موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح علي التركة
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ صائن الدين التركة

فص حكمة مهيمنية في كلمة إبراهيمية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة مهيمنية في كلمة إبراهيمية


05 - فص حكمة مهيّميّة في كلمة إبراهيميّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

* فإنّ الهيمان هو شدّة العطش والوله .
ثمّ إنّ الوحدة الشخصيّة والأحكام الامتيازيّة التي بها تتعيّن الحقائق منها ما يحيط بتلك الحقائق إحاطة المكان بالمتمكَّن - بدون أن يكون بينهما امتزاج أو تحصل منهما هيأة وحدانيّة ، للاختلال بجهة المناسبة وفقدان كمال الجمعيّة الموجب لذلك الامتزاج والاتّحاد - كالمفارقات والبسائط المجردة .
وبيان ذلك : أنّ المجرّدات لعدم استيعابها التحقّق بسائر الأسماء فإنّها الجمعيّة القاضية بالمناسبة بينها وبين أصل التعيّن ومبدئه ، فلذلك إنّما أفيض عليهم ضرب من التعيّنات التي لا امتزاج لها بالمتعيّن - امتزاج التخلَّل والاختلاط ، كما في الأعراض السارية في الجواهر ، بل امتزاج الملاقاة والإحاطة ، كما للمكان بالنسبة إلى المتمكَّن .
وذلك لما عرفت من أنّ التعيّن الخارجي هو ثمرة ذلك الأصل وظلّ شجرته ، فبحسب ظهور المناسبة يقع الامتزاج ، وكمال تلك المناسبة مفقودة لديهم ، فلذلك إنّما اختلط التعيّن بهم اختلاط تمايز وتفرقة ، على ما لوّح إليه عقد العقل .
وبيّن أنّه إذا كان كذلك لا يقع مداركهم من ذلك الأصل إلَّا على حدوده ونهاياته ، ولذلك إنّما يدرك من الحقّ أوصافه العدميّة .
ومنها ما يختلط ويتخلَّل اختلاط الأعراض السارية في أجزائها ، الممتزجة بها كل الامتزاج ، كالمركَّبات الماديّة المنتهي أمر تمامها إلى القلب الإنساني ، وبذلك يستأهل أن يدرك من الحقّ أوصافه الثبوتيّة .
ويجمع بين التنزيه والتشبيه حاصرا للكلّ ، به يستحقّ لأن يحمد الله ويعرفه بالأوصاف الثبوتيّة والمتحقّق بذلك هو إبراهيم ، فإنّ من قبله من الأنبياء إنّما هم المسبّحون فقط .
وتمام تحقيق هذا الكلام : أنّ الكامل ما لم يترقّ عن مفترق المتقابلين - الذي هو منتهى مدارج النوع الإنساني ، وهو الذي يقال له « قاب قوسين » - كما مرّ غير مرّة - هو في طيّ أحدهما بالضرورة ، فالوحدة عنده هو الذي في مقابله الكثرة ، والتنزيه هو الذي في مقابله التشبيه - إلى غير ذلك .
فأمّا إذا فاز بالوصول إلى مدارج الورثة الختميّة ، وبلغ إلى مقام الوحدة الحقيقية التي انطوى عندها ثنويّة المتقابلين ، فهو لا ينحجب بأحد المتقابلين عن الآخر ، بل إنّما يشهد كلَّا منهما في الآخر .
وجه اختصاص إبراهيم بالخلَّة
ومن فهم هذا عرف سبب اختصاص شهود القرب من الله بالخاتم وأهله وعلم وجه تصدير الفصّ هذا بالتخلَّل الذي هو سبب التسمية فإنّه لما كان إبراهيم هو أوّل من وفّى بمقتضى الحقيقة الإنسانيّة وفاز بالكمال الجمعيّ ، وتحقّق بالمقام القلبي ، وبه أسّس بنيان بيت الكمال الختمي ورفع قواعده ، سمّي خليلا .
