
شرح مشكلات الفتوحات المكية
وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية
منسوب للشيخ عبد الكريم الجيلي
![]() |
![]() |
الباب السادس جرى بنا جواد البنان في هذا البيان حتّى أظهر ما لم يخطر إظهاره في الجنان
قال الشيخ رضي اللّه عنه :ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمّنه هذا الباب من فنون العلم المشار إليه أولا . سرّ الروح وتشبيهه بيوح .
الألف واللام في الروح ، للعهد - وتقديره :سرّ الروح الكلية المشرقة من الهياكل الجزئية ، التي يصحّ وقوعها على كل فرد من أفراد هذا النوع الإنساني .
وتشبّهت هذه الروح بيوح ، وهو اسم من أسماء الشمس ، والمراد به هنا الحق تعالى ، لأنه نور السماوات والأرض .
فالإنسان ، هو « المثل » الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشّورى : 11]. ، في الأرض ولا في السماء ، لكونه نسخة كاملة جامعة شاملة .
وقد صرّحنا في كتاب « الكمالات الإلهية » عن حقيقة هذه النسخة وكيفية معناها ، وكشفنا عن ذلك أيضا على التفصيل - بعبارة مبسوطة - في كتابنا الموسوم " بإنسان عين الوجود ووجود عين الإنسان الموجود " فمن أراد تحقيق هذه المعرفة ، فليكشف عن محلها من هذين الكتابين . .
وسأذكر لك من ذلك طرف جامعا ، وهو:
إن اللّه تعالى ، لما أحبّ الظهور من ذاته لذاته ، بمقتضى ذاته ؛ قسّم ذاته قسمين - من غير تعدّد في العين -فسمى أحد القسمين بالواجب، والقديم ، والرب ، والفاعل .وسمى القسم الثاني بالممكن ،والمحدث ، والعبد ، والمنفعل .
فأول ما أظهر من ذلك القسم الثاني ،محل حكميّ سماه بالهباء والهيولى والقدرة ؛ لأن العالم كله متحيّز ، ولا بد للمتحيّز من مكان يحلّه . فإن كان المكان مخلوقا ، فقد دخل في حكم العالم ، ولا بد له من مكان ؛ هكذا إلى أن يتسلسل ، أو يدور ، أو ينتهي لمحلّ حكم لا يقال إنه خلق ، ( لئلا لغيره ) « 1 » ؛ كما أن غيره لا يكون ظرفا له .
فالهباء ، هو الحقّ المخلوق ، وتقيّد الحقّ هنا بالخلقية في هذه المرتبة ، من أجل ذلك الانقسام .
وهذا المعنيّ بالهباء ، هو الهيولى المعبّر عند المحقّقين عنها بالعقل الأول والروح المحمدية والقلم الأعلى .
فكانت الحقيقة المحمدية ، أول مخلوق. وكانت على النسخة الإلهية، صورة ومعنى.
أما من حيث الصورة ، فكما أن الوجود المخلوق صورة الحقّ ، والحقّ روحه ؛ ذلك الإنسان ، قد خلق اللّه فيه نسخة كل شيء من صور الموجودات وحقائقها - جملة وتفصيلا - فهو على صورة الخلق ، لأن العالم صورته .
وأما كونه على النسخة المعنوية للحق - أيضا - فلأنك تجدك قابلا لكل اسم وصفة على التمام والكمال ، فقل في الأسماء الذاتية أولا إنك« أحد »ذا أحديّة غير مجهولة في كل شيء ، لأنها عبارة عن صرافة ذات الشيء ، بالنظر إليه من حيث هو ذاتيّ . . فمتى عرفت أنك هو ، كانت هذه الأحدية - التي ذكرتها لك - نفي أحدية الواجب بذاته ؛ وقس على ذلك .
فليس شيء من تجليات الأسماء والصفات ، أعلى من تجلّي الأحدية ؛ ولعزّته ، منع أهل اللّه أن يكون لغير اللّه قدم في تجلي الأحدية .
وسرّ المنع ، أن الأحديّة - من حيث هي أحديّة- تقتضي عدم التعدّد فيها من كل وجه وبكل اعتبار ، فكيف لخلق فيها قدم مع حقّ ؟
وذلك مشعر بالتغاير والإثنينية ، وهذا محال غير ممكن في تجلّي الأحدية .
