موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح علي التركة
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ صائن الدين التركة

فص حكمة علوية في كلمة موسوية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة علوية في كلمة موسوية


25 - فصّ حكمة علوية في كلمة موسوية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
وجه تسمية الفصّ
اعلم أنّ علوّ الرتبة في الوجود والتفوّق على البريّة في أمر الإنباء والإظهار إنما يتصوّر لمن اختصّ بين الكمّل بالتحقّق بما هو الأنزل رتبة والأسفل ظهورا ودرجة ، كما أنّ الأوّلية فيه إنما يتصوّر لمن تفرّد بالآخريّة والختميّة وبيّن أنّ الأنزل رتبة والأسفل درجة في الظهور إنما هو الكلام كما بيّن أمره والمختصّ بتحقّقه بين الأنبياء الذين هم أساطين بنيان الإظهار والإشعار هو موسى .
ولذلك قد ورد في التنزيل : "وَكَلَّمَ الله مُوسى تَكْلِيماً " [ 4 / 164 ] ، فإنّه يدلّ مع تحقّقه بالكلام ، على اختصاصه بمزيد من التكثير فيه ، على ما هو مقتضى تلك المرتبة ومن ثمّة تراه قد ورد في الآثار الختميّة : « إنّه تعالى كتب التوراة بيده ، كما أنّه خلق آدم بيده » ، فهو في أمر الإظهار بمنزلة آدم في الظهور ، وإنّه قد اختصّ بين الأنبياء بتكثّر الامّة .
وإذا عرفت هذا فقد ظهر لك وجه اختصاص حكمته بالعلوّ ، ومن هاهنا ترى من قابله في سباق ميدان الظهور إنما ركب مطيّة العلوّ والتفرّد بادّعائه ، وهو قد غلبه بذلك حيثما نصّ على اختصاصه له في صورة الخطاب الذي هو أرفع المنازل وأعلاها لدى التكلَّم بقوله تعالى : " إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى ".
وأيضا فإنّ في تلويح الكلمة الموسويّة ما يدلّ على اختصاصه بالحكمة العلويّة عند حذف المكرّر منها ، كما أنّ مادّته هي مادّة السموّ والسماء .
ثم إنّ من آيات علوّ الرتبة الإحاطة والحكم على من دونه بالغلبة والقهر ، ولذلك تراه عند سطوع تباشير ظهوره قد قتل أبناء امّته في ورود مقدمه في هذه المرتبة الكماليّة ، إمدادا لقوّة جمعيّته وقربانا له ، وإليه أشار بقوله :
حكمة قتل الأبناء من أجل موسى
(حكمة قتل الأبناء من أجل موسى ، لتعود إليه بالإمداد حياة كلّ من قتل من أجله ) وتحقيق هذ الكلام يحتاج إلى تذكَّر مقدمة حكميّة هي أنّ التعيّن الذي هو عبارة عن العوارض المميّزة لأفراد الحقيقة النوعيّة الواحدة بالذات ، تميّزا عرضيا كونيّا على ضربين :
أحدهم ما يتميّز به الشخص عند نفسه ممّا تصوّر به قلبه ، وهو صورة
باطنه المسماة بالهمة - وقد وقفت في صدر الكتاب عليه .
والآخر ما يتميّز به عند بني نوعه ممّا يظهر به عندهم من الأعراض الخارجيّة وهو صورة ظاهره المسمّاة بالهويّة وبيّن أن الأول منهما إنما يظهر في الشخص عند تمييزه وبلوغه كمال الاستواء ، فلا يكون للطفل قبل تمييزه منه شيء .
فإذا عرفت هذا تبيّن لك أنّه ليس لتلك الأبناء المقتولين من ذينك التعيّنين شيء مما يعود إليهم .
أم الأول فلم عرفت .
