موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح التلمساني
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

فص حكمة فردية في كلمة محمدية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة فردية في كلمة محمدية


27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر شرح الشيخ عفيف الدين سليمان التلمساني

شرح الشيخ عفيف الدين سليمان ابن علي التلمساني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية
إنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، ولهذا بدئ به الأمر وختم: فكان نبيا وآدم بين الماء و الطين، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين.
وأول الأفراد الثلاثة، وما زاد على هذه الأولية من الأفراد فإنها عنه.
فكان عليه السلام أدل دليل على ربه، فإنه أوتي جوامع الكلم التي هي مسميات أسماء آدم، فأشبه الدليل في تثليثه، و الدليل دليل لنفسه.
ولما كانت حقيقته تعطي الفردية الأولى بما هو مثلث النشأة ، لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الموجودات «حبب إلي من دنياكم ثلاث» بما فيه من التثليث، ثم ذكر النساء والطيب وجعلت قرة عينه في الصلاة.
فابتدأ بذكر النساء و أخر الصلاة، وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينه.
ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه، فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه. لذلك قال عليه السلام «من عرف نفسه عرف ربه».
فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذ الخبر و العجز عن الوصول فإنه سائغ فيه، وإن شئت قلت بثبوت المعرفة.
فالأول أن تعرف أن نفسك لا تعرفها فل تعرف ربك: والثاني أن تعرفها فتعرف ربك.
فكان محمد صلى الله عليه وسلم أوضح دليل على ربه، فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه فافهم.
فإنما حبب إليه النساء فحن إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشأة الإنسانية العنصرية «و نفخت فيه من روحي».
ثم وصف نفسه بشدة الشوق إلى لقائه فقال للمشتاقين «يا داود إني أشد شوقا إليهم» يعني المشتاقين إليه.
وهو لقاء خاص: فإنه قال في حديث الدجال إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت، فلا بد من الشوق لمن هذه صفته.
فشوق الحق لهؤلاء المقربين مع كونه يراهم فيحب أن يروه و يأبى المقام ذلك. فأشبه قوله «حتى نعلم» مع كونه عالم.
فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي ل وجود لها إلا عند الموت، فيبل بها شوقهم إليه كما قال تعالى في حديث التردد و هو من هذا الباب «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت و أكره مساءته و لا بد له من لقائي».
فبشره وما قال له لا بد له من الموت لئلا يغمه بذكر الموت.
و لما كان لا يلقى الحق إلا بعد الموت كما قال عليه السلام «إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت» لذلك قال تعالى «ولا بد له من لقائي».
فاشتياق الحق لوجود هذه النسبة:
يحن الحبيب إلى رؤيتي ... و إني إليه أشد حنين
و تهفو النفوس و يأبى القضا ... فأشكو الأنين و يشكو الأنين
فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه، فم اشتاق إلا لنفسه.
ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه؟
ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة في جسده أخلاطا، حدث عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرطوبة، فكان روح الإنسان نار لأجل نشأته.
ولهذا ما كلم الله موسى إلا في صورة النار وجعل حاجته فيه.
فلو كانت نشأته طبيعية لكان روحه نور.
وكنى عنه بالنفخ يشير إلى أنه من نفس الرحمن، فإنه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عينه، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نور.
فبطن نفس الرحمن فيما كان به الإنسان إنسان.
ثم اشتق له منه شخصا على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه، و حنت إليه حنين الشيء إلى وطنه.
فحببت إليه النساء، فإن الله أحب من خلقه على صورته و أسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم و منزلتهم و علو نشأتهم الطبيعية. فمن هناك وقعت المناسبة.
والصورة أعظم مناسبة وأجلها و أكملها: فإنها زوج أي شفعت وجود الحق ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل فصيرته زوج.
فظهرت الثلاثة حق ورجل و امرأة، فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه. فحبب إليه ربه النساء كما أحب الله من هو على صورته.