وأشار إلى ذلك بقوله : ( إنّما سمّي خليلا لتخلَّله وحصره جميع ما اتّصفت به الذات الإلهيّة - قال الشاعر :
وتخلَّلت مسلك الروح منّي .... وبه سمّي الخليل خليلا
كما يتخلَّل اللون المتلوّن ) فإنّ في القلب بإزاء كلّ اسم جزء يقابله ويظهر - هو به - ظهور الجوهر بالعرض - ( فيكون العرض بحيث جوهره ، ما هو كالمكان والمتمكَّن ) ، فإنّ حلوله فيه ليس حلول السريان ، بل إنّما امتزاجها بحسب الحدود والنهايات فقط .
قرب النوافل
وهذا التخلَّل المذكور هو المسمّى بـ « قرب النوافل » لما ورد في الصحيح:
"لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحببته ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ".
فإنّ مؤدّى تقرّب العبد إلى الحقّ بالنوافل والزوايد من الأوصاف والأفعال - متدرّجا فيها إلى أن ينتهي إلى حبّ الله الواحد بالوحدة الحقيقيّة له - إنّما هو الحصر المذكور ، على ما لوّح عليه "الحبّ " .
كما أنّ كون الحقّ عين سمع العبد وساير قواه مشعر بالتخلَّل الاستيعابيّ الإحاطيّ مطلقا .
وإنّما سمّى بقرب النوافل ، لأنّ الإدراك فيه إنّما نسب إلى العبد ، فإنّ ضمير « يسمع » إنّما يرجع إليه ، فهو القريب ، والعبد - من حيث هو عبد - زائد في الوجود نافل .
( أو لتخلَّل الحقّ وجود صورة إبراهيم ) ، فإنّ إبراهيم لتحقّقه بالصفات الوجوديّة اكتسب صورته وجودا به يستعدّ للتخلَّل المذكور ، ولذلك قال :
" وجود صورة إبراهيم " بزيادة قيد « الوجود » وهو المسمّى بقرب الفرائض لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « إنّ الله قال على لسان عبده : سمع الله لمن حمده » ، لأنّ الإدراك وسائر الأوصاف إنّما هو للحقّ في هذا القرب ، ووجود الحقّ مقطوع به ، والفرض : القطع - لغة - .
وملخّص هذا الكلام : أنّ الكمال الجمعي الذي هو موطن تحقّق إبراهيم - كما أشير إليه - إنّما يقتضي إثبات عين العبد مع الحق ضرورة ، وحينئذ يتحقّق نسبة القرب .
لكل موطن حكم خاصّ
( وكلّ حكم يصحّ من ذلك ) الموطن فإنّه ما لم يثبت ذلك العين لم تتصوّر النسبة التي هي مبدأ سائر الأحكام ، ( فإنّ لكلّ حكم موطنا يظهر به - لا يتعدّاه - ) وهو الذي عبّر عنه لسان الشريعة بأن الأسماء توقيفيّة .
فلا بدّ من التخلَّل المذكور حتّى يمكن ظهور تلك الأحكام المتنوّعة الواقعة في طي تلك المواطن ، ( ألا ترى أنّ الحقّ يظهر بصفات المحدثات ؟ - وأخبر بذلك عن نفسه - وبصفات النقص ، وبصفات الذمّ ؟ ) كالتأذّي في قوله :
" يُؤْذُونَ الله " [ 33 / 57 ] ، والمكر في قوله : " وَمَكَرَ الله " [ 3 / 54 ] والاستهزاء في قوله : " الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ " [ 2] 15 ] ، فلو لا التخلَّل الأوّل ما صحّ ذلك .
وكذلك التخلَّل الثاني واقع ( ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحقّ من أوّلها إلى آخرها ، وكلَّها حقّ له ؟ كما أنّ صفات المحدثات حقّ للحقّ ) فلو لا أمر التخلَّل المذكور ما أمكن ذلك .
الحمد لله من كل حامد وعلى كلّ محمود
وعلى كلّ واحد من التقديرين ، فمورد الصفات الوجوديّة التي يحمد بها إنّما هو الحقّ لا غير فيكون ( الحمد لله ) الذي له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجوديّة - ذمّا كان ذلك أو حمدا - بحيث لا يمكن أن يفوته نعت - كما سبق تحقيقه في الفصّ السابق .
