موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح علي التركة
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ صائن الدين التركة

فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية


03 - فصّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

فصّ حكمة سبّوحيّة في كلمة نوحيّة ووجه المناسبة بين الاسم والكلمة هاهنا ظاهر لما عرفت في بيان الترتيب أنّ الكلمة النوحيّة هي المبيّنة لحقائق التنزيه ، الداعية إلى لطائف معاني التسبيح وخصائص كماله .
على أنّ هاهنا تلويحا من تحليل الاسم ، وهو أنّ السين والباء - الذين بهما امتاز الاسم عن الكلمة وظهر حقيقتهما - إنّما تقوّمتا بالمد والنون الذين بهما ظهرت الكلمة .
التنزيه عين التحديد
ثمّ إنّ أصول أرباب الحقائق تقتضي أنّ كلّ معنى فيه تقابل - وإن كان من المفهومات العامّة - إذا نسب إلى الحضرة الإطلاقيّة والجناب الإلهي ، يكون تخصيصا وتحديدا لذلك الجناب ، ولهذا تسمعهم يقولون : « هو خالق العدم ، كما هو خالق الوجود » فبناء على ذلك الأصل قال : (اعلم أنّ التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد ) وذلك لأنّ التنزيه عبارة عن تبعيده تعالى عن المواد الهيولانيّة وما يستتبعه من التحدّد والتحيّز ، وعن الصور الكونيّة المنوّعة والحوادث الإمكانيّة المعيّنة وما يستدعيه من التقيّد والتشخّص .
والأوّل تنزيه المجتنبين عن التجسيم من المتكلَّمين ، والثاني تنزيه الحكماء .
ولا شك أنّ تبعيده عن المواد يقتضي إثبات نسبته إليها ، وانتهاء حدّه عندها ، وذلك عين التحديد ، كما أنّ إطلاقه عن الصور الكونيّة المنوّعة والعوارض الحادثة المشخّصة إنّما يستدعى تخصيصه بالإطلاق وتمييزه به ، وهو عين التقييد .
المنزّه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب
( فالمنزّه إمّا جاهل ) إذا حصّل ذلك بفكره ونظره ( وإمّا صاحب سوء أدب ) إذا قلَّد فيه الرسل وأهل الحقّ .
ولا يتوهّم من هذا الكلام أنّ المنزّه مطلقا يكون جاهلا وصاحب سوء أدب - فإنّ الموحّد أيضا لا بدّ له من التنزيه كما سيجيء تحقيقه - ( ولكنّ ) إنّما ينسب إليه ذلك ( إذا أطلقاه ) عن التشبيه (وقالا به) ، أي ذهبا إليه ، على ما هو مذهب الفريقين .
واعلم أنّ هذا الترديد بمعنى منع الخلوّ ، أي لا يخلو أمر المنزّه عنهما ، وقد يستجمعها ، فإنّ المتيقّن بنظره ممن لم يقل بالشرائع ، إذا فكَّر وأدّاه إلى التنزيه ، ووقف عنده ولم ير غير ذلك فقد جهل الحقّ ، والمقلَّد القائل بالشرائع إذا نزّه بتقليده الرسل وأهل الحق فقد أساء الأدب بنسبته إلى الرسل ، ( والقائل بالشرائع ، المؤمن ) أي المتيقّن بفكره ( إذا نزّه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك ، فقد أساء الأدب وأكذب الحقّ والرسل صلوات الله عليهم وهو لا يشعر ، ويتخيّل أنّه في الحاصل ) مما أوتي به الرسل (وهو في الفائت) من ذلك ( وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض ) فهو من المستجمعين بين الجهل وإساءة الأدب .
المعنى المراد من الألفاظ الواردة بلسان الشرايع
ثمّ لمّا استشعر ما يتمسّك به ذلك القائل من أنّ مؤدّى ألسنة الشرايع إنّما هو المفهوم الأوّل من مدلولاتها الوضعيّة ، والحكم إنّما يترتّب على الظاهر منها ، تعرّض لذلك بما يوهنه مشوّقا إلى ما يعلم منه مبدأ تقاعد الكلّ عند معتقداتهم الجزئيّة المتخالفة .
وبلوغ الكمّل إلى ما يحيط منها بالكلّ بقوله : ( ولا سيّما وقد علم ) - أي المنزّه القائل ، المؤمن المتيقّن ، إذا كان متفطَّنا - ( أنّ ألسنة الشرايع الإلهيّة إذا نطقت في الحقّ تعالى بما نطقت به ) سريانيّا كان أو عبرانيّا أو يونانيّا أو عربيّا مبين ( إنّما جاءت به في العموم ) من العباد والمكلَّفين ( على المفهوم الأوّل ) من الدلالات الوضعيّة الحقيقيّة أو العقليّة المجازيّة التي في ذلك اللسان.
(وعلى الخصوص) من أهل الحقائق وعلى لسان الخواصّ من العباد واستعمل « على » موضع « في » مستشعرا منها معنى العلوّ (على كلّ مفهوم يفهم) ثانيا أو ثالثا أو رابعا ، إلى أن ينتهي إلى الذوق الإحاطي الجمعي ، وكلّ ما انتقل إليه فهم من تلك الأفهام مراد للحقّ ، ولكن ينبغي أن تكون تلك الانتقالات صحيحة ( من وجوه ذلك اللفظ ، بأيّ لسان كان في وضع ذلك اللسان ) بمفردات حروفه ومركَّبات كلماته .
الظاهر والباطن
وإنّما قلنا أنّ كل ذلك مراد مجيء به ( فإنّ للحقّ في كل خلق ظهورا ) بحسب عموم رحمته الوجوديّة وشمول رأفته الشهودية ( فهو الظاهر في كلّ مفهوم ) من أوّل مراتبه للعامّة من العباد ، متدرّجا فيها ، مترقّيا إلى آخر ما تنتهي إليه درجات معتقدات الخواصّ منهم في ذلك ، وهو مكاشفات الكمّل ، المحيطة بالكلّ ، كلّ ذلك مجالي ظهور الحقّ .
( وهو الباطن عن كلّ فهم ) من أفهام القاصرين عن درجة الكشف العلي والذوق الإحاطيّ فهم محاطون لمفهوماتهم ومعتقداتهم ، عاكفون لديها ، عابدون إياه (إلَّا عن فهم من قال: إنّ العالم) بأعيانه ومفرداته الخارجيّة والذهنيّة ونسبه الكونيّة والإلهيّة (صورته وهويّته) لبلوغ فهمه ذلك إلى ما لا يحيط به مفهوم ولا يحصره صورة من العقائد ، إذ الصورة الإحاطيّة هي له ، فله أحديّة جمع العقائد كلَّها .
وفي قوله : « من قال » دون « فهم » أو « شهد » لطيفة لا بدّ من الاطلاع عليها : وهي أنّ القول أعلى درجات قوس الإظهار - يعني الشهود والكشف - وأتمّ مراتبه ، إذ ليس له في الخارج عين وراءه ، وهو المراد ب « عين اليقين » ، فإنّه ليس لليقين عين غير الكلام ، ومن هاهنا ترى سائر الآيات كريمة المشتملة على عقائل المعارف ونفائس العقائد مصدّرة ب « قل » .
( وهو ) أي العالم بجمله وتفاصيله ( الاسم الظاهر ، كما أنّه ) أي الحقّ الظاهر بصورته في العالم ( في المعنى روح ما ظهر فهو الباطن ) .
وإذ ليس هاهنا محل تفصيل الاسم عن المسمّى ، ما أورد لفظ " الاسم " .
هذا تحقيق معنى الاسمين بمفرديهما ، وهما الكاشفان على ما حقّقه عن طرف التشبيه فقط ، فأراد أن ينبّه على التنزيه الذي في عين هذا التشبيه المذكور ، كما هو مقتضى أصوله الممهّدة بقوله : ( فنسبته لما ظهر من صور العالم ) ( نسبة المدبّر للصورة ) ، في عدم تحدّده بها ودوام تصرّفه فيها ، وامتيازه بحقيقته عنها .
إذا تقرّر هذا فنقول : إذا أريد تمييز شيء من تلك الصور وتحديد حقيقتها لا بدّ وأن يجمع بين طرفيها ، ( فيؤخذ في حدّ الإنسان - مثلا - ظاهره وباطنه ) كما يقال في حدّه : « إنّه الحيوان الناطق » معربا عنهما بالترتيب ، أمّا الأوّل فإنّ ظاهره ليس إلَّا الجسم الناميّ المتحرّك الحسّاس ، وأمّا الثاني فإنّ باطنه ليس إلَّا « مدرك المعقولات » وما يحذو حذوه (وكذلك في كلّ محدود) حتّى يتمّ تحديد تلك الحقيقة وتحصيل صورة تطابقها .
