موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح التلمساني
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

فص حكمة نفثية في كلمة شيثية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة نفثية في كلمة شيثية


02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

قوله رضي الله عنه: "اعلم أن العطايا والمنح الظاهرة في الكون على أيدي العباد وعلى غير أيديهم على قسمين: منها ما يكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية وتتميز عند أهل الأذواق، كما أن منها ما يكون عن سؤال في معين وعن سؤال غير معين.
ومنها ما لا يكون عن سؤال سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية.
فالمعين كمن يقول يا رب أعطني كذا فيعين أمرا ما لا يخطر له سواه وغير المعين كمن يقول أعطني كذا ما تعلم فيه مصلحتى من غير تعيين لكل جزء من ذاتی من لطيف وكثيف."
قلت: النفث هو النفخ فكأنه يقول: إن روح القدس نفث في روعي.
والمراد بالكلمة شيث، عليه السلام، أضاف الكلمة إليه إضافة المسمى إلى اسمه عند من يريد بيان المسمى من الاسم.
والمنح هي العطايا ويجوز عطف الشيء على نفسه إذا اختلفت الألفاظ
ومثال العطايا التي على أيدي العباد: ما يهبه الناس بعضهم لبعض.
ومثال ما هو على غير أيديهم: ما يهبه الله تعالى عباده من معرفة أو علم أو غير ذلك بلا واسطة أو بواسطة ملك من الملائكة.
ومثال العطايا الذاتية: أن يكشف الله تعالی لولي من أوليائه فيحصل له الشهود الذاتي الذي فوق مراتب الأسماء والصفات والأفعال.
ومثال العطايا الأسمائية: أن يحصل للولي شهود من حضرة اسم إلهي مثل القيوم مثلا فيشهد قيومية الحق تعالى التي بها قام كل شيء ولولا قيام العالم بالقيومية الإلهية لانعدم دفعة واحدة، ولولا القيومية لما وجد.
واعلم أن الصفات والأفعال ترجع إلى الأسماء الإلهية.
قال: وتتميز هذه العطايا والمنح عند أهل الأذواق، فيعرفون العطايا الذاتية من العطايا الأسمائية، ويتميزون أيضا عطايا بعض الأسماء عن بعض وذلك لا يعرفه إلا أهل الأذواق.
والذوق عبارة عن نور عرفاني يقذفه الحق تعالی بتجليه في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب ولا غيره. وباقي الكلام ظاهر.
و قوله رضي الله عنه: (والسائلون صنفان صنف بعثه على السؤال الاستعجال الطبيعي فإن الإنسان خلق عجولا. والصنف الأخر بعثه على السؤال لما علم أن ثم أمورا عند الله قد سبق العلم بأنها لا تنال إلا بعد السؤال، فيقول: فلعل ما نسأله سبحانه يكون من هذا القبيل، فسؤاله احتياط لما هو الأمر عليه من الإمكان، وهو لا يعلم ما في علم الله ولا ما يعطيه استعداده.)
قلت: هذا كله ظاهر من تمثيل الشيخ، رضي الله عنه.
قوله: (ولا ما يعطيه استعداده في القبول لأنه من أغمض المعلومات الوقوف في كل زمان فرد على استعداد الشخص في ذلك الزمان. ولولا ما أعطاه الاستعداد السؤال ما سأل.
و قوله رضي الله عنه : "فغاية أهل الحضور الذين لا يعلمون مثل هذا أن يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه، فإنهم لحضورهم يعلمون ما أعطاهم الحق تعالى في ذلك الزمان وأنهم ما قبلوه إلا بالاستعداد."
قلت: يعني بالاستعداد، التهيؤ للأمر ومن جملة الأمور السؤال، فلو لا أن السائل مستعد للسؤال ما سأل.
لكن من الناس من يعلم الاستعدادات ويعلم ما يقتضيه ومنهم من لا يعلم ذلك وهم الأكثرون.
فأما الذين يعلمون مقتضیات الاستعدادات تماما فهم الذين قطعو السفر الثاني.
وذلك هو تفصيل التوحيد، وأكملهم معرفة في ذلك قطب الأقطاب وهو الذي شهد الشهود الذاتي المحيط وهذا الشخص هو الخليفة في الأرض عند الله تعالى سواء عرف أو لم يعرف لأنه
لا يعرف حقيقة أصلا، إذ لا يعرفه إلا من هو مثله فيجمعهم المرتبة، فيكونان واحدا في المرتبة وإن كانا إثنين في العدد بل لو كانوا آلافا. وأما من دون هذا المقام، فلا يعرفون من الاستعدادات إلا بقدر قرب مراتبهم من هذ الكامل وهذا الكامل هو الذي يصلح أن يكون رسولا فيما كان من الزمان قبل مبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وأما من بعده، فهم المشايخ الذين وردت الآية بالإخبار عنهم في قوله تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " (يوسف: 108).
وهم الكمل أو من كان تابعا بالتقليد بخلاف الكامل، إذ هو من يلقي السمع وهو شهيد.
وأما الذين لا يعلمون الاستعدادات، فلا يصلح لهم أن يكون مشایخ يرشدون طالبي الحق تعالی.
وأما طالبوا ثواب الله تعالى، فيجوز أن يكون المرشد لهم من لا يعرف الاستعدادات لكن يجب أن يكون عالما بالشرع الشريف أعني ما يخص العبادات إذ هي المهم.
وقوله: "في كل زمان فرد"، إشارة إلى تنقل الاستعدادات في الزيادة والنقص الواقع في الأزمنة فإن لم يميز الانتقال المذكور فما يتهيأ له أن يعرف الاستعدادات تماما.
وقوله: "أنه يعلموه في الزمان الذي يكونون فيه."
قلت: يعني حالة وصول العطاء إليهم يعلمون أنهم كانوا مستعدين لذلك العطاء.
قوله رضي الله عنه : "وهم صنفان صنف يعلمون من قبولهم استعدادهم، وصنف يعلمون من استعدادهم ما يقبلونه هذا أتم ما يكون في معرفة الاستعداد في هذا الصنف."
ومن هذا الصنف من يسأل لا للاستعجال ولا للإمكان، وإنما يسأل امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: "ادعوني أستجب لکم" (غافر: 60).
فهو العبد المحض، وليس لهذا الداعی همة متعلقة فيما سأل فيه من معين أو غير معين، وإنما همته في امتثال أوامر سیده.
فإذا اقتضى الحال السؤال سأل سؤال عبودية وإذا اقتضى التفويض والسكوت سكت فقد ابتلى أيوب، عليه السلام، وغيره وما سألوا رفع ما ابتلاهم الله تعالى به، ثم اقتضى لهم الحال في زمان آخر أن يسألوا رفع ذلك، فسألوا فرفعه الله تعالی عنهم.
والتعجيل بالمسئول فيه والابطاء للقدر المعين له عند الله.
وإذا وافق السؤال الوقت أسرع بالإجابة، وإذا تأخر الوقت إما في الدنيا وإما في الآخرة، تأخرت الإجابة أي المسئول فيه لا الإجابة التي هي لبيك من الله تعالى فافهم هذا."
قلت: يعني أن قوما يستدلون بالأثر على المؤثر وقوما بالعکس.
قوله رضي الله عنه: "فهو العبد المحض."
قلت: يعني أن السؤال عبادة لكن على أهل الحجاب وأما أهل الشهود، فلا يسئلون أصلا .
وقد ورد في بعض المناجاة: «یا عبد طلبك مني وأنت لا تراني عبادة، وطلبك مني وأنت ترانی استهزاء» وما بعد هذا فهو مفهوم إلى قوله وأما القسم الثاني.
قوله رضي الله عنه: "وأما القسم الثاني وهو قولنا: ومنها ما لا يكون عن سؤال فالذي لا يكون عن سؤال، فإنما أريد بالسؤال التلفظ به، فإنه في نفس الأمر لا بد من سؤال إما باللفظ أو بالحال أو بالاستعداد. كما أنه لا يصح حمد مطلق قط إلا في اللفظ، وأما في المعنى فلا بد أن يقيده الحال. فالذي يبعثك على حمد الله هو المقيد لك باسم فعل أو باسم تنزيه."
