
شرح مشكلات الفتوحات المكية
وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية
منسوب للشيخ عبد الكريم الجيلي
![]() |
![]() |
الباب الرابع ما هذه المظاهر المشهودة إلّا عين الظّاهر فيها وهو اللّه
قال الشيخ رضي اللّه عنه :ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمّنه هذا الباب .
سرّ البدء اللطيف ، وما جاء فيه من التعريف . يريد : سرّ بداء العالم . واللطيف صفة سرّ البداء ، والضمير راجع إلى السّرّ .
وسوف أنبّهك على مقدمة ، تعرف بها معنى كل ما يرد في هذه النبذة التي جمعت جميع ما في الباب الرابع من كتاب الفتوحات المكية .
وذلك :أن اللّه تعالى لما أحبّ في شأن ذاته البطوني ، أن يظهر في كنزيته ، لما يقتضيه شأن ذاته الظهوري من الظهور على حكم شؤونه الذاتية . فتشكّل وتصوّر بأشكال العالم وصوره ونسبه وإضافاته وأحكامه جميعا ؛ صورة ومعنى ، بطونا وظهورا ، فناء وبقاء ، عينا وحكما ، وجودا وشهودا .
فمثله تعالى في هذا المعنى-وللّه المثلى الأعلى- كمثل النفس الناطقة في هيكل الإنسان ، إذا حدّثت نفسها بنفسها ، فتكون هي المتكلّمة والسامعة ، وهي عين كلامها ؛ لأنها تتصور لنفسها بصورة مفهوم ما تكلّمت به .
فهي الكلام والمتكلّم والسامع ، وكذلك الحق تعالى ، عين العالم المسمّى بالخلق ، وعين الخالق له المسمّى بالحق . يبدءان لأسمائه وصفاته ، ترتيبا تقتضيه كل صفة ، لما هي عليه في شأنها .
فلكل اسم مرتبة في ظهور العالم ، فهو ناظر إلى العالم ، من حيث تلك المرتبة والمقتضى ، لإيجاد الكون من جهة تلك الصفة .
فنقول - مثلا - إن الصفة العلمية أول متوجهة لإيجاد العالم ، وإن الصفة الإرادية أول متوجهة لتخصيص كل شيء على ما هو عليه من الهيئة والترتيب ، وإن الصفة القادرية أول متوجهة لظهور العالم في الحسّ .
لكن توجّه كل صفة من هذه الثلاثة المذكورة ، على ترتيب ذكرها ؛ فالعلم له التقدّم ، ثم الإرادة ، ثم القدرة ، وعلى ذلك فقس واحكم ، إلى أن تستوفي جميع الأسماء والصفات ؛ فإن أحكامها المتعلّقة أعيان وجودية ، يسمعها الكاشف ويراها .
فاعتبر ذلك حتى تستوفي مقتضياتها ، إلى أن يتمّ الأمر بظهور كل المراتب الكونية ، علوّا وسفلا ، لطيفا وكثيف .
فتنبّه لهذه المقدمة ، تفهم جميع ما أراده الشيخ - رضي اللّه عنه - بقوله : إن العالم علامة .
يعني :أنه علامة على موجده تعالى ، يعرف هو - سبحانه - بالعالم - وتحقيقه ؛ أن كلّ وجه من وجوه العالم ، راجع إلى صفة من الصفات الإلهية .
وتقدير ذلك :إن العالم من حيث كونه موجودا ، أثر صفة اسمه الموجد ؛ ومن حيث كونه على هيئة مخصوصة ، أثر اسمه المريد ؛ ومن حيث كونه بارزا - من غير مادة ، ولا تعيّن - أثر اسمه القادر ؛ ومن حيث كونه مخلوقا ، أثر اسمه الخالق ؛ ومن حيث كونه مرزوقا ، أثر اسمه الرازق ؛ ومن حيث كونه مرئيا ، أثر اسمه البصير ؛ ومن حيث كونه مسموعا ، أثر اسمه السميع ، وقس على ذلك ؛ فهذه الأسماء هي المظهرة لأعيان هذه الآثار ، وإن شئت قلت : هذه الآثار هي التي أظهرت هذه الأسماء .