(فرجعت إليه عواقب الثناء من كلّ حامد ومحمود " وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ " [ 11 / 123 ] فعمّ ما ذمّ وما حمد ، وما ثمّ إلَّا محمود أو مذموم ) .
إذا ظهر الحق فالخلق باطن ، وإذا ظهر الخلق فالحق باطن
ثمّ إذ قد بيّن أمر هذا الموطن الكمالي وشمول جمعيّته وتمام إحاطته لا بدّ وأن ينبّه إلى كيفيّة انطوائه للطرفين ومعانقة النقيضين فيه ، فإنّه هو الدليل على تمام جمعيّته وكمال شموله ، فأشار إلى ذلك بقوله :
و ( اعلم أنّه ما تخلَّل شيء شيئا إلَّا كان محمولا فيه ) أي ذلك الشيء يكون حاملا للمتخلَّل ، شاملا لكليّته ، شمول الإحاطة والحصر .
( فالمتخلَّل - اسم فاعل - محجوب بالمتخلَّل - اسم مفعول - فاسم المفعول هو الظاهر واسم الفاعل هو الباطن المستور ، وهو غذاء له ) ، أي اسم الفاعل الباطن غذاء لاسم المفعول الظاهر ، ( كالماء يتخلَّل الصوفة فتربو به وتتّسع ) .
( فإن كان الحقّ هو الظاهر ) - كما هو مقام قرب الفرائض على ما ورد : « إنّ الله قال على لسان عبده : سمع الله لمن حمده » ، وقال : " وَلكِنَّ الله رَمى " [ 8 / 17 ] - ( فالخلق مستور فيه ، فيكون الخلق جميع أسماء الحقّ وسمعه وبصره وجميع نسبه وإدراكاته ) ضرورة أنّه هو الغذاء المقوّم له فالخلق حينئذ في عين ستره واختفائه هو الظاهر بأوصافه وبآثاره .
( وإن كان الخلق هو الظاهر ) - كما هو مقام قرب النوافل على ما ورد في حديث : « كنت سمعه وبصره » - ( فالحقّ مستور باطن فيه فالحقّ سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه - كما ورد في الخبر الصحيح) ، فالحق حينئذ في عين اختفائه واستتاره هو الظاهر بأوصافه وآثاره .
بمألوهيّة العبد يكون الحقّ إلها
ثمّ إنّه بعد ذلك ينبّه إلى أن من لم يعرف الحقّ في هذا الموطن على هذه النسب هو بمعزل عن العرفان ، مشيرا في ذلك إلى علوّ رتبة العبد وتقدّم نسبته على الأسماء كلَّها بقوله :
( ثمّ إنّ الذات لو تعرّت عن هذه النسب لم تكن إلها ، هذه النسب أحدثتها أعياننا ، فنحن جعلناه - بمألوهيّتنا - إلها ) ضرورة أن العبد القابل هو الذي صار سبب تطوّرات الذات في طيّ صنوف التعيّنات ، ( فلا يعرف ) الحقّ ( حتّى نعرف ) نحن ( قال عليه السّلام : « من عرف نفسه عرف ربّه » - وهو أعلم الخلق باللَّه ) .
استدلال الحكماء على وجود الواجب تعالى
وهذا ذوق عال يعزّ واجده ( فإنّ بعض الحكماء ) المشّاءين ومن تابعهم ( وأبا حامد ادّعوا أنّه يعرف الله من غير نظر في العالم ) .
فإنّ لهم في طريقهم الاستدلاليّ مسلكين :
أحدهم إنّيّ ، يتدرّجون فيه من الأثر إلى المؤثّر ، والآخر لمّيّ ، يتنزّلون به من المؤثّر إلى الأثر . وبيّن أن من وقع مواطئ سلوكه على الثاني منهما في معرفة الحقّ لا يحتاج فيه إلى النظر في العالم - على ما تفطَّن لذلك صاحب الإشارات من قوله تعالى : " سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ " [ 41 / 53 ] .