قلت: يعني أن السؤال إن كان باللفظ فظاهر وإن لم يكن باللفظ، فبالحال وذلك لأن الإنسان بل الأشياء كلها لا بد من افتقارها إلى أمر ما، فحالها ذلك يستدعي باستعداده ويسأل وهو أقوى من لسان المقال وكذلك الاستعداد هو سؤال وهو أقوى في الإجابة من سؤال الحال، فإن الحال إذا سأل ولا يكون هناك استعداد للإجابة فلا تحصل إجابة أصلا.
قوله: (كما أنه لا يصح حمد، إلى قوله: باسم تنزيه.)
قلت: المراد بالحمد هنا هو حمد الله تعالى فإن المخلوق إذا أصبته محمودا فحمدته، فالمقتضي لحمده هو حال المحمود وأما حمدنا الله تعالى، فإنا متی أطلقنا لفظتي الحمد لله، فلا بد أن يكون عندنا مقتضى ذلك الحمد ويكون أمرا مقيدا.
فإن من أكل مثلا فشبع، فقال الحمد لله، فإنما أراد الحمد الذي هو بمعنی الشكر، فالحمد مقيد بمعنی الشكر.
إذا كان الشكر إنما يكون في مقابلة إحسان، وأيضا فما حمد الله إلا من حضرة الاسم الرازق، فإنه هو الذي رزقه ذلك الطعام وإذا كان حمده له من مرتبة الاسم الرازق يستحيل أن يكون ذلك الحمد بعينه من حضرة الاسم المانع.
وأما من لقي مثلا مخوفا فنجا منه، فقال: الحمد لله، فإنما حمده تعالى من مرتبة اسم الواقي، تبارك وتعالى، لا من حضرة الاسم المنتقم.
وكذلك كل حمد يصدر من العبد لربه، تبارك وتعالى، فلا بد وأن يكون مقيدا في نفس الأمر وإن أطلق اللفظ به ولم يقيده، فإن الحال قد قيده.
وأما قوله: باسم فعل، فمثل الرازق والمعطي والمنعم وبالجملة كل مصدر يمكن أن يشتق منه فعل ، فاسم الفاعل المشتق من ذلك المصدر " هو عنده اسم فعل
وأما قوله: اسم تنزيه، فمثل ما إذا هداه الله تعالى إلى معرفة أن الله تعالی لا يتصف بصفات خلقه فقال وهو فرح بتلك الهداية: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي" (الأعراف: 43).
فإنما أشار بالحمد إلى اسمه السبوح القدوس، إذ کلاهما من أسماء التنزيه وكان الاسم الهادي موصلا لحضرة التنزيه وله نصيب من هذا الحمد أيضا.
و قوله: "والاستعداد من العبد لا يشعر به صاحبه ويشعر بالحال لأنه يعلم الباعث وهو الحال، فالاستعداد أخفى سؤال وإنما يمنع هؤلاء من السؤال علمهم بأن الله فيهم سابقة قضاء. "
فهم قد هيئوا محلهم لقبول ما يرد منه وقد غابوا عن نفوسهم وأغراضهم
قلت: يعني أن الشعور بالاستعداد يتعذر على الضعفاء وعلى الأكثرين غالبا وأما الحال، فللعبد به شعور لأنه" يشعر بما بعثه على الحمد إذ لا يحمد عبثا بل لا بد أن يكون عنده معلوما ما بعثه على الحمد. وباقي الكلام واضح.
قوله رضي الله عنه : "ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها، ويعلم أن الحق تعالى لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل. وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف فهم الواقفون على سر القدر."
قلت: يعني ومن هؤلاء من تحقق أن العالم كان قبل إيجاده أعيانا ثابتة لا موجودة ولا معدومة من العلم الإلهي، مثل تحققه أنه كان في علم الله لا بد أن يكون إنسانا وأن يجري عليه ومنه وبه أحوال الأناسي لا مطلقا.
بل أن يكون إما فقيها مثلا أو عاميا إما ذا حرفة كالخياطة أو غيرها وأحواله مفصلة من رزق و غنی أو فقر وعمر وبالجملة جميع أحواله.
وعينه الثابتة التي هي في العلم الإلهي بجميع أحوالها لا يمكن أن تكون في الوجود إلا على حد ما كانت عليه في العلم الإلهي.
وقوله: "فيعلم علم الله به من أين حصل".
یعنی به أن علم الله تعالى تابع للمعلومات التي هي الأعيان الثابتة على حد ما هي عليه فحصول العلم بعين من الأعيان إنما حصل من تلك العين المذكورة، فإن العلم لا يعطي المعلوم زيادة في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أحواله كلها.
فقوله: من أين حصل، يعني إنما حصل من معلومه.
وأما قوله: فهم الواقفون على سر القدر، فمعناه أن أحوال تلك الأعيان الثابتة لا تتبدل عما علمت عليه فهذا هو سر القدر.
و قوله رضي الله عنه : "وهم على قسمين منهم من يعلم ذلك مجملا ومنهم من يعلمه مفصلا، والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا، فإنه يعلم ما في علم الله فيه إما بإعلام الله إياه مما أعطاه عينه من العلم به، وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة وانتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى وهو أعلى، فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به لأن الأخذ من معدن واحد."
قلت: هذا كله واضح من عبارة الشيخ، رضي الله عنه، إلا قوله: من معدن واحد، فإنه يحتاج أن يبين المعدن المذكور ويعني بالمعدن الواحد أن الحق تعالی يأخذ علمه بالأعيان منها، لأن علمه تابع لمعلومه .
وكذلك هذا المشار إليه إنما يأخذ ذلك العلم المفصل من المعلوم وكل من علمه صحيح فإنما يأخذ علمه من معلومه، فالمعدن هو المعلوم والتقدير أنه هو تلك الأعيان الثابتة فيأخذ علمه منها.
قوله رضي الله عنه :" إلا أنه من جهة العبد عناية من الله تعالی سبقت له من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك، أي على أحوال عينه، فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق تعالى على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها لأنها نسب ذاتية لا صورة لها. "
فبهذا القدر نقول: إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادة العلم
قلت: في قوة كلامه، رضي الله عنه، هنا قوة جواب عن سؤال مقدر.
تقريره أن يقال: إذا حصل لعبد من العبيد علم عينه الثابتة وعلم ما يكون عليه في حال الوجود والحق تعالى هو يعلم الأعيان الثابتة أيضا مثل هذا العلم بعينه فما الفرق بين علم الله تعالی و بین علم هذا العبد؟
فأجاب: بأن عناية الله تعالی سابقة لهذا العبد بأن يعلم هذا العلم فهو علم مستفاد، بخلاف علم الله تعالى فإنه ذاتي أزلي أبدي فافترق علم الله تعالی عن علم هذا المكاشف. والعناية أيضا مستفادة من تلك العين.
و قوله رضي الله عته : "ومن هنا يقول الله تعالى: "حتى نعلم" (محمد: 31) وهي كلمة محققة المعني ما هي كما يتوهمه من ليس له هذا المشرب.
وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق وهو أعلى وجه يكون للمتكلم بعقله في هذه المسألة، لو لا أنه أثبت العلم زائدا على الذات فجعل التعلق له لا للذات.
وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله، صاحب الكشف والوجود."
قلت: الشيخ، رضي الله عنه، قد ألغز ها هنا لغزا وهو أنه قد قدم في الحكمة الأولى التي هي في كلمة آدمية أن الإنسان جامع لحضرة الأسماء الحسنى، فهو حق من وجه، خلق من وجهه.
فمن الوجه الذي هو منه حق ثبت للحق تعالی منه أحكام لولا هذا الإنسان الكامل ما جاز نسبتها إليه تعالى.
فمن ذلك أن هذا الإنسان يتجدد له العلم، فيصح من هذه المرتبة أن يقول الحق تعالی: "حتى نعلم" لأن الحق تعالی من حضرة إطلاقه لا علاقة بينه وبين شيء وإنما العلاقة تكون في مراتب الإنسان.
فما خاطبه الحق تعالی من حضرة إطلاقه بل من حضرة تقييده.