وعلى الحقيقة ، هو واحد في واحد لواحد .
فلهذ قال :بدؤه ممّن فهو علامة على من .
يعني :إذا كان الحق عين العالم ، فمن أين بدأ العالم ؟ بل هو في نفسه ، كما كان عليهفإذن:ليس هو علامة على شيء ، لأنه ما ثمّ غيره . فلا يقال إن الشيء الواحد ، يكون علامة على نفسه لنفسه .
إذ لا مغايرة في نفسه لنفسه ، فلا بدأ ، ولا ظهر ، ولا بطن ، ولا استتر ؛ إذ الحقّ هو الكل .
وإلى هذ المعنى ، أشار بقوله :ما استتر عين حتى يظهر كون . يعني : ما استترت ذاته ، ليظهر غيره .
ولما تحقّق الشيخ - رضي اللّه عنه- بشهود واحدية الحق تعالى في كثرة الموجودات ، وعاين كثرة تنوعات تجلياته في الأسماء والصفات ؛ قال : رأينا رسوما ظاهرة . أراد بالرسوم ، الأسماء والصفات التي هي الظاهرة في العالم بحقائقها وآثارها . ورأين ربوعا .
يعني بذلك ،المظاهر الكونية . دائرة ، فانية لظهور الحق تعالى . وقد كانت تلك المظاهر الكونية ، التي يعبّر عنها بالسوى والعالم . قبل ذلك .
أي ، قبل شهودنا فيها أحدية الحقّ . عامرة ، لكوننا كنا نراها ، ونظنّ أن لها وجودا ؛ فكانت من حيثن ، وجودية وناهية وآمرة ،
فسألناها : ما وراءك يا عصام ؟ .
تكلّم الشيخ على لسان حال الوجود .
فكلّ من نظر بعين اليقين ، وجد اللّه وراء الموجودات ، من حيث استنادها إليه الاستناد الإيجادي ؛
وإن شئت قلت :من حيث كونها مظاهر ، وهو الظاهر . ولأجل ذلك ، قال إن الحالأجابه ؛ فقالت: ما يكون به الاعتصام . الاعتصام هو الاحتفاظ ، فلولا نظر اللّه في العالم وجوده ، لعدم العالم ؛ فباللّه عصمة العالم وحفظه .
ولهذ قال :فقلت ما ثمّ إلا اللّه وحبله ، وما لا يسع أحدا جهله . يعني : ما هذه المظاهر المشهودة ، إلا عين الظاهر فيها ، وهو اللّه .
وحبله الذي به الاعتصام ، هو صفاته الحاكمة بتنوع الموجودات .
فشبّه الاعتصام بالحبل ، للارتباط المعقول بين الأثر والمؤثر ؛ وعن ذلك كنّى بقوله « ما لا يسع أحدا جهله » لظهور آياته في مصنوعاته .
فقال ؛يعني: لسان العالم . لول الكثائف ؛
يعني :المخلوقات التي هي حجب على صانعها ، لأن الحجاب من طبعه أن يكون كثيفا ، وإلا لما حجب
. فلولا هذه الحجب الكثيفة ، ما علمت اللطائف . أراد باللطائف ؛ حقائق الأسماء والصفات .
ولول آثارها . الضمير راجع إلى اللطائف ،
يعني :ولولا آثار الأسماء والصفات . ما ظهر منارها .
أي منار الكثائف التي هي المخلوقات على الإطلاق ؛
يعني :لولا العالم ، ما عرفت أسماء الحق وصفاته ؛ ولولا أسماء اللّه وصفاته ، لما ظهر العالم . فمن خبت ناره ، انهد مناره .
يعني :فكلّ مظهر سكنت ناره - لبطون تجلي الاسم الحاكم عليه - انهدم وفني من حيث الحسّ ، فصار له حضرة القدس ، على ما ؟ ؟ ؟ عليه ؛ لأنه كان ثمّ قبل ظهوره ، وصار إليه بعد بطونه .
