المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 217]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة البقرة | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، حدثني الحضرمي ، عن أبي السوار ، عن جندب بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطا ، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح [ أو عبيدة بن الحارث ] فلما ذهب ينطلق ، بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس ، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابا ، وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : لا تكرهن أحدا على السير معك من أصحابك . فلما قرأ الكتاب استرجع ، وقال : سمعا وطاعة لله ولرسوله . فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ، وبقي بقيتهم ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى . فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ! فأنزل الله : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) الآية .
وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية ، وكانوا سبعة نفر ، عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، وفيهم عمار بن ياسر ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن فهيرة ، وواقد بن عبد الله اليربوعي ، حليف لعمر بن الخطاب . وكتب لابن جحش كتابا ، وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب ، فإذا فيه : أن سر حتى تنزل بطن نخلة . فقال لأصحابه : من كان يريد الموت فليمض وليوص ، فإنني موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسار ، فتخلف عنه سعد بن أبي وقاص ، وعتبة ، وأضلا راحلة لهما فأتيا بحران يطلبانها ، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة ، فإذا هو بالحكم بن كيسان ، والمغيرة بن عثمان ، وعمرو بن الحضرمي ، وعبد الله بن المغيرة . وانفلت [ ابن ] المغيرة ، [ فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة ] وقتل عمرو ، قتله واقد بن عبد الله . فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا المال ، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى ننظر ما فعل صاحبانا " فلما رجع سعد وصاحبه ، فادى بالأسيرين ، ففجر عليه المشركون وقالوا : إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله ، وهو أول من استحل الشهر الحرام ، وقتل صاحبنا في رجب . فقال المسلمون : إنما قتلناه في جمادى وقيل : في أول رجب ، وآخر ليلة من جمادى وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب . فأنزل الله يعير أهل مكة : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) لا يحل ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام ، حين كفرتم بالله ، وصددتم عنه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وإخراج أهل المسجد الحرام منه ، حين أخرجوا محمدا صلى الله عليه وسلم أكبر من القتل عند الله .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردوه عن المسجد [ الحرام ] في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل . فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام . فقال الله : ( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر ) من القتال فيه . وأن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا عمرو بن الحضرمي ، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى ، وأول ليلة من رجب . وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه . وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك . فقال الله : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) وغير ذلك أكبر منه : صد عن سبيل الله ، وكفر به والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه ، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، والشرك أشد منه .
وهكذا روى أبو سعد البقال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنها أنزلت في سرية عبد الله بن جحش ، وقتل عمرو بن الحضرمي .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزل فيما كان من مصاب عمرو بن الحضرمي : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) إلى آخر الآية .
وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني ، رحمه الله ، في كتاب السيرة له ، أنه قال : وبعث يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا ، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضي لما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا . وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين . ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، ومن حلفائهم : عبد الله بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعكاشة بن محصن بن حرثان ، أحد بني أسد بن خزيمة ، حليف لهم . ومن بني نوفل بن عبد مناف : عتبة بن غزوان بن جابر ، حليف لهم . ومن بني زهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص . ومن بني عدي بن كعب : عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عنز بن وائل ، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع ، أحد بني تميم ، حليف لهم . وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث ، حليف لهم . ومن بني الحارث بن فهر : سهيل بن بيضاء .
فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه : " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، ترصد بها قريشا ، وتعلم لنا من أخبارهم " . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعا وطاعة . ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، أرصد بها قريشا ، حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم . فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد .
فسلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن ، فوق الفرع ، يقال له : بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما ، كانا يعتقبانه ، فتخلفا عليه في طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش ، فيها : عمرو بن الحضرمي ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان ، والحكم بن كيسان ، مولى هشام بن المغيرة .
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا وقالوا : عمار ، لا بأس عليكم منهم . وتشاور القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم ، فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام . فتردد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم . فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم . وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .
قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش : أن عبد الله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس ، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم ، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه .
قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله قال : " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " . فوقف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال . فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان .
وقالت يهود تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله : عمرو : عمرت الحرب ، والحضرمي : حضرت الحرب ، وواقد بن عبد الله : وقدت الحرب . فجعل الله عليهم ذلك لا لهم .
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) أي : إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم ، ( والفتنة أكبر من القتل ) أي : قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل :
( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) أي : ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين .
قال ابن إسحاق : فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم . فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم .
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا . وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة ، فمات بها كافرا .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم, منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ, لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام. ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل, لسرية عبد الله بن جحش, وقتلهم عمرو بن الحضرمي, وأخذهم أموالهم, وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم, وكانوا في تعييرهم ظالمين, إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين, قال تعالى في بيان ما فيهم: { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله, وفتنتهم من آمن به, وسعيهم في ردهم عن دينهم, وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام, والبلد الحرام, الذي هو بمجرده, كاف في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟! { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي: أهل المسجد الحرام, وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنهم أحق به من المشركين, وهم عماره على الحقيقة, فأخرجوهم { مِنْهُ } ولم يمكنوهم من الوصول إليه, مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام, فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة, في تعييرهم المؤمنين. ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم, وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم, ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك, ساعون بما أمكنهم, { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } وهذا الوصف عام لكل الكفار, لا يزالون يقاتلون غيرهم, حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا, أهل الكتاب, من اليهود والنصارى, الذين بذلوا الجمعيات, ونشروا الدعاة, وبثوا الأطباء, وبنوا المدارس, لجذب الأمم إلى دينهم, وتدخيلهم عليهم, كل ما يمكنهم من الشبه, التي تشككهم في دينهم. ولكن المرجو من الله تعالى, الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام, واختار لهم دينه القيم, وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام, وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره, ويجعل كيدهم في نحورهم, وينصر دينه, ويعلي كلمته. وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار, كما صدقت على من قبلهم: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام, بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا، { فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ودلت الآية بمفهومها, أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام, أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي, فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.