ألا ترى أنه لو لم يكن في الوجود عین ثابتة يقال له: أبو لهب، لم يرد في الكتاب العزيز "تبت يدا أبي لهب وتب" سورة المسد آية 1. فمن مرتبة العين الثابتة التي هي أبو لهب نزلت هذه الآية.
والمراتب كلها في علمه تعالی فإذن هي نازلة من عند الله تعالى لأن العندية الإلهية عامة لكل عندية جزئية أزلا وأبدا .
فإذن هناك علاقة بين الحق تعالی وبين الإنسان وهي كون الإنسان جامعة الأسماء الله الحسنى .
فإذا قال الحق تعالی: "حتى نعلم" فمعناه حتى يعلم الإنسان، فيكون نفس تجدد العلم هو للإنسان لكن للإنسان حضرة الإلهية أيضا، فيرجع إليه تعالى من حقيقة "حتى نعلم" حکم ما به صح .
قولنا: إن الله تعالى قال في كتابه العزيز: "حتى نعلم" ولما كانت هذه الحضرة المقتضية لتحقق حقيقة "حتى نعلم" هي من الحضرات الذاتية الإلهية من جهة ما للأعيان الثابتة هي معلومات الذات والمعلوم مع العلم في الذات ويشملها أن علم الله تعالى لا يغادر ذاته.
فثبت معنی "حتى نعلم" ولم يلحق الذات المقدسة منها تجدد علم إذ كان الإنسان في هذه الحقيقية وقاية لربه تعالی عن نقص هذا الحدوث.
ثم إن الشيخ، رضي الله عنه، أردف هذا بذكر ما قاله المتكلمون من قولهم:" إن الله تعالى يعلم الأشياء بعلم زائد على ذاته".
وقصدهم أن ينسبوا تجدد العلم إلى التعلق الحاصل" للعلم .
كأنهم قالوا: تجدد التعلق لغير الحق تعالى وهو العلم لا له تعالى وهذا يرون أن به بيحصل الانفصال عن هذا الاشكال.
فقال الشيخ رضى الله عنه : "إن الصحيح هو الذي اقتضاه الكشف والشهود وهو ما أشير إليه من أن تجدد العلم إنما هو للإنسان وأن الذي ذكره المتكلم باطل.
فحصل الفرق بين المتكلمين وبين أهل الله تعالى في هذه المسألة .
ووصف أهل الكشف بأنهم أهل الوجود أي أهل شهود وجود الله تعالى .
أو أنه أراد بالوجود الوجدان فإن شهودات أهل الله تعالى هي وجدانية لا فكرية."
""يعني بالوجود :أهل الوجود العارفين شهودهم بنور الله الأزلي الوجود الحقيقي والوجود المستعار ويفرقون بينهم شهودا ووجودا. وليسوا كغيرهم ممن لم يفتح الله بصيرهم وبصرهم يرون الوجود المستعار انه هو كل الوجود او الوجود الحقيقي على الإطلاق.""
قوله: "ثم نرجع إلى الأعطيات "
فنقول: إن الأعطيات إما ذاتية أو أسمائية.
فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدا إلا عن تجل إلهي.
والتجلي من الذات لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد المتجلى له وغير ذلك لا يكون.
فإذن المتجلى له ما رأي سوى صورته في مرآة الحق تعالى، وما رأى الحق ولا يمكن أن يراه.
قلت: الأعطيات والعطايا والهبات والمنح كلها بمعنى واحد هنا، فالشيخ ذكر أن هذه الهبات إما ذاتية وإما أسمائية، فشرع في ذكر الهبات الذاتية فنسبها إلى ذات العبد في الحقيقة لا إلى ذاته تعالى .
وذلك في قوله: والتجلي من الذات المقدسة لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد العبد المتجلى له، فرد الأمر إلى العبد و استعداد العبد هو من جملة ذاته.
فكأنه قال: إن تجلی الحق تعالی يكون مطلقا غیر مقید ولا يرى العبد منه إلا ما قيده له استعداده.
فإذن ما يمكن للعبد أن يرى إطلاق الحق تعالى من جهة أن العبد لا يكون إلا مقيدا ولا يرى المقيد إلا ما هو مقيد باستعداده فما رأى الحق تعالی أحد ولا يمكن أن يراه في حضرة إطلاقه.
أما كون نور التجلي يصير العبد كالمرآة، فيرى فيه ذاته، فهو أمر قد صح عند أهل الله ولذلك قالوا: "انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم".
قوله رضي الله عنه: "مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرأة في الشاهد إذا رأيت الصورة فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها. فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجلية الذاتي ليعلم المتجلى له أنه ما رآه. وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا. وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرأة أن ترى جرم المرأة لا تراه أبدا ألبتة حتى أن بعض من أدرك مثل هذا في صور المرايا ذهب إلى أن الصورة المرئية بين نظر الرآئی و بین المرآة. "
قوله رضي الله عنه: "هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه. وقد بينا هذا في الفتوحات المكية وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوقات، فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى في أعلى من هذا الدرج فما هو ثم أصلا، وما بعده إلا العدم المحض."
قلت: يعني به علم العبد المتجلي له، أنه ما رأى صورته إلا في الحق تعالی وشبه ذلك بالمرآة فإن الإنسان إذا شاهد الشكل الذي في المرآة لا يكون مشاهدا الجرم المرآة وكأنه يقول إن ذلك قد جرب وهو أن جرم المرآة وهو الصيقل
منها الذي يرى الشكل لا يراه أحد حين مشاهدته للشكل لكن يعلم أن الشكل ما ظهر لك إلا في المرآة وبه
قوله رضي الله عنه: "واجهد أنك إذا رأيت الشكل في المرآة أن ترى جرم المرآة فهو إرشاد منه، تعالی و تقدس، إلى أدب أهل الله تعالى في الشهود، فإنهم يجتهدون أن يروا المرآة أكثر من اجتهادهم أن يروا الشكل الذي فيها أي يرون الحق تعالی أقرب إلى شهودهم من رؤية نفوسهم التي ظهرت في مرآة تجليه تعالى وأما جرم المرآة".
فقد قال: إنك لا تراه أبدا مع جواز إرادته، رضي الله عنه.
أن يقول لك: جرب أنت ما قلناه، هل ترى جرم المرآة في تلك الحالة؟
فإنك تعلم أنك لا تراه أصلا.
قال: ومن جملة ما ألجأ بعض الناس أن يقول: إن الشكل الظاهر في المرآة هو بين البصر وبين الجرم الصيقل من المرآة، ما جربوه من أن جرم المرآة المذكور لا يرى، فتوهموا أن الشكل المذكور هو الذي حجب أبصارنا عن إدراك جرم المرآة لما عجزوا عن رؤيته.
قال: هذا أعظم ما قدروا عليه من العلم. وباقي الكلام مفهوم مما سبق في الكلمة الآدمية .
وينبغي أن يفهم من هذا الكلام الذي ذكره شيخنا، رضي الله عنه، أن الشهود لا يكون إلا للوجود أو لمعانيه وليس غير الأعيان الثابتة المذكورة وأما العدم المحض وهو لا شيء من كل وجه، فلا يشهد ولا يعبر عنه عبارة إلا مجازا للضرورة.
قوله رضي الله عنه: "فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته نفسه وهي أسماؤه وظهور أحكامها و ليست سوى عينه"
قلت: هذا مجاز على حكم التشبيه لأن وجود الحق تعالی کالمرآة تظهر فيها نفس المشاهد، وذات المشاهد كالمرآة تظهر فيها أسماؤه تعالى والجميع يرجع إلى أن الأعيان الثابتة معان وهي صور علمه، وعلمه لا يغایر ذاته فليس إلا هو فانبهم الأمر.
قوله: "فاختلط الأمر وانبهم." الجميع يرجع إلى أن الأعيان الثابتة معان وهي صور علمه، وعلمه لا يغایر ذاته فليس إلا هو فانبهم الأمر.
و قوله: "فمنا من جهل في علمه "
قوله رضي الله عنه: والعجز عن درك الإدراك إدراك، ومنا من علم فلم يقل مثل هذا وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم السكوت، ما أعطاه العجز. وهذا هو أعلى عالم بالله.
وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء ، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه مني رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء."
فقال رضي الله عنه : " فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى."
فقال رضي الله عنه : "وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أساری بدر بالحكم فيهم، وفي تأبير النخل. فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله هنالك يطلبهم. وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها، فيتحقق ما ذكرناه."
قلت: الذي جهل في علمه هو الذي ما تجاوز السفر الأول بل وقف عند نهايته ويسمى هذا المقام في اصطلاح المواقف النفرية "موقف الوقفة" فإذا أردت بیانه تماما، فأنظره من هناك .
وهذا المقام أيضا يسمى الوحدة المطبقة وقد ذكره ابن العريف في محاسن المجالس في شعر ذكره على قافية القاف وصورته :
فألقوا حبال مراسيهم ….. وغطوا فغطاهم وانطبق
فصاحب هذا المقام هو الذي يقول من عرف الله كل لسانه أي أراد أنه جهل وأما من عجز عن النطق وهو يرى أن المقام يقتضي النطق.
فذلك لم يجهل إلا العبارات مثل أن يكون عاميا أميا، فأدركه الفتح فصار من الخواص إلا أنه غير ناطق.
قال رضي الله عنه : "ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، بل أعطاه العلم السكوت"
لأن المحجوبين لا يقبلون ما يقول وهم الأكثرون ولهم الحكم، فرأى أن السكوت أولى، فكتم ما عنده وهو قادر على الكلام.
وأما قوله رضي الله عنه: وليس هذا العلم إلا الخاتم الرسل وخاتم الأولياء."
فإني أقول أيضا: إن خاتم الرسل هو أيضا خاتم الأولياء وإن من جاء بعده من أمته ممن حصل له مرتبة خاتم الأولياء هو أيضا خاتم الأولياء، ولا يقدح تعدد الأشخاص إذا كانت المرتبة واحدة ولو كانت الأشخاص بلا نهاية في العدد.
وقد قال قائلهم شعرا :
لو أنهم ألف ألف في عددهم ……. عادوا إلى واحد فرد بلا عدد
فما لخاتم الأولياء مزية في الختمية إلا أن كان بالسبق" الزماني ولا أثر له " إلا إنا نعلم أن الولاية مرتبتها فوق مرتبة النبوة، والنبوة مرتبتها فوق مرتبة الرسالة.
فإذا جمعت الثلاثة لواحد كما جمعت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهو ولي نبي رسول إلا أن ولايته فوق نبوته، ونبوته فوق رسالته، لأن الولاية هي حاله، عليه السلام، عندما قال: «لي وقت لا يسعني فيه غير ربي» فهو يلي الحق ويأخذ عن الحق تعالی بلا واسطة الملك.
وفي مرتبة النبوة يأخذ عن الحق تعالی بواسطة الملك والنبوة مشتقة من الإنباء وهو الإخبار بواسطة جبرائيل، عليه السلام.
لكن نبوته فوق رسالته لأن النبوة حديثها حديث جبرائيل معه، عليه السلام، وأما الرسالة، فحديثها حديث البشر فلا يخفى أن النبوة أعلى وقد ذكر الشيخ هذا المعنى في بيت شعر وهو قوله:
مقام النبوة في برزخ …… دوين الولي وفوق الرسول
ومراده ما ذكرناه وقوله: حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، أمره سهل مما ذكرناه، لأن الرسل من كونهم رسلا هم تحت مرتبة خاتم الأولياء لكن إذا كانوا في مرتبة خاتم الأولياء فالمشكاة المذكورة لهم.
والولاية كما قال الشيخ: لا ينقطع وكلام الشيخ فيما بقي واضح.
وقوله في تفضيل عمر في قصة أسارى بدر: هو أن النبي، صلى الله عليه وسلم، شاور الصحابة، رضي الله عنهم، في قتل الأسرى فأشار عليه أبوبكر أن يأخذ منهم الفدية ويطلقهم.
فقال عمر بن الخطاب: ما أرى إلا أن يضرب رقابهم.
فقال له أبو بكر: ما تزال یا عمر تعارضني فيما أقوله، فأنزل الله الآية الكريمة توافق رأي عمر وهي قوله تعالى: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تریدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حکيم لولا كتاب من الله سبق لكم فيما أخذتم عذاب عظيم" (الأنفال: 67 – 68).
فرجح الله تعالى رأي عمر بن الخطاب مع أن ابوبکر، رضي الله عنه، أفضل منه ولم يقدح ذلك في كونه يرجح عليه عمر ، رضي الله عنه.
وأما تأبير النخل فهي قضية قال لهم فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ما أرى في ترككم تأبيره مضرة تحصل له"، فتركوا تأبير النخل، ففسدت ثماره.
فقالوا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «أنتم أعلم بامور دنیاکم وأنا أعلم بأمر ديني».
فقد كانوا أعلم بهذه المسألة ولم يقدح ذلك في كون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعظم قدرا من كل البشر، فكذلك قضية ختم الأولياء فيما ذكره، رضي الله عنه.
قوله رضي الله عنه: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوی موضع لبنة، فكان، صلى الله عليه وسلم، تلك اللبنة. غير أنه، صلى الله عليه وسلم، لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فیری ما مثله به رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، ويرى في الحائط موضع لبنتين، واللبن من ذهب وفضة" .
قوله رضي الله عنه: "فيرى اللبتين اللتين تنقص الحائط عنهما وتكمل بهما، لبنة ذهب ولبنة فضة، فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبتين، فيكون خاتم الأولياء نينك اللبنتين، فيكمل الحائط. والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع الشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضة، وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام"
قوله: "كما هو أخذ عن الله تعالى في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه لا يرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع."
قلت: حاصل ما أشار إليه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، إنما مثل النبوة وحدها وهي دون مقام ولايته، عليه السلام، فرآها لبنة واحدة لو مثل معها مقام ولايته لراها لبنتين كما رآها خاتم الأولياء ثم ذكر الشيخ، رضي الله عنه، كلامه هذا يعلم فيه أن الولي الخاتم للولاية يري أن الحائط ناقصا لبنتين وذلك من ضرورة رؤيته لمقام النبوة التي هي فيها تابع، وهي لبنة فضة.
ویری موضع لبنة أخرى وهي ما يأخذه عن الله تعالی بلا واسطة.
ولما كان مقام الولاية أعلى من مقام النبوة، كما ذكر، جعل اللبنة المختصة بالنبوة لبنة فضة والأخرى لبنة ذهبية.
ولم يقل: ذهب، ليسلم ختم الأولياء، الولاية للرسول أيضا وليسلم أيضا ما رأوه من لبنة الذهب إليه ويصف ما حصل له بصورة النسب، هكذا ينبغي أن يقال ويسطر في الكتب، وفي المشافهة يمكن أن يتبين بيانا أكثر من هذا.
قوله رضي الله عنه: "وكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبی ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نبيا و آدم بين الماء والطين.» وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث"
قلت: هذا الكلام ظاهر إلا أنه ينبغي لك أن تفهم أن كل نبي كان في الأزل في علم الله تعالى نبيا على حكم ما قرره الشيخ، رضي الله عنه، في الحكمة الآدمية منه أن الأعيان الثابتة بجميع أحوالها هي العلم وهو على حد ما يأتي في العين، والنبوة المختصة بغيره، عليه السلام، من جملة ذلك.
وأما في حال كون آدم بين الماء والطين، فذكر الشيخ، رضي الله عنه، هنا أن أحدا من الأنبياء ما كان والحالة هذه نبيا، بل عند ما حصل له في الوجود العيني الاتصاف بصفات الوجود وصار نبيا حين مبعثه فقد فهم مقصوده.
و قوله رضي الله عنه: وكذلك خاتم الأولياء كان وليا و آدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من دون الله تعالی يسمي بالولي الحمید
قلت: هذا مفهوم مما قاله في خاتم النبيين، عليه السلام، إلا أن ذلك في النبوة وهذا في الولاية فافهم المعني هنا مما قيل هناك.