( فالحقّ ) لما كان له أحديّة جمع الصور بمعانيه ( محدود بكل حدّ ) ، فحدّ جميع صور العالم من حدّه ،
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ) لعدم تناهيها ، ( و ) على تقدير ضبطه (لا تعلم حدود كلّ صورة منها إلَّا على قدر ما حصل لكلّ عالم من صورة ) المناسبة لاستعداده (فلذلك يجهل حدّ الحقّ ، فإنّه لا يعلم حدّه إلَّا بعلم حدّ كلّ صورة) من الصور المشتمل عليه
العالم بطرفيها الروحاني والجسماني ( وهذا محال حصوله ، فحدّ الحقّ محال ) .
التنزيه في عين التشبيه فعلم من هذا أنّ من نزّه الحقّ مطلقا وما شبّهه - فقد حدّد ما لا يحدّ فما عرفه ، ( وكذلك من شبّهه وما نزّهه فقد قيّده وحدّده وما عرفه ، ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه ) وقال بوجوده في كلّ عين ، منزّها عنه ، وشاهد بطونه في عين الظهور ووصفه ( بالوصفين على الإجمال لأنّه يستحيل ذلك على التفصيل ، لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور ) حتّى يتمكَّن من مشاهدته في كلّ واحد مفصّل ( فقد عرفه مجملا ، لا على التفصيل ، كما عرف نفسه مجملا ، لا على التفصيل ) إذ الإحاطة بما انطوى عليه ظاهرها - من القوى الجسمانيّة وآلاتها وأفعالها وباطنها من القوى الروحانيّة وأطوارها ومقاماتها مما لا يمكن إلَّا على ضرب من الإجمال .
(ولذلك ربط النبيّ عليه السّلام معرفة الحقّ بمعرفة النفس فقال : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » ) وهذا غاية الإجمال حتّى أن الوصفين فيه مجمل .
وأمّا ما يدلّ على ضرب من التفصيل فما أفصح عنه التنزيل الكريم .
وإليه أشار بقوله : ( وقال تعالى : " سَنُرِيهِمْ آياتِنا " ) أي ما يدلّ على أحديّة جمع الحقّ ، بجمعيّته الإحاطيّة الأسمائيّة ( " في الآفاقِ")أي في أطراف محيط الاعتدال الكمالي الإنساني ( وهو ما خرج عنك ) أي عن مركز الاعتدال النوعي ( "وَفي أَنْفُسِهِمْ" وهو ) أي أنفسهم أو الآيات التي فيه ( عينك ) أي عين تلك النقطة المركزيّة .
فإنّ سائر النسب فيها عينها ، ولهذا وحدّ ضمير الأنفس أو آياتها باعتبار مصدوق الخبر أعني المخاطب ، تنبيها إلى أنّ الكثرة التشبيهيّة فيها عين الوحدة التنزيهيّة ، كما فسرّ ضمير الجمع بالواحد في قوله : (" حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ " أي للناظر) تنبيها على أنّ الوحدة التنزيهيّة عين تلك الكثرة والمنبّه على هذا التحقيق ما وقع في الآية الكريمة من هذا الأسلوب في قوله : ( " أَنَّه ُ الْحَقُّ " ) [ 41 / 53 ] أي الناظر ، على أنّ ما سبق في الآية مما يصلح لرجع هذا الضمير صيغ الجمع كالآفاق والآيات والناظرين فوحّد الضمير بذلك الاعتبار .
فعلم أنّ النقطة المركزيّة - أعني عين الإنسان الذي هو الناظر - قد تبيّن له باعتبار اتّصافه بالوصفين وجمعيّته للطرفين أنّه الحقّ ( من حيث أنّك صورته وهو روحك ) ضرورة أنّ عينك هو البرزخ بين الظاهر والباطن ( فأنت له كالصورة الجسميّة لك ، وهو لك كالروح المدبّر لصورة جسدك ) .
هذا طرف التنزيه ، وأمّا طرف التشبيه ، فقد بيّنه بقوله : ( والحدّ يشمل الظاهر والباطن منك ) حتّى يستجمع بين المادّة الجنسيّة والصورة الفصليّة ويستحصل منهما صورة مطابقة لك ، لكن لما كان الحدّ المستجمع بين الظاهر والباطن يحتاج في الإنسان إلى رابطة مزاجيّة ، تستدعي اقتران الصورة الفصليّة بالمادّة ، ولا استقرار لتلك الرابطة أصلا ، لا يمكن إطلاق ذلك الحدّ دائما على نشأته هذه.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبّر لها لم تبق إنسانا ) لانتفاء الصورة الفصليّة عنه ( ولكن يقال فيها : إنّها صورة ) تشبه صورة ( الإنسان ، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة ) , ضرورة أنّ الباقي في الكل إنّما هو الصورة الجسميّة فقط ( ولا يطلق عليها اسم الإنسان إلَّا بالمجاز لا بالحقيقة .)
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وصور العالم لا يمكن زوال الحقّ عنها أصلا ) ، لأنّه أوّل الأوائل في أزل الآزال ، فسائر الصور صورته الحقيقيّة ، بل عين تلك المادّة الأولى والقابليّة الذاتيّة ، لما تقرّر من أنّ الآخر عين الأوّل ، وهذا معنى البساطة التي ذهب إليها أهل النظر .
( فحدّ الألوهيّة له بالحقيقة ، لا بالمجاز ) لاستجماعه الظاهر والباطن مطلقا ، وصدق الحدّ إنّما يستدعي ذلك ( كما هو حدّ الإنسان إذا كان حيّا ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكما أنّ ظاهر صورة الإنسان تثني بلسانها على روحها ) المحيي فالعالم في تسبيح وحمد دائم ( ونفسها ) المدركة العاقلة ( و ) طبعه ( المدبّر لها ) فإنّ تلك الصورة بما صدر عن قواها وأعضائها من الأفعال مظهرة لكمالات مباديها ، معرّفة لخصائص أوصافها الوجوديّة ، وليس ذلك غير الثناء ، لكن لمّا كان ألسنتهم مقصورة على إظهار الأوصاف الوجوديّة المعربة عن طرف التشبيه فقط لا يكون ثناؤهم لتلك المبادي جامعا بين التسبيح والحمد ، بخلاف ثناء صور العالم للحقّ ، فإنّه جامع بينهما .
ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه : ( كذلك جعل الله صور العالم يسبّح بحمده ، ولكن لا تفقه تسبيحهم) وإن كان لنا اطَّلاع على حمدهم وثنائهم ، لأنّه بمجرّد ما يشاهد من آثارهم وخواصّهم يعرف إظهارهم لكمالات الحقّ .
وحمدهم له وأمّا التسبيح فيحتاج أن نعلم جهاتهم الامتيازيّة المنزهة لهم عمّا يشاركهم ، وذلك يتوقّف على معرفة ما وراء ذلك من الصور والمظاهر ، فيتوقّف على الإحاطة بجميع الصور ، ولا تفي بذلك القوّة البشريّة ( لأنّا لا نحيط بما في العالم من الصور ) .
هذا بالنسبة إلى مداركنا الجزئيّة ، وأمّا بحسب الأمر نفسه ، فالكلّ معبّر عن كمالاته ومفصح بأنّها ليست مقصورة على ما عبّر عنه .
( فالكلّ ألسنة الحقّ ناطقة بالثناء عليه ، ولذلك قال : " الْحَمْدُ لِلَّه ِ رَبِّ الْعالَمِينَ ") فالكلّ معبّر عن كمالاته ومفصح بأنّها ليست مقصورة على ما عبّر عنه . باللسان الجمعي القرآني الختمي ، مترجما عمّا نطق به ألسنة صور العالمين أجمعين .
من أنّ الحمد أي التعريف والإظهار الذي تؤديه ألسنة تلك الصور كلَّها لله ، الذي هو ربّهم ( أي إليه يرجع عواقب الثناء ) والتعريف بمحامد الأوصاف والأحكام الوجوديّة ، وإن نسبت تلك الأوصاف ابتداء إلى الصور الكونيّة والتعيّنات الإمكانيّة ، لكنّها من حيث أنّها أحكام وجوديّة لا يمكن أن تتعلَّق بها ، فيكون مرجعها هو الوجود الحقّ ضرورة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو المثني ) باعتبار إظهاره لتلك الكمالات في الصور التشبيهيّة ( والمثنى عليه ) باعتبار ظهوره في نفسه وتقويمه لتلك الصور في أرواحها التنزيهيّة .
ثمّ لما انساق الكلام هذا المساق حان أن يفصح بالمقصود ويصرّح بما أشير إليه على ما هو مقتضى الصورة المنظومة من الكلام .