تفسير البغوي
قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم أخت أبيه في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكير وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتابا وقال له : " سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فإذا نزلت فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ولا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد : فسر على بركة الله بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك تأتينا منها بخير فلما نظر في الكتاب قال : سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه ذلك وقال : إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كره فليرجع ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كان بمعدن فوق الفرع بموضع من الحجاز يقال له بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف .
فبينما هم كذلك إذ مرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة فوق ثم أشرفوا عليهم فقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنه من جمادى وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا : لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم وليمتنعن منكم فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين [ وهو أول قتيل في الهجرة وأدى النبي صلى الله عليه وسلم دية ابن الحضرمي إلى ورثته من قريش . قال مجاهد وغيره : لأنه كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عهد وادع أهل مكة سنتين أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه ]
واستأسر الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت نوفل فأعجزهم واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام فسفك فيه الدماء وأخذ الحرائب وعير بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين وقالوا : يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه!
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إنا قد قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى؟ وأكثر الناس في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس في الإسلام وقسم الباقي بين أصحاب السرية وكان أول غنيمة في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم ، فقال بل نقفهم حتى يقدم سعد وعقبة وإن لم يقدما قتلناهما بهما فلما قدما فاداهما فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافرا وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية فهذا سبب نزول هذه الآية
قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام ) يعني رجبا سمي بذلك لتحريم القتال فيه .
( قتال فيه ) أي عن قتال فيه ) ( قل ) يا محمد ( قتال فيه كبير ) عظيم تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال ( وصد عن سبيل الله ) أي فصدكم المسلمين عن الإسلام ( وكفر به ) أي كفركم بالله ( والمسجد الحرام ) أي المسجد الحرام وقيل : وصدكم عن المسجد الحرام ( وإخراج أهله ) أي إخراج أهل المسجد ( منه أكبر ) وأعظم وزرا ( عند الله والفتنة ) أي الشرك الذي أنتم عليه ( أكبر من القتل ) أي من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت الحرام ثم قال : ( ولا يزالون ) يعني مشركي مكة وهو فعل لا مصدر له مثل عسى ) ( يقاتلونكم ) يا معشر المؤمنين ( حتى يردوكم ) يصرفوكم ( عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت ) جزم بالنسق ( وهو كافر فأولئك حبطت ) بطلت ) ( أعمالهم ) حسناتهم ( في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) .
الإعراب:
(يَسْئَلُونَكَ) فعل مضارع وفاعل ومفعول به والجملة مستأنفة (عَنِ الشَّهْرِ) متعلقان بيسألونك (الْحَرامِ) صفة (قِتالٍ) بدل من الشهر (فِيهِ) متعلقان بقتال (قُلْ) فعل أمر والفاعل أنت، (قِتالٍ) مبتدأ (فِيهِ) متعلقان بقتال أيضا أو بصفة له (كَبِيرٌ) خبر المبتدأ والجملة الاسمية مقول القول: (وَصَدٌّ) الواو عاطفة صد مبتدأ (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) متعلقان بصد اللّه لفظ الجلالة مضاف إليه (وَكُفْرٌ) عطف على صد (بِهِ) متعلقان بكفر (وَالْمَسْجِدِ) عطف على سبيل (الْحَرامِ) صفة (وَإِخْراجُ) عطف على صد (أَهْلِهِ) مضاف إليه (مِنْهُ) متعلقان بإخراج (أَكْبَرُ) خبر المبتدأ صد (عِنْدَ) ظرف مكان متعلق بأكبر (اللَّهِ) لفظ الجلالة مضاف إليه.
(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ) مبتدأ وخبر والجملة معطوفة.
(مِنَ الْقَتْلِ) متعلقان بأكبر.
(وَلا يَزالُونَ) الواو عاطفة لا يزالون فعل مضارع ناقص والواو اسمها (يُقاتِلُونَكُمْ) فعل مضارع والواو فاعل والكاف مفعول به والجملة في محل نصب خبر لا يزالون (حَتَّى) حرف غاية وجر (يَرُدُّوكُمْ) فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد حتى والواو فاعل والكاف مفعول به. والمصدر المؤول في محل جر بحتى والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما (عَنْ دِينِكُمْ) متعلقان بيردوكم (إِنِ) حرف شرط جازم (اسْتَطاعُوا) فعل ماض والواو فاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وجوابه محذوف تقديره: أن يردوكم (وَمَنْ) الواو استئنافية من اسم شرط جازم مبتدأ (يَرْتَدِدْ) فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط والفاعل هو يعود إلى من (مِنْكُمْ) متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في يرتدد (عَنْ دِينِهِ) متعلقان بيرتدد (فَيَمُتْ) الفاء عاطفة يمت فعل مضارع مجزوم والجملة معطوفة على يرتدد (وَهُوَ) الواو حالية هو ضمير منفصل مبتدأ (كافِرٌ) خبره والجملة في محل نصب حال (فَأُولئِكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط أولئك اسم إشارة مبتدأ (حَبِطَتْ) فعل ماض والتاء للتأنيث والجملة خبر لاسم الإشارة.
(أَعْمالُهُمْ) فاعل والجملة الاسمية.
(أُولئِكَ) في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (فِي الدُّنْيا) متعلقان بحبطت (وَالْآخِرَةِ) عطف على الدنيا (وَأُولئِكَ) الواو عاطفة أولئك مبتدأ (أَصْحابُ) خبره (النَّارِ) مضاف إليه (هُمْ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (فِيها) متعلقان بخالدون (خالِدُونَ) خبر.