قوله رضي الله عنه: "فخاتم الرسل من حيث ولايته لنسبته مع الختم للولاية نسبة الأنبياء والرسل معه، فإنه الولى الرسول النبي. وخاتم الأولياء الولى الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب".
قلت: مراده، رضي الله عنه، أيض ظاهر من كلامه فلا حاجة إلى شرحه إلا مشافهة
قوله: "وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل، محمد صلى الله عليه وسلم، مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعین حالا خاصا ما عمم."
قلت: يعني أنه وإن تأخر وجوده الطيني إلى ما بعد انتقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهو من أمته فهو إذن حسنة من حسناته والشيخ، رضي الله عنه، هنا ذكر أن السيادة الحاصلة له، عليه السلام، على ولد آدم ليس إلا في فتح باب الشفاعة، لا مطلقا لأن ظاهر الحديث يدل على ما قال، فهي سيادة خاصة عنده لا عامة
قوله رضي الله عنه: وفي هذا الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية، فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين."
قوله: " ففاز محمد صلى الله عليه وسلم، بالسيادة في هذا المقام الخاص، فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام."
قلت: يعني أن الذي يتولى أهل البلاء من الأسماء الإلهية إنما هو الاسم المنتقم، فالشفاعة إنما تكون عنده وقد ورد في الحديث النبوي: أنه تعالى شفع الأنبياء وشفع غيرهم ممن ذكر في الحديث , وبقي شفاعة أرحم الراحمين فيخرج بها من النار من في قلبه مثقال حبة من الخير.
فإذن الرحمن شفاعته متأخرة وهو من أكمل الأسماء الإلهية، فتقدم عليه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد تقدمت شفاعته بهذا الاعتبار شفاعة الأسماء الإلهية.
وقوله: فمن فهم المراتب إلى آخره". يعني بالمراتب مراتب الأولياء ومراتب خاتمهم ومراتب النبوة وأين محلها من مراتب خاتم النبيين وأعم من هذا فإن المراتب تشمل الموجودات كلها وغير الموجودات من الممكنات.


وقوله رضي الله عنه: وأما المنح الأسمائية: فاعلم أن منح الله تعالى خلقه رحمة منه بهم، وهي كلها من الأسماء. فإما رحمة خالصة كالطيب من الرزق اللذيذ في الدنيا الخالص يوم القيامة، ويعطى ذلك الاسم الرحمن. فهو عطاء رحمانی. "
وقوله: "وإما رحمة ممتزجة كشرب الدواء الكره الذي يعقب شربة الراحة، وهو عطاء إلهي لا يمكن إطلاق عطائه منه من غير أن يكون على يدي سادن من سدنة الأسماء. فتارة يعطي الله العبد على يدي الرحمن فيخلص العطاء من الشوب الذي لا يلائم الطبع في الوقت أولا ولا بنيل الغرض وما أشبه ذلك."
وقوله رضي الله عنه: "وتارة يعطى الله على يدي الواسع فيعم، أو على يدي الحكيم فينظر في الأصلح في الوقت، أو على يدي الواهب فيعطي، الينعم لا يكون مع الوهاب تكليف المعطى له بعوض على ذلك من شكر أو عمل، أو على يدي الجبار فينظر في الموطن وما يستحقه، أو على يدي الغفار فينظر إلى المحل وما هو عليه، فإن كان على حال يستحق العقوبة، فيستره عنها، أو على حال لا يستحق العقوبة فيستره عن حال يستحق العقوبة، فيسمى معصوما ومعتني به ومحفوظا وغير ذلك مما شاكل هذا النوع."
قوله رضي الله عنه: "والمعطي هو الله من حيث ما هو خازن لما عنده في خزائنه
فما يخرجه إلا بقدر معلوم على يدي اسم خاص بذلك الأمر. ف وأعطى كل شيء خلقه (طه: 50) على يدي الاسم العدل وإخواته. وأسماء الله وإن كانت لا تتناهي لأنها تعلم بما يكون عنها وما يكون عنها غير متناه وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي أمهات الأسماء أو حضرات الأسماء."
وقوله: "وعلى الحقيقة فما ثم إلا حقيقة واحدة تقيل جميع هذه النسب والإضافات التي بکنی عنها بالأسماء الإلهية."
قلت: هذا الكلام واضح وحاصله أن المنح كلها رحمة، فما كانت منها لا مشقة تصحبه فهو من حقيقة الاسم الرحمن بلا واسطة اسم آخر وأما ما كان معه ممازجة بنوع مما لا يلائم الطبع.
فهو بواسطة اسم إلهي يناسب ذلك وهنا مجال واسع لمن أراد أن يشرح بعض أمثلة هذه المنح عند نسبة كل منها إلى الاسم الذي هي على يده و بواسطته.
فالمنح كلها رحمة وإن امتزجت ببعض المؤلمات، فتلك الممازجة هي كما مثل الشيخ، رضي الله عنه، من أن شرب الدواء رحمة وإن كان تناوله يكرهه الطبع.
والضابط لمعرفة مراتب أمثلة ما ذكرا أن يرى تلك المنحة الواحدة مثلا فينسبها إلى أليق ما يكون من الأسماء بها مثل أن ينسب النجاة من المكروه الذي كنت تحاذره مثلا إلى الاسم الواقي.
وينسب الخلاص من مشقة سفر تهت فيه عن الطريق ثم ظفرت بالهداية إليها إلى الاسم الهادي.
وينسب ما تجده من الخوف الشديد من جبار حضرت عنده فقابلك باللطف إلى الاسم اللطيف، وهذا أمر غير مستصعب عليك. فتأمل معناه فهو سهل.
وقد زاده الشيخ، رضي الله عنه، بيانا فيما أنا ذاكره من كلامه وهو قوله رضي الله عنه: (والحقيقة تعطى أن يكون لكل اسم يظهر إلى ما لا يتناهى، حقيقة يتميز بها عن اسم آخر، تلك الحقيقة التي بها يتميز هي الاسم عينه لا ما يقع فيه الاشتراك، كما أن الأعطيات تتميز كل أعطية عن غيرها بشخصيتها، وإن كانت من أصل واحد، فمعلوم أن هذه ما هي هذه الأخرى، وسبب ذلك تميز الأسماء."
قوله رضي الله عنه: "فما في الحضرة الإلهية لاتساعها شيء يتكرر أصلا. هذا هو الحق الذي يعول عليه.
وهذا العلم كان علم شيث، عليه السلام، وروحه هو الممدود لكل من يتكلم في مثل هذا من الأرواح ما عدا روح الخاتم فإنه لا يأتيه المادة إلا من الله لا من روح من الأرواح، بل من روحه تكون تلك المادة لجميع الأرواح، وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه في زمان ترکیب جسده العنصري. فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك كله بعينه، من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه العنصري."
قوله رضي الله عنه :" فهو العالم الجاهل، فيقبل الاتصاف بالأضداد كما قبل الأصل الاتصاف بذلك، کالجليل والجميل، وكالظاهر والباطن والأول والآخر وهو عينه ليس غيره. فيعلم لا يعلم، ويدري لا يدرى، ويشهد لا يشهد. وبهذا العلم " سمی شیث لأن معناه هبة الله، فبيده مفتاح العطايا على اختلاف أصنافها ونسبها."
قلت: إن الأسماء هي اعتبارات في الأشياء، مثاله حصول الرزق لشخص ما منه تعيين الاسم الرازق. والأشياء لا تتناهي فالاعتبارات لا تتناهي فالأسماء لا تتناهي وإن رجعت إلى أصلين: الاسم الله والاسم الرحمن، لقوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" (الإسراء: 110).
ولما كانت الأشياء كل شيء منها يتميز بتشخصه كانت أحكامه متشخصة به أيضا فامتازت الأسماء وامتازت الأشياء.
فإن قال قائل: إن الأشياء هي تبع للأسماء.
فقال: يجوز أن يقال ذلك باعتبار وأن يقال هذا باعتبار، فإن الوجود الالهي قدر شامل بجميع أشتات الموجودات بل والأعيان كلها باعتبار أن لها نوعا من الثبوت والثبوت لا يكون منسوبا لغير الوجود .