فقال : ( فإن قلت بالتنزيه كنت مقيّدا ) ضرورة أنّ التنزيه يقتضي تقييد الحقيقة الحقّة وتعيّنه بالتعيّن الإطلاقي كما عرفت ( وإن قلت بالتشبيه قلت محدّدا ) لأنّ الصورة لا بدّ لها من الإحاطة والتحديد ، وفيما سبق من الكلام ما يدلَّك على تخصيص الثاني ب « قلت » فلا نعيده هاهنا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإن قلت بالأمرين كنت مسدّدا ) أي موفّقا للصواب ، من القول والاستقامة من القصد ، وذلك لأنّك بجمعك بين الأمرين وصلت إلى مقتضى الذوق الإحاطيّ الختميّ ، ودخلت في الامّة الوسط الذي هو خير الأمم ، وإليه أشار بقوله :
ثمّ لمّا كان الجمع بين الأمرين يتصوّر على وجهين : أحدهما أن يعتبر التشبيه بإزاء التنزيه خارجا عنه وهو القول بالإشفاع والآخر أن يعتبر كلّ منهما في ضمن الآخر متّحدا به - وهو القول بالإفراد - قال رضي الله عنه :
فمن قال بالإشفاع كان مشرّك .... ومن قال بالإفراد كان موحّد
فعلم من هذا أنّ من اعتقد أنّ العبد ثاني الحقّ لا يمكن له القول بالتشبيه ، وإلَّا يلزم أن يكون مشركا ، كما أنّ من اعتقد بإفراده معه لا يمكن له القول بالتنزيه - أي التنزيه الرسمي على ما ذهب إليه القائلون به - وإلَّا يلزم أن لا يكون مفردا ، وإليه أشار بقوله :
فإياك والتشبيه إن كنت ثاني .... وإياك والتنزيه إن كنت مفرد
فظهر من هذا أنّ التنزيه الذي لا ينافي التوحيد والإفراد ، غير هذا التنزيه ، بل ذلك هو التنزيه الذي في عين التشبيه ، وذلك التشبيه هو الذي يليق بالموحّد ، ولا يليق بالثنوي .
وتحقيق ذلك أنّ العبد غير الحق بمجرّد اعتبار التعيّنات النسبيّة والإضافات التي إنّما تتحقّق بمجرّد الاعتبار - كالغيبة والخطاب - وأمّا بالنظر إلى الأمر نفسه فهو عينه ، وهو معنى التنزيه في عين التشبيه ، والمشير إلى ذلك كلَّه قوله :
فما أنت هو بل أنت هو ، وتراه في .... عين الأمور مسرّحا ومقيّد
لتنزيه والتشبيه في القرآن الكريم
ثمّ لما أشار إلى أن الجامع هو الإمام السيّد ، بيّن ذلك بقوله : ( وقال تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " فنزّه ) بناء على ما تقرّر في فنون البلاغة أنّ انتفاء أمر عمّا يماثل الشيء يدلّ على انتفائه عنه بأبلغ وجه وأتمّ قصد ، كما يقال للجواد : « مثلك لا يبخل » لا على أنّ الكاف زائدة ، فإنّ أصول التحقيق يأبى ذلك .
(" وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فشبّه) لأنّه من أوصاف العبد ، وهذا هو الجمع بين التنزيه والتشبيه على ما أشار إليه .
ولمّا كان مقتضى الكلمة المحمّديّة والقرآن الختمي أعلى من ذلك وهو التشبيه في عين التنزيه ، والتنزيه في عين التشبيه قال : ( قال تعالى : " لَيْسَ كَمِثْلِه ِشَيْءٌ " فشبّه وثنّى ) إشارة إلى ذلك ، وذلك لأنّ النفي إذا كان متوجّها إلى مثل مثله ، يدلّ على ثبوت المثل بالضرورة وعلى ثنويّة الموجود ، ويلزمه التشبيه في عين التنزيه ، والكثرة في نفس الوحدة .
وأمّا عكسه فيستفاد من قوله : ( " وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " فنزّه وأفرد ) وذلك من الحصر الدالّ عليه بخصوصيّة تركيبه ، وبديع نظمه وترتيبه .
فلئن قيل : أما صرح في نظمه أنّ الجمع بين التثنية والتشبيه ، والإفراد والتنزيه ممّا يحترز عنه في الاعتقاد ؟
قلنا : إنّه من خصائص القرآن الختميّ والاعتدال الحقيقيّ الجمعيّ أنّه قد التئمت الأضداد لديه وتعانقت فيه ، حيث لا يبقى للغير والسوي هناك عين ولا أثر ، كما قيل :
تعانقت الأطراف عندي وانطوى .... بساط السوي عدلا بحكم السويّة
فتأمّل .
دعوة نوح عليه السّلام إلى التنزيه
ثمّ إنّ الإنسان من حيث هو هو إنّما يقتضي بحسب قبوله الذاتي هذا النوع من الكمال ، ولما كان زمان بعثة نوح عليه السّلام ما كان أوان ظهور ذلك الكمال ، بل حكم قهرمان الأمر فيه اختفاؤه ، ما أجاب قوم نوح له ( ولو أنّ نوحا جمع لقومه بين الدعوتين ) على ما هو مقتضى قابليّتهم الأصليّة ( لأجابوه ) .
( فدعاهم " جِهاراً " ) [ 71 / 8 ] في مظاهر الصور ومواطن التشبيه تنزّلا إلى درك إدراكهم (ثمّ دعاهم ) بكلمته المبعوثة في زمانهم على لسانهم ( " إِسْراراً " ) [ 71 / 9 ] في مكامن المعاني ومسالك التنزيه ، تسليكا لهم إلى مراقي كمال حقيقتهم .
ثمّ إنّه لما شاهد منهم التصامم والتقاعد عن دعوته إيّاهم ، وعرف ممّا نوّر عليه من مشكاة نبوّته أنّهم إنّما عملوا ذلك لما في قوّة قابليّتهم من طلب القرآن الكماليّ الذي هو غاية حقيقتهم النوعيّة ، وعرف أيضا أنّ كلمته النوحيّة المبعوثة في زمانه ذلك على ألسنة قومه إنّما يفصح عن التنزيه الفرقاني ، وذلك هو الذي عليه كلمتهم ولسانهم في زمانهم .
فاقتضى ذلك أن يعتذر عن نفسه فيما صدر عنه من الإخفاء والفرقان ، فأشار إلى ذلك الاعتذار المترتّب على عرفانه بما رأى منهم بقوله : ( ثمّ قال لهم " اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه ُ كانَ غَفَّاراً " ) [ 71 / 10 ] أي أمرهم بالستر لربّهم في صور الشعائر الشرعيّة ، إنّه قد بالغ في ستره نفسه ، على ما هو مقتضى بعثته ومؤدّى رسالته ونبوته .
ثمّ لمّا بلَّغ ما كان له أن يعبّر عنه لسان رسالته وما أنزل إليه أن يعلَّمهم به ويوقفهم عليه ، وشاهد منهم ما شاهد من النفار والفرار ، جاء يعرض ذلك أداء لحق التبليغ .
فلئن قيل : إذا كان نوح عارفا بالأمر على ما هو عليه من مشكاة نبوّته .
وعلم أنّ عدم إجابتهم دعوته إنّما هو لما في جبلَّتهم من طلب القرآن الكماليّ الجمعيّ ، وكان الأنبياء مبعوثين لتكميل أممهم ، فما سبب توقّفه في إبلاغهم القرآن الكمالي مع طلبهم إيّاه ؟
قلنا : إنّ الأمم وإن كان متوجّه طلبهم الأصليّ ذلك الكمال القرآنيّ .
ولكن لهم بحسب نشأتهم الطارية على أصلهم ألسنة بها يتدرّجون إلى مراقي فهمه ، والأنبياء مبعوثون بحسب تلك الألسنة ، فإنّ كل نبيّ إنّما أرسل بلسان قومه .
اعتذار نوح عن قومه
ولذلك وقف نوح موقف الاعتذار عن قومه ( و" قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً " ) [ 71 / 6 ] ، أي ما رضوا بذلك ولا قنعوا بما بلَّغتهم من الدعوة الفرقانيّة ، لما في جبلَّتهم من الأهليّة للجمعيّة القرآنيّة الكماليّة ، بحسب قابليّتهم الأصليّة .
وإذ قد علم أنّ مقتضى تبليغه ومؤدّى أحكام رسالته إنّما هو الستر ، وما صدر عن قومه من الفرار عن دعوته وعدم السماع لها كلَّه يستلزم ذلك .
فهم أجابوه فعلا في صورة الإباء والإعراض ، أظهر ذلك أيض ( وذكر عن قومه أنّهم تصامموا عن دعوته ، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته ) أي هم علموا بحسب استعدادهم الأصلي أنّ الذي يجب عليهم في هذه الدعوة ، هو هذا النوع من الإجابة ، وهو الذي في صورة الإباء ، حتّى يعلم أنّهم ما قنعوا بهذا القدر من العرفان ، ولهم استيهال ما وراء ذلك من الكمالات المدّخرة لنوعهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعلم العلماء باللَّه ما أشار إليه نوح في حقّ قومه من الثناء عليهم بلسان الذمّ ) في مقابلة ما صدر عنهم من إجابة دعوته في صورة الإباء والاستكبار ، والقيام بما يجب عليهم من عين العصيان والإصرار .
وأمثال هذه الإشارات إنّما يفهمها العلماء باللَّه ، ممن له ذوق المشرب الختميّ الإحاطيّ ، حتّى يعرف شرب كلّ من الأنبياء من ذلك المجمع المعتنق للأطراف ، وقدر ما لكلّ منهم من الدخل فيه ، فهذا دخل نوح فيه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وعلم) أيضا أولئك العلماء ( أنّهم إنما لم يجيبوا دعوته ) بلسان التلقّي والإقبال على ما هو المفهوم من لفظ الإجابة مطلق ( لما فيها من الفرقان ) على ما هو مقتضى بعثته من الستر والإخفاء ، الذي عليه قهرمان زمانه .