فما وقع الحب إلا لمن تكون عنه، و قد كان حبه لمن تكون منه و هو الحق.
فلهذا قال «حبب» و لم يقل أحببت من نفسه لتعلق حبه بربه الذي هو على صورته حتى في محبته لامرأته، فإنه أحبها بحب الله إياه تخلقا إلهي.
ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، و لهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، و لذلك أمر بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة.
فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا ذلك.
فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودا في منفعل، و إذا شاهده في نفسه- من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل، و إذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكون عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة.
فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، و من نفسه من حيث هو منفعل خاصة.
فلهذا أحب صلى الله عليه و سلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا، فإن الله بالذات غني عن العالمين.
وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود و أكمله.
وأعظم الوصلة النكاح و هو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه فيرى فيه نفسه فسواه وعدله و نفخ فيه من روحه الذي هو نفسه، فظاهره خلق وباطنه حق.
ولهذا وصفه بالتدبير لهذا الهيكل، فإنه تعالى به «يدبر الأمر من السماء» وهو العلو، «إلى الأرض»، و هو أسفل سافلين، لأنها أسفل الأركان كله.
وسماهن بالنساء وهو جمع لا واحد له من لفظه، ولذلك قال عليه السلام «حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء» ولم يقل المرأة، فراعى تأخرهن في في الوجود عنه ، فإن النسأة هي التأخير قال تعالى «إنما النسيء زيادة في الكفر».
والبيع بنسيئة يقول بتأخير، ولذلك ذكر النساء.
فما أحبهن إلا بالمرتبة و أنهن محل الانفعال فهن له كالطبيعة للحق التي فتح فيها صور العالم بالتوجه الإرادي و الأمر الإلهي الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية، و همة في عالم الأرواح النورية، و ترتيب مقدمات في المعاني للإنتاج.
و كل ذلك نكاح الفردية الأولى في كل وجه من هذه الوجوه.
فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي، و من أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة نقصه علم هذه الشهوة، فكان صورة بلا روح عنده، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح و لكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كانت- لمجرد الالتذاذ، ولكن لا يدري لمن.
فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ما لم يسمه هو بلسانه حتى يعلم كما قال بعضهم:
صح عند الناس أني عاشق ... غير أن لم يعرفوا عشقي
لمن كذلك هذا أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون فيه وهو المرأة، ولكن غاب عنه روح المسألة. فلو علمها لعلم بمن التذ ومن التذ وكان كامل.
و كما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله «وللرجال عليهن درجة» نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته.
فبتلك الدرجة التي تميز بها عنه، به كان غنيا عن العالمين وفاعلا أولا، فإن الصورة فاعل ثان.
فما له الأولية التي للحق. فتميزت الأعيان بالمراتب: فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف.
فلهذا كان حب النساء لمحمد صلى الله عليه و سلم عن تحبب إلهي وأن الله «أعطى كل شيء خلقه» و هو عين حقه.
فما أعطاه إلا باستحقاق استحقه بمسماه: أي بذات ذلك المستحق.
وإنما قدم النساء لأنهن محل الانفعال، كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة.
وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني، فإنه فيه انفتحت صور العالم أعلاه و أسفله لسريان النفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة.
وأما سريانها لوجود الأرواح النورية و الأعراض فذلك سريان آخر.
ثم إنه عليه السلام غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير لأنه قصد التهمم بالنساء فقال «ثلاث» ولم يقل «ثلاثة» بالهاء الذي هو لعدد الذكران، إذ وفيها ذكر الطيب وهو مذكر، وعادة العرب أن تغلب التذكير على التأنيث فتقول «الفواطم وزيد خرجوا» ولا تقول خرجن. فغلبوا التذكير وإن كان واحدا- على التأنيث وإن كن جماعة.