فإذا قد صحّت لك نسخة منها ، فبالأولى أن يصحّ لك جميع ما تحتها من الكمالات المعبّر عنها بالأسماء والصفات .
فأنت الحيّ ، وأنت العليم ، وأنت القدير ، وأنت المريد ، وأنت السميع ، وأنت البصير ، وأنت المتكلّم .
وهذه السبعة ، هي أمهات الكمال وأئمة الأسماء والصفات ؛ قد سميت بها ظاهرا ،وسوف أكشف لك عن مواقع نجومها باطنا:
أم الحيّ ؛فأنت متصف به لأن الحقّ سبحانه وتعالى ، كما أنه عين الوجود الساري في أعيان الممكنات ، كذلك أنت سار في أعيان الموجودات بهمّتك ؛ ألا تراك إذا افتكرت في السماء ، كيف تسري روحك فيها ؟ وفي الأرض ، وفي جميع ما تفكر فيه ، أنت كذلك سار فيه بروحك ؛ فحياتك هي القائمة بحياة كل ما سرت فيه .
وأم العلم ؛فأنت متصف به من حيث عقلك ، لأنه عين علم اللّه به وبمعلوماته ، فهو المحيط بالحقّ والخلق ؛ ألا ترى إلى عقلك ، كيف عرفت به الحقّ والخلق ؟
فلولا أنه الصفة العلمية الإلهية ، لما اتسع لمعرفة الحق تعالى .
وسبب ذلك ، أنك لا بد أن تطلق اسم الحق في علمك على شيء ، تضيف إليه ما هو للحق من صفات الكمال ، وذلك الشيء الذي أطلقت هذا الاسم عليه ، هو في عقلك معلوم لك ، وهو عين الحق تعالى ، الذي أضفت إليه ما أضفت من صفات الجمال والجلال والكمال ؛ فلو لم يكن عقلك ، عين الصفة العلمية الإلهية ، لما ظهر هو فيها ؛ لأنه سبحانه ليس له محل إلا العلم . . وقد عرّفت بذلك أسرار كثيرة .
إن كنت من أهل اللّه ، فقس بالإرادة والقدرة على ما ذكرت ، وتأمّل هل تجد حقيقة هذين الوصفين لك في حال تصوّرك للأشياء في مخيّلتك وتخيّلك ، فتتكوّن كما تريد أم لا ؟
ومتى عرفت ذلك ، لم تفتك معرفة السميع والبصير والمتكلم منك ، وتتحقّق هذه المعرفة .
فيجب عليك ، أن تسعى في زوال الموانع لك عن تحقيق ما تجده من كمالك ، ليظهر جسمك بما هو لروحك .
فإذن : تصوّر ، في العالم وتكوّنه ، ما كنت تصوّره في العالم الخيالي ؛ تستبرزه مشهودا للحسّ ، كما كان مشهودا للخيال ، وبذلك تعرف أنك
المعبّر عنه بمسمى الأسماء الحسنى والصفات العلى !
جرى بنا جواد البنان في هذ البيان ، حتى أظهر ما لم يخطر إظهاره في الجنان ، من كل علم لا يسعه الكيان ؛ فلنقبض العنان ، ولنرجع إلى ما كنا بصدده من شرح هذه الكلمات الحسان .
قال الشيخ رضي اللّه عنه :أشرقت أرض الأجسام بالنفوس ، كما أشرقت الأرض بأنوار النفوس .
لما أظهر الشيخ رضي اللّه عنه - فيما سبق - أن الإنسان نسخة للحق ،أراد أن يظهر كونه نسخة للخلق ؛ فشبّه روحه بالشمس التي هي روح العالم الدنياوي ، وشبّه الإشراق بالإشراق ، لأن النفس الجزئية متصرّفة في الهيكل الإنساني ، ومدبّرة له ؛ كما تتصرّف الشمس في العالم الدنياوي ، وتدبّره على مرّ الدهور .
وكلّ من النفوس والشموس ، عين كلّ على الحقيقة ؛ إذ هذه الصورة كلها ، راجعة للوجه الواحد الظاهر في مرائي مختلفة الأشكال والمقادير .
فلهذا ،قال الشيخ رضي اللّه عنه :وإنما لم تفرد العين ، لأنها ما أشرقت ، إلا بما حصل فيها من نور الكون ، وإن كان الأصل ، ذلك الواحد ؛ فليس ما صدر عنه بأمر زائد ، فعدّدته الأماكن ، لما أنزل نفسه فيها منزلة الساكن .