وأم الثاني فلأنهم متعيّنون عند بني نوعه بالتعيّن الموسوي ، متّفقين فيه عندهم ، ( لأنّه قتل على أنّه موسى ) ، وهو في نفسه كذلك ، فإنّه إذ لم يكن لهم تعيّن يظهرون به وقد يكمل استعدادهم له ، فإنما يتكوّنون بالتعيّن الكلَّي الغالب الذي له القهرمان في ذلك الزمان على ما هو غير مستبعد ولا خفيّ عند الذكيّ ، الخالص ذائقة فهمه عن شوائب التقليد وتعصّبه ، وإليه أشار بقوله :" إمداد موسى بحياة جميع من قتل من أجله "
قال رضي الله عنه :( وما ثمّ جهل ، فل بدّ أن تعود حياته ) ، أي حياة من قتل من شخص الإنسان ، بناء على ما مرّ من أنّ في النوع - من الكليّات المتبطَّنة فيه ،
المتقوّمة هو بها - أحكاما وآثارا يظهر بها أفراده ، كالحياة من الحيوان في أفراد الإنسان ، فل بدّ من عود الحياة "على موسى - أعني حياة المقتول من أجله "ضرورة أنه متكوّن بتعيّنه ( وهي حياة طاهرة على الفطرة لم تدنّسها الأغراض النفسيّة ، بل هي على فطرة " بَلى " ) الدالَّة على كمال قابليّته لتربيته الربّ المظهر ،
قال رضي الله عنه :( فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنّه هو ، فكلّ ما كان مهيّأ لذلك المقتول مما كان استعداد روحه له ) مما اشتمل على حقيقته النوعيّة من الحياة والعلم ، اللذين هما أحكام جنسه وفصله ( كان في موسى عليه السّلام ) ، فهو يستمدّ من همم أشخاص الامّة ، كما أنّ محمّدا صلَّى الله عليه وسلَّم يمدّ الهمم - على ما عرفت - ويطلعك عليه م في القرآن الكريم من قوله تعالى حكاية عن موسى :
" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي " [ 20 / 25 ] وخطابا لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم : " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ " [ 94 / 1 ] فإنّ الصدر هو طرف ظاهريّة القلب ، وهو صورته المعبّر عنها بالهمّة - كما عرفت .
ولذلك قال رضي الله عنه :( وهذا اختصاص إلهيّ بموسى لم يكن لأحد من قبله ، فإنّ حكم موسى كثيرة ، وأنا إن شاء الله أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي في خاطري ، فكان هذا أوّل ما شوفهت به في هذا الباب )وهذا من غلبة حكم النبوّة في حكم موسى ، حيث شوفه بها كلام .
قال رضي الله عنه :(فما ولد موسى إلَّ وهو مجموع أرواح كثيرة جمع قوى فعّالة ، لأنّ الصغير يفعل في الكبير ) بم عرفت غير مرّة أنّ التّأثير إنما هو من طرف البطون والصغير قريب العهد به ( أل ترى الطفل يفعل في الكبير بالخاصيّة ، فينزل الكبير من رياسته إليه ، فيلاعبه ويزقزق له ) ويرقصه (ويظهر له بعقله ، فهو تحت تسخيره وهو لا يشعر ، ثم شغله بتربيته وحمايته وتفقّد مصالحه وتأنيسه ، حتى لا يضيق صدره ) .
قال رضي الله عنه :( هذا كله من فعل الصغير بالكبير ، وذلك لقوّة المقام ) والمقام والمرتبة هو المؤثّر لبطونه وعدميّته ، وإنما قوى مقامه على الكبير ( فإنّ الصغير حديث عهد بربّه لأنّه حديث التكوين ، والكبير أبعد ) .
القريب من الحقّ تعالى يسخّر البعيد
ثمّ إنّه كم أنّ القرب الزماني من المبدء الحقّ يوجب قوّة التسخير من القريب به على البعيد بذلك البعد - كما في المثال المذكور - فكذلك القرب بحسب قلَّة الوسائط وكثرة وجوه المناسبات - من اللطافة والنزاهة في الجملة - فإنّه أيضا يوجب تسخير القريب به على البعيد ، كم بين الملإ الأعلى والحقّ ، وإليه أشار بقوله : ( فمن كان من الله أقرب سخّر من كان من الله أبعد ، كخواصّ الملك ، للقرب منه يسخّرون الأبعدين ) .