( والأمر ) في نفسه وبحسب الكمال الإنسانيّ الذي جبّل عليه حقيقته ( قرآن ) ضرورة أنّه الكون الجامع المتّصف بالوجود ، وهو إنّما يقتضي الوحدة الجمعيّة القرآنيّة ، إذ لا كثرة في الوجود و ( لا فرقان ) فيه أصلا ، فإنّه إنّما يقتضيه العدم ضرورة أنّه كونيّ .
( ومن أقيم ) بحسب حقيقته الأصليّة ( في القرآن ) ويكون موطنه هناك ( لا يصغي إلى الفرقان ، وإن كان فيه ) بحسب نشأتها الطارية عليها في كلمته الظاهرة في ذلك الزمان ، وذلك هو الذي أوقع كلمته هناك بحسب تطوّراته الاستيداعيّة .
وذلك وإن كان لسانه المفصح عنه ولكن ما طلب فهمه ، إلَّا مقتضى حقيقته الأصليّة فلذلك ما أصغى إلى الفرقان لعدم دلالته على القرآن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ القرآن ) الجمعيّ الوجوديّ ( يتضمّن الفرقان ) الفرقيّ الكونيّ ، ضرورة أنّ الجمع يستوعب جميع ما في التفرقة من الأفراد ، مع الهيئة الجمعيّة التي ليس فيها شيء من ذلك ، فله دلالة عليه بالتضمّن ( والفرقان ) الفرقىّ ( لا يتضمّن القرآن ) الجمعيّ ولا دلالة عليه أصلا ، فلذلك ما أصغي إليه فظهر أنّ صاحب الجمعيّة هو القرآن ، فيكون القرآن أكمل من الفرقان .
المناسبات الحرفية في ألفاظ الإنسان والفرقان والقرآن
وهاهنا تلويح له مزيد دخل في تبيين هذا الكلام وتحقيقه ، وهو أنّ الألف والنون - على أيّ ترتيب كان إذا كان تامّ الدلالة يدلّ على النفس والذات ، التي هي مبدأ ظهور الوجود ومصدر إظهار العلم ، الذي مظهره الكلام لا غير ، والذي يصلح لظهور ذلك فيه من الكائنات الإنسان ، وما يظهره من جوارحه أعني اللسان والبنان .
ثمّ إنّ الإنسان مشتمل عليها ظاهرا وباطنا : أمّا باطنا فلأنّ حقيقته هي البرزخ بين العلم والوجود ، وأمّا ظاهرا فلأنّ صورته كونيّة وجوديّة ، فهي مشتملة عليهما كما سبق بيانه ، ولذلك تراه محفوفا بهم .
وأمّا البنان والبيان : وإن كان بحسب المعنى والبطون لهما الإحاطة بالعلم والوجود بسائر مراتبهما ، لكن صورتهما كونيّة صرفة ، فلذلك تراهما متأخّرين فيهما وفي الفرقان والقرآن ، اللذين بهما تمّ صور تنوّعاتهما .
ثمّ إنّ القرآن له خصوصيّة إلى الكمال الإنساني ، وهي أنّه إذا حوسب عقدا ما يمتاز به عن الإنسان ونسب إلى ما به يمتاز الإنسان عنه يكون ذلك نسبة النصفيّة التي هي أخصّ نسبة بالجمعيّة ، وذلك لأنّ النصف هو البرزخ الجامع وأمّا الفرقان فإذا حوسب كذلك يكون ذلك النسبة هو الثلثية ، التي هي التفرقة الصرفة .
وجه اختصاص القرآن بالخاتم صلَّى الله عليه وآله
وإذ قد عرفت إنّ الرسل إنّما أرسلت بلسان قومهم ، وهو ما ظهر عليهم في طيّ نشأتهم الطارية على أصلهم ، ليتدرّجوا بها إلى فهم القرآن الكماليّ الذي هو كمال آدم بحسب حقيقته الإنسانيّة ، ظهر لك أنّ صاحب القرآن لا يكون إلَّا خاتما .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا ما اختصّ بالقرآن إلَّا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ) الذي به تمّ دائرة الكمال الإنساني ، وبتلك النقطة حصل لها الصورة الجمعيّة الوحدانيّة وجودا وشهودا ، ظهورا وإظهارا ، شعورا وإشعارا وذلك لأنّ سائر الأنبياء لهم العلم بالجمعيّة القرآنيّة ، فلهم الظهور به ، ولكن أمر إظهاره متوقّف على أنّ أمم زمانه مستعدّون لأن يكونوا امّة الخاتم ، وإليه أشار بقوله : ( وهذه الامّة التي هي خير امّة أخرجت للناس ) بميامن مناسبتهم له وحسن تأسّيهم به .
التلويحات العددية في لفظ محمّد والإنسان ونوح
ومن التلويحات التي لها كثير دخل هاهنا أنّ للإنسان من العقود ، التسعة المتّسعة للكلّ ، وأمّا محمد فقد اشتمل عليها بزيادة اثنين : أحدهما إشارة إلى كماله ، والآخر إلى ختمه ، ولا يخفى على الفطن أنّ العقد الإنسانيّ بضم هذا الواحد الكماليّ إليه قد بلغ إلى ما يرجع إلى الواحد الجامع بين الوحدة والكثرة ، فمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم هو الواحد الجامع إنسانا وبيانا ، ظهورا وإظهارا ، فهو المثل الذي لا يمكن مثله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فليس كمثله شيء ، فجمع الأمر في أمر واحد ) لأنّه قد أدرج كلَّا من المتقابلين في الآخر ، والأمر لا يخلو منهما فجمع الكل في واحد .
وأمّا نوح : وإن كان له أيضا ذلك العقد الكامل رسالة ونبوّة ولكن ما ظهر في « محمد » من الزيادة الختميّة قد تبطَّن فيه منفصلا ، وما ظهر فيه من الكثرة الفرقيّة تبطن في « محمد » متوصّلا مجتمعا ، ولذلك ما كان له أن يظهر مثل ذلك الإظهار ، ولا أن يأتي بيانا تامّا وكلمة جامعة .
الفوارق بين دعوتي نوح ومحمّد عليهما السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلو أنّ نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا أجابوه ) وفي قوله : « لفظا » إشعار بما سبق من أنّ الرسل ما يظهرون الحقائق في صورة الألفاظ ذات الإنباء إلَّا مطابقين للسان أممهم الظاهرة به ، فلذلك ما أتى نوح بالقرآن لفظا ، وأتى به محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّه شبّه ونزّه في آية واحدة ، بل في نصف آية ) على ما سبق بيانه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ونوح دعا قومه ليلا من حيث عقولهم وروحانيّتهم ) دعوة تنزيه ( فإنّها غيب ) بالنسبة إلى هذه النشأة ( ونهارا ) أيض ( دعاهم من حيث ظاهر صورهم وحسّهم) دعوة تشبيه ( وما جمع في الدعوة ) بينهما ، وما جعل الأمرين أمرا واحدا ، على ما هو مقتضى كمال الحقيقة الإنسانيّة ( مثل " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " [ 42 / 11 ] ، فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا ) حسبما يقتضيه الفرقان من التفرقة .
( ثمّ قال ) معتذر ( عن نفسه : إنّه دعاهم ليغفر لهم ) على ما هو مقتضى أمر قهرمان الوقت ودعاء ألسنة استعدادات أهاليه من الستر ، فإنّه مبدأ ظهور سلطان النبوّة وإظهار ما اتّفق عليه كلمة أعيان تلك الدولة ، يعني وضع الصور وإسبال الستائر ( لا ليكشف لهم ) على ما هو مقتضى أمر الولاية وسلطانها ، فإنّه إنّما يمكن ظهوره بعد ختم السلطنة الأولى .
واعتذر عن قومه أيضا بأنّهم عرفوا لسان دعوته (وفهموا ذلك منه صلَّى الله عليه وسلَّم ، لذلك "جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ" ، وهذه كلَّها صورة الستر التي دعاهم إليها ، فأجابوا دعوته بالفعل ، لا بلبّيك ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ففي " لَيْسَ كَمِثْلِه ِ شَيْءٌ " [ 42 / 11 ] إثبات المثل ونفيه ) على ما سبق بيانه بحسب المعنى الواحد ، لا على أن يكون الكاف زائدة على أحد التقديرين ، فإنّه يلزم أن يكون دلالته على المعنيين بحسب الوضعين المتغايرين وهو خلاف المقصود ، فإنّ المقصود أنّه جمع بين المتقابلين في معنى واحد ( ولهذا قال عن نفسه عليه السّلام أنّه أوتي جوامع الكلم ) بين المغفرة والكشف ، والإظهار والستر .
( فما دعا محمّد قومه ليلا ونهارا ) أي إخفاء وإظهار (بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل) " يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ " [ 22 / 61 ] .