زبدة هذ الكلامه ، وخلاصة هذه المسألة : أن اللّه تعالى ، هو المتجلّي بأعيان الموجودات على حسب ما تقضيه قابلية كل هيئة لكل موجود ، كما أن الصورة تظهر في كل مرآة بحسب تلك المرآة ؛ فاختلفت الصور المرئية لاختلاف المرائي ، وحقيقة الصورة واحدة كما أن الحق تعالى واحد متعدّد بحسب تعدّد الموجودات ؛ وبالحقيقة ، لا تعدّد ، لأن الشيء الواحد إذا تعدّد باعتبارات كثيرة راجعة إليه ، هو واحد غير متعدّد في نفسه .
وهذه الاعتبارات هي الأسماء والصفات ، التي هي أعيان الممكنات ، وإلى ذلك ، أشار بقوله : فللحقيقة رقائق ، يعبّر عنها بالخلائق .
أطلق هنا لفظ « الحقيقة » والمراد بها : الحقيقة الإلهية .
له " رقائق " أي معاني كمالية ، هي أعيان الأسماء والصفات المظهرة لحقائقها في ذوات الموجودات ، على سائر النعوت والنسب والإضافات والاعتبارات ؛ فهي هوية شيء واحد ، من كل الوجوه بالذات ،
وقد شرحنا في هذه النبذة ، جميع ما تضمّنه الباب السادس من كتاب الفتوحات المكية ؛ فتأمّل ذلك ، أرشدك اللّه للصواب ، وعلّمك الحكمة وفصل الخطاب .
الباب السابع الجسم هو المظهر للرّوح الّتي هي النّور المظهر للأشياء كلّه
قال الشيخ رضي اللّه عنه :ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمّنه هذا الباب من أنواع العلوم : سرّ الكيف والكم ، وما لهما من الحكم .
لما كان السؤال بكيف وكم ، من لوازم العالم المحسوس ، الذي هو منصّة الأجسام ، ومظهر الكثافة والأجرام .
عبّر بهما عن الجسم الكلّي ولوازمه ، والنفس الكلية وعوالمها .
فسرّ ظهور العالم الجسماني ، هو لتحقّق الإنسان بالشأن الرحماني ، حتى يظهر بالفعل في صورة جزئية مخصوصة كاملة النشأة ، ما هو ثابت بالقوة في حقيقة الوجود الكلّي الجامع ؛ لتكون تلك الصورة للوجود الكلّي ، كالروح للهيكل الحيواني ، وكالمعنى للفظ ، وكالملك للمملكة . .
فلهذه الحكمة ؛ أول ما خلق اللّه من عالم الأجسام ، العرش.
وجعله محيطا بالمحيطات كلها، كما يحيط الجسم الإنساني بجميع م حواه هيكله المخصوص.
واستوى سبحانه على العرش ، استواء مخصوصا ، هو عليه من غير تغيير لشأنه الذي كان له قبل خلق العرش وم حواه .
وذلك الاستواء - في ضرب المثل - كاستواء الروح على الجسم ؛ فالجسم الجزئيّ عرش جزئيّ للروح الجزئية ، والجسم الكليّ عرش كليّ للروح الكلية ، المعبّر عنها بالحقيقة المحمدية من حيث تعيّنها ، وبالحقيقة الإلهية من حيث عينها .
ولا شك أن الكليّ صادق على الجزئي .
فاعرف بما ذكرته لك ، من أنت ؟ وم محلّك ؟
تعلم حينئذ أن جسمك ، بل الجسم الكليّ: هو البيت المعمور بالقوى .
القوى ،عبارة عن الملائكة الموكّلةبتدبير العالم الكبير، كما أن القوى الحيوانية موكّلة بتدبير جسمك ؛الذي هو العالم الصغيربالنسبة إلى الجرم ، لقوله تعالى : لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ غافر : 57 ] الآية ،
وأما بالنسبة إلى القدرة ؛فإنك أنت العالم الأكبر ، والسماوات والأرض بما فيها ، هو العالم الأصغر، لقوله تعالى : وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [ الجاثية : 13 ].
فالسماوات بم أظلّت ، والأرض بما أقلّت ، مسخّرة لك .