فالذي يقع فيه الاشتراك في نظر المحقق ليس إلا الوجود ولما كانت الأعطيات من جملة الأشياء دخلت مع ما ذكر قال: (وهذا هو علم شیث).
وقوله: "عالم به من حيث هو جاهل به لا يريد ظاهر هذا اللفظ، فإن العلم ينافي الجهل، فلا يفهم المعلوم من حيث هو مجهول بل من حيث ما هو مجهول يجهل ومن حيث ما هو معلوم يعلم .
وإلا اختلطت الحقائق "
ولكن مراد الشيخ، رضي الله عنه، أن العلم والجهل يجتمعان في هذا الشخص المذكور باعتبارین متغايرين أحد الاعتبارين اعتبار الرتبة والآخر اعتبار الوجود المشخص.
و قوله رضي الله عنه: "فيقبل الأضداد كما قبلها الأصل كالظاهر والباطن والأول والآخر والمعطي والمانع وهو هو، ومن جملة الأضداد التي قبلها الفرع لا الأصل أنه يعلم ولا يعلم ويدري ولا يدري ويشهد ولا يشهد "وباقي الكلام ظاهر.
قوله رضي الله عنه: "فإن الله وهبه لآدم أول ما وهبه، وما وهبه إلا منه لأن الولد سر أبيه،"
و قوله رضي الله عنه: "فمنه خرج وإليه عاد. فما أتاه غريب لمن عقل عن الله. وكل عطاء في الكون على هذا المجرى. فما في أحد من الله شیء، وما في أحد من سوى نفسه شيء وإن تنوعت عليه الصورة"
قلت: يعني أن شيث، عليه السلام، هو أول أولاد آدم، عليه السلام، وهو ولد ابنه وهذا باعتبار أن آدم لما كانت عينه الثابتة على قاعدة اصطلاح الشيخ، رضي الله عنه، متعينة في الأزل وفيها كل ما هو صادر عنها في المستقبل، فإذا اعتبرت، اعتبرت لواحقها معها وإن كانت الأجسام متباينة
إذا فهم على ما قررناه من أن لواحق الأعيان الثابتة أنها تكون معها في الاعتبار. "
قال رضي الله عنه: "وما كل أحد يعرف هذا، وأن الأمر على ذلك، إلا آحاد من أهل الله. فإذا رأيت من يعرف ذلك، فاعتمد عليه وذلك هو عين صفاء خلاصة خاصة الخاصة من عموم أهل الله تعالی."
قلت: هذا لا يحتاج إلى شرح ، إلا أن هذا الولي الذي أشار إليه، رضي الله عنه، لا يعرفه إلا من هو مثله وقد يعرفه من يراه مثلا يسأل عن هذا المشرب فيجيب بأحسن ما يجيب غيره. فهذه علامة حسنة تعرف بها حال الأكابر من هو دونهم.
و قوله رضي الله عنه: فأی صاحب کشف شاهد صورة تلقى إليه ما لم يكن عنده من المعارف وتمنحه ما لم يكن قبل ذلك في يده، فتلك الصورة عينه لا غيره. فمن شجرة نفسه جنى ثمرة غرسه.
قلت: هذه حقيقة أجمع عليها أهل الله تعالى ولذلك قال الشيخ:
وأنت الكتاب المبين الذي ….. بأحرفه يظهر المضمر
فما قال بأحرف غیره.
قوله رضي الله عنه:"كالصورة الظاهرة في المرآة في مقابلة الجسم الصقيل ليس غيره، إلا أن المحل أو الحضرة التي رأى فيها صورة نفسه تنقلب من وجه بحقيقة تلك الحضرة، كما يظهر الكبير في المرأة الصغيرة صغيرة أو المستطيلة مستطيلا، والمتحركة متحر کا."
قوله رضي الله عنه:"وقد تعطيه انتكاس صورته من حضرة خاصة، وقد تعطيه عين ما ظهر منها، فتقابل اليمين منها اليمين من الرائي، وقد يقابل اليمين اليسار وهو الغالب في المرائي بمنزلة العادة في العموم وبخرق العادة يقابل اليمين اليمين ويظهر الانتكاس، وهذا كله من أعطيات حقيقة الحضرة المتجلى فيها التي أنزلناها منزلة المرايا. فمن عرف استعداده عرف قبوله."
قلت: الشكل الظاهر في المرآة شبهها الشيخ، رضي الله عنه، بالنور الحق تعالى الذي يرى فيه المشاهد نفسه والذي ذكره في هذا المعنى ههنا ظاهر.
لكني أقول : في المرأة كلاما. فمن فهمه فلا بد أن يعظمني ويصفني بالإدراك التام ومن لم يفهمه فهو عندي معذور لأن أهل الفهم كلهم عجزوا عن ادراکه.
فمن ذلك ما يراه الناظر في المرآة فإن الشكل الذي يبدو في المرآة من أعجب الأشياء عند من لا يعرف الحقيقة والذي أقوله فيها.
إن العجب هو كون الإنسان لا يرى وجهه في كل شيء لأن الوحدانية قائمة بكل الأشياء لكن المرآة لما تشابهت أجزاؤها أشبهت النور الوحداني بالصقال الذي فيها، فظهر ما قابلها بها لا فيه.
ومن أسرار رؤية الشكل في المرآة أن الإنسان المقابل لها يظن أن يمينه يقابل شمال الشكل وشماله يقابل يمين الشكل وليس كذلك .
بل اليمين يقابل اليمين والشمال يقابل الشمال لأنك لما أقبلت بوجهك على المرآة انبعث منك نور وجودي ما كان يظهر لعين الرائي حتى انعكس في الصيقل من المرآة ولم يتفرق أجزاؤه كما تفرقت فيما ليس بصیقل وكأنه تكاثف تكاثفا ما ووجه الشكل ما كان مقابلا لوجهك بل ظهره هو المقابل لوجهك.
لأنك لما قابلته كنت متوجها إلى القبلة مثلا أو غيرها، فيكون الشكل مستقبلا للقبلة أيضا فما رأيت منه إلا قفاه لكن اتفق أنه ليس قفا لأنه وجه كله.
فلما نظرت إليه من الجهة التي هي قفاه ولم يكن إلا وجها، فما رأیت إلا وجها وبصرك وقع على ذلك الوجه الذي هو مستقبل للقبلة وأنت أيضا مستقبلها .
ولا يمكن إلا هذا لأنك ما قابلته بالقفا، فيكون للشكل قفا فهو وجه كله من حيث ما رأيته، فكلاكما متوجه إلى جهة واحدة.
فالذي يقابل يمينك هو يمنه والذي يقابل شمالك هو شماله لأن نظرك إليه هو من ورائه .
وأما رؤية الانسان الواقف إلى جانب غدير الماء منكوسا فهو واجب لأن الواقف لا في سطح الماء بجملته فظهر ما كان قريبا لسطح وجه الماء وهو رجلاه تلي سطح الماء في القرب ثم تباعد ما فوق رجليه ويقدر بعده تباعد شكله في الماء واستمرت هذه المقابلة إلى الرأس.
فكان الرأس أبعد من بقية الجسد إلى سطح وجه الماء، فلا جرم ظهر الشكل رأسه بعید من وجه سطح الماء ولو لم يظهر منكوسا لما طابق الشكل صاحبه في البعد والقرب من سطح الماء.
فلا المرآة كذبت ولا الماء كذب وكذلك غصون الشجر في نظرك إليها في الماء وكذلك الكواكب لما كانت بعيدة من سطح وجه الماء ظهرت في الماء بعيدة.
وأما أصل مسئلتنا وهو رؤية العبد نفسه في مرآة وجود الحق فمن عرف وحدانية الوجود، عرف أن نفس رؤيته نفسه، هو عين رؤيته ربه، تبارك وتعالى.
ولو رأى الرائي نفسه من حيث ما يغاير الرأي المرئي لما رأى شيئا لأن الوجود واحد وليس مع الوجود غيره والاعتبار الذهني الذي وقع به الاختلاف عند المقايسة الذهنية ما كثر الواحد.