فما ازدادت حضرة القدس بدخوله فيها ، وما انتقصت بخروجه عنه .
وما ينمّ به إل الحسّ . يعني : وما ينمّ بوجود الموجودات ، إلا مراتب الحسّ .
لول الحسّ . أي ، العالم المحسوس الدالّ على اللّه . بشهود الأثر . برؤية أثر الأسماء الإلهية ، والصفات الكمالية ، فلولا ذلك . ما عرف للطيف خبر . اللطيف هو اللّه ،
وتقديره :لولا الموجودات ، لما عرف الموجد سبحانه وتعالى .
ولما فرغ الشيخ - رضي اللّه عنه - من الكلام على العالم عموم ،خصّص بذكر الإنسان .
فقال :النّفس عمياء . يعني عن شهود كمال اللّه تعالى . للقرب المفرط .
حيث يقول اللّه تعالى :وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ ق : 16].
لأنه سبحانه عين النفس ، فجهلت النفس حقيقتها من أجل ذلك القرب ، ومن أجل ما تشهده الحواس من كثائف الحجب .
وظاهر الأمر :فصارت النفس بواسطة هذين الأمرين ، جاهلة باللّه طبع .
وهي ، يعني النفس . الصّمّاء عن إدراك الوسواس .
أراد بالوسواس ، الخواطر الإلهيةالتي ترد على النفوس بالفطرة .
وإنما صمّت آذان النفوس عن إدراك هذه الخواطر ، لأن المادة حاكمة على النفس بالعقل والمقتضيات البشرية ، فامتنعت عن سماع ما يرد من الحق لأجل ذلك . وهي الخرساء فل تفصح .
يعني :أن النفس صارت خرساء بالطبع الحيواني ، فلا تفصح عن سرّ من الأسرار الإلهية المودعة فيها ، لكونها بشرية بحكم الطبع في قيد الجسم وحصره .
وهي .يعني النفس ؛ العجماء. إنم اعتجمت النفس بفراقها ما في قابليتها من الكمالات ؛ وإنما فارقته لعدم اشتغالها به ، بسبب ما أخذها عنه من الأمور الحسّيّة .
فلا تعقل النفس ما هي حاوية له من الكمالات الإلهية فتوضّح وتخبر عنه .
ولولا اشتغالها عن المعنى بالحسّ ، لظهر بالفعل ما هو باطن فيها بالقوة من أوصاف الكمال ونعوت الجلال والجمال .
وإلى ذلك أشار بهذه الأبيات :
سرى اللّطيف من اللّطيف فناسبه * وبدا له منه الخلاف فعاتبه
اللطيف الأول هو النفس ، واللطيف الثاني هو ذات واجب الوجود .
يعني:
أن النفس على الحقيقة ، مخلوقة من نور ذات الواجب بذاته ؛ ولهذا وجدت فيها من الكمالات ، جميع ما وصفت الحقّ به - وقد بيّنا كيفية مضاهاتها للحق والخلق على التفصيل ،في كتابنا الموسوم " بإنسان عين الوجود ، ووجود عين الإنسان الموجود "فمن شاء أن يعلم ذلك ، فليطالع فيه - وحوت من النقائص جميع ما في الوجود ؛ فجمعت من كلا وصفي الحقّ والخلق ، ما استوعب الأمر على ما هو عليه .
ولهذا قال « فناسبه » لأن الحقّ تعالى جامع لذلك، فحصلت المناسبة بين النفس - التي هي روح العالم الإنساني - وبين الحقّ ، الذي هو روح العالم .
وأما قوله « بد له منه الخلاف »فهو إشارة إلى ما يقع للنفس من النزول والركون إلى المقتضيات الأرضية التي لأجلها يكون العتاب ، وإليه الإشارة بقوله " فعاتبه " ، ثم قال :
وتوجّهت منه إليه حقوقه * فدعاه للقاضي العليم وطالبه
يعني :واقتضى الحال أن يتوجّه على النفس حقوق كثيرة لموجدها ، إذ للصانع حقّ على مصنوعه لا ينكره العقل طبعا ، والقاضي هو العقل ،
فعبّر عن إرجاع الحقّ للنفس إلى العقل - لتعرفه النفس - بقوله « فدعاه للقاضي العليم » فطالبه ، بأداء حقّ الصانع عليه .
