عن العالمين؛ حتى يكون إيمانهم مستندا إلى اليقين لا إلى التقليد. {لآيات لأولى الألباب} الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت هذه الآية على النبي قام يصلى، فأتاه بلال يُؤْذِنُه بالصلاة، فرآه يبكي فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال: (يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا ولقد أنزل الله على الليلة آية {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} - ثم قال:(ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها). الثانية: قال العلماء: يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وسيأتي؛ ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل، وهو أفضل العمل على ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة [آل عمران] كل ليلة، خرجه أبو نصر الوائلي السجستاني الحافظ في كتاب الإبانة من حديث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزومي عن المقبري عن أبي هريرة. وقد تقدم أول السورة عن عثمان قال: من قرأ آخر [آل عمران] في ليلة كتب له قيام ليلة. الثالثة: قوله تعالى:{الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصر زمانه. ومن هذا المعنى قول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه). أخرجه مسلم. فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك. وقد اختلف العلماء في هذا؛ فأجاز ذلك عبدالله بن عمرو وابن سيرين والنخعي، وكره ذلك ابن عباس وعطاء والشعبي. والأول أصح لعموم الآية والحديث. قال النخعي: لا بأس بذكرالله في الخلاء فإنه يصعد. المعنى: تصعد به الملائكة مكتوبا في صحفهم؛ فحذف المضاف. دليله قوله تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]. وقال {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين} [الانفطار:10 ، 11]. لأن الله عز وجل أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن فقال {اذكروا الله ذكرا كثيرا} [الأحزاب: 41] وقال{فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152] وقال {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف: 3] فعمّ. فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله تعالى. وذكر أبو نعيم قال: حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب الأحبار قال قال موسى عليه السلام: (يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك قال: يا موسى أنا جليس من ذكرني قال: يا رب فإنا نكون من الحال على حال نجلك ونعظمك أن نذكرك قال: وما هي؟ قال: الجنابة والغائط قال: يا موسى اذكرني على كل حال). وكراهية من كره ذلك إما لتنزيه ذكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيها ككراهية قراءة القرآن في الحمام، وإما إبقاء على الكرام الكاتبين على أن يحلهم موضع الأقذار والأنجاس لكتابة ما يلفظ به. والله أعلم. و{قياما وقعودا} نصب على الحال. {وعلى جنوبهم} في موضع الحال؛ أي ومضطجعين ومثله قوله تعالى {دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} [يونس: 12] على العكس؛ أي دعانا مضطجعا على جنبه. وذهب، جماعة من المفسرين منهم الحسن وغيره إلى أن قوله {يذكرون الله} إلى آخره، إنما هو عبارة عن الصلاة؛ أي لا يضيعونها، ففي حال العذر يصلونها قعودا أو على جنوبهم. وهي مثل قوله تعالى {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} [النساء: 103] في قول ابن مسعود على، ما يأتي بيانه. وإذا كانت الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلى قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنبه؛ كما ثبت عن عمران بن حصين قال: كان بي البواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه الأئمة:( وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا قبل موته بعام في النافلة) ؛ على ما في صحيح مسلم. وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا. قال أبو عبدالرحمن: لا أعلم أحد روى هذا الحديث غير أبي داود الحفري وهو ثقة، ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ. والله أعلم. الرابعة: واختلف العلماء في كيفية صلاة المريض والقاعد وهيئتها؛ فذكر ابن عبدالحكم عن مالك أنه يتربع في قيامه، وقال البويطي عن الشافعي فإذا أراد السجود تهيأ للسجود على قدر ما يطيق، قال: وكذلك المتنفل. ونحوه قول الثوري، وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وقال الشافعي في رواية المزني: يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد. وروى هذا عن مالك وأصحابه؛ والأول المشهور وهو ظاهر المدونة. وقال أبو حنيفة وزفر: يجلس كجلوس التشهد، وكذلك يركع ويسجد. الخامسة: قال: فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير؛ هذا مذهب المدونة وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ثم على جنبه الأيسر. وفي كتاب ابن المواز عكسه، يصلي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر، وإلا فعلى الظهر. وقال سحنون: يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره وإلا فعلى الأيسر. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا صلى مضطجعا تكون رجلاه مما يلي القبلة. والشافعي والثوري: يصلي على جنبه ووجهه إلى القبلة. السادسة: فإن قوي لخفة المرض وهو في الصلاة؛ قال ابن القاسم: إنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبني على ما مضى؛ وهو قول الشافعي وزفر والطبري. وقال أبو حنيفة وصاحباه يعقوب ومحمد فيمن صلى مضطجعا ركعة ثم صحّ: إنه يستقبل الصلاة من أولها، ولو كان قاعدا يركع ويسجد ثم صحّ بنى في قول أبي حنيفة ولم يبن في قول محمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا افتتح الصلاة قائما ثم صار إلى حد الإيماء فليبن؛ وروي عن أبي يوسف. وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس: إنه يصلي قائما ويومئ إلى الركوع، فإذا أراد السجود جلس وأومأ إلى السجود؛ وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعي وقال، أبو حنيفة وأصحابه: يصلي قاعدا. السابعة: وأما صلاة الراقد الصحيح فروي عن حديث عمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره، وهي (صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد). قال أبو عمر: وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافل مضطجعا؛ وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلم وهو حسين بن ذكوان عن عبدالله بن بريدة عن عمران بن حصين، وقد اختلف على حسين في إسناده ومتنه اختلافا يوجب التوقف عنه، وإن صح فلا أدري ما وجهه؛ فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعا لمن قدر على القعود أو على القيام فوجهه هذه الزيادة في هذا الخبر، وهي حجة لمن ذهب إلى ذلك. وإن أجمعوا على كراهة النافلة راقدا لمن قدر على القعود أو القيام، فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ وقيل: المراد بالآية الذين يستدلون بخلق السموات والأرض على أن المتغير لا بد له من مغير، وذلك المغير يجب أن يكون قادرا على الكمال، وله أن يبعث الرسل، فإن بعث رسولا ودل على صدقه بمعجزة واحدة لم يبق لأحد عذر؛ فهؤلاء الذين يذكرون الله على كل حال. والله أعلم. الثامية: قوله تعالى:{ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} قد بينا معنى {ويذكرون} وهو إما ذكر باللسان وإما الصلاة فرضها ونفلها؛ فعطف تعالى عبادة أخرى على إحداهما بعبادة أخرى، وهي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته والعبر الذي بث؛ ليكون ذلك أزيد بصائرهم: وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد وقيل{يتفكرون} عطف على الحال. وقيل: يكون منقطعا؛ والأول أشبه. والفكرة: تردد القلب في الشيء؛ يقال: تفكر، ورجل فكير كثير الفكر، ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: (تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره) وإنما التفكر والاعتبار وانبساط الذهن في المخلوقات كما قال{ويتفكرون في خلق السموات والأرض}. وحكي أن سفيان الثوري رضي الله عنه صلى خلف المقام ركعتين، ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غشي عليه، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا عبادة كتفكر). وروي عنه عليه السلام قال: (تفكر ساعة خير من عبادة سنة). وروى ابن القاسم عن مالك قال: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر. قيل له: أفترى التفكر عمل من الأعمال؟ قال: نعم، هو اليقين. وقيل لابن المسيب في الصلاة بين الظهر والعصر، قال: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله. وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة؛ وقال ابن العباس وأبو الدرداء. وقال الحسن: الفكرة مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته. ومما يتفكر فيه مخاوف الآخرة من الحشر والنشر والجنة ونعيمها والنار وعذابها. ويروى أن أبا سليمان الداراني رضي الله عنه أخذ قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام لذلك متفكرا حتى طلع الفجر؛ فقال له: ما هذا يا أبا سليمان؟ قال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تفكرت في قول الله تعالى {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} [المؤمن: 71] تفكرت، في حالي وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت. قال ابن عطية وهذا نهاية الخوف، وخير الأمور أوساطها، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله تعالى ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا. قال ابن العربي: اختلف الناس أي العملين أفضل: التفكر أم الصلاة؛ فذهب الصوفية إلى أن التفكر أفضل؛ فإنه يثمر المعرفة وهو أفضل، المقامات الشرعية. وذهب الفقهاء إلى أن الصلاة أفضل؛ لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها. وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة، وفيه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ الآيات العشر الخواتم من سورة آل عمران، وقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا ثم صلى ثلاث عشرة ركعة؛ الحديث. فانظروا رحمكم الله إلى جمعه بين التفكر في المخلوقات ثم إقباله على صلاته بعده؛ وهذه السنة هي التي يعتمد عليها. فأما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يوما وليلة وشهرا مفكرا لا يفتر؛ فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر، ولا مستمرة على السنن. قال ابن عطية: وحدثني أبي عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتا في مسجد الأقدام بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة؛ فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة وصلى مع الناس، فاستعظمت جراءته في الصلاة بغير وضوء؛ فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه، فلما دنوت منه سمعته ينشد شعرا: مسجى الجسم غائب حاضر ** منتبه القلب صامت ذاكر منقبض في الغيوب منبسط ** كذاك من كان عارفا ذاكر يبيت في ليله أخا فكر ** فهو مدى الليل نائم ماهر قال: فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة، فانصرفت عنه. التاسعة: قوله تعالى: {ربنا ما خلقت هذا باطلا} أي يقولون: ما خلقته عبثا وهزلا، بل خلقته دليلا على قدرتك وحكمتك. والباطل: الزائل الذاهب. ومنه قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ** أي زائل. و{باطلا} نصب لأنه نعت مصدر محذوف؛ أي خلقا باطلا وقيل: انتصب على نزع الخافض، أي ما خلقتها للباطل. وقيل: على المفعول الثاني، ويكون خلق بمعنى جعل. {سبحانك} أسند النحاس عن موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى سبحان الله فقال: (تنزيه الله عن السوء) وقد تقدم في [البقرة] معناه مستوفى. {وقنا عذاب النار} أجرنا من عذابها، وقد تقدم. العاشرة: قوله تعالى:{ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} أي أذللته وأهنته. وقال المفضل أي أهلكته؛ وأنشد: أخزى الإله من الصليب عبيده ** واللابسين قلانس الرهبان وقيل: فضحته وأبعدته؛ يقال: أخزاه الله: أبعده ومقته. والاسم الخزي. قال ابن السكيت: خزي يخزي خزيا إذا وقع في بلية. وقد تمسك بهذه الآية أصحاب الوعيد وقالوا: من أدخل النار ينبغي إلا يكون مؤمنا؛ لقوله تعالى {فقد أخزيته} فإن الله يقول{يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} [التحريم: 8]. وما قالوه مردود؛ لقيام الأدلة على أن من ارتكب كبيرة لا يزول عنه اسم الإيمان، كما تقدم ويأتي. والمراد من قوله {من تدخل النار} من تخلد في النار؛ قاله أنس بن مالك. وقال قتادة: تدخل مقلوب تخلد، ولا نقول كما قال أهل حروراء. وقال سعيد بن المسيب: الآية خاصة في قوم لا يخرجون من النار؛ ولهذا قال {وما للظالمين من أنصار} أي الكفار. وقال أهل المعاني،: الخزي يحتمل أن يكون بمعنى الحياء؛ يقال: خزي يخزى إذا استحيا، فهو خزيان. قال ذو الرمة: خزاية أدركته عند جولته ** من جانب الحيل مخلوطا بها الغضب فخزي المؤمنين يومئذ استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها. والخزي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موت؛ والمؤمنون يموتون، فافترقوا. كذا ثبت في صحيح السنة من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم، وقد تقدم ويأتي. الحادية عشرة: قوله تعالى:{ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان} أي محمدا صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين. وقال قتادة ومحمد بن كعب القرظي: هو القرآن، وليس كلهم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. دليل هذا القول ما أخبر الله تعالى عن مؤمني الجن إذ قالوا {إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد}[الجن:1 ، 2]. وأجاب الأولون فقالوا: من سمع القرآن فكأنما لقي النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا صحيح معنى. وأن من {آمنوا} في موضع نصب على حذف حرف الخفض، أي بأن أمنوا. وفي الكلام تقديم وتأخير، أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي؛ عن أبي عبيدة. وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى الإيمان؛ كقوله {ثم يعودون لما نهوا عنه}[المجادلة: 8]. وقوله {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5] وقوله{الحمد لله الذي هدانا لهذا}[الأعراف: 43] أي إلى هذا، ومثله كثير. وقيل: هي لام أجل، أي لأجل الإيمان. الثانية عشرة: قوله تعالى:{ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا} تأكيد ومبالغة في الدعاء. ومعنى اللفظين واحد؛ فإن الغفر والكفر: الستر. {وتوفنا مع الأبرار} أي أبرارا مع الأنبياء، أي في جملتهم. واحدهم وبر وبار وأصله من الاتساع؛ فكأن البر متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمة الله. الثالثة عشرة: قوله تعالى {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} أي على ألسنة رسلك؛ مثل {واسأل القرية}. وقرأ الأعمش والزهري {رسلك} بالتخفيف، وهو ما ذكر من استغفار الأنبياء والملائكة للمؤمنين؛ والملائكة يستغفرون لمن في الأرض. وما ذكر من دعاء نوح للمؤمنين ودعاء إبراهيم واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأمته. {ولا تخزنا} أي لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا، ولا تهنا ولا تبعدنا ولا تمقتنا يوم القيامة {إنك لا تخلف الميعاد}. إن قيل: ما وجه قولهم {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} [آل عمران: 194] وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد؛ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وعد بذلك دون الخزي: والعقاب. الثاني: أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع؛ والدعاء مخ العبادة. وهذا كقوله {قال رب احكم بالحق} [الأنبياء: 112] وإن كان هو لا يقضي إلا بالحق. الثالث: سألوا أن يعطوا ما وعدوا به من النصر على عدوهم معجلا؛ لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه ذلك إعزازا للدين. والله أعلم. وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وعده الله عز وجل على عمل ثوابا فهو منجز له رحمة ومن وعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار). والعرب تذم بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد؛ حتى قال قائلهم: ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ** ولا أختفي من خشية المتهدد وإني متى أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي الرابعة عشرة: قوله تعالى:{فاستجاب لهم ربهم} أي أجابهم. قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وقال جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد. قيل: وكيف ذلك ؟ قال: اقرؤوا إن شئتم {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} إلى قوله{إنك لا تخلف الميعاد} [آل عمران:191 ، 194]. الخامسة عشرة: قوله تعالى:{أني} أي بأني. وقرأ عيسى بن عمر {إني} بكسر الهمزة، أي فقال: إني. وروى الحاكم أبو عبدالله في صحيحه عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، ألا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله تعالى{فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} الآية. وأخرجه الترمذي. ودخلت {من} للتأكيد؛ لأن قبلها حرف نفي. وقال الكوفيون: هي للتفسير ولا يجوز حذفها؛ لأنها دخلت لمعنى لا يصلح الكلام إلا به، وإنما تحذف إذا كان تأكيدا للجحد. {بعضكم من بعض} ابتداء وخبر، أي دينكم واحد. وقيل: بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشبه ذلك. وقال الضحاك: رجالكم شكل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة؛ نظيرها قوله عز وجل{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71]. ويقال: فلان مني، أي على مذهبي وخلقي. السادسة عشرة: قوله تعالى:{فالذين هاجروا} ابتداء وخبر، أي هجروا أوطانهم وساروا