لكونك أعزّ قدرا ، وأعظم فخرا ؛ ولهذا تفنى السماوات والأرض يوم القيامة ، وأنت باق إلى أبد الآبدين .
فجسمك الذي هو البيت المعمور ، بقواك التي هي ملائكة تسخيرك ؛ هو العرش الكريم . . إذ لا موجود أكرم على اللّه منك .
والجسم الكليّ هو العرش المحيط ، لأنه جامع للموجودات الجسمانية ، وليس وراءه إلا عالم الجبروت .
وسيأتي الكلام على العرش العظيم والعرش المجيد ، في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه .
إعلم أن الشيخ رضي اللّه عنه ، أراد أن يبين لك في هذه النبذة ، سرّ خلق العالم .
فبدأ بذكر العرش ، لأنه أول متعيّن في الصورة ،وإليه الإشارة بقوله: والذي كان عليه الاستواء .
إشارة إلى قوله تعالى : الرَّحْمنُعَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى( 5 ) [ طه : 5 ] .
وقد كان الشيخ رضي اللّه عنه فيما مضى - وبيّنّاه لك - أن الروح المعبّر عنها بالحقيقة المحمدية ، وبالعقل الأول ، وبالقلم الأعلى ؛ هي أول مخلوق .
وهي - أعني هذه الروح - كلية وأرواحن جزئياتها .
فلهذ المعنى ، أشرقت تلك المعاني الكمالية الموجودة في الحقيقة المحمدية، في ذواتنا . وإلى هذ المعنى ، أشار بقوله تعالى :لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب : 21 ]. وقوله تعالى :قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [ الممتحنة : 4 ].
وإلى هذا الإشراق في الأجسام أشار الشيخ رضي اللّه عنه بقوله :
محل الظهور المشرق بالنور . يعني : أن العالم الجسماني محل كمال الظهور الإلهي ؛ لأن الجسم الإنساني ، آخر ظاهر من مراتب الوجود .
ولهذا ؛ كان الإنسان البشري ، نوع الأنواع على الإطلاق ؛ وكان الإنسان الحقيقي ، جنس الأجناس .
لأنه أول كل موجود ، فحاز رتبة الإحاطة ؛فهو : الأول والآخر .
وكان الإنسان مشرقا بأنوار الكمالات ، معنى وصورة .
فإشراقه المعنوي ، هو حقائق قواه المعبّر عنها بالعقل ، والخيال ، والهمّة ، والمصوّرة ، والإرادة . . وأمثال ذلك .
فهذه القوى منه ، هي عين الملائكة المدبّرة للعالم الكبير ؛ فالعقل من مظاهر جبريل ، والخيال من مظاهر إسرافيل ، والمصوّرة من مظاهر عزرائيل ، والإرادة من مظاهر ميكائيل . . وقس على ذلك ، باقي قواه المعنوية .
وأما إشراقه الصوري ؛ فالعينان لعالم جسمه ، كالشمس والقمر للعالم الكبير .
واللمس والشمّ والذوق والأذنان ، كالخمس الكواكب الأخرى من العالم الكبير . .
فأشرق كلا العالمين الجسمانيين بالنور .
وعلى الحقيقة ؛ العالم الجسماني هو واحد ، لأنه عبارة عن العرش وم حواه ، فهو محل الظهور الإلهي ، وهو« المشرق بالنور »أراد بالنور ، عبارة عن حقائق الكمال الظاهرة فيه ، من تجليات الحق تعالى .
وعن الجسم عبّر بقوله : كلمة الحق .
يعني : أنه نتيجة كلمة كُنْ [ النّحل : 40 ] لأن الأرواح متعيّنة في العلم الإلهي ، فهي هناك أعيان ثابتة ، قديمة بقدم الحقّ .
والجسم ، هذا المحسوس ، إنما ظهر بواسطة الكلمة ، على ما كانت الروح عليها من الصورة في العلم الإلهي . فكان الجسم أصلا - من هذا الوجه - لظهور أعيان الممكنات ، إذ هو المتعلّق به كلمة الحضرة ، لكونه أتمّ المجالي ظهورا في المراتب الكونية .
ومن ثمّ ، كان الجسم :مقعد الصدق . لأنه محل ثابت متمكّن بيّن من كل وجه ، وبكل اعتبار ونسبة . ومعدن الإرفاق .