ولو فرضنا مثلا أن العالم يذوب مثلا كما يذوب الشمع لقام جوهر النور وحده ولم يشهد أنه فارقه بما ليس بوجود أو نقص الجوهر الوجودي الانعدام الصور التي كذب الحس في اعتقاده أنها كانت موجودة بل هو مع الصور واحد كما هو بدونها واحد ومن لم يشهد هذا، فما أدرك وحدانية النور الذي انتفخت فيه صور العالم. وقولنا: انتفخت فيه صور العالم أو وجدت أو انعدمت إنما أحوجنا إليه ضرورة العبارة وما ثم إلا الوجود وأما تعيناته واعتباراتها، فما كانت موجودة حتى تقول إنها تنعدم ومن لم يغب بالفناء عن رؤية الأغيار، فما يري نور الأنوار.
فنعود إلى تحقيق أمر الأشكال الظاهرة في المرآة، فنقول: أما رؤية الشكل في السيف طويلا فله سبب وذلك أن النور الذي انبعث من المقابل للمرآة ما انعكس منه إلا في متطاول فصار متطاولا.
كما إذا سبکت الذهب الذائب من البوتقة في متطاول صار سبيكة طويلة وإن سكبته في مستدير صار مستديرا، لأن النور الصادر من المقابل للمرآة ما استصحب شكل المقابل معه بل صدر نورا بسيطا لا شكل له، فقبل التشكل بصورة الوعاء .
ولما كان ما سبك من البوتقة ذهبا وحده كانت سبيكة ذهبا لا سبيكة فضة مثلا، فظهر حقيقة المقابل إن كان إنسانا فإنسان ، وإن كان غيره فغيره.
وعرض له من الوعاء الذي انتقل إليه من البوتقة شكل لا يغير حقيقة المسكوب ولا يخل بما يقتضيه حقيقة الوعاء
وقول رضي الله عنه: قد يقابل اليمين اليسار يعني في ظن الرأي لا في حقيقة الأمر بل الأمر كما قاله أولا والعادة في العموم غلط، والتحقيق هو الأول .
و قوله الشيخ رضي الله عنه: "وما كل من يعرف قبوله يعرف استعداده إلا بعد القبول، وإن كان يعرفه مجملا "
و قوله رضي الله عنه: "إلا أن بعض أهل النظر من أصحاب العقول الضعيفة يرون أن الله تعالی، لما ثبت عندهم أنه فعال لما يشاء ، جوزوا على الله تعالى ما يناقض الحكمة."
قلت: القبول يحس لأن من قيل له مثلا لو اعطاك الأمير دراهم هل كان عندك قابلية تأخذها.
لقال: وما الذي يمنعني من ذلك؟ ويحس بالقابلية.
وأما الاستعداد الذي يوجب على الأمير أن يعطيه فقد يخفى عليه إلا بعد أن يأخذ الدراهم وقد يعرفه مجملا لا مفصلا.
قوله رضي الله عنه: "إلا أن بعض أهل النظر".
قلت: يعنى الأشعرية من المتكلمين، فإنهم يقولون: الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع، فعندهم أن الله تعالی لو فعل ما يناقض الحكمة لم يمتنع بل كان حسنا لأن الشرع حسنه.
قوله: الشيخ رضي الله عنه "وما هو الأمر عليه في نفسه ولهذا عدل بعض النظار إلى نفي الإمكان وإثبات الوجوب بالذات وبالغير".
قلت: يعني أنهم جوزوا ما يناقض الحكمة وجوزوا ما يناقض ما هو الأمر عليه في نفسه .
كأنه أشار إلى أن الذي عليه الأمر في نفسه هو أنه لا يجوز عليه ما يناقض الحكمة ولا ما يناقض ما هو الأمر عليه في نفسه، أي الواقع في نفس الأمر.
وذلك أن الأمر في نفسه هو أنه لا يجوز على الله تعالى أن يفعل المستحيل في العقل كاجتماع الضدين لشيء واحد في زمان واحد.
مثل أن يجمع لشخص واحد أنه قاعد وأنه قائم في زمان واحد .
أو يكون القول موجبا سالبا في حال واحد بشروط النقيض أو يرفع النقيضين معا بشروط النقيض وأمثال هذه.
ولما استقبح بعض النظار هذا المذهب عدل إلى سد الباب فيه بالكلية وقال ما هناك إلا واجب إما بنفسه وإما بالغير.
فلا يكون هناك إمكان اجتماع الضدين ولا اجتماع النقيضين وارتفاعهما ويجوز غير هذا وهو أن يحمل قول الشيخ، ولهذا عدل بعض النظار إلى آخره، على أن كل شيء واجب إما بنفسه فظاهر وهو الحق تعالى، وإما بالغير وهو كل شيء حتى اجتماع الضدين واجتماع النقيضين وارتفاعهما.
وقد قال قوم من الصوفية: أنه يجوز أن الله تعالى يقدر على إدخال الحبل في خرت الإبرة من غير أن يصفقة الحبل ولا يتسع الأبرة.
قوله رضي الله عنه: "والمحقق يثبت الإمكان ويعرف حضرته”.
قلت: المحقق هو من تفصلت له حضرة الحق وهي الوحدانية المطلقة وتفصيلها هو أن يظهر له مراتب الأسماء الإلهية والكونية قبل تعينها بالفعل وهو القطب الذي حاز رتبة الكمال.
وعن يمينه الإمام الذي هو محل ظهور الجمال وعن شماله الإمام الذي هو محل ظهور الجلال .
وبين يديه الإمام الذي حاز طرفا من رتبة الجمال وطرفا من رتبة الجلال إلا أن الجمال أظهر فيه، ومن ورائه الإمام الذي حاز طرفا من الجلال وطرفا من الجمال إلا أن الجلال أظهر فيه.
وقولنا: إن القطب له اليمين والشمال والأمام والخلف، هو باعتبار الأئمة الأربعة وهم الأوتاد المذكورين في نسبة كل واحد منهم إليه وإلا فهو وجه کله.
شعرا:
درة من حيث ما أديرت أضاءت ….. ومشم من حيث ما شم فاجاء
ومعنى يثبت الإمكان أي يشهد ثبوته لا أنه كان غير ثابت وهو الذي أثبته.
ومعنى قوله: "ويعرف حضرته". فهي عندي أن الإمكان صفة للحق تعالی من حيث اسمه القادر وليس هو صفة للمخلوق وهذا هو الحق الواضح في مقام شهود الأسماء.
وأما في الحضرة الذاتية فهو صفة للأعيان الثابتة من جهة أنها صور العلم من حيث لا تغاير الصفة الموصوف، لأنه ليس شيء خارجا عن الذات.
فأما كونه صفة للحق، وهو القسم الأول، فإن الإمكان منه يشتق الفعل الذي هو أمكنه يمكنه إمكانا كما تقول يمكنك أن تفعل كذا أي أنك قادر عليه أو لا يمكنك أن تفعل كذا أي لا تقدر عليه.
وأما القسم الثاني وهو أن تجعله صفة للأعيان الثابتة، فمعناه أن حال المقدور مثلا هو الذي أمكنك من نفسه حتى فعلت ایجاده له أو ایجاد صفته إلا أن هذا المعنى يرجع إلى الأول .
فإن القابل في التحقيق هو الفاعل لفاعلية الفاعل ولجميع ما يصدر عن الفاعل من الأفعال وحينئذ يقال إن حصول التسوية هو من الله تعالى لكن بالعين الثابتة، والتسوية الحاصلة هي الفاعلية في الفاعل للنفخ الملزمة له أن ينفخ النفخ الذي به يحصل القبول للقابل، فهذه حضرة الإمكان ظاهرة فيما ذكرناه.
قوله رضي الله عنه: "والممكن ما هو. "
قلت: أي يعرفه وهو المقدور قبل تصرف القدرة فيه.
قوله رضي الله عنه: "ومن أين هو ممكن. "
قلت: يعرفه من جهة سلب العدمية عن الوجود الإلهي وهذا نشرح مشافهة فإن إدراكه يدق عن أكثر الأفهام.
قوله رضي الله عنه: "وهو بعينه واجب بالغير. "
قلت: معناه أن كل ما في الإمكان لا بد أن يظهره الحق تعالى في الوجود فهو في نفس الأمر واجب إلا أنه واجب بالغير لا بنفسه وفيه وجه پذکر شفاها أنه واجب بنفسه باعتبار أحدية الجمع.