ونعت القاضي - المعبّر به عن العقل - أنه عليم ، لأن العقل من طبعه درك الأمور كلها ، لما أودع اللّه فيه من مكنون علمه ، كما سبق بيانه .
فعندما رجعت النفس إلى مقتضى العقل ، عرفت بحكم العقل ، أن نزولها إلى مقتضى حكم الجسم وبال عليها ، فعبّر عن هذا المعنى بقوله : نادى عليه .
يعني :نادى العقل على النفس .
تجرّس. التجريس ، التعزيز على سبيل الإهانة تهكّما إذ العقل يقضي أن يكون : هذا جزاء من عامل الجنس البعيد وصاحبه .
الإشارة بقوله "هذا "إلى النزول والانحصار والتقييد والعجز والاحتباس بحكم سجن الطبع ، فذلك جزاء كل نفس اشتغلت بالظاهر عن حكم الباطن ؛ لأنها تألفه وتنسى ذلك المعنى طبعا .
فما أنزلها عن التحقّق بحقائق الكمال ، إلا فعلها ، فإذن نزولها جزاء ما صنعت .
وعن الجسم ومقتضياته ، عبّر بالجنس البعيد . فنزول النفس إلى العجز ، لأمرين : أحدهما ، العمل بمقتضى الجسم ؛ والثاني ، مصاحبة الجسم . فالأول عارض ، والثاني لازم .
فينبغي أن يسعى المرء أولا في زوال حكم العارض ، حتى إذا انفكّ عن الجسم ، حصل له اللازم أيضا ، فيخلص إلى الكمال المطلق من كل وجه .
وعن الرجوع عن المقتضيات البشرية عبّر بقوله :
ليتوب من سمع النّداء فيرعوي * عنه ويعلم أنّه إن جانبه
تظفر يداه بكلّ خير شامل * فاستعمل الإرسال فيه وكاتبه
اللام في « ليتوب » للتعليل ،
يعني :إنما نادى العقل مجرّسا للنفس ، لتحصل منها التوبة ، وهي الرجوع عن حكم الجسم ومقتضاه ، إلى الحقّ ؛ فتلزم مشاهدته منها فيها - ولتعلم النفس ، بما أوضحه العقل ، أنها إن جانبت الجسم - المعبّر عنه بالجنس البعيد - فتركت العمل بمقتضاه ، وخالفت أحكامه ؛ ظفرت يداها بالصفات الإلهية ، التي هي في قوة النفس وقابليتها ، فتستعمل الاسترسال في ذلك بشهودها لحقائقها الحقيقية ؛ لأنها عين المعبّر عنه بالذات الإلهية،
وإلى النفس أشار بقوله :هو اللطيف في أسمائه الحسنى ، وبها ظهر الملأ الأعلى والأدنى .
يعني :أن النفس المعبّر عنها بالذات ، ظاهرة في الأسماء الحسنى والصفات العليا التي ظهرت بواسطتها الموجودات ؛ فالضمير في قوله « بها » راجع إلى الأسماء الحسنى . وقد شرحنا لك في أول هذه النبذة ، عن كيفية كونها توسّطت في إيجاد هذا العالم .
وعبّر عن ذلك بقوله :لما تجاوزت تحاورت ، الأول بالجيم ، والثاني بالحاء المهملة .يعني :لما حصلت المجاورة بين الأسماء الإلهية والصفات الربانية ، لأنها كانت في محلّ واحد فخاطبت بعضها بعضا بحكم المقتضى ؛ وعن ذلك عبّر بقوله « تحاورت » . وقد قلنا لك إنها طلبت ظهور آثارها ، وإن الكلام على الحال .