ثمّ إنّ من جهات القرب إلى الحقّ تصحيح نسبة العبوديّة وتخليص رقيقتها عن شوائب التعمّلات الاختياريّة والأحكام الجعليّة ، وإنفاذ أحكامها ومقتضياتها ، من كمال الإذعان وتمام الانقياد والتبرّي عمّا هو مشوب بضرب من الإباء والاستقلال كما للجمادات ،
وإليه أشار بقوله رضي الله عنه : ( كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يبرز بنفسه للمطر إذا نزل ، ويكشف رأسه له حتى يصيب منه ، ويقول : « إنّه حديث عهد بربه » ) أحمد المسند ومستدرك الحاكم و حلية الأولياء .
وهو العهد الذي بينه وبين العباد في ميثاق " أَلَسْتُ " [ 7 / 172 ] بأن لا يشوب رقيقة العبوديّة بما يخالطها ، وقد التزموا ذلك بقولهم : " بلى " .
معرفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم باللَّه
قال رضي الله عنه :(فانظر إلى هذه المعرفة باللَّه من هذا النبيّ : ما أجلَّها وما أعلاها وما أوضحها ) .
أمّا وجه جلالة هذه المعرفة فهو أنّه مع ختمه سائر الصفات الكماليّة التي للعبد وعلوّ شأنه على البريّة كلَّها ، قد اتّضع للجماد الذي هو أنزل البريّة وأخسّها وهذا صورة تماميّة الجلالة معرفة وعلما ، فإنّه إنما يتمّ كلّ شيء في مقابله عند العارف به ،
وإلى هذا الوجه أشار بقوله رضي الله عنه : ( فقد سخّر للمطر أفضل البشر لقربه من ربّه ) في مدارج العبوديّة والبعد العبدي ، الذي هو المسلك الذاتيّ للممكنات ، والطريق الأصليّ للكائنات .
وأمّا وجه علوّها فهو أنّه فهم من وجه عبوديّته هذه لسان الرسالة حيث اتّخذه رسول ( فكان مثلالرسول الذي ينزل بالوحي عليه ، فيدعوه بالحال ) التي عليها ( بذاته ) ، فإنّ الممكن له الافتقار والعبوديّة بذاته .

وأمّا وجه وضوحها : فهو أنّه أجاب دعوته وسمع رسالته سماع امتثال وطاعة ، واستقبل بلاغة استقبال شوق وخضوع ، ( فيبرز إليه ليصيب منه ما أتاه به من ربّه ) من الحياة والعلم ، اللذين هما إمام أئمّة الأسماء والحقائق ، وبهما تنفجر عيون مزارع الظهور والإظهار فإنّ للماء دلالة عليهما صورة ومثالا - كما عرفت .
قال رضي الله عنه :(فلو لا ما حصلت له منه الفائدة له منه الفائدة الإلهيّة ) من لطائف العلوم والمعارف ، ( بما أصاب منه ) على رأسه المنكشف له - الذي هو جمجمة جميع المدارك والمشاعر ، ( ما برز بنفسه إليه ) مستقبل إيّاه ، استقبال رسول كريم .
( فهذه رسالة ماء جعل الله منه ) كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ " حياة صوريّة طبيعيّة ، ومعنويّة علميّة ، على م هو من خصائص الختمين ( فافهم ) .
هذا حكمة قتل أولاد بني إسرائيل من جهة موسى .
حكمة إلقاء موسى في التابوت ورميه في اليمّ
قال رضي الله عنه :( وأمّا حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليمّ : فالتابوت ناسوته ) من حيث الحصر والإحاطة ، ( واليمّ ما حصل له من العلم ) ، فإنّ له نسبة إلى العلم حكمة وتلويح .
أمّا الأول فلاشتماله على الماء الذي هو صورة العلم ولكمال سعته وإحاطته .
وأمّا الثاني فلأنّه بيّنات ميمي « العلم » ولامه الظاهر بهما عين عينه عيانا ولذلك جعله إشارة إلى العلم الخاصّ المستحصل من العين ببيّنات أشكالها المنتجة لضروب الحقائق ، وهو العلم الحاصل للنفس (بواسطة الجسم ، مما أعطته القوّة النظريّة الفكريّة ) من الحقائق التنزيهيّة ( والقوى
الحسّية والخياليّة ) من اللطائف التشبيهيّة كما وقفت عليه .