ومن قوله تعالى : " أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه ُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " [ 41 / 53 ] حيث جعل الأوّل إشارة إلى أوّل المسلكين ، والثاني إلى الآخر .
ولكن ذلك المعرفة له من حيث أنّه ذات ، لا من حيث أنّه إله ، والمبحث إنّما هو هذا ، ولذلك قال : ( وهذا غلط نعم ، تعرف ذات قديمة أزليّة لا يعرف أنّها إله ، حتّى يعرف المألوه ) الذي هو معطي تلك النسبة من العبد القابل ( فهو الدليل عليه ) أولا في مسالك البعد والتفرقة ، ( ثمّ بعد هذا ، في ثاني الحال ) عند مواطن القرب والجمعيّة .
( يعطيك الكشف : أنّ الحقّ - نفسه - كان عين الدليل على نفسه وعلى الوهيّته ، وأنّ العالم ليس إلَّا تجلَّيه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه ) - تجلَّى الشبح المقابل في السطح القابل .
( وإنّه ) أي ذلك التجلَّي ( يتنوّع ) كليّا في العقل ( ويتصوّر ) جزئيّا في الخارج ( بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها ) - على ترتيب اللفّ والنشر - ( وهذا بعد العلم به منّا : أنّه إله لنا ) ، ضرورة أنّه ما لم يعلم نسبة بين الذات القديمة والعالم ، لم يعلم أمر الظاهريّة والمظهريّة المذكورتين أصلا .
مشهد الجامع بين الجمع والتفرقة
ثمّ إنّ ذلك النسبة تتفاوت بحسب قوّة الأذواق وصفاء المشارب ، فمن المكاشفين من وقف في موطن المغايرة بين الظاهر والمظهر ، والنور والظلّ ، والوجوب والإمكان ، والجمع والتفرقة - إلى غير ذلك - فهو الذي لضعف ذوقه وشوب مشرب إدراكه غوائل أحكام المدارك الجزئيّة ، قد انحجب بأحد المتقابلين عن الآخر ، ومنهم من جاوز ذلك وبلغ حريم الإطلاق ، وفاز بالدخول في حرم الاتّصال والاتحاد .
وإلى ذلك أشار بقوله : ( ثمّ يأتي ) له ( الكشف الآخر ) عند بسط بساط الامتياز والتفصيل ، وهو الموسوم بالفرق بعد الجمع ( فيظهر لك صورنا فيه ، فيظهر بعضنا لبعض في الحقّ ، فيعرف بعضنا بعضا ) بقوة نسبة الاتحاد والجمع ( ويتميّز بعضنا عن بعض )
بقوّة قهرمان المغايرة والافتراق ، فهذا المشهد هو الجامع بين الجمع والتفرقة ، والتفصيل والإجمال .
وأهل هذا المشهد أيضا متفاوتون : ( فمنّا من يعرف أن في الحقّ وقعت هذه المعرفة لنا ، بنا ومنّا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا ) - على ما هو مقتضى مسلك بعض الحكماء المذكورين- ( أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين ).
( وبالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا ، لا - بل نحن نحكم علينا بنا ولكن فيه ) فإنّ الأول هو المعطي للجمعيّة بأنّه هو الدليل على نفسه ، وعلى الوهيّته .
والثاني هو الذي يعطي أن التفرقة التي بها تمتاز الأعيان عين تلك الجمعيّة ، فإنّ الجمعية الحاصلة منها هو الجمعية بين التفرقة والجمع .
لله الحجة البالغة
( ولذلك ) - أي لما أنّ الحكم الذي علينا إنّما هو بنا - (قال : " فَلِلَّه ِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ " [ 6 / 149 ] ، يعني على المحجوبين إذا قالوا للحقّ : « لم فعلت بنا كذا وكذا » ؟ - ما لا يوافق أغراضهم - فيكشف لهم عن ساق ) .
أي عمّا يقوم به أمرهم على ساق النظام ، أو عمّا يسوقهم إلى ذلك على طريقة الاشتقاق الكبير - على ما هو المعوّل عليه عند المحقّقين - ( وهو الأمر الذي كشفه العارفون هنا ) أي في آخر موطن سلوكهم ونهاية قامة قيامتهم ، وبهذا الاعتبار عبّر عنه بالساق .