وهو العربي، فراعى صلى الله عليه و سلم المعنى الذي قصد به في التحبب إليه ما لم يكن يؤثر حبه.
فعلمه الله ما لم يكن يعلم و كان فضل الله عليه عظيم.
فغلب التأنيث على التذكير بقوله ثلاث بغير هاء. فما أعلمه صلى الله عليه و سلم بالحقائق، وما أشد رعايته للحقوق! ثم إنه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما المذكر.
فبدأ بالنساء و ختم بالصلاة و كلتاهم تأنيث، و الطيب بينهما كهو في وجوده، فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها و بين امرأة ظهرت عنه، فهو بين مؤنثين: تأنيث ذات و تأنيث حقيقي.
كذلك النساء تأنيث حقيقي و الصلاة تأنيث غير حقيقي، والطيب مذكر بينهما كآدم بين الذات الموجود عنها و بين حواء الموجودة عنه و إن شئت قلت الصفة فمؤنثة أيضا، و إن شئت قلت القدرة فمؤنثة أيض.
فكن على أي مذهب شئت، فإنك لا تجد إل التأنيث يتقدم حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم. والعلة مؤنثة.
وأما حكمة الطيب و جعله بعد النساء، فلما في النساء من روائح التكوين، فإنه أطيب الطيب عناق الحبيب.
كذا قالوا في المثل السائر. و لما خلق عبدا بالاصالة لم يرفع رأسه قط إلى السيادة، بل لم يزل ساجدا واقفا مع كونه منفعلا حتى كون الله عنه م كون.
فأعطاه رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس التي هي الأعراف الطيبة.
فحبب إليه الطيب: فلذلك جعله بعد النساء. فراعى الدرجات التي للحق في قوله «رفيع الدرجات ذو العرش» لاستوائه عليه باسمه الرحمن.
فلا يبقى فيمن حوى عليه العرش من ل تصيبه الرحمة الإلهية: و هو قوله تعالى «ورحمتي وسعت كل شيء»: والعرش وسع كل شيء، والمستوي الرحمن.
فبحقيقته يكون سريان الرحمة في العالم كما بيناه في غير موضع من هذا الكتاب، وفي الفتوح المكي.
وقد جعل الطيب- تعالى في هذا الالتحام النكاحي في براءة عائشة فقال «الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، أولئك مبرؤن مما يقولون».
فجعل روائحهم طيبة: لأن القول نفس، وهو عين الرائحة فيخرج بالطيب والخبيث على حسب ما يظهر به في صورة النطق. فمن حيث هو إلهي بالأصالة كله طيب:
فهو طيب، ومن حيث ما يحمد و يذم فهو طيب وخبيث.
فقال في خبث الثوم هي شجرة أكره ريحه ولم يقل أكرهه.
فالعين لا تكره، و إنما يكره ما يظهر منه. والكراهة لذلك إما عرفا بملاءمة طبع أو غرض، أو شرع، أو نقص عن كمال مطلوب و ما ثم غير ما ذكرناه.
ولما انقسم الأمر إلى خبيث و طيب كم قررناه، حبب إليه الطيب دون الخبيث و وصف الملائكة بأنها تتأذى بالروائح الخبيثة لما في هذه النشأة العنصرية من التعفن ، فإنه مخلوق من صلصال من حمإ مسنون أي متغير الريح.
فتكرهه الملائكة بالذات، كما أن مزاج الجعل يتضرر برائحة الورد و هي من الروائح الطيبة.
فليس الورد عند الجعل بريح طيبة.
و من كان على مثل هذا المزاج معنى و صورة أضر به الحق إذا سمعه و سر بالباطل: و هو قوله «و الذين آمنوا بالباطل و كفرو بالله»، و وصفهم بالخسران فقال «أولئك هم الخاسرون ... الذين خسروا أنفسهم» *. فإن من لم يدرك الطيب من الخبيث فل إدراك له.
فما حبب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا الطيب من كل شيء و ما ثم إلا هو.