وكان الجسم معدن الإرفاق ، وهي المعاني الكمالية التي تحصل للأرواح بسبب الجسم . . وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم« بكشفالستور عن مخدرات النور »فمن أراد معرفة ذلك ، فليطالع هنالك .
ولما كان الجسم هو المتجلّي بجارحة السمع والبصر ،
قال الشيخ مشيرا إلى ذلك :ومظهر الأوفاق .
يعني :الجسم مظهر للصفات ، الموافقة لنعوت الحق تعالى ، من السمع والبصر ؛ إلى غير ذلك من القبضة ، واليمين ، والتبشّش ، والتعجّب ، والنسيان في قوله تعالى : فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ [ الأعراف : 51 ] ،
والنّفس في قوله صلى اللّه عليه وسلم :« لا تسبّوا الريح فإنها من نفس الرحمن » . رواه الحاكم في المستدرك وابن ماجة في سننه ورواه غيرهما .
والصورة في قوله عليه الصلاة والسلام :" رأيت ربي في صورة شاب . الحديث "
والذراع كما في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث :« إن جلد الكافر أربعين ذراعا بذراع الجبار » . رواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه ورواه غيرهما .
فكلّ هذه الصفات ، هي للجسم حقيقة .
وقد وافقت ما هو للّه ، سواء أوّلتها في حق اللّه تعالى ، أم لم تأوّل . لأن الشارع صلى اللّه عليه وسلم ، قد نسبها إليه تعالى ؛ فكان الجسم محلا لظهور الأمور الموافقة للنعوت الكمالية .
فالجسم :محل البركات . لتزايد الظهور . في مرتبته ، ولكونه يحصّل للروح - بواسطة الامتزاج به - علوما ، لا يمكنها أن تعرفها إلا بالجسم .
فهو محل البركة للروح ، ومحل زيادة الظهور للحق .
ومعيّن الحركات والسكنات . لما فيه من قوة الكثافة ، وتكاثف القوة التي بواسطتها تحصل للأرواح الحركات والسكنات الجزئية المضافة إلى الأجسام . وبه .
أي بوجود الجسم . عرفت المقادير والأوزان .
لأن الجسم محل ذلك ، وموضعه ، ومجلاه ، ومظهره . وبه سمي الثقلان .
لثقل الجسد ورسوبه ، له - أي للجسد - من الأسماء المتين ، بالتاء المثناة من فوق ، لما فيه من القوة والمتانة .
وهو الذي أبان النور المبين .
أي :الجسم هو المظهر للروح ، التي هي النور المظهر للأشياء كلها .
فلول الجسم ، لما حصل للروح ما حصل من الكمال ، ولا استطاعت أن تظهر بشيء من ذلك في العالم . حكم . أي الجسم . في النور بالقسمة .
النور هو الوجود ، لأنه إنما وقع الظهور به ؛ فلولا الوجود ، لما ظهر الموجود ، ولا عرف العبد ولا المعبود .
وما ظهرت القسمة في الوجود ، إلا بسبب الأجسام، لكون الأبعاد الثلاثة لازمة لها ، لكونها مركبة كثيفة ؛ ولأجل ذلك : ظهرت بوجوده الظلالات والظلمة .
لأن الكثافة الجسمانية لا تخرقها الأنوار طبعا ؛ ولأجل ذلك ، ظهر بوجود الجسم ، الظّلّ .
وكذلك الظلمة ، إنما ظهرت بواسطته ، لأن الليل هو عبارة عن استتار الشمس بالأرض عن أهل الأرض ؛ وكذلك الخسوف ، عبارة عن حيلولة الأرض بين الشمس وبين جرم القمر .
فلولا توسّط الأرض ، لما ظهرت هذه الظلمة الموجودة .
فالظلمة من طبع الأجسام . وكذلك ، من غلب عليه العمل بمقتضى الأمور الجسمانية ، يكون في ظلمة من ذلك البرزخ ، حتى يؤول أمره إلى النار.
فالجسم أصل في كمال النور ، وأصل في الظلمة .
ومنه ، أي من الجسم . تتفجّر ينابيع الحكم .
لوجود الحواس الخمس فيه ؛ فلكل حاسة من الحواس ، حكمة مخصوصة ليست لغيرها ؛ فلا تنال الروح هذه الحكم ، إلا بواسطة الجسم .