( فيرون أنّ الحقّ ما فعل بهم ما ادّعوه : « إنّه فعله » ، وأنّ ذلك منهم فإنّه ما علمهم إلا على ما هم عليه ، فتندحض حجّتهم وتبقى الحجّة البالغة لله ) .
معنى : لو شاء لهديكم أجمعين
( فإن قلت ) : « إذا كان أمر أحوال الأعيان وما يطرأ جزئيّات قوابل الإمكان مطلقا إنّما هو على ما هم عليه في حال ثبوتهم ، ولا دخل للفاعل فيه أصل ( فما فائدة قوله : " فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ " [ 6 / 149 ] ؟ ( قلنا : لو شاء « لو » حرف امتناع ) التالي ( لامتناع ) المقدّم .
فيكون امتناع هداية الكلّ لامتناع المشيّة فإنّ المشيّة إنّما تتعلَّق بما عليه أمر القوابل ( فما شاء إلا ما هو الأمر عليه ، ولكن عين الممكن قابل للشيء ونقيضه في حكم دليل العقل ) .
وذلك لأنّه ليس في قوّة قابليّة العقل النظري ومكنة اقتداره أن يجاوز حضرة المعلومات ، حيث يتمايز العلم عن الوجود ، فإنّما يتصوّر الحقائق هناك مفردة ، مجرّدة عن سائر لوازمها الوجوديّة ، ولواحقها الضروريّة ، فتكون نسبة سائر المتقابلات من الأحكام إليها سواء في ذلك النظر .
( وأيّ الحكمين المعقولين وقع ، ذلك هو الذي عليه الممكن في حال ثبوته ) وتلك الحال غير متبيّن عند العقول المحجوبة والأفكار التي تتوسل في اقتناص المطالب بمخالب الدلائل والأنظار ، فإنّها قبل حضرة العلم ، إذ هي تابعة لتلك الحال كما عرفت .
( ومعنى " لَهَداكُمْ " : لبيّن لكم ) الأمر في نفسه على ما هو عليه ( وما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه ) في القابليّة الأولى ، لدى الفيض الأقدس الذاتي ، الذي لا مجال فيه لثنويّة القابل والفاعل أصلا .
وهناك تسأل القوابل بألسنة استعداداتهم ما هي عليه ، فمن العالم من فتح الله عيني بصيرته لإدراك ذلك الأمر - وهم المهتدون العارفون بسائر الأحكام والخواص التي للحقائق - ومنه من لم يفتح عين بصيرته ، فتكون مدركاته مقصورة على ما يدركه العقل النظريّ بحجب الأكوان ومحتملات عوالم الإمكان ، ( فمنهم العالم والجاهل ، فما شاء ، فما هداهم أجمعين ) .
مشيّة الحقّ تعالى أحديّة التعلَّق تابعة للعلم
فعلم من هذا الكلام أنه ممّا يحسم به مادة الشبهة عن أصلها بأيّ عبارة عبّر عنها غير مبتن على أن تكون « المشيّة » على صيغة الماضي أو ملحوقة ل « لو » - على ما يمكن أن يبادر إلى بعض الأوهام .
فلذلك قال : ( ولا يشاء وكذلك إن يشاء ) في زمان الاستقبال ( فهل يشاء ؟ ) أي فهل يمكن أن تتعلق به المشيّة مطلقا في الماضي أو في الاستقبال ، بخلاف ما عليه الأمر - على سبيل الإنكار - ( هذا ما لا يكون ) .
( فمشيّته أحديّة التعلَّق ) بالنسبة إلى الأكوان والاحتمالات الواقعة في حيّز الإمكان ( وهي نسبة تابعة للعلم . والعلم نسبة تابعة للمعلوم ، والمعلوم أنت وأحوالك ، فليس للعالم أثر في المعلوم ، بل للمعلوم أثر في العالم) فإن المعلوم هو الذي جعل العالمية مصوّرا بصورته .
( فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه ) .