وهل يتصور أن يكون في العالم مزاج ل يجد إلا الطيب من كل شيء، لا يعرف الخبيث، أم لا؟ قلنا هذا لا يكون:
فإنا ما وجدناه في الأصل الذي ظهر العالم منه و هو الحق ، فوجدناه يكره و يحب، و ليس الخبيث إلا ما يكره و لا الطيب إلا ما يحب.
والعالم على صورة الحق، والإنسان على الصورتين فلا يكون ثم مزاج لا يدرك إلا الأمر الواحد من كل شيء، بل ثم مزاج يدرك الطيب من الخبيث، مع علمه بأنه خبيث بالذوق طيب بغير الذوق، فيشغله إدراك الطيب منه عن الإحساس بخبثه. هذا قد يكون.
وأما رفع الخبث من العالم- أي من الكون- فإنه لا يصح.
ورحمة الله في الخبيث و الطيب. والخبيث عند نفسه طيب والطيب عنده خبيث.
فما ثم شيء طيب إلا و هو من وجه في حق مزاج ما خبيث:
وكذلك بالعكس. وأما الثالث الذي به كملت الفردية فالصلاة.
فقال «وجعلت قرة عيني في الصلاة» لأنها مشاهدة: وذلك لأنها مناجاة بين الله و بين عبده كما قال: «فاذكروني أذكركم».
وهي عبادة مقسومة بين الله و بين عبده بنصفين:
فنصفها لله ونصفها للعبد كما ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى أنه قال «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين: فنصفه لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل.
يقول العبد بسم الله الرحمن الرحيم: يقول الله ذكرني عبدي.
يقول العبد الحمد لله رب العالمين: يقول الله حمدني عبدي.
يقول العبد الرحمن الرحيم: يقول الله أثنى علي عبدي.
يقول العبد مالك يوم الدين: يقول الله مجدني عبدي: فوض إلي عبدي.
فهذا النصف كله له تعالى خالص.
ثم يقول العبد إياك نعبد و إياك نستعين : يقول الله هذه بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل. فأوقع الاشتراك في هذه الآية.
يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين: يقول الله فهؤلاء لعبدي و لعبدي ما سأل.
فخلص هؤلاء لعبده كما خلص الأول له تعالى.
فعلم من هذا وجوب قراءة الحمد لله رب العالمين. فمن لم يقرأها فما صلى الصلاة المقسومة بين الله و بين عبده.
ولما كانت مناجاة فهي ذكر، ومن ذكر الحق فقد جالس الحق وجالسه الحق، فإنه صح في الخبر الإلهي أنه تعالى قال أنا جليس من ذكرني.
ومن جالس من ذكره وهو ذو بصر رأى جليسه. فهذه مشاهدة ورؤية.
فإن لم يكن ذا بصر لم يره. فمن هنا يعلم المصلي رتبته هل يرى الحق هذه الرؤية في هذه الصلاة أم ل.
فإن لم يره فليعبده بالإيمان كأنه يراه فيخيله في قبلته عند مناجاته، و يلقي السمع لما يرد به عليه الحق . فإن كان إماما لعالمه الخاص به وللملائكة المصلين معه فإن كل مصل فهو إمام بلا شك، فإن الملائكة تصلي خلف العبد إذا صلى وحده كما ورد في الخبر فقد حصل له رتبة الرسل في الصلاة وهي النيابة عن الله.
إذا قال سمع الله لمن حمده، فيخبر نفسه ومن خلفه بأن الله قد سمعه فتقول الملائكة والحاضرون ربنا ولك الحمد.
فإن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده. فانظر علو رتبة الصلاة وإلى أين تنتهي بصاحبه.
فمن لم يحصل درجة الرؤية في الصلاة فما بلغ غايتها و لا كان له فيها قرة عين، لأنه لم ير من يناجيه. فإن لم يسمع ما يرد من الحق عليه فيها فما هو ممن ألقى سمعه.