وإذ كان أمر نوح دعوته بالاستغفار وقد بيّن الاختلاف والتفاوت بين ما أتى به نوح عليه السّلام وما جاء به محمّد عليه الصلاة والسّلام في أصل التوحيد .
شرع يبيّن وجه سريانه في سائر ما يتفرّع عليه من الحكم ، من جملة ذلك ما أشير إليه بقوله : قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال نوح في حكمته ) المترتّبة على الاستغفار مشيرا إلى غايته ( "يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ") أي يفيض عليكم من سماء القدس وعلوّ التنزيه إذا توجّهتم نحوه بالاستغفار ذوارف الحقائق التنزيهيّة وطريق استحصالها من الاعتبارات العقليّة التي هي مبنى قواعد النظر.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهي المعارف العقليّة في المعاني والنظر الاعتباري ) الذي منه يكتسب تلك المعاني ويستحصل تلك النتائج .
(" وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ " أي بما يميل بكم إليه) من العلوم اليقينيّة والعقائد الراسخة المميلة قلوبكم نحوه ، (فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه) ، إذ من شأن الأمور اللطيفة الخالية عن الاختلافات الهيولانيّة والاعوجاجات الجسمانيّة ، الصافية عن صدء الغواشي الغريبة والعوارض المشخّصة الظلمانيّة ، أن يرى الناظر فيها صورته ، والعقائد العلميّة الكليّة لها تلك اللطافة بأتمّ وجه ، فهي إنما يظهر لأربابها صورتهم - لاغير .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فمن تخيّل منكم أنّه رأى) أي رأى الحقّ (فما عرف) الحكمة الإلهيّة لجهله بتلك الضابطة الكلَّية ، ( ومن عرف منكم أنّه رأى نفسه فهو العارف ، فلهذا انقسم الناس إلى عالم وغير عالم ) ، وإلَّا فالكل قد استحصل عقيدة واعتكف عندها واطمئنّ بها .
ومما يؤيّد هذا م " قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا من لَمْ يَزِدْه ُ مالُه ُ " ( و " وَلَدُه " وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري ) بمقدمتيه المزدوجتين ازدواج الأبوين.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والأمر موقوف علمه على المشاهدة ، بعيد عن نتائج الفكر " إِلَّا خَساراً " ) وضياعا لرأس المال ، يعني المقدّمات الحاصلة لهم والقواعد التي يميل إليها قلوبهم ويستنتجون بها العقائد ويستربحون بها الأموال .
وإذ كان ذلك في المعارف الإلهيّة مما لا يجدي بطائل ، وطريق النظر فيها منبتّ ما يفيض على السالك فيه بطلّ ولا وابل ( فما ربحت تجارتهم ) .
وإذ تزلزلت تلك القواعد ، لأنّ مسلكهم ذلك مثار الشبه والشكوك التي بها يضطرب القواعد ويزول عن مستقرّه ( فزال عنهم ما كان في أيديهم ممّا كانوا يتخيّلون أنّه ملك لهم ) وهذا أيضا مما يدلّ على أنّ العقائد صور أنفس المعتقدين ، فهي عند ترقّيها بمدارج الكمال تتحوّل صورتها ، فلا بدّ من زوال تلك العقيدة التي هي صورتها أولا .
هذا ما في الكلمة النوحيّة والنوحيين من هذه الحكمة ( وهو في المحمّديين " وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه " [ 57 / 7 ] ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وفي نوح: " أَلَّا تَتَّخِذُوا من دُونِي وَكِيلًا " [ 17 / 2 ] ، فأثبت الملك لهم ) في الحكمة النوحيّة ( والوكالة لله فيه) وأمّا في المحمّديين ( فهم المستخلفون فيهم ) أي في أنفسهم وفي جميع الممالك ( فالملك لله ) .
(وهو) في النوحيّين ( وكيلهم ، فالملك لهم ، وذلك ملك الاستخلاف ) ، فإنّه ليس للعبد أن يملك بالاستحقاق قطعا .


ملك الملك
قال الشيخ رضي الله عنه : (وبهذا) أي بما ظهر من هذه الحكمة وهو أنّ أحوال العقائد التي هي أملاك أصحابها النوحيين الخاسرين في التصرّف فيها ، وهي بالنسبة إلى أصحابها المحمّديين ممالك مستخلفين فيها ومنفقين منها كلَّها حقّ . كما سيجيء تحقيقه ففي هذه الصورة.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كان الحقّ ملك الملك ، كما قال الترمذي ) في أسئلته ، وقد أجاب الشيخ عنه في الفتوحات "المكية " .
فإنّ الحكيم محمّد بن علي الترمذي قد سأل الخاتم للولاية عن أسئلته ، وكان قبل الشيخ بأربعمائة سنة تقريبا ، وصرّح بأنّ الخاتم هو الذي يجيب عنها ،ومن جملتها : « كم مجالس ملك الملك»؟
فأجابه أوّلا بأنّه على عدد الحقائق الملكيّة والناريّة والإنسانيّة واستحقاقاتها الداعية لإجابة الحقّ فيما سأله منه .
ثمّ بسطه بما معناه : إنّ الكلام هاهنا مسبوق بمعرفة ملك الملك ، وذلك موقوف على معرفة الملك ، وهو الذي يقضي فيه مالكه بما شاء فلا يمنع عنه . . . فالمأمور هو الذي يقال له الملك ، والآمر هو المالك . . . سواء كان المأمور دونه أو مثله أو أعلى . . . فإنّ قول العبد : « اهدنا » أمر منه ، وإن سمّي دعاء .
فإذا فهمت هذا وعلمت أنّ المأمور قد امتثل أمر آمره ، فأجابه فيما سأل منه ، أو اعترف بأنّه يجيبه إذا دعاه لما يدعوه إليه .
إذا كان المدعوّ أعلى منه فقد صيّر نفسه - هذا الأعلى - ملكا لهذا الدون ، وهذا الدون هو تحت حكم هذا الأعلى وقدرته وأمره ، فهو ملكه بلا شكّ ، وقد قرّرنا أنّ الدون الذي هو بهذه المثابة - قد يأمر سيّده ، فيجيب السيّد لأمره ، فيصير بتلك الإجابة ملكا له .
وإن كان عن اختيار منه فيصحّ أن يقال في السيّد : « إنّه ملك الملك » لأنّه أجاب أمر عبده ، وعبده ملك له ، والمأمور هو الملك ، فالسيّد عند الإجابة ملك الملك . فعلم وجه التفاوت بين الكلمتين في هذه الحكمة .
معنى المكر في الدعوتين
ومن جملة تلك الحكم ما قال تعالى حكاية عن قوم نوح : ( "وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً "[ 71 / 22 ] لأنّ الدعوة إلى الله مكر بالمدعوّ ) ، " حيث قال نوح : « ربّ إنّي دعوتهم » مطلقا ، ولا شكّ أنّ الحقّ عين المدعوّ والداعي والبداية والنهاية ، فالدعوة مكر بالمدعوّ ضرورة ( لأنّه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية ) .
وأمّا محمّد فما أطلق في دعوته بل قال : ( " أَدْعُوا إِلَى الله " على بصيرة ) أي على وقوف وعلم بأنّه بحسب هويّته الجمعيّة عين الكلّ .
لكن الدعوة إنّما هي بحسب أسمائه المهيمنة في وقتها ، ( فهذا عين المكر على بصيرة ) وحيث قيّد دعوته بالبصيرة علم أنّه إذا كان عين الكل يستدعي أن يكون الدعوة حقّا ، إذ هي عينه ، (فنبّه أنّ الأمر له كلَّه ) فليس للداعي دخل في الدعوة أصلا .
وإذ ليس في الدعوة النوحيّة هذا التنبيه ، بل إجمال من القول ، أجمل قومه أيضا في الجواب ، (فأجابوه مكرا ، كما دعاهم ) امتثالا لما أمرهم لسان الوقت وعملا بمقتضاه .
ولما كان في الدعوة المحمّديّة ذلك التفصيل ، فهم قومه منه ذلك.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فجاء المحمّديّ وعلم أنّ الدعوة إلى الله ) لما كانت عبارة عن طلب الإقبال والتوجّه نحو الاسم المهيمن في وقته بالتزام مقتضياته والإعراض عمّا يقابل ذلك الاسم بالكفّ عمّا يستدعيه (ما هي من حيث هويّته ) .
إذ نسبة الهويّة المطلقة مع الكلّ سواء ، ( وإنّما هي من حيث أسمائه ، فقال : "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً " [ 19 / 85 ] ( فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم ) الذي هو قهرمان الوقت ، وإن كان من الأسماء الكلَّية المحيطة بالكلّ ، لكن الاسم من حيث هو له طرف الظهور فالطرف الآخر يقابله ويوجب الأمر للمقبلين إليه أن يجتنبوا عن أحكام ذلك المقابل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعرفنا أنّ العالم كان تحت حيطة اسم إلهي ) هو قهرمان الوقت كالرحمن في زمان الخاتم ، فله السلطنة على العالمين ( أوجب عليهم أن يكونوا متّقين ) عن أن يقبلوا وجوه كماله نحو غيره ، وينسبوا الصفات الكماليّة والأحكام الوجوديّة إليه ، فإنّ المنتسب إلى غيره إنّما هو النقائص الإمكانيّة والأحكام العدميّة - لا غير ، كما سبق تحقيقه في بيان معنى التقوى .