إلى المدينة. {وأخرجوا من ديارهم} في طاعة الله عز وجل. {وقاتلوا} أي وقاتلوا أعدائي. {وقتلوا} أي في سبيلي. وقرأ ابن كثير وابن عامر{وقاتلوا وقتلوا} على التكثير. وقرأ الأعمش {وقتلوا وقاتلوا} لأن الواو لا تدل على أن الثاني بعد الأول. وقيل: في الكلام إضمار قد، أي قتلوا وقد قاتلوا؛ ومنه قول الشاعر: تصابى وأمسى علاه الكبر ** أي وقد علاه الكبر. وقيل: أي وقد قاتل من بقي منهم؛ تقول العرب: قتلنا بني تميم، وإنما قتل بعضهم. وقال امرؤ القيس: فإن تقاتلونا نقتلكم ** وقرأ عمر بن عبدالعزيز {وقتلوا وقتلوا} خفيفة بغير ألف. {لأكفرن عنهم سيئاتهم} أي لأسترنّها عليهم في الآخرة، فلا أوبخهم بها ولا أعاقبهم عليها. {ثوابا من عند الله} مصدر مؤكد عند البصريين؛ لأن معنى {لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار} لأثيبنهم ثوابا. الكسائي: انتصب على القطع. الفراء: على التفسير. {والله عنده حسن الثواب} أي حسن الجزاء؛ وهو ما يرجع على العامل من جراء عمله؛ من ثاب يثوب. السابعة عشرة: قوله تعالى {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة. وقيل: للجميع. وذلك أن المسلمين قالوا: هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع؛ فنزلت هذه الآية. أي لا يغرنكم سلامتهم بتقلبهم في أسفارهم. {متاع قليل} أي تقلبهم متاع قليل. وقرأ يعقوب {يغرنك} ساكنة النون؛ وأنشد: لا يغرنك عشاء ساكن ** قد يوافي بالمنيات السحر ونظير هذه الآية قوله تعالى{فلا يغررك تقلبهم في البلاد} [المؤمن: 4]. والمتاع: ما يعجل الانتفاع به؛ وسماه قليلا لأنه فان، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل. وفي صحيح الترمذي عن المستورد الفهري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بماذا يرجع). قيل: (يرجع) بالياء والتاء. {وبئس المهاد} أي بئس ما مهدوا لأنفسهم بكفرهم، وما مهد الله لهم من النار. الثامنة عشرة: في هذه الآية وأمثالها كقوله {أنما نملي لهم خير} [آل عمران: 178] الآية. {وأملي لهم إن كيدي متين} [الأعراف: 183]. {أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين} [المؤمنون: 55]. {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف: 182] دليل على أن الكفار غيرمنعم عليهم في الدنيا؛ لأن حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة، ونعم الكفار. مشوبة بالآلام والعقوبات، فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السم، فهو وإن استلذ آكله لا يقال: أنعم عليه؛ لأن فيه هلاك روحه. ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري. وذهب جماعة منهم سيف السنة ولسان الأمة القاضي أبو بكر: إلى أن الله أنعم عليهم في الدنيا. قالوا: وأصل النعمة من النعمة بفتح النون، وهي لين العيش؛ ومنه قوله تعالى{ونعمة كانوا فيها فاكهين} [الدخان: 27]. يقال: دقيق ناعم، إذا بولغ في طحنه وأجيد سحقه. وهذا هو الصحيح، والدليل عليه أن الله تعالى أوجب على الكفار أن يشكروه وعلى جميع المكلفين فقال {فاذكروا آلاء الله} [الأعراف: 74]. {واشكروا لله} [البقرة: 172] والشكر لا يكون إلا على نعمة. وقال {وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص: 77] وهذا خطاب لقارون. وقال {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة} [النحل: 112] الآية. فنبه سبحانه أنه قد أنعم عليهم نعمة دنياوية فجحدوها. وقال{يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} [النحل: 83] وقال{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم} [فاطر: 3]. وهذا عام في الكفار وغيرهم. فأما إذا قدم لغيره طعاما فيه سم فقد رفق به في الحال؛ إذ لم يجرعه السم بحتا؛ بل دسه في الحلاوة، فلا يستبعد أن يقال: قد أنعم عليه، وإذا ثبت هذا فالنعم ضربان: نعم نفع ونعم دفع؛ فنعم النفع ما وصل إليهم من فنون اللذات، ونعم الدفع ما صرف عنهم من أنواع الآفات. فعلى هذا قد أنعم على الكفار نعم الدفع قولا واحدا؛ وهو ما زوي عنهم من الآلام والأسقام، ولا خلاف بينهم في أنه لم ينعم عليهم نعمة دينه. والحمد لله. التاسعة عشرة: قوله تعالى:{لكن الذين اتقوا ربهم} استدراك بعد كلام تقدم فيه معنى النفي؛ لأن معنى ما تقدم ليس لهم في تقلبهم في البلاد كبير الانتفاع، لكن المتقون لهم الانتفاع الكبير والخلد الدائم. فموضع {لكن} رفع بالابتداء. وقرأ يزيد بن القعقاع {لكن} بتشديد النون. الموفية عشرين: قوله تعالى:{نزلا من عند الله} نزلا مثل ثوابا عند البصريين، وعند الكسائي