( وإنما ورد الخطاب الإلهي ) بلسان الحضرة الختميّة ( بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون ، وما أعطاه النظر العقليّ ) على ما عليه مدارك العامّة من أمم زمانه ، من الاحتمالات اللازمة لما وقع في حيّز الإمكان - على ما هو مقتضى منصب الرسالة وختميّتها ، حتّى يكون الكلّ محظوظا من جوامع كلمته التامّة ، وإلَّا فلا يكون مبعوثا للكافّة .
ولذلك ( ما ورد عليه الخطاب على ما يعطيه الكشف ) من الجزم بما عليه الأمر ، على ما يختصّ به الندر من الخواصّ .
( ولذلك كثر المؤمنون ) أرباب الفهوم من الواقفين عند ظواهر ما أعطاه النظر العقليّ ، ممّا يمكن أن يتواطأ عليه الجمهور من المخاطبين ( وقلّ العارفون - أصحاب الكشوف ) من الواقفين على سرّ ما عليه الأمر في نفسه ، وهم ، هم المقصودون بالذات ، وغيرهم إنّما خلق لأجل تمهيد المقصود .
حكم المعلوم على العالم
والذي يدلّ على ما مرّ - من أنّ لكلّ أحد مقاما لا يتجاوزه ، وهو صورة معلوميّته المؤثّرة في العالم ، الحاكمة بالخصوصيّة - ما ورد : ( " وَما مِنَّا إِلَّا لَه ُ مَقامٌ مَعْلُومٌ " [ 37 / 164 ] وهو ما كنت به في ثبوتك ، ظهرت به في وجودك هذا - إن ثبت أنّ لك وجودا ) على ما هو ذوق مقام قرب النوافل .
( وإن ثبت أنّ الوجود للحقّ - لا لك - ) - على ما هو ذوق مقام قرب الفرائض - ( فالحكم بلا شك لك في وجود الحقّ ) في هذا المقام أيضا ، فإنّ صاحب الحكم إنّما هو العين .
( وإن ثبت ) على التقديرين - وهو مقام الجمعيّة بين القربين - ( أنّك الموجود فالحكم لك بلا شك ، وإن كان الحاكم ) في سائر المقامات حقيقة هو ( الحقّ ) والفرق بيّن بين ذي الحكم والحاكم عند اللبيب ، والأعيان ذوو الأحكام - والحاكم إنما هو الحق ، فإنّه إنما يتحقّق الأحكام بالوجود ، وهو منه .
الأمر منك إليك
( فليس له إلَّا إفاضة الوجود عليك ، والحكم لك عليك ، فلا تحمد إلَّا نفسك ) إن اهتدت إلى كمالاتها - ( ولا تذمّ إلَّا نفسك ) إن ضلت عنه ( وما يبقى للحقّ ) في كلّ حال من تينك الحالتين المتقابلتين .
( إلَّا حمد إفاضة الوجود - لأنّ ذلك له ، لا لك - فأنت غذاؤه بالأحكام ) بناء على أن الوجود الحقّ هو الظاهر بصور أحكام الأعيان ، مختفية فيه تلك الأحكام ، ( وهو غذاؤك بالوجود ) ، لأنّ العين هو الظاهر بالوجود ، وهو مختف فيه - اختفاء الغذاء في المغتذي .
( فتعيّن عليه ) أن يظهر بصورة عينك ، وهو ( ما تعيّن عليك ) أن تتعيّن به عينك من الأحكام ( فالأمر منه إليك ) وجود ، ( ومنك إليه ) حكم ( غير أنّك تسمّى مكلَّفا ، وما كلَّفك إلا بما قلت له : « كلَّفني » بحالك ، وبما أنت عليه ولا يسمّى ) الحقّ ( مكلَّفا - اسم المفعول - ) وذلك لأنّ الذي منه - وهو الوجود - إنّما يقتضي الوحدة والإطلاق ، وذلك يأبى التمييز الذي يستلزم التكليف والذي من عين العبد - أعني الأحكام - إنّما يقتضي التمييز والاختلاف ، وهو ما يترتّب عليه التكليف ضرورة .