ومن لم يحضر فيها مع ربه مع كونه لم يسمع و لم ير، فليس بمصل أصلا، ولا هو ممن ألقى السمع و هو شهيد.
وما ثم عبادة تمنع من التصرف في غيرها- ما دامت- سوى الصلاة.
وذكر الله فيها أكبر ما فيها لم تشتمل عليه من أقوال وأفعال وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة في الفتوحات المكية كيف يكون لأن الله تعالى يقول «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر»، لأنه شرع للمصلي ألا يتصرف في غير هذه العبادة ما دام فيها و يقال له مصل.
«و لذكر الله أكبر» يعني فيها: أي الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيبه في سؤاله.
والثناء عليه أكبر من ذكر العبد ربه فيها، لأن الكبرياء لله تعالى.
ولذلك قال: «والله يعلم ما تصنعون» وقال «أو ألقى السمع وهو شهيد».
فإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر الله إياه فيه.
ومن ذلك أن الوجود لما كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود عمت الصلاة جميع الحركات وهي ثلاث: حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلي، وحركة أفقية وهي حال ركوع المصلي، وحركة منكوسة وهي حال سجوده.
فحركة الإنسان مستقيمة، وحركة الحيوان أفقية، وحركة النبات منكوسة، وليس للجماد حركة من ذاته: فإذا تحرك حجر فإنما يتحرك بغيره.
وأما قوله «وجعلت قرة عيني في الصلاة ولم ينسب الجعل إلى نفسه فإن تجلي الحق للمصلي إنما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلي: فإنه لو لم يذكر هذه الصفة عن نفسه لأمره بالصلاة على غير تجل منه له.
فلما كان منه ذلك بطريق الامتنان، كانت المشاهدة بطريق الامتنان. فقال وجعلت قرة عيني في الصلاة.
وليس إلا مشاهدة المحبوب التي تقر به عين المحب، من الاستقرار: فتستقر العين عند رؤيته فلا تنظر معه إلى شيء غيره في شيء و في غير شيء.
ولذلك نهي عن الالتفات في الصلاة، وأن الالتفات شيء يختلسه الشيطان من صلاة العبد فيحرمه مشاهدة محبوبه.
بل لو كان محبوب هذا الملتفت، م التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه.
والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصة أم لا، فإن «الإنسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره».
فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه، لأن الشيء لا يجهل حاله فإن حاله له ذوقي.
ثم إن مسمى الصلاة له قسمة أخرى، فإنه تعالى أمرنا أن نصلي له وأخبرنا أنه يصلي علين. فالصلاة منا ومنه.
فإذا كان هو المصلي فإنما يصلي باسمه الآخر، فيتأخر عن وجود العبد: وهو عين الحق الذي يخلقه العبد في قلبه بنظره الفكري أو بتقليده و هو الإله المعتقد.
ويتنوع بحسب ما قام بذلك المحل من الاستعداد كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة بالله و العارف فقال لون الماء لون إنائه. وهو جواب ساد خبر عن الأمر بما هو عليه. فهذا هو الله الذي يصلي علين.
وإذا صلينا نحن كان لنا الاسم الآخر فكنا فيه كما ذكرنا في حال من له هذا الاسم، فنكون عنده بحسب حالنا، فلا ينظر إلينا إلا بصورة ما جئناه بها فإن المصلي هو المتأخر عن السابق في الحلبة.
وقوله «كل قد علم صلاته وتسبيحه» أي رتبته في التأخر في عبادته ربه، و تسبيحه الذي يعطيه من التنزيه استعداده، فما من شيء إلا وهو يسبح بحمد ربه الحليم الغفور.
ولذلك لا يفقه تسبيح العالم على التفصيل واحدا واحد.
وثم مرتبة يعود الضمير على العبد المسبح فيها في قوله «وإن من شيء إلا يسبح بحمده» أي بحمد ذلك الشيء.
