موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب شمس المغرب

سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه

جمع وإعداد: محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ونريد من خلال دراسة سيرة هذا العارف الجليل أن نستكشف بعض هذه العلوم والمعارف التي أهداها لنا الله على يديه والتي وقف عندها العلماء والفلاسفة حائرين حيناً ومعجَبين حيناً وعاجزين في أغلب الأحيان عن الخوض في بحارها واستخراج جواهرها ومكنوناتها.

لقد وَهب محمّدٌ ابن العربي حياته كلَّها لتحصيل العلم والمعرفة، ولكنه لم يسلك في ذلك طريق الفكر والنظر مثل عامة العلماء على جلال قدرهم، وإنما سلك طريق التقوى التي هي الشرط الوحيد حتى يتولى اللهُ سبحانه وتعالى عباده بالتعليم، كما قال عزّ وجلّ في سورة البقرة: ((وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [282]))، وقال أيضاً في سورة الأنفال: ((يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً... [29]))، أي ما تفرّقون به بين الحقّ والباطل. فمَن حقّق شرط التقوى حصّل الغاية العظمى من المعرفة الإلهية التي هي النور الحق المبين.

وهذه المعرفة التي تحصل بالتقوى هي المعرفة الكشفية الذوقية الوهبية عن طريق أرواح الأنبياء والملائكة الكرام الذين ينهلون من بحر المعرفة الأبدية محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهي معرفة يقينيّة تُدرَك بالبصيرة ولا يُداخلها الشكّ، بخلاف بقية العلوم النظرية المبنيّة على الفِكر الذي يصيب حيناً ويخطئ في أغلب الأحيان، والفرق بينهما كالفرق بين من يذوق العسل ومن يقرأ عنه في الكتب أو يسمع عن وصفه ممّن ذاقه، فالأخير ربما يقارب الحقيقة بعد جهد وعناء وهو ليس فيها على يقين، وأما من ذاق فتحصل له المعرفة الضروريّة اليقينيّة بمجرّد الذوق وبلا جهد ولا تعب بل مع لذّة وهناء، ولكن بشرط سلامة المحل؛ فربما يذوق العسل من في فمه مرضٌ فيمجُّه ولا يستسيغ طعمه.

وبما أنّ المعرفة تحصل في النفس والقلب عن طريق الروح فإنه لا بدّ من تصفية القلب وتعديل المزاج وتزكية النفس حتى تكون محلاً مستقبلاً وقابلاً ثم جامعاً وواهباً لهذه المعرفة. ومن هنا جاء التصوّف الإسلامي الصحيح المستند على أُسس الشريعة الإسلامية لتصفية النفس من كدورتها وشهواتها الطينيّة، وتصفية القلب من تعلّقه بالدنيا وطاعته العمياء للنفس القويّة المتمرّدة، وتزكية الروح لإصلاح علاقتها بأصلها وجوهرها الذي هو الروح القدسي الإلهي، وتحليلها من قيودها التي حصلت لها لارتباطها بهذا الجسد الفاني. فإذا حصل ذلك كان الرجوع إلى الله تعالى، وهو التوبة الحقيقية، فيدخل القلب على الحضرة الإلهية عبداً محضاً خالياً من تعلّقاته بفنائه عن الدنيا وعن كلّ ما سوى الله تعالى وليس ثَم، ثم يخرج إلى العالم مكلّلاً ببهاء النور الإلهي محمّلاً بالمنح والعطايا، مليئاً بالإيمان العيانيّ اليقينيّ، فتصغر الدنيا في عينه ويزهد بها وبما يملك منها لأنّه يعلم يقيناً ومشاهدةً أنّ متاع الدنيا قليل ((وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ [198])) [آل عمران].

وهذا الرجوع الحقيقي أو التوبة إلى الله سبحانه وتعالى ليست مجرّد لفظٍ وقول، بل هي فعلٌ جازمٌ مع استقامةٍ دائمة، وليس ذلك بالأمر اليسير الذي يمكن أن يحصّله كلُّ إنسان، بل يحتاج إلى هِمّة عالية وإرادة قويّة وضع الإسلام جميع الأسس الموصلة إليها مثل الصوم وجهاد النفس وغيرها، فالناس في ذلك على اختلافٍ كبيرٍ وطبقاتٍ عديدة؛ فمنهم من لا يُعير لذلك بالاً كأنّ الأمر لا يعنيه فيبقى منهمكاً في الدنيا وملذاتها، ومنهم من يدرك الهول فيسعى إلى الملاذ، وهنا تتفاوت الهِمم فيثبت الناصح وينكث



  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

هذا الموقع مخصص للطبعة الجديدة من شمس المغرب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!