وأيضا اليمّ : صورة طرفي الجسم وبيّناتهما ، فلذلك جعله إشارة إلى العلم الحاصل من الجسم بتلك القوى ، ضرورة أنّ تلك القوى هي
قال رضي الله عنه :( التي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها لهذه النفس الإنسانيّة إلَّا بوجود هذا الجسم العنصري ) الكثيف وذلك لأنّ القوى المذكورة إنما هي هيئات برزخيّة ، مستحصلة من تعاكس النور المجرّد اللطيف عن الجسم الهيولانيّ الكثيف ، كما عرفت تحقيقه في المقدّمة .
اثر ارتباط النفس مع الجسم في ترقّيها
فالنفس ما لم تحصل له علاقة التصرّف والتدبير في الجسم ، لا يمكن لها وجود قوّة من تلك القوى ولا أمثالها ، مما يستحصل به إدراك المحسوسات من العوارض الجسمانيّة والأشباح الهيولانيّة والمثاليّة والمعاني الجزئيّة ،
قال رضي الله عنه :(فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرّف فيه ، جعل الله له هذه القوى آلات يتوصّل بها إلى ما أراده الله منها ) ، من المدارك الجمعيّة الكماليّة الحاصلة من تعاكس النور المجرّد عن الجسم ، مكتسبا منه جمعيّته البرزخيّة متدرّجا في تلك الجمعيّة إلى أن يصل إلى القلب ،
برزخ البرازخ وهو الذي أراده الله من النفس عند تفويض التصرّف إليها ( في تدبير هذا التابوت ) يعني الوعاء الثابت الذي يصلح لأن يودع فيه الجسد عند سكونه عن حركة الحياة واضطرابها ، وصلوحه لأن يستكنّ في القبر ، الذي هو صورة القرب .
تأويل التابوت بالمزاج الإنساني
هذا بحسب العرف واللغة مطلقا ، فإنّه هاهنا في قوله تعالى : "أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيه ِ سَكِينَةٌ من رَبِّكُمْ " .
كناية عن المزاج الإنساني الذي يصلح لأن يظهر فيه الوحدة الاعتداليّة القلبيّة الساكنة المطمئنّة عن الميول الانحرافيّة الأطرافيّة التي هي محل قرب الحقّ وسكينة كمال الربّ وظهوره ،
ولذلك قال رضي الله عنه : ( الذي فيه سكينة الربّ ، فرمى به في اليمّ ) العلمي المحيط بالكل ، ( ليحصل بهذه القوى ) قوّة مسلطة قادرة ( على فنون العلم ) ذوقيّة وبرهانيّة ، بديهيّة وكسبيّة ، كتابيّة وكلاميّة ، رقميّة ولفظيّة ، تشبيهيّة وتنزيهيّة فإنّ هذه الفنون من العلوم انما يستحصل إذا القى موسى النفس إلى تابوت الناسوت والقى في يمّ مداركه الجسمانيّة .
ثمّ إنّه من جملة ما علم من هذه الحكمة الجهة الارتباطيّة التي بين الروح والجسد الجسمانيّ ، وإليه أشار بقوله رضي الله عنه : ( فأعلمه الله بذلك ) التابوت ( أنّه وإن كان الروح المدبر له هو الملك ) في مدينة جمعيّته الإنسانيّة ، ( فإنّه لا يدبّره ) - أي لا يدبّر هذ الجسم الموسويّ الكماليّ تدبيرا يوصله إلى غايته النوعيّة وكماله الحقيقيّ الذي هو صلوحه لأن يكون سكينة للربّ ( إلَّا به ) ، باعتبار استجماع هذا الجسم المنوّر بتدبير الملك صنوفا من القوى والجوارح ، بها تقتنص شوارد الحقائق عن شواهق علوّ إطلاقه .
وقد استقصين الكلام في أمر تلك المملكة وتبيين أشغالها ووجوه عمّالها ، وتفاوت درجاتهم عند تدبير الوصول إلى كمالها في المناظرات الخمس ، من أراد ذلك فليطالع ثمّة .