فالضمير الذي في قوله «بحمده» يعود على الشيء أي بالثناء الذي يكون عليه كما قلنا في المعتقد إنه إنما يثني على الإله الذي في معتقده وربط به نفسه.
وما كان من عمله فهو راجع إليه، فم أثنى إلا على نفسه، فإنه من مدح الصنعة فإنما مدح الصانع بلا شك، فإن حسنها و عدم حسنها راجع إلى صانعه.
وإله المعتقد مصنوع للناظر فيه، فهو صنعه: فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه.
ولهذا يذم معتقد غيره، ولو أنصف لم يكن له ذلك.
إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك في ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في الله، إذ لو عرف ما قال الجنيد لون الماء لون إنائه لسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده، وعرف الله في كل صورة وكل معتقد.
فهو ظان ليس بعالم، ولذلك قال «ان عند ظن عبدي بي» لا أظهر له إلا في صورة معتقده: فإن شاء أطلق و إن شاء قيد.
فإله المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه: والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا لا يسعها فافهم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
تم بحمد الله و عونه وحسن توفيقه، والحمد لله وحده و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه وسلم تسليما كثير.
وكان الفراغ منه في عاشر شهر جمادي الآخرة سنة تسع و ثلاثين و ثمانمائة أحسن الله عاقبتها بمحمد و آله آمين.
قلت: أراد بالفردية انفراده، علیه السلام، بالمقام المحمود.
قوله: أول الأفراد الثلاثة يعني أن الواحد وإن كان أصل العدد، فإنه ليس من العدد "، فإن التعدد ما يعقل إلا من الثاني فصاعدا، فالاثنان هما أول أزواج العدد وأول العدد کله أيضا، وأما الثلاثة فهي كما ذكر الشيخ، رضي الله عنه، أول أفراد العدد، وأما الخمسة والسبعة وسائر الأفراد فهي ناشئة بعد رتبة الاثنين، فكأنه، رضي الله عنه، أشار إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم، هو الفرد الأول فأشبه الثلاثة، فكأن قائلا قال له: فلم لا أشبه الواحد فإنه أصل ومحمد، عليه السلام، أصل؟
فأجاب: بأنه، عليه السلام، هو الدليل على ربه، عز وجل، ومن شأن الدليل أن يكون مثلث الكيان يعني مقدمتين ونتيجة، فهو ثلاثة أركان أو ثلاثة حدود وهو الأصغر والأوسط والأكبر.
قال: وإنما حبب إليه من الدنيا ثلاث، لأن حقيقة التثليث موجودة بالذات فيه.
قال: وقدم النساء، اشارة إلى ظهور حواء من آدم، عليه السلام، من ضلعه فهي جزء من آدم فقدمت فقدم النساء من أجل ذلك.
قال رضي الله عنه: فإن شئت منعت أن أحدا يعرف ربه من نفس هذا الخبر حتى كأنك قلت: من عرف نفسه فقد عرف ربه؛ لكنه لا يعرف أحد نفسه فإذن لا يعرف أحد ربه.
وهو معنى قوله: فإنه سائغ" فيه أي قد يفهم من هذا الحديث تعذر المعرفة بالعجز عن درکها.
قال: وإن شئت قلت: بثبوت المعرفة من ظاهر هذا الحديث،
فكأنك قلت: من عرف نفسه فقد عرف ربه، لكن كل أحد يعرف نفسه فإذن كل أحد يعرف ربه وهو معنى قول: وإن شئت قلت: بثبوت المعرفة.
ثم ذكر أن شوق العباد إلى ربهم هو من حنين الفرع إلى أصله وشوق الحق تعالى إلى المشتاقين إليه هو بالعكس.