مكر قوم نوح
ثمّ إنّ نوحا لما أطلق الدعوة والمكر بها إطلاق تفرقة بعدم تقييدها وبالغ في تلك التفرقة حيث قال : " لَيْلًا وَنَهاراً " [ 71 / 5 ] أجاب قومه بما يطابق ذلك في التفرقة والمكر ( فـ " قالُوا " في مكرهم " لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً " ) [ 71 / 23 ] فصرّحوا في صورة تفرقة الآلهة بالعدد الخمس الذي هو امّ التفرقة العدديّة كلَّها ،على ما سبق .
هذا وجه الإجمال ، وأمّا وجه التفصيل منه ، فله مجالي على منصّات التأويل حسب مدارج الأفهام ودخلها في حقائق التنزيل ، وأجلاها أن يحمل على المجالي الخمسة .
ولا يخفى وجه النسبة الدالَّة عليها بترتيبها من الأعلى إلى الأنزل ، فلا نوضحه أكثر من ذلك .
فبهذه الوصيّة مكروا معه مكرا كبّارا ، لأنّهم إنّما تواصوا على عدم تركهم تلك الصور شيئا منها لئلَّا يفوتهم من الجمعيّة شيء.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء ، فإنّ للحقّ في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله ) .
وأمّا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم لما أطلق الدعوة إطلاق جمع بضمّ القيد إليها ، ظهر في قومه الجمعيّة الإطلاقيّة ، وسرت في سائر أحكامه ، ولذلك ترى ما يوازي تلك الوصيّة ( في المحمّديين "وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه ُ " [ 17 / 23 ] أي حكم ) بما مؤدّاه تلك الجمعيّة التي لا يشذّ منها شيء من تلك الصور أصلا ، فأظهر تفرقة التشبيه في صورة جمعيّة التنزيه ، يعني ضمير الغائب في الوصيّة ، كما أظهر جمعيّة التنزيه في صورة تفرقة التشبيه في الدعوة ، يعني الدعوة المقيدة .
وقضى ربك ألَّا تعبدوا إلا إيّاه
ثمّ إذا تقرّر أنّ المعبود في أيّ صورة كان إنّما هو الحقّ ( فالعالم يعلم من عبد ) في تلك الصور ( وفي أيّ صورة ظهر حتّى عبد ) فإنّ الصور مختلفة في الحيطة والكمال وقبول ظهور الوحدة الجمعيّة وعدمه ( وأنّ التفريق والكثرة ) في أحديّة الجمعيّة الإلهيّة ( كالأعضاء في الصورة المحسوسة ) من الشخص الواحد ، فإنّ له صورة محسوسة ظاهرة ومعنويّة باطنة ، كلّ منهما ذات كثرة ، ولا يقدح ذلك في وحدة الشخص بوجه ، على تخالف مراتب تلك الكثرة في كلّ من تينك الصورتين .
فإنّ الأعضاء المحسوسة : منها ما هي بمنزلة الرؤساء في إنفاذ الأمر ، ومنها ما هي بمنزلة الخدّام في إعداد ما ينبغي لها ، ومنها ما هي بمنزلة الأساس والأعمدة ، ومنها ما هي بمنزلة الزوائد والفضلات .
( وكالقوى المعنويّة في الصورة الروحانيّة ) فإنّ منها ما هو رئيس الكلّ ، إنّما يقوم أمر الوحدة الشخصيّة به ، ولا يشذّ من محيط حكمه شيء منها وهو القلب فإنّ له أمر أحديّة جمع الأعضاء كلَّها ، بحيث لا يمكن بقاء شيء منها إلَّا بوصول المدد الوجودي منه إليه ، ولا ينتهض أحد من الجوارح لإقامة العبادة إلَّا بأمره - أيّة عبادة كانت ، لأيّ معبود كان فهو المعبود حقيقة .
( فما عبد غير الله في كلّ معبود ) إلَّا أنّ العبّاد على اختلاف طبقاتهم فرقتان :
منهم من جاوز أسافل الصور ومهابط كثائفها وما وصل إلى أعالي المعاني ومطالع لطائفها ، فهم المسخّرون تحت سلطان الخيال ، ممتثلين أوامره ، عابدين إيّاه ، فمعبودهم لا يكون إلَّا متعيّنا بالتعيّن التقابلي ، وواحدا بالوحدة المقابلة للكثرة ضرورة ، سواء كان ذلك من الأصنام الصوريّة المحسوسة ، أو العقائد المعنويّة المعقولة .
ومنهم من جاوز ذلك ووصل إلى أعالي المعاني ، وبلغ المرتبة الجمعيّة القلبيّة ، وتحقّق بأحديّة جمعيّتها فمعبودهم لا يكون إلَّا المتعيّن بالتعيّن الإحاطيّ ، والواحد بالوحدة الإطلاقيّة الجمعيّة ، سواء كان قبلة توجّهه الصورة المحسوسة أو المعاني والهيئات المعنويّة المعقولة .
وأشار إليهما بقوله رضي الله عنه : ( فالأدنى من تخيّل فيه الألوهة ، ولولا هذا التخيّل ما عبد الحجر ولا غيره ) فمعبودهم إنّما هو المتخيّل الذي تصوّر فيه الألوهة ، لا المحسوس ( ولهذا قال : " قُلْ سَمُّوهُمْ "[ 13 / 33 ] فلو سمّوهم ، لسموهم حجرا أو شجرا أو كوكبا ولو قيل : «من عبدتم ؟» لقالوا : «إلها» ) من الآلهة ( ما كانوا يقولون : «الله» ولا «إله» ) الدالَّان على الذات الواحدة ، ضرورة أنّ معبودهم متعيّن بالتعيّن الفرقي المنكر ، غير المعروف عندهم - وإن كان معروفا في نفسه .
( والأعلى ما تخيّل) فيه الالوهيّة ( بل قال ) أي أظهر من اليقين القلبي ( هذا مجلى إلهيّ ينبغي تعظيمه ) حسبما يستحقّه من الرتبة التي تليق به ويفصح عنه لسان الشرع في ذلك الزمان بين المجالي ( فلا يقتصر ) على عبادة ذلك المجلى وتعظيمه بالعبادة فقط .
( فالأدنى صاحب التخيّل ) لما كان معبوده إنّما هو المتخيّل - لا غير - ولا يسمّى الأصنام إلَّا بأسمائهم الطبيعيّة ، ولا يظهر غير ذلك ( يقول : " ما نَعْبُدُهُمْ " ) أي تلك التعيّنات المتقابلة الغائبة عن نظرهم في الحجب الإمكانيّة ( " إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى " [ 39 / 3 ] والأعلى العالم ) الواصل إلى أحديّة الجمع الذاتي ( يقول : * ( فَإِلهُكُمْ إِله ٌ واحِدٌ ) * ) بالوحدة المطلقة ( " فَلَه ُ أَسْلِمُوا " ) قياد عبادتكم ، وإليه أسندوا الوجود وما يتبعه من الأوصاف والنسب ( حيث ظهر ) في المجالي المقيّدة ، فإنّها مظهر الوحدة الإطلاقيّة ، لا غير ( "وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ" [ 22 / 34 ] الذين خبت نار طبيعتهم ) أي خمدت وسكنت فإنّ الخبت : الاطمئنان .
وما قيل : « إنّه من الخبو » فهو خلاف الظاهر ، وذلك وإن كان على قاعدة التحقيق صحيحا إلَّا أنّ الشيخ قلَّما يرتكبه ، سيّما في وجوه التأويل .
فإنّ الذين سكنت فيهم لواعج نيران الطبيعة وانقطعت أحكام تسلَّطها عنهم هم الذين علموا الأمر على ما هو عليه وأظهروا ذلك ( فقالوا : « إلها » ) لتلك الموجودات المعبودات ( ولم يقولوا : طبيعة ) ويسمّوهم بأساميها .
تأويل الإضلال
ثمّ إنّ من جملة الحكم التي للكلمة النوحيّة ما نسب إلى قومه من الضلال بقوله : ( " وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً " أي حيّروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب ) حيث قالوا : " فَإِلهُكُمْ إِله ٌ واحِدٌ "[ 2 / 163 ] مع تكثّر المظاهر والتعيّنات.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( " وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ " لأنفسهم ، المصطفين ، الذين أورثوا الكتاب أوّل الثلاثة ) .
بقوله تعالى : " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا من عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِه ِ " [ 35 / 32 ] برفع أوصافها الامتيازيّة التي بها يتقوّم ذاتها وقلع مواد تشخّصاتها بالكلَّية ، حيث لا يبقى لها أثر ولا حكم ولا عين أصلا ، فيكون ظالما عليها في عدم إبقاء آثارها وإخفائها في ظلمات أوصافها العدميّة الكونيّة .