فالعين ينبوع الحكم التي لا تحصل إل بالمعاينة ، كالألوان ، والحسن المشهود ، والطراوة ، والهيئات ، والأوضاع . فكلّ من خلق أعمى ، لا عين له ، ليس يعرف شيئا من هذه الحكم المستفادة بواسطة البصر ، لا في الدنيا ، ولا في البرزخ ، ولا في الآخرة .
بل فاتته هذه الحكم على الإطلاق ، فلا يشعر بها ، ولا سبيل له إلى معرفتها .
والأذن ينبوع الحكم التي لا تحصل إل بالاستماع ، كعلوم القرون الماضية ، وعلوم الأخبار ، والأحاديث المروية عن الرسل ، وعن اللّه بواسطتهم .
بل ولا يعرف الرسالة ول الرسل ، كلّ من خلق أصمّ .
ولهذا ، يكون كلّ أصم ، خلق أبكم . لأنه لا يسمع من أحد ، شيئا من الكلام .
فلا يشعر بأوضاع الكلمات ، ولا يعرف لذة الأنغام ، ولا يحسّ بخشونة الأصوات الكريهة . . وقس على ذلك ، الشّمّ ، والذّوق ، واللمس ؛ في معرفة الروائح ، والأطعمة ، والنعومة والخشونة .
فكلّ حاسة من الحواس الخمس ، ينبوع حكم كثيرة مخصوصة بها ، لا تصحّ للروح معرفتها ، إلا بواسطة تلك الحاسة ، ولهذا ، احتاجت الروح في نيل الكمالات ، إلى الامتزاج بالجسم ؛ فالجسم محل ظهور هذه الكمالات .
وتبرز ،يعني :من الجسم . جوامع الكلم ، بواسطة اللسان . يحوي على رموز النصائح وكنوز المصالح .
أراد برموز النصائح :الاعتبار الحاصل للروح ، بواسطة حواس الجسم . وأراد بكنوز المصالح : الأعمال الصالحة من الأفعال ، والأقوال ، والعلوم ، والمعارف الإلهية ؛ الحاصلة للروح بواسطة الجسم .
لأنها تزداد شرفا عند اللّه بذلك ، فهي كنوز المصالح لها .
الشّهادة سخافته ، والغيب كثافته . أراد بالشهادة هنا ، عالم الملك ؛ وبالغيب ، عالم الملكوت .
والمراد :أن ظهور عالم الشهادة ، بواسطة رقة سطح الأجسام ، لأنها هي المشهودة من عالم الملك ؛ وبطون عالم الغيب ، بواسطة الكثافة الجسمانية ، لأنها هي المانعة عن ذلك .
ألا تراك إذا رأيت جسما من الأجسام ، فإن رقة مسطحة - وهو ظاهره الذي عبّر عنه الشيخ بسخافته - مشهود ، ذو الغيب والشهادة .
تستّر - أي الجسم بالجسم .للغيرة الإلهية على ذاته تعالى ، إذ هو عين الجسم ! وسبب هذه الغيرة : حتى لا يرى راء غيره .
فلا يبصر مبصر غير ظاهر الجسم ، صيانة من الحقّ تعالى - إذ هو عين الجسم - لباطن الجسم ؛ إذ هو من أشرف مظاهر الوجود ، لأنه المفصّل لجمليات مراتب الوجود ،
حيث أنه : يتقلّب .أي الجسم . في جميع الأحوال ، كاللطافة والكثافة ، والصغر والكبر ، والطول والعرض ، والعمق والسمك ، والبعد والقرب ، والتوسّط ، والحسن والقبح ، والفناء والبقاء ؛ إلى غير ذلك من الأحوال اللازمة للجسم ، والعارضة له .
فلول شرفه ، لما كانت له الأحوال كلها .
فهو يدخل في كل طور من أطوار النقص والكمال ، ويقبل بذاته التصرّف في جميع الأعمال .
يعني :أن للجسم - من حيث هو - قابلية لكل عمل من الأعمال المتنوعة ؛ مما يستحيل عادة ، كقتل العصفور بازا ؛ أو يستحيل عقلا ، كحمل النملة جملا .
فإن في قابليتها ، القبول لذلك . فلو حصل الاستعداد ، ووافق القدر ، أمكنها فعل ذلك المستحيل . .وإنما حصل هذا السرّ - الذي أودعه في الجسم - من قدرته .
تنبيه :إعلمأن الأجسام على أربعة أقسام :
القسم الأول :هو المعدن . وهو عبارة عن كل جماد لا نمو له ، سواء كان مائعا أو منعقدا .