ثمّ هاهنا نكتة حكميّة لا بدّ من الوقوف عليها :
وهي أنّ العبد إذا وصل بميامن رقيقتي التدنّي والتدلَّي إلى مقام قربي النوافل والفرائض ، وفاز من دائرة الحقيقة الجمعيّة الإنسانيّة بقاب قوسيها ، لا بدّ وأن يظهر على منصّات العيان في صور الأعمال والأحوال أثر بحسب ذينك القربين ، فما يتعلَّق بالحقّ من ذلك هو الحمد ، كما أنّ ما يتعلَّق بالعبد هو العبوديّة .
فلذلك نظم وقال :
فيحمدني و أحمده .... و يعبدني و أعبده
( فيحمدني ) بأن يظهرني ويعلن كمالاتي بتغذيته وجوده لي .
( وأحمده ) بإظهاري كمالاته ، بأن غذيته بأحكامي وأظهرت وجوده بكماله الأسمائي به ( ويعبدني) - بامتثاله ما قلت له من أمر التكليف وسائر ما يلزم العين من الأحكام -"أو من عبد الطريق اى اعده وجهزه للوظيفته".
( وأعبده ) بالتزامي ذلك التكليف وانقيادي لسائر أحكامه أمرا كان أو نهيا وبالجملة ، سائر الأسماء إنّما يظهر في طيّ تقابل عين العبد للحقّ ، ولكنّ للحقّ السبق في الاتّصاف ، وذلك لأنّ منه الوجود ، وبه يظهر سائر الأسماء - وجوديّا كان أو عدميّا .
ومعلوم أنّ الحامد العابد في قوس الوجود من القوسين هو الحقّ ، والمحمود المعبود العبد ، وفي قوس الشهود منهما بالعكس ، فلذلك قال : ( ففي حال ) أي في مشاهد العلوم والأذواق - ( اقرّ به ) لأنّها مواقف حمده وعبوديّته .
( وفي الأعيان ) أي في مجالي عالم الشهادة والعيان ( أجحده ) لأنّها منتهى مراتب قوس محموديّته ومعبوديّته .
( فيعرفني ) في هذا الموطن لأنّه الحامد فيه - ( وأنكره ) ( وأعرفه ) - عند العروج في مراقي قوس الشهود ( فأشهده ) وذلك هو الغاية للحركة الوجوديّة والسير الكمالي .
ولا يخفى أنّ العبد هو المساعد للحقّ في استحصال تلك الغاية والممدّ له ، فكيف يصحّ له الغناء ؟ وإليه أشار بقوله :( فأنّى بالغنا ، وأن .... أساعده واسعده )
( لذاك ) المساعدة والإسعاد ( الحقّ أوجدني ) بالوجود العيني . فأعلمه و أوجده ) بالوجود العلمي الشهودي في مشهدي السمع والبصر .
( بذا جاء الحديث لنا ) ورد : " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " .
وذلك لأنّه أسند الفعلين - اللذين بهما يتحقّق السمع والبصر ، اللذان بهما يتكوّن الحقّ - إلى العبد - فهو فاعله وهذا المشهد الكوني الذي فيه هو مشهده الكمالي ومقصده الغائي .
وإليه أشار بقوله : ( وحقّق في مقصده ).
خلَّة إبراهيم عليه السّلام
( ولما كان للخليل هذه المرتبة التي بها سمّي « خليلا » ، لذلك ) - وهو تخلَّل الحقّ وجود صورة الخليل في مشاهده ومشاعره ، أو تخلَّل الخليل جميع ما اتّصف به ذاته في مواطن الأسماء ومواقفها - ( سنّ القرى ) بحكم سراية ما تحقّق به ذاته في أوصافه وأفعاله - سراية حكم الأصول في فروعها ، ( وجعله ابن مسرّة مع ميكائيل للأرزاق ) .