وذلك واقع صورة في الآزال ، علم تحقّقه .
وعن لسان حالها المطالب بمقتضى آثارها ،عبّر بقوله :ولما تكاثرت ، تسامرت . فرأت أنفسها على حقائق ، ما لها من طرائق .
يعني :رأت الأسماء والصفات أنفسها على حقائق مختلفة ، فلتلك الحقائق ظهور في الوجود .
فكان الأمر : سماؤها ما لها من فروج .
كنّى عنه بالسماء ، لأن السماء لها العلو على الأرض ، كما أن المؤثّر له العلو على ما أثّر فيه ؛ وإنّي بقوله وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ ( 6 ) [ ق : 6 ] عن عدم ظهور مؤثراتها في ذلك الموطن ، فاقتضاه حالها ؛
وعن ذلك عبّر بقوله :فطلبت أرضا تنبت فيها من كل زوج بهيج . يعني : طلبت الأسماء والصفات الإلهية ، المعبّر عنها بالسماء ، أرضا ؛ أي محلا تظهر فيه آثارها . وعن ذلك عبّر بقوله وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( 7 ) [ ق : 7 ]
يعني :فاشتاقت أن تظهر هذه الأسماء والصفات ، كلّ معنى لطيف من معاني آثارها ، في الموجودات .
فقالت .أي لسان حال الأسماء والصفات عند اقتضاء الظهور : المفتاح في النكاح .يعني :فتح باب الإيجاد ، بظهور الكون في تناكح الأسماء ، أي توالج بعضها في بعض ، لظهور هذا العالم . فعبّر عن دخول حكم الأسماء بعضها على بعض ، بالنكاح .
ولا بدّ من ثلاثة ، ليصح النكاح المعنوي . ولأجل ذلك بني عليه النكاح الصوري ، فلا يصحّ النكاح في ظاهر الأمر ، إلا بثلاثة .
وهم : وليّ ، وشاهديّ عدل ، لهذا القضاء الفصل .
فالثلاثة المتصدرة المشروطة في نكاح الأسماء الإلهية ، هم:
الاسمالذاتي ، وهو اللّه .
والاسمالرحمن ، لأنه يرحم أسماءه وصفاته فيظهر آثاره .
والاسمالرحيم ، لأنه به ترحم الموجودات . هذا نكاح أقدسيّ ، وثمّ نكاح قدسيّ ! .
والثلاثة المشروطة في الأسماء ، لنكاحها الثاني وتداخل بعضها في بعض لظهور العالم كله - أعلاه وأسفله ، أوله وآخره - هو : العلم والإرادة والقدرة .
فالعلم هو محل ظور المعلومات ، ومنصّة وجود الأسماء والصفات .
والإرادة هي المخصّصة لكل موجود ، على حكم ما يقتضيه حال الكمال .
والقدرة هي المبرزة له من العلم إلى العين ، فهذه شروط صحة النكاح المعنوي الأسمائي الأزلي الأبدي .
فالنكاح الأول ،لتعلّق الأسماء والصفات بحقائقها ، ولكمال ظهورها .
والنكاح الثاني، لظهور الموجودات وتحقيق بروزها، ليتم به مقتضى الكمال، فافهم .
ولما كانت الكلمة الإلهية ، التي هي مجلى العلم والإرادة والقدرة ، وهي : كن ، متعلقة بالمعلوم ، لشمول معاني الكمال له تعالى ، لقوله عزّ وجلّ : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 40 ) [ النّحل : 40 ] .
فالشيء هو معلوم بالصفة العلمية ، ومراد بالصفة الإرادية .
وكلمة كُنْ [ النّحل : 40 ] هي المتعلقة بعين ذلك المعلوم في العلم ، وصفة القدرة هي المخرجة له من العلم إلى العين .
عبّر عن ذلك بقوله :
فقال العليم ، يعني الصفة العلمية أعطت أنه : لا بد من كلمة كُنْ [ النّحل : 40 ] لظهور هذه الأعيان الثابتة في العلم ، وخروجها من محلها إلى العالم العيني .