القسم الثاني :هو النبات . وهو كل نامي من الأجسام ، لا روح فيه طبعا .
القسم الثالث :هو الحيوان . وكل نامي ذي روح من الأجسام .
القسم الرابع :هو السماوات ، والأجرام النورانية ، والأفلاك العلوية ؛ فإن كلّا من ذلك ، أرواح قائمة متجسدة .
وإنما صحّ إطلاق لفظ الجسم عليها ، لكونها تقبل الأبعاد الثلاثة التي هي من طبع الجسم - وهي الطول والعرض والعمق - فكانت أجساما ، لأنها من تمام عالم الملك . وعالم الملك ، عبارة عن مرتبة الطور الجسماني .
وقد ذكر الشيخ - رضي اللّه عنه - في البابالذي ذكره في هذه النبذة ، خلاصة ما فيه . وهو الباب السابع من الفتوحات .
إن عمر الأرض ، أحد وسبعون ألف سنة من سني الدنيا ؛ فلا تظن أن ذلك على الإطلاق ، بل عمر العالم الدنياوي من وقت مخصوص وإلا ، فعمر هذا العالم أطول من أن يحصر ، أو يحصى بآلاف الألوف من السنين .
وقد ذكر الشيخ ما يدلّ على ذلك مصرّحا في الفتوحات المكية ،حين ذكر أن في الأهرام الموجودة بأرض مصر ، كتابة بقلم غريب ، يقرؤها من يعرفها .
ومفهوم تلك الكتابة ، أن باني تلك الأهرام ، بناها والنسر الطائر في الحمل ؛
وقال الشيخ رضي اللّه عنه :إن النسر الطائر لا ينتقل من برج إلى غيره، إلا بعد مضي ثلاثين ألف سنة ، وهو اليوم في الدلو ؛ فقد قطع عشرة أبراج ، ولا يتأتى ذلك إلا بعد ثلاثمائة ألف سنة .
وإذا كان هذا عمر الأهرام ، فأين أنت من عمر الدنيا ؟
فإذا كانت الدنيا المخلوقة للزوال بهذه المثابة من طول العمر ، فما قولك في الجنة والنار المخلوقتان للبقاء ؟
فلا تحمل كلام الشيخ - رضي اللّه عنه - في الفتوحات ، من أن عمر الجنة أو النار كذ كذ سنة ، على ظاهره ، بل ذلك من وقت مخصوص .
لما كان الجسم الإنساني ، كالعالم الدنياوي ، بالوضع والتفصيل .
فإن حكم العالم الدنياوي إلى الزوال والفناء ، لأن ذلك من لازم الجسم الإنساني ؛ فكلّ منهما نسخة للآخر ، وعمر كلّ منهما على حسب هيكله ، فكان عمر الإنسان قصيرا ، لأن
هيكله صغير ؛ وكان عمر العالم الدنياوي طويلا ، لكبر هيكله . . ولا بد له من الانعدام والفناء ، كما أنه لا بد للإنسان من ذلك . فافهم !
ولما كان العالم الأخراوي ، نسخة من باطن الإنسان وروحه - إذ كلّ منهما نسخة للآخر - فكانت الآخرة ، كالروح الإنسانية ؛ باقية بإبقاء اللّه تعالى .
فلا يتوهّم أن الجنة والنار تفنيان بحال ، وما ورد من أن النار تفنى ، وينبت محلها شجر الجرجير، إنما ذلك من حيث أقوات مخصوصة . ففناؤه وزوالها ، فناء مقيّد ، لا فناء مطلق.
لأن الآخرة ، محل مشهود الأعيان الثابتة - التي هي معلومات العلم - لأن اللّه تعالى يظهرها يومئذ ، فيرى منها كل أحد ، على حسب حاله ومقامه عند اللّه .
ولا شك أن النار معلوم العلم الإلهي ، فلا سبيل إلى زوال المعلوم عن العلم .
وقد كشفت بذلك ، عن أسرار شريفة ، لم يسمح بها أحد من المحقّقين ؛ غيرة على تفاصيل المعرفة باللّه .
وفي هذه النبذة ، زبدة جميع ما أفرده الشيخ في الباب السابع من الفتوحات المكية . فافهم ، أرشدك اللّه للصواب .
*
![]() |
![]() |