يكون مصدرا. الفراء: هو مفسر. وقرأ الحسن والنخعي {نزلا} بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين، وثقله الباقون. والنزل ما يهيأ للنزيل، والنزيل الضيف. قال الشاعر: نزيل القوم أعظمهم حقوقا ** وحق الله في حق النزيل والجمع الأنزال. وحظ نزيل: مجتمع. والنزل: أيضا الريع؛ يقال؛ طعام النزل والنزل. الحادية والعشرون: قلت: ولعل النزل - والله أعلم - ما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان مولى وسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الحبر الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هم في الظلمة دون الجسر) قال: فمن أول الناس إجازة ؟ قال: (فقراء المهاجرين) قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال (زيادة كبد النون) قال: فما غذاؤهم على إثرها ؟ فقال: (ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها) قال: فما شرابهم عليه ؟ قال: (من عين فيها تسمى سلسبيلا) وذكر الحديث. قال أهل اللغة: والتحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه. والطرف محاسنه وملاطفه، وهذا مطابق لما ذكرناه في النزل، والله أعلم. وزيادة الكبد: قطعة منه كالأصبع. قال الهروي{نزلا من عند الله} أي ثوابا. وقيل رزقا.{ وما عند الله خير للأبرار} أي مما يتقلب به الكفار في الدنيا. والله أعلم. الثانية والعشرون: قوله تعالى:{وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} قال جابر بن عبدالله وأنس وابن عباس وقتادة والحسن: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي لأصحابه: (قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي)؛ فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة؛ فأنزل الله تعالى {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم}. قال الضحاك {وما أنزل إليكم} القرآن. {وما أنزل إليهم} التوراة والإنجيل. وفي التنزيل{أولئك يؤتون أجرهم مرتين} [القصص: 54]. وفي صحيح مسلم (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين - فذكر - رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران) وذكر الحديث. وقد تقدم في [البقرة] الصلاة عليه وما للعلماء في الصلاة على الميت الغائب، فلا معنى للإعادة. وقال مجاهد وابن جريج وابن زيد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وهذا عام والنجاشي واحد منهم. واسمه أصحمة، وهو بالعربية عطية. {خاشعين} أذلة، ونصب على الحال من المضمر الذي في {يؤمن}. وقيل: من الضمير في {إليهم} أو في {إليكم}. وما في الآية بين، وقد تقدم. الثالثة والعشرون: قوله تعالى {يأيها الذين آمنوا اصبروا} الأية. ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية العاشرة من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة؛ فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر الحبس، وقد تقدم في [البقرة] بيانه. وأمر بالمصابرة فقيل: معناه مصابرة الأعداء؛ قاله زيد بن أسلم. وقال الحسن: على الصلوات الخمس. وقيل: إدامة مخالفة النفس عن شهواتها فهي تدعو وهو ينزع. وقال عطاء والقرظي: صابروا الوعد الذي وعدتم. أي لا تيأسوا وانتظروا الفرج؛ قال صلى الله عليه وسلم: (انتظار الفرج بالصبر عبادة). واختار هذا القول أبو عمر رحمه الله. والأول قول الجمهور؛ ومنه قول عنترة: فلم أر حيا صابروا مثل صبرنا ** ولا كافحوا مثل الذين نكافح فقوله {صابروا مثل صبرنا} أي صابروا العدو في الحرب ولم يبد منهم جبن ولا خور. والمكافحة: المواجهة والمقبلة في الحرب؛ ولذلك اختلفوا في معنى قوله {ورابطوا} فقال جمهور الأمة: رابطوا أعدائكم بالخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداءكم؛ ومنه قوله تعالى{ومن رباط الخيل} [الأنفال: 60] وفي الموطأ عن مالك عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه؛ رواه الحاكم أبو عبدالله في صحيحه. واحتج أبو سلمة بقوله عليه السلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط) ثلاثا؛ رواه مالك. قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله. أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا. واللفظ مأخوذ من الربط. وقول النبي صلى الله عليه وسلم (فذلكم الرباط) إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله. والرباط اللغوي هو الأول؛ وهذا كقوله: (ليس الشديد بالصرعة) وقوله (ليس المسكين بهذا الطواف) إلى غير ذلك. قلت: قوله والرباط اللغوي هو الأول ليس