المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة آل عمران: [الآية 169]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة آل عمران | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
الرباط أن يلزم الانسان نفسه دائما من غير حد ينتهي إليه ، أو يجعله في نفسه ، فإذا ربط نفسه بهذا الأمر ، فهو مرابط ، والرباط ملازمة ، وهو من أفضل أحوال المؤمن ، فكل إنسان إذا مات يختم على عمله إلا المرابط ، فإنه ينمّى له إلى يوم القيامة ، ويأمن فتان القبر ، ثبت هذا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، والرباط في الخير كله ، ما يختص به خير من خير ، فالكل
489
سبيل اللّه ، فإن سبيل اللّه ما شرعه اللّه لعباده أن يعملوا به ، فما يختصّ بملازمة الثغور فقط ولا بالجهاد ، فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال في انتظار الصلاة بعد الصلاة : إنه رباط . «وَاتَّقُوا اللَّهَ) يعني في ذلك كله ، أي اجعلوه وقاية تتقوا به هذه العزائم ، وذلك معونته في قوله (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) * (واستعينوا باللّه) فهذا معنى قوله «اتَّقُوا اللَّهَ» * «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» أي تكون لكم النجاة من مشقة الصبر والرباط .
------------
(200) الفتوحات ج 4 / 482 ، 347 ، 482تفسير ابن كثير:
خبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار .
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا عمر بن يونس ، عن عكرمة ، حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة قال : لا أدري أربعين أو سبعين . وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أتوا غارا مشرفا على الماء فقعدوا فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال - أراه ابن ملحان الأنصاري - : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخرج حتى أتى حيا [ منهم ] فاختبأ أمام البيوت ، ثم قال : يا أهل بئر معونة ، إني رسول رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله . فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر . فقال : الله أكبر ، فزت ورب الكعبة . فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل . وقال إسحاق : حدثني أنس بن مالك ، أن الله [ تعالى ] أنزل فيهم قرآنا : بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زمنا ، وأنزل الله : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) .
وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : " أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب ، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا " . وقد روي نحوه عن أنس وأبي سعيد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نفس تموت ، لها عند الله خير ، يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة " .
انفرد به مسلم من طريق حماد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله المديني ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما علمت أن الله أحيا أباك فقال له : تمن علي ، فقال له : أرد إلى الدنيا ، فأقتل مرة أخرى ، فقال : إني قضيت الحكم أنهم إليها لا يرجعون " .
انفرد به أحمد من هذا الوجه وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر - وهو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه - قتل يوم أحد شهيدا . قال البخاري : وقال أبو الوليد ، عن شعبة عن ابن المنكدر قال : سمعت جابرا قال : لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه ، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهونني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تبكه - أو : ما تبكيه - ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع " . وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : لما قتل أبي يوم أحد ، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي . . . وذكر تمامه بنحوه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد ، عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مشربهم ، ومأكلهم ، وحسن منقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا ، لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب " فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم . فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) وما بعدها " .
هكذا رواه [ الإمام ] أحمد ، وكذا رواه ابن جرير عن يونس ، عن ابن وهب ، عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحاق به ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فذكره ، وهذا أثبت . وكذا رواه سفيان الثوري ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري ، عن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وكذا قال قتادة ، والربيع ، والضحاك : إنها نزلت في قتلى أحد .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبد الله المديني ، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري ، سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : " يا جابر ، ما لي أراك مهتما ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، استشهد أبي وترك دينا وعيالا . قال : فقال : " ألا أخبرك ؟ ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا - قال علي : الكفاح : المواجهة - فقال : سلني أعطك . قال : أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عز وجل : إنه سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون . قال : أي رب : فأبلغ من ورائي . فأنزل الله [ عز وجل ] ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) الآية .
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري ، عن أبيه ، عن جابر ، به نحوه . وكذا رواه البيهقي في " دلائل النبوة " من طريق علي بن المديني ، به .
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري ، وهو عيسى بن عبد الرحمن ، إن شاء الله ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة [ رضي الله عنها ] قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر : " يا جابر ، ألا أبشرك ؟ قال : بلى ، بشرك الله بالخير . قال شعرت أن الله أحيا أباك فقال : تمن علي عبدي ما شئت أعطكه . قال : يا رب ، ما عبدتك حق عبادتك . أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك ، وأقتل فيك مرة أخرى . قال : إنه سلف مني أنه إليها [ لا ] يرجع " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشهداء على بارق نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا " .
تفرد به أحمد ، وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعبدة عن محمد بن إسحاق ، به . وهو إسناد جيد .
وكان الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح ، والله أعلم .
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ، فإن الإمام أحمد ، رحمه الله ، رواه عن [ الإمام ] محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله ، عن مالك بن أنس الأصبحي ، رحمه الله ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " .
قوله : " يعلق " أي : يأكل .
وفي هذا الحديث : " إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة " .
وأما أرواح الشهداء ، فكما تقدم في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها ، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا على الإيمان .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
هذه الآيات الكريمة فيها فضيلة الشهداء وكرامتهم، وما منَّ الله عليهم به من فضله وإحسانه، وفي ضمنها تسلية الأحياء عن قتلاهم وتعزيتهم، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض للشهادة، فقال: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } أي: في جهاد أعداء الدين، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله { أمواتا } أي: لا يخطر ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفقدوا، وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها، الذي يحذر من فواته، من جبن عن القتال، وزهد في الشهادة. { بل } قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون. فهم { أحياء عند ربهم } في دار كرامته. ولفظ: { عند ربهم } يقتضي علو درجتهم، وقربهم من ربهم، { يرزقون } من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه، إلا من أنعم به عليهم
تفسير البغوي
قوله تعالى : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) الآية قيل : نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين .
وقال الآخرون : نزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله ( هو ابن مسعود ) رضي الله عنهما عن هذه الآية : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) الآية قال أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : " أرواحهم كطير خضر " ويروى " في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة في أيها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : سلوني ما شئتم فقالوا : يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئا قالوا : إنا نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان ، أنا جيعوية أنا صالح بن محمد ، أنا سليمان بن عمرو ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش ، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعد الله لهم من الكرامة قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد ولا يتكلوا عنه فقال الله عز وجل أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) إلى قوله ( لا يضيع أجر المؤمنين ) " .
سمعت عبد الواحد بن أحمد المليحي ، قال : سمعت الحسن بن أحمد القتيبي قال : سمعت محمد بن عبد الله بن يوسف قال : سمعت محمد بن إسماعيل البكري ، قال : سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال : سمعت موسى بن إبراهيم قال : سمعت طلحة بن خراش قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : " يا جابر ما لي أراك منكسرا " ؟ قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا قال : " أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك " ؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : " ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وإنه أحيا أباك فكلمه كفاحا قال : يا عبدي تمن علي أعطك قال : يا رب أحيني فأقتل فيك الثانية ، قال الرب تبارك وتعالى : إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون فأنزلت فيهم ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا حميد عن أنس رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يموت له عند الله خير يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها ، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ، فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى " .
وقال قوم : نزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قال : قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ، ملاعب الأسنة وكان سيد بني عامر بن صعصعة ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأهدى إليه هدية فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها وقال لا أقبل هدية مشرك ، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك؟ ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ، ولم يبعد وقال : يا محمد إن الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فيدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أخشى عليهم أهل نجد " .
فقال أبو البراء : أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن يزيد بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ، فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نزلوها قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن ملحان : أنا فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرام بن ملحان : يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة .
ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا : لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقدا وجوارا ثم استصرخ عليهم قبائل من بني سليم - عصية ورعلا وذكوان - فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فضلوه فيهم فعاش حتى قتل يوم الخندق ، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على المعسكر! فقالا والله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية الضمري : ماذا ترى؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره فقال الأنصاري الله أكبر لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذوا عمرو بن أمية الضمري أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا " فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره .
وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة ، فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول : من الرجل منهم ، لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه؟ قالوا : هو عامر بن فهيرة ، ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الأعلى بن حماد ، أنا يزيد بن زريع ، أنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : " أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو لهم فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم ، وكانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل ، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان .
قال أنس رضي الله عنه : فقرأنا ، فيهم قرآنا ، ثم إن ذلك رفع : " بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا " ثم نسخت ( فرفع بعدما قرأناه ) زمانا وأنزل الله تعالى : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) الآية .
وقيل : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء ، وقالوا : نحن في النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور ، فأنزل الله تعالى تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم ( ولا تحسبن ) ولا تظنن ( الذين قتلوا في سبيل الله ) قرأ ابن عامر " قتلوا " ) بالتشديد ، والآخرون بالتخفيف " أمواتا " ) كأموات من لم يقتل في سبيل الله ( بل أحياء عند ربهم ) قيل أحياء في الدين وقيل : في الذكر ، وقيل : لأنهم يرزقون ويأكلون ويتمتعون كالأحياء ، وقيل : لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة ، وقيل : لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض .
وقال عبيد بن عمير : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، ألا فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه " . ( يرزقون ) من ثمار الجنة وتحفها .
الإعراب:
(وَلا تَحْسَبَنَّ) الواو استئنافية لا ناهية جازمة تحسبن فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم ونون التوكيد لا محل لها والفاعل أنت (الَّذِينَ) اسم موصول مفعول به أول والجملة مستأنفة (قُتِلُوا) فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل والجملة صلة (فِي سَبِيلِ) متعلقان بقتلوا (الله) لفظ الجلالة مضاف إليه (أَمْواتًا) مفعول به ثان (بَلْ) حرف عطف وإضراب (أَحْياءٌ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم أحياء (عِنْدَ) ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة أحياء أو بيرزقون (رَبِّهِمْ) مضاف إليه (يُرْزَقُونَ) فعل مضارع مبني للمجهول ونائب فاعل والجملة صفة لأحياء وقيل خبر.