ثمّ إنّ ذلك لما كان في المآل ترقّيا لها إلى مراقي كمالها ، استعمل « الظلم » باللام تنبيها إليه ، فلذلك تراه أوّل من يرث الكتاب ( فقدّمه على « المقتصد » و « السابق » " إِلَّا ضَلالًا " [ 24 / 71 ] : حيرة ) .
وأمّ ( المحمّديّ ) فطلب الزيادة في ذلك حيث قال : « ربّ ( زدني فيك تحيّرا » ) وجعل ذلك مقاما ، حيث حكى عن مثل المنافقين من قوم موسى: ( "كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيه ِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا " ) [ 2 / 20 ] .
ثمّ إنّ الإقامة مما لا يمكن في الوجود لأنّه حركة وسير كما قال تعالى : " بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " [ 50 / 15 ]
وقال : " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ" [ 55 / 29 ]
لكن الحركة أيضا مما لا يتصوّر للأعلى العالم ، فإنّها تستلزم الإعراض عن جهة ، والإقبال إلى ما يقابلها ، وذلك مما ينافي مشهد الأحديّ الجمعيّ الذي موطنه ، اللهم إلَّا أن يكون ذلك حركة دوريّة ، فإنّ كلّ جهة ونقطة يعرض عنها في تلك الحركة فهي التي يقبل إليها في عين الإعراض عنها ، فهذه الحركة هي المناسبة له ، فلذلك قال :
الحركة الدورية وغيرها
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالحائر له الدور ، والحركة الدوريّة حول القطب ) ، حيث أنّ المتحرّك لم يختلف نسبته إلى القطب بالبعد والقرب ، وإن كان في كل لحظة معرضا عن جزء من أجزاء تلك المسافة ومقبلا إياها ، ولكن تلك الكثرة ما أثرت في وحدة نسبته إلى القطب ( فلا يبرح منه ) أي لا يتحرّك عنه أصلا ، فهي الجامع بين الحركة والسكون ، كما أنّ الحيرة جامعة بين العلم والجهل فهو معتنق الأطراف .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وصاحب المستطيل ) يعني الأدنى الذي يتخيّل صورة متعيّنة ويجعلها قبلة التوجّه ، وينتهض إليها معرضا عن الكلّ ، فإنّه إنّما يتصوّر ذلك في الحركة المستطيلة المستلزمة للإعراض عمّا هو المطلوب من التعيّنات والجهات ، فهو أبد ( مائل ، خارج عن المقصود ، طالب ما هو فيه ) ، كما قيل : "أراك تسأل عن نجد وأنت بها "
( صاحب خيال ) أي مثال متخيّل من الصور المجعولة له ( إليه غايته ، فله « من » و « إلى » وما بينهما ) ممّا فيه من المدارج والمقامات المختلفة بنسبة القرب والبعد .
( وصاحب الحركة الدوريّة لا بدء ) لسيرة ( فيلزمه « من » ولا غاية فيحكم عليه « إلى » ، فله الوجود الأتمّ ) الذي لا يقبل الزيادة أصلا من حيث الرتبة الذاتيّة التي له ، وجمعيّة الأطراف ، ( وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم ) بما ورثه أولا من الكتاب يعني القرآن الجمعيّ الفرقيّ .
تأويل الغرق في قوم نوح
ومن جملة تلك الحكم قوله فيهم أيضا : " مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً " [ 71 / 25 ] ( ممّا خطيئاتهم ) أي صور أعمالهم وأحكام تعيّناتهم الباطلة التي هي الخطاء ( فهي التي خطت بهم ) إمّا من « الخطو » ، أي تلك الصور هي التي ساقتهم ، وإمّا من « خطَّ بالقلم » ، أي الصور الكثيرة المتولَّدة عنهم في طيّ المراتب والمقامات تولَّد الصور الكتابيّة من القلم هي التي أعدّتهم لأن يغرقوا في بحار العلم باللَّه .
وهي الصور الكتابيّة التي أنزلت على الأنبياء وأرسلوا بها ، فإنّها هي التي أوردتهم مخاض العرفان ( فغرقوا في بحار العلم باللَّه ، وهو الحيرة ) التي لا تبقى معها صورة من الصور العلميّة والحقائق أصلا ، فإنّها " لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ " * [ 74 / 28 ] ("فَأُدْخِلُوا ناراً " في عين الماء ) .
و ( في المحمّديّين ) من هذه الحكمة ما يؤدّيه قوله : ( " وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ " [ 81 / 6 ] سجّرت التنور : إذا أوقدته ) ولا يخفى على الفطن ما بينهما من التفاوت في الجمعيّة القرآنيّة .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ من دُونِ الله أَنْصاراً " ) لفناء الكلّ في ذلك البحر ( وكان الله عين أنصارهم ، فهلكوا فيه ) من نفوسهم وأحكامها الامتيازيّة.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلى الأبد ، فلو أخرجهم إلى السيف "سيف الطبيعة " لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة ، وإن كان الكلّ لله وباللَّه ، بل هو الله ) أي وإن كان الساحل وجميع ما ينسب للبحر هو له وبه يوجد ، إذ بدونه لا يقال له ذلك ، بل الكل في نظر الشهود الجمعي هو البحر ،إذ ليس لذلك البحر ساحل.
لا ترم في شمسه ظلّ السوي ..... فهي شمس وهي ظل وهي فيء
وملخّص ما في هذه العبارة من الإشارة أن في عين الطبيعة ثلاث اعتبارات :
أنزلها كونها أثرا للذات وفعلا لها ، وهو المشار إليه بالطبيعة .
وبعده كونها صفة قائمة بها ، غير متحقّقه بدونها ، وهو المشار إليه بالسيف .
وأعلاها كونها عينها ، كما هو في نظر الأعلى العالم الذي هو الكامل في الإخلاص فعلم أنّ مشهود الأعلى ليس أمرا خارجا عن الطبيعة ، بل هو عينها ، لكن فيها مواطن بعضها أعلى ، وبعضها أنزل .
تأويل دعاء نوح على قومه
ومن جملة تلك الحكم ما ( " قالَ نُوحٌ رَبِّ " ) " لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ من الْكافِرِينَ دَيَّاراً " [ 71 / 26 ] ( ما قال : « إلهي » ، فإنّ الربّ له الثبوت ) باعتبار أن لكلّ نوع ربّا يخصّه ، فلا يختلف مقتضياته ويثبت على اقتضاء واحد ( والإله يتنوّع بالأسماء ) باعتبار الجمعيّة التي له. قال الشيخ رضي الله عنه : (فهو كلّ يوم في شأن فأراد بالربّ ثبوت التلوين ) فإنّ الاستثبات والتمكَّن في نظر التحقيق ما هو في عين التلوين والتجدّد ، لأنّ المقامات إنّما تصحّ عند الأعلى العالم إذا جاوز إلى مقابله ، وبه تمّ ظهوره ، فالصحيح من التمكين ما هو في عين التلوين ( إذ لا يصحّ إلَّا هو ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ " يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها ) أي يتحقّقوا بحقيقة البطون ، ولا يبقوا على ظاهر أرض الظهور ، عاكفين بمشاعرهم على سنائر" من سن" صورها التنزيهيّة وحجبها الإمكانيّة الاعتقاديّة ، على ما هو مقتضى دعوته بقوله لهم " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا " ليشاهدوا الحقّ في أسفل الحقائق ومركز الخفاء ، ولا يخصّوه بالعلوّ الذي في حيطة التقابل وهذا وإن كان دعاء لهم بحسب الحقيقة ، لكن بحسب تعيّناتهم التي بها هم الكافرون يكون عليهم ، ضرورة فنائها بالكلَّية عند هذا التحقّق . ( المحمّديّ ) له في هذه الحكمة وجوه :
منها قوله: ( « لو دلَّيتم بحبل لهبط على الله » ) ، وقوله : ( " لَه ُ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ " ) [ 2 / 255 ] .
الأوّل يدلّ على ثبوت تلك النسبة للذات ،
والثاني على ما لها من الأفعال .
ثمّ إنّ من شأن من يؤتى جوامع الكلم أن يثلث الدالّ في كل أمر .
لذلك قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا دفنت فيها ، فأنت فيها ، وهي ظرفك )
كما قال تعالى : ( " وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى " ) [ 20 / 55 ] فالأرض لها جامعيّة نسبة المبدئيّة والمعاديّة مع ما ذكر .
كلّ ذلك لأنّها وقعت مركزا ، والمركز مستجمع لوجوه الكثرة التي على محيط الظهور والإظهار جملة ، فإنّه أصل تلك الكثرة .
ثمّ إنّ نوحا إنّما دعي عليهم بتلوينهم من ظاهر أرض الظهور إلى باطن خفائها ، ( لاختلاف الوجوه من الكافرين ،الذين " اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ " و " جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ " طلبا للستر) على ما هو مقتضى دعوته لهم ( لأنّه دعاهم ليغفر لهم ) السرائر الإلهيّة وأسرار الربوبيّة في صور الشرايع وشعائرها حتّى يتحقّقوا بالجمعيّة الكماليّة ، لا ليغفر عليهم ويستر عنهم ذلك ، ( والغفر :الستر ).