بمسلم، فإن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضا، فقد حصل أن انتظار الصلاة رباط لغوي حقيقة؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأكثر من هذا ما قاله الشيباني أنه يقال: ماء مترابط أي دائم لا ينزح؛ حكاه ابن فارس وهو يقتضي تعدية الرباط لغة إلى غير ما ذكرناه. فإن المرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. ومن أعظمها وأهمها ارتباط الخيل في سبيل الله كما نص عليه في التنزيل في قوله{ومن رباط الخيل} [الأنفال: 60] على ما يأتي. وارتباط النفس على الصلوات كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ رواه أبو هريرة وجابر، ولا عطر بعد عروس. الرابعة والعشرون: المرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما؛ قاله محمد بن المواز ورواه. وأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين. قال ابن عطية. وقال ابن خويز منداد: وللرباط حالتان: حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق. والله أعلم. الخامسة والعشرون :جاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها). وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان). وروى أبو داود في سننه عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر). وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت؛ كما جاء في حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدق جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم؛ فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهاب العلم وموت الولد. والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة؛ لأنه لا معنى للنماء إلا المضاعفة، وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة. وهذا لأن أعمال البر كلها لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام. وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة؛ خرجه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات مرابطا في سبيل الله أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع). وفي هذا الحديث قيد ثان وهو الموت حالة الرباط. والله أعلم. وروي عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها). وروي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال: من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن رده الله إلى أهله سالما لم تكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة). ودل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل له من الثواب الدائم وإن لم يمت مرابطا. والله أعلم. وعن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة السنة ثلاثمائة يوم وستون يوما واليوم كألف سنة). قلت: وجاء في انتظار الصلاة بعد الصلاة أنه رباط؛ فقد يحصل لمنتظر الصلوات ذلك الفضل إن شاء الله تعالى. وقد روى أبو نعيم الحافظ قال حدثنا سليمان بن أحمد قال حدثنا علي بن عبدالعزيز قال حدثنا حجاج بن المنهال وحدثنا أبو بكر بن مالك قال: حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني الحسن بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي أيوب الأزدي عن نوف البكالي عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة المغرب فصلينا معه فعقب من عقب ورجع من رجع، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يثوب الناس لصلاة العشاء، فجاء وقد حضره الناس رافعا أصبعه وقد عقد تسعا وعشرين يشير بالسبابة إلى السماء فحسر ثوبه عن ركبتيه وهو يقول: (أبشروا معشر المسلمين هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي هؤلاء قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى). ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرف بن عبدالله: أن نوفا وعبدالله بن عمرو اجتمعا فحدث نوف عن التوراة وحدث عبدالله بن عمرو بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. {واتقوا الله} أي لم تؤمروا بالجهاد من غير تقوى. {لعلكم تفلحون} لتكونوا على رجاء من الفلاح. وقيل: لعل بمعنى لكي. والفلاح البقاء، وقد مضى هذا كله في [البقرة] مستوفى، والحمد لله.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اصبروا على طاعة ربكم، وعلى ما ينزل بكم من ضر وبلاء، وصابروا أعداءكم حتى لا يكونوا أشد صبرًا منكم، وأقيموا على جهاد عدوي وعدوكم، وخافوا الله في جميع أحوالكم؛ رجاء أن تفوزوا برضاه في الدنيا والآخرة.