قوله رضي الله عنه: "ومن أين صح عليه اسم الغير الذي اقتضى له الوجوب."
قلت: الضمير في "عليه"، لا يصح أن يعود على الممكن وإن كان ظاهر عبارة الشيخ، رضي الله عنه، يقتضي عود الضمير إلى الممكن.
و قوله رضي الله عنه: ولا يعلم هذا التفصيل إلا العلماء بالله خاصة.
قلت: لأن المحال ليس هو لغير أهل الله تعالی.
قوله رضي الله عنه: وعلى قدم شيث يكون آخر مولود يولد من هذا النوع الإنساني وهو حامل أسراره.
قلت: لما ثبت لشيث أولوية المولودية، لأنه أول مولود ولد من هذا النوع الانساني، فكانت له مرتبة الأولية ولما كانت الآخرية هي مضايفة للأولية، فهي في مقابلتها تماما.
فإرتسم شكل المرتبة الأولى في المقابل لها، فظهرت فيها أسرارها كما ظهرت أسرار العقل الأول الذي حصلت له الأولية في الايجاد في مرتبة آدم الذي هو آخر أنواع الموجودات ظهورا.
فلا جرم حصل للإنسان العقل الذي به ظهور أسرار العقل الأول وهو القلم الأعلى.
قوله رضي الله عنه: (وليس بعده ولد في هذا النوع فهو خاتم الأولاد و تولد معه أخت له فتخرج قبله ويخرج بعدها يكون رأسه عند رجليها.)
قلت: كما لم يكن بعد آدم و بنیه مولود يكون فيه أسرار العقل الأول وهذا من ضرورة ارتباط الأولية بالآخرية، فإن الحقائق لا تتبدل وهي كلمات الله وقد قال تعالى: "لا تبديل كلمات الله" (یونس: 64).
أما كونه يولد معه أخت له، فلأن نسبة أخته إليه نسبة حواء إلى آدم في الأنوثة والذكورة إلا أن آدم وحواء تولدا في الطين وهذان في الرحم.
فإن آدم لما تكون من الطين كان في الطين فضله وكان في المدد الإيجادي الذي كان مصدره من العقل الأول فضلة أيضا، فقيل ما فضل من الطين عن آدم المدد الإيجادي.
وقد تقدم أن الأمر الإلهي إن كان ما قبل بالتسوية شيئا، فلا بد أن تعلق به مقبولة بالنفخ الإلهي، فقبلت تلك الفضلة من الطين ایجادا إلا أن ما قبلته كان أنقص مما قبلته طيئة آدم وقبل آدم أكثر.
فكان من حكم الأكثرية الذكورة وذلك المزيد الحرارة الحاصلة له من مزيد المدد الخاص به، فكان ذكرا وكانت هي، أعني حواء أنثي وأميل إلى البرد.
فلم تمد الحرارة الطينية حتى يصير لها ذكرا كما حصل لآدم بل نقصت الحرارة، فبقي موضع تكوين الذكر والأنثيين مخسوفا بإذن الله تعالى.
فكان هو الفرج وتركبت فيه الشهوة للعضو الذي هو الذكر لأن ذلك الموضع كان محتاجا حالة التكوين إلى الحرارة التي تصير الفرج ذكرا فلما فقدها حالة التكوين بقي فيه طلبها بالذات.
ولما كانت جملة الأنثى أيضا ناقصة من مدد الحرارة تصير بها في درجة الذكور، بقي فيها ميل طبيعي إلى الرجال فذلك هو حقيقة شهوة المرأة التي تطلب بها الرجل.
وأما الشهوة التي يطلب بها الرجال النساء فهي أن القدر الذي في الرجال من مزید ذلك المدد المذكور الذي حصل للرجال دون النساء عند ما فاته أن يكمل نقص النساء فيصير هم رجالا انبعث نحو النساء كالمحاول لاتمام ما حصل لهم من النقص فحرك الرجال إلى محل النقص وهو الفرج كما ذكرنا.
ولما كان الأعور هو العضو المسمى ذكرا تحرك المدد في العضو الذي هو الذكر، فطلب الفرج الذي هو محل النقص، فطلب الولوج فيه فحصل الطلب من الطرفين، الذكر والأنثى.
ومن أجل حركة المدد في حيز النقص تحرك الذكر، فهي تلك الحركة التي تكون في الجماع أما من الرجل، فهي حركة فعل وأما من المرأة، فهي حركة انفعال.
فاقتضى المدد الايجادي أن ينبعث من الرجل رطوبة هي بمنزلة الرقعة التي يرقع بها الثوب ليجبر نقصه، وأن ينبعث من المرأة نظيره ليتلقى تلك الرقعة كما يرتبط الرقعة بالثوب بنوع من الخياطة.
فإن علا ماء الرجل ذكر بإذن الله. وإن علا ماء المرأة أنثى بإذن الله تعالی.
كما ورد في الحديث النبوي، لكن ذلك الماء ما انفصل ما يخص موضع
النقصان بل جاء وفيه قوة جميع البدن، فحصل منه تکوین انسان إما ذكر أو أنثى كما فصلناه.
وكان تكوين حواء في الطينة التي لآدم متصلة به غير منفصلة عنه، فكانت من جنبه.
فقيل: "إن المرأة من ضلع الرجل" كما ورد في الحديث، لأنها تكونت إلى جانبه من طينته، فعبر عن ذلك أنها من ضلعه أي من محل فيه ضلعه، ففي الكلام مجاز إذ المجاز قد ثبت أنه يكون في القرآن أيضا على المذهب الصحيح.
فنعود إلى ما كنا فيه من ذكر أخت حامل أسرار شيث أنها تكونت مع أخيها على عكس ما تكونت حواء مع آدم لأنها سبقت أخاها في التكوين لأن المدد كان على آخره.
فتكونت بقسط من المدد لا يبلغ ما حصل لأخيها، فاقتضى سبقها لها في التكوين وكونه هو المقصود بالآخرية إن تسبقه في الخروج من الرحم ليكون آخرا إلا أنه لم يتأخر عنها.
فاقتضى الحال أن يكون رأسه عند رجليها ولما تقاصر المدد كان له حکم سنذكر هنا وهو أنه لم يقتض أن المدد يتوجه لإتمام ما حصل لأخته من النقص بالأنوثة حتى تحرك الرجال النکاح النساء فلا جرم يسرى العقم في الرجال والنساء.
وأما كثرة النكاح حينئذ، فيكون بالعادة وحرصا على النسل ولا يفيدهم الحرص لأن الأمد قد انقضي والأمر على آخره.
قوله رضي الله عنه: "ويكون مولده بالصين ولغته لغة أهل بلده. ويسرى العقم في الرجال والنساء فيكثر النكاح من غير ولادة ويدعوهم إلى الله فلا يجاب. فإذا قبضه الله تعالى وقبض مؤمنی زمانه بقى من بقي مثل البهائم لا يحلون حلالا ولا يحرمون حراما، يتصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل والشرع فعليهم تقوم الساعة."
قلت: أما مولده بالصين فلأن قدمنا أن الآخرية إنما جاءت على حكم الأولية لأنها كالشكل المرتسم من الأولية في مرآة الآخرية، فتمت دائرة الإيجاد.
فكان المولد لآخر مولود هو بالصين كما كان تكون آدم، عليه السلام، إنما هو بالصين، فاتصلت نقطة الآخر نقطة الأول لتمام الدائرة وأما أن لغته لغة بلده فلأنها من الصين تعلمها.
وأما قوله رضي الله عنه: ( ويدعوهم إلى الله تعالى).
قلت: يعني أن هذا المولود يدعوهم إلى الله، فلا يجاب لأن الاجابة هداية والهداية هي من ذلك المدد والتقدير أنه تقاصر، فتذهب عقولهم القابلة النور الهداية التوقف المدد عنهم.
فيبقون كالبهائم إلى أن يقوم عليهم القيامة وهذا الكلام كله من قوة الأحاديث النبوية.

فتأمله تجده كذلك والله الهادي.
.

AraEeRPp8TY

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!