(" دَيَّاراً " : أحدا ) ، أي إنّما دعي عليهم بعدم إبقاء ربّه على ظاهر أرض الظهور منهم أحدا ، ويصيّرهم في باطنه ( حتّى تعمّ المنفعة ) للأمم الآتية ( كما عمّت الدعوة ) لأمم زمانه ، فإنّ الدعوة إنّما هو إلى ما يطلبه ألسنة استعداداتهم بقوله : " وَما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِه " [ 14 / 4 ] ، وهو ما عليهم من الستر .
ثمّ إنّ وضع الصور الشرعيّة وإخفاء الحقائق الإلهيّة كما أنّه يتضمّن الرسالة بلسان قومه خاصّة ، يتضمّن المنفعة لسائر الأمم الآتية ، لبقاء تلك الصور بعد واضعيها ، وأمّا المنفعة ووجه عمومها للأمم فبما يعدّهم للترقي عمّا يعتكفون عنده ، وعلم من هذا سبب التعبير عن الدعاء بالمنفعة ، ووجه مقابلتها للدعوة .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ " أي تدعهم وتتركهم ) فيما هم فيه من مجاورة أرض الظهور وسرائر الصور الإلهيّة ( " يُضِلُّوا عِبادَكَ "، أي يحيّروهم ) لأنّها موطن الحيرة والضلال بما اشتملت عليه من الجمعيّة والكمال وآيات الالوهيّة من العزّة والجلال .
(فيخرجوهم من العبوديّة إلى ما فيهم من أسرار الربوبيّة) فإنّ الظاهر الذي هو موطن شهودهم له السلطنة والخلافة ، باشتماله على المراتب وكماله وانقهار الكل تحت قهرمان قوّته وجلاله ، (فينظرون أنفسهم ) عند ضلالهم ( أربابا ) بإراءة المتحقّقين به إيّاهم ذلك المقام ( بعد ما كانوا عند نفسوهم عبيدا ) على ما هو مشهود كل أحد بنفسه ( فهم العبيد الأرباب ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" وَلا يَلِدُوا ") أي ما ينتجون ولا يظهرون (" إِلَّا فاجِراً " أي مظهرا ما ستر) يعني أسرار الربوبيّة ( " كَفَّاراً " أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره ) ، يعني أحكام العبوديّة ، فإنّهم ستروها بعد ظهورها عندهم ، ( فيظهرون ما ستر ) من العبوديّة وأحكامها ، لأنها عدميّة ممحوّة العين ، (ثمّ يسترونه بعد ظهوره) عندهم بإظهار أسرار الربوبيّة .
وهذا ممّا يوجب الحيرة للمسترشدين ، فإنّ العبوديّة لممحوّة مختفية بنفسها ، لا سبيل لظهورها ، وبعد ظهورها عند أنفسهم تراهم يسترونه (فيحار الناظر) الطالب حينئذ (ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ، ولا الكافر في كفره ، والشخص واحد) لا يقبل ورود الأحكام المتقابلة عليه .
ومن جملة تلك الأحكام ما قال نوح دعاء له ولقومه مفصّل
قال الشيخ رضي الله عنه : ( " رَبِّ اغْفِرْ لِي " أي استرني ) على أن يكون اللام صلة ( واستر من أجلي ) على أن يكون لام الأجل .
ومن جملة تلك الأحكام ما قال نوح دعاء له ولقومه مفصّلا. وإنّما جمعهما لأنّ مؤدّاهما واحد ، وهو ستر حقيقته وحقيقة الكلّ من الذين في حيطة دعوته بأحكام تعيّناتها ، حتّى يتمّ الأمر الذي يترتّب عليه المراد ، على ما هو مقتضى منصب النبوّة والرسالة من وضع الصور وتربيته الحقائق في ضمنها ، سيّما ما اختصّ به الكلمة النوحيّة ، فإنّها مؤسس هذا البنيان وممهّد قواعده.
وذلك لأنّ الحقائق لو لم تكن مختفية بصورها ، متلبّسة بأحكامها الساترة بل كانت ظاهرة للكل لم ينتظم أمر الوجود ، لعدم التفاضل حينئذ ، فلا ينقاد المأمور للآمر ، ولا المألوه للإله ، وإليه أشار الشيخ رضي الله عنه بقوله : ( فيجهل قدري ومقامي ، كما جهل قدرك ) ومقامك ( في قولك : " وَما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه " ) [ 6 / 91 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه : ("وَلِوالِدَيَّ " من كنت نتيجة عنهما ، وهما العقل ) المجرّد الذي له التأثير ( والطبيعة ) القابلة المتأثرة عنه دائما ، والطبيعة هاهنا مستعملة على العرف المتعارف .
قال الشيخ رضي الله عنه : (" وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ " أي قلبي ، " مُؤْمِناً " ، أي مصدّقا بما يكون فيه من الإخبارات الإلهيّة ، وهو ما حدّثت به أنفسهم) وفيه تنبيه على أنّ من انتسب إلى أحد من الكمّل واستحكم رقائق الانتساب بروابط المحبّة التي هي الطريق إلى مستفاض الاتّحاد ، ودخل بها قلبه وأخذ منه مكانا لنفسه ، فكلّ ما حدّثت به نفسه هو من الإخبارات الإلهيّة الواردة عليه ، وذلك لظهور سلطان الاتحاد .


( "وَلِلْمُؤْمِنِينَ " من العقول ) المنتسبة إلى المواد ( " وَالْمُؤْمِناتِ"من النفوس ) المنطبعة فيها .
("وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ" ) يعني المستهلكين في غياهب غيب الهويّة التي لا تميّز فيها أصلا ، (من الظلمات : أهل الغيب ، المكتنفين خلف الحجب الظلمانيّة ) يعني وراء أحكام البطون ومقتضيات غيب الذات ، فإنّهم يعبّرون عن تلك الأحكام بالظلمة ، كما قال الشيخ في اصطلاحاته: " يسمّى العلم بالذات ظلمة " .
(" إِلَّا تَباراً " [ 71 / 28 ] أي هلاكا ، فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحقّ ) ومحيا إطلاقه الذي الكلّ فيه عينه ، لا تحيّر فيه أصل ( دونهم ) .
وما يدلّ على هذه الحكمة ( في المحمّديين ) بأجمع كلمة : (" كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ") [ 28 / 188 ] .
( ومن أراد أن يقف على أسرار نوح ) وتفاصيل حكمه ( فعليه بالرقي في فلك نوح ) يعني فلك الشمس ( وهو في التنزّلات الموصليّة لنا - والسّلام ) .
فإنّه قال فيها :
« اعلم أنّ فلك الولاية هو الفلك الأعظم المحيط الأتمّ العقلي
وفلك النبوّة هو الفلك الأتمّ النفسي ،
وفلك الرسالة هو الفلك القريب الهيولاني ،
وفلك الجهل هو فلك الزحل ،
وفلك العلم هو الفلك المشتري ،
وفلك الشك هو الفلك المرّيخي ،
وفلك النظر هو الفلك الشمسي ،
وفلك الظنّ هو الفلك الزهري ،
وفلك التقليد هو الفلك العطاردي ،
وفلك الايمان هو الفلك القمري " .
وقال في موضع آخر منها: « لمّا طلب عقلي الرئاسة على العقول والتقديم قرع بهمّته باب القديم ، فنزل إليه الروح ،ملتفّا في بردة يوح » إلى هنا كلامه.
وتحقيق ذلك أنّ النظر العقليّ موطن التمييز الذي هو عبارة عن ستره الأعيان بصورها الخاصة الظاهرة بها عند المدارك ، المخفية إيّاها في المشاهد ، كما أن الشمس هي المظهرة للمحسوسات بصورها الكونيّة ، المخفية للأعيان بصورها الوجوديّة ، ولما كان لنوح نوع اختصاص بهذا الموطن الإظهاري النظري قال : " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً " [ 71 / 28 ] حسبما مرّ من التأويل .
وذلك لأنّ النظر العقليّ وإن كان موطن الحصر والتنزّل ، ولكن إذا ايّد بالقوّة القدسيّة السماويّة التي للأنبياء صار بجمعيّته للطرفين معدن الكمالات الحقيقيّة .
وفي طيّ عبارته من جمعيّة الترقّي والتنزّل إشارة إليه - فلا تغفل .
ثمّ هاهنا تلويح حرفيّ لا يبعد ذلك من قصد الشيخ في هذا التعبير ، وهو أن التركيب من الواو والحاء الذي هو صورة الوجه الباقي وفيه لسان الوحي الذي منه وصول الأنبياء إلى بساط الاستكمال والتكميل .
قد ابتني ذلك في الكلمة النوحيّة ، على ما هو أقصى نهاية التنزلات العشريّة الشعوريّة ، كما أنّه في « يوح » قد ابتنى على مبدأ تلك المرتبة .
وأمّا في « الروح » فقد ابتني على ما ترقى مرتبة أخرى في أمر الإظهار ، وهي المترتّبة على القدرة والاختيار ، كما لا يخفى على الواقف بالأصول الإحصائيّة .
.

4N9Quurkpb0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!