من هذا وقد ورد على بعض الفقراء خطاب صورته: «ي عبد أنا أشوق إليك منك إلي، تطلبني بطلبي وأنا أطلبك بطلبك وبطلبي»،
وذكر البيتين الشعر ثم ذكر التثليث الذي في محمد صلی الله عليه وسلم:
أنه حق ورجل وامرأة فحن الرجل إلى أصله الذي هو ربه کحنين المرأة إليه، إذ هو أصلها. فمحبته، عليه السلام، للنساء محبة الأصل الفرعه كما أحب الله تعالى عبده.
ثم ذكر أن المحبة أوجبت عموم الشهوة بجميع البدن قال: ولذلك وجب الغسل من الانزال.
قال: وسر وجوبه أن لذة الانزال في الجماع تغمر قلب العبد حتى يغيب غالبا عن حضوره مع الله تعالى، والغيبة نجاسة عمت جميع أجزاء العبد"، فوجب أن يتطهر في جميعه ويرجع بالنظر الاعتباري إلى أن يرى كل ما فني فيه قلب العبد بالغيبة عن ربه تعالى، فهي نجاسة ولا يكون إلا ذلك، فإن الأنانية نجاسة واضمحلال الرسم باب الشهود الإلهي وفي هذا الكلام أسرار شريفة يقال مشافهة إن شاء الله تعالی.
قوله: فقال للمشتاقين يا داود إني أشد شوقا إليهم يعني للمشتاقين إليه وهو لقاء خاص،
فإنه قال في حديث الدجال: «إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت» (29) فلا بد من الشوق لمن هذه صفته.
قلت: يعني أن من لا يرى ربه حتى يموت كيف لا يشتاق إلى لقاء ربه ثم أن ربه تعالی أشوق إليه. فإن قال قائل: فكيف يشتاق الحق إليهم وهم عنده وهو عندهم. فالجواب: أنه مثل قوله حتى نعلم وهو يعلم ثم انشاده؟:
يحن الحبيب إلى رؤيتي وإني إليه أشد حنين
وتهفو النفوس ويأبي القضا فأشكو الأنين ويشكو الأنين
الحق تعالی أشد حنينا إلى الإنسان من الإنسان إليه في هذين البيتين.
قال: إني إليه أشد حنين، فإذن الناطق بهذين البيتين جعلهما على لسان الحق، لأنه هو الذي هو أشد حنین.
قال: وإنما اشتاق الحق تعالى إلى نفسه لأنه تعالی نفخ فيه من روحه فإلى روحه اشتاق. وقد ذكر، رضي الله عنه، أن الروح المنفوخة في الإنسان هي نار أي حار يابسة وهو الحق ولولا طول الكلام لشرحت كيف ذلك ومنه الخطاب الموسوي في النار.
قال: ثم اشتق له أي للإنسان من ذاته شخصا هو حواء خلقت من ضلع آدم، عليه السلام، فالمرأة خلقت من الرجل، فحنينه إليها حنينه إلى ذاته وهو لها وطن، فحنينها إليه حنين إلى الوطن والحق تعالى هو الوطن فلذلك تحن إليه قلوب العارفين.
قاله رضي الله عنه: ولا يشاهد الحق تعالی مجردا عن المواد آبدا.
ثم قال: فلو علمها أي علم مرتبة الأنوثة حقيقة لعلم بمن التذ؟ ومن التذ؟
وهذا كلام يتضمن التوحيد الذي به الكمال وهو حاصل للنشأة المحمدية وعن ذلك عبر، عليه السلام، بقوله: "حبب إلي النساء."
وباقي الفص ظاهر من كلام الشيخ، رضي الله عنه، وهذا آخر الكتاب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين.
تمت فصوص الحكم وخصوص الكلم مع شرحها بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراء يوم الجمعة في الخامس من شهر شوال سنة ثمان ماية هجرية؛
تمت فصوص الحكم وخصوص الكلم مع شرحها بحمد الله وحسن توفيقه الحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين؛
تمت الكتاب بعون الملك الوهاب.
.
....

FCtiRnbrThw

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!