قال رضي الله عنه :(فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت ، الذي عبّر عنه )عند استشعار التدبير الربطي منه ( بالتابوت من باب الإشارات ) التلويحيّة من الصور الحرفية - وهي أنّ « التابوت » خصوصيّته الفارقة له عن "الناسوت" إنما هو التاء والباء ، اللذان يلوّحان على التدبير الربطي - ( والحكم ) الذوقيّة من النسب المعنوية وهي أنّ الربط بين التابوت وما فيه من الجسد الميّت إلى حيث يتحرّك بتحريكه اليمّ ويسكن بتسكينه إيّاه ، وهي غاية قوّة الجهة الارتباطية .
فعلم أنّ تدبير الروح الذي عليه ملاك أمر الكمال الوجوديّ إنما هو بالجسم ، ومبنى الكل على الجهة الارتباطيّة والنسبة الامتزاجيّة التي بين بين .
كيفيّة تدبير العالم
قال رضي الله عنه :( كذلك تدبير الحقّ العالم ، ما دبّره إلا به ) نفسه ( أو بصورته ) الوجوديّة التي هذه الأشكال والصور الكونيّة من ظلالها ( فما دبّره إلَّا به ) نفسه كتدبير بعض أجزاء العالم بالبعض وتوقّفه عليه ، ( كتوقّف الولد على إيجاد الوالد ) فإنّ تدبير وجود الولد إنما هو بالوالد وإيجاده إيّاه مع تباين ذاتيهما وضعف القوّة الارتباطيّة .
قال رضي الله عنه :(والمسبّبات على أسبابها ) ، فإنّ تدبير السرير - مثلا - في العالم إنما هو بالنجّار وتخيّله صورته وغايته المترتّبة عليه ، المشوّقة له إلى تحريكه نحو ترتيب المادّة والصورة منه ، وهذا الارتباط أقوى من الأول ، ولكنه إنما يحتاج إلى عدم المانع ووجود المقتضي ، وهو المعبّر عنه بالشرط ، ولذلك قال بعده : ( والمشروطات على شروطه ) فإنّه تدبّر بها ويترتّب عليها وجود المسبّبات ضرورة .
هذا كلَّه في المركَّبات الامتزاجيّة الزمانيّة ، وأمّا في المجرّدات والعقليّات وما بعدها من الحقائق الجلائيّة كتدبير المعلولات بعللها التامّة فإليه أشار بقوله : ( والمعلولات على عللها ) هذا الارتباط مع تباين الوجودين في الخارج وأما فيم لا تغاير بين وجودي المرتبطين في الخارج فلا شكّ في قوّة الجهة الارتباطيّة هناك ، فلذلك تراه موصلا - لمن تحقّق بأحدهما - إلى الآخر.
وهما قسمان :
أحدهم م اشتمل على نسبة مستقلة ،
والآخر ما لا نسبة فيه أيضا والأول هو المشار إليه بقوله : ( والمدلولات على أدلَّتها ) ، فإنّه انما يدبّر في تحصيل المدلول بدليله ، والقوّة الارتباطيّة بينهما وصلت إلى مرتبة الاتّحاد ، فإنّ الأدلة تحمل على مدلولاتها بـ هو هو ، ولكن ذلك الاتّحاد في الخارج فقط ، وأمّا في العقل فبينهما تغاير ، ضرورة أنّ الدليل سابق فيه ، وهو الذي توصل المتحقّق به إلى المدلول .
هذا فيما فيه نسبة ، وأمّا ما لا نسبة فيه وهو الغاية في سلسلة الربط الاتّحادي التدبيري فإليه أشار بقوله : ( والمحقّقات بحقائقها ) كالأشخاص المحقّقة الخارجيّة ، فإنّه إنما يدبّر تحصيلها بحقائقها النوعيّة التي هي عينها خارجا وعقلا ، ظاهرا وباطن فلا تغفل عن تدرّج هذه القوّة الارتباطيّة إلى الوحدة الجمعيّة العينيّة وما نبّهت عليه في المقدّمة أنّ العالم مشتمل على أفراد وأعيان متفرّقة ،
وعلى نسب جمعيّة بينها ولذلك قال : ( وكلّ ذلك من العالم و ) الارتباط الوحداني منه بين الأفراد ( هو تدبير