قال الشيخ على قوله تعالى : " وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ " [ 69 / 17 ] :
" روينا عن ابن مسرة الجبلي "هو عبد اللَّه بن مسرة الجبلي الصوفي المعتزلي ، ولد بقرطبة عام 269 ، وتوفى سنة 319 " من أكبر أهل الطريق علما وحالا وكشفا : العرش المحمول هو الملك ، وهو محصور في جسم وروح وغذاء ومرتبة فآدم وإسرافيل للصور ، وجبرئيل ومحمّد للأرواح ، وميكائيل وإبراهيم للأرزاق ، ومالك ورضوان للوعد والوعيد ، وليس في الملك إلَّا ما ذكر " .
ثمّ إنّ الخليل إذا كان للأرزاق ( وبالأرزاق يكون تغذي المرزوقين - فإذا تخلَّل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقي فيه شيء إلَّا تخلَّله ، فإنّ الغذاء يسري في جميع أجزاء المغتذي كلَّها - وما هنالك أجزاء فلا بد أن يتخلَّل ) .
جواب الشرط : أي إذا تخلَّل الرزق ذات المرزوق ، والخليل للأرزاق : فلا بدّ أن يتخلَّل الخليل ( جميع المقامات الإلهيّة المعبّر عنها ب « الأسماء » فيظهر بها ) .
أي بتلك المرتبة الجليلة الخليليّة ( ذاته جلّ وعلا ) ، ضرورة أنّها هي التي يتخلَّل جميع الأسماء الإلهيّة - تخلَّل اللون للمتلوّن ، فيظهر بها ظهور المتلوّن باللون .
ثمّ إنّك قد نبّهت على أنّ للضمائر بين الأسماء دلالة بسيطة ساذجة عن المعاني الوضعيّة والنسب الفعليّة - التي هي مبادئ الأسماء كلَّها - فلها من هذا الوجه اختصاص بالذات ، كما أنّ لغيرها من الأسماء اختصاصا بمرتبة الأفعال والأوصاف ، وقد بيّن أمرها في النظم السابق .
ثمّ لما انساق الكلام هاهنا إلى أحكام الذات وظهورها بالمرتبة الخليليّة الإبراهيميّة ، أخذ في تبيين أمر تلك الأسماء البسيطة من حيث الدلالة على تلك المرتبة ، بصرافة معنى التكلم والغيبة ، والوحدة والكثرة ، بدون اعتبار معنى وصفي ولا أثر فعلي ، بقوله :
لي وجهان : هو وأن
( ونحن له كم .... ثبتت أدلَّتنا )
فإنّ الأدلَّة العقليّة إنّما تدلّ على أنّ الكثرة العينيّة الكونيّة الإمكانيّة إنّما هي للهويّة الغيبيّة.
" الواحد الغيبي هو هوية الوجود . والواحد العيني هو الواحد الكوني ، فتباينا وتعانقا إليه يرجع الأمر كله . "
(الوجوديّة الوجوبيّة .... ونحن لنا )
بحسب المدارك الذوقيّة الشهوديّة - كما مرّ غير مرّة في تقدّم القوابل وسبق أحكامها على الكل - وإذا كان أمر الكثرة العينيّة التكلميّة إلى نفسها - وقد رجع أمرها إلى الوحدة, فلا يكون للوحدة الغيبيّة الوجوديّة ، إلَّا الكون الوحداني المضاف إلى الواحد العيني ، فالكثرة حينئذ منمحية ، سواء نسب إلى الوحدة الغيبيّة أو الكثرة العينيّة .
وإليه أشار بقوله :
( وليس له سوى كوني .... فنحن له كنحن بنا)
فعلم أنّ للواحد العيني وجهين :
أحدهم الغيبيّة الوجوديّة
والآخر العينيّة الكونيّة .
وليس أحد الوجهين بالآخر في شيء ، فإنّ الكون يباين الوجود مباينة ذاتيّة .
( فلي وجهان : هو وأن .... وليس له أنا بأنا )
ثمّ إنّ الوجود الغيبي وإن باين الكون العيني ، ولكن إنّما يظهر فيه كما قيل :
" فبضدها يتبيّن الأشياء " .
فالكون العيني بمنزلة الإناء في حصره وإظهاره .
( ولكن في مظهره .... فنحن له كمثل إنا )
( والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل )
.
....



GszkXUr9xtg

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!