وعن كلمة كُنْ [ النّحل : 40 ]
عبّر بقوله :بسم اللّه الرحمن الرحيم . ومن ثمّ قال بعض العارفين : « بسم اللّه الرحمن الرحيم من العارف ، ككن من اللّه . . »
وسوف يذكره الشيخ فيما يلي في هذا الفصل - إن شاء اللّه تعالى - ولولا أن الكلام يأتي على بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ( 1 ) [ الفاتحة : 1 ] في أثناء هذا الباب ، لتحدثنا هنا حسبما أراده الشيخ رضي اللّه عنه .
فهذا ي وليّ ، الشاهدان والوليّ.
لما كان الاسم اللّه ، والاسم الرحمن ، والاسم الرحيم ؛ موجودا في البسملة .
أشار الشيخ رضي اللّه عنه إلى ذلك - حسبما ذكرنا ذلك آنفا - فجعل الوليّ هو الاسم اللّه ، والشاهدان هما الرحمن والرحيم، على النمط السابق .
ففي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ( 1 ) [ الفاتحة : 1 ]سرّ النكاحين المعقودين لظهور حقائق الحقّ وحقائق الخلق . . فتأمّل ،ترشد إن شاء اللّه تعالى .
قال الشيخ رضي اللّه عنه :فهذا . يعني ما عبّرنا عنه من لسان حال الكمال في الأزل : كان أول تركيب الأدلة . أراد بالأدلة ؛ المصنوعات وبروزها .
يعني :بذلك المعقول آنفا، كان سبب تركيب المصنوعات وبروزها على لسان العموم.
وأما على الخصوص ، فالأدلة هي الأسماء والصفات الإلهية ؛ لما اقتضاه الشأن الإلهي ، من حيث ما هو الأمر عليه ، ليكون ذات واجب الوجود ، منعوتا بنعوت الكمال والجلال والجمال .
فركوب كل اسم علما ، على صفة منصّته ؛ وتركيب كل صفة منصّة ، على شأن إلهي ، فقال تعالى : وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [ الأعراف : 180 ] .
لأن الشيء في نفسه ، لا يحتاج إلى اسم يميّز به نفسه لنفسه .
هذا إذا كان ثمّ موجود آخر ، فكيف إذا لم يكن ثمّ غيره ؟ فبالأولى .
ولما لاح هذا المعنى لبصائر المعتزلة ، من حيث أنهم لم يشعروا به ، ذهبوا إلى أن القدم للذات فقط ، ليس لشيء من الصفات عندهم قدم في القدم ؛ فقالوا بأن جميع الأسماء والصفات الإلهية مخلوقة .
وفاتهم نصف المعرفة باللّه ، كما فات من قال بأنها قديمة على الإطلاق ، لقدم الذات ، ولم يجمع بين الحكمين ، إلا عارف باللّه .
ولا يكون ذلك ، إلا لمن أشهده اللّه حقائق الأشياء ، فعرفها ، وعرف مجاليها - على ما هي عليه جملة وتفصيلا - فعرف كيف ينسب كل اسم أو صفة إلى اللّه ، فيحكم بأنه قديم ؛ وكيف ينسبه إليه ، فيعرف بأنه - أي الاسم والصفة - محدث .
ولم يقف على وجه دون آخر ، لأن الحقّ هو الجمعية .
وبعد هذا ، عرضت الشّبه المضلّة .
يعني :عرضت على العقول أمور ، يعطي بعضها الاشتباه بالحقّ ، فضلّت أهل تلك العقول عن الطريق الإلهي الذي هو له تعالى . على أن الطريق المضلّة ، أيضا ، له وإليه ، لكن هذه على العموم وبحكم الوسائط البعيدة ، وتلك على الخصوص وبالوسائط القريبة ، وقد شرحنا لك في هذه النبذة جميع ما أراده الشيخ رضي اللّه عنه ، ونبّه عليه في الباب الرابع من كتاب الفتوحات .
واللّه الموفق .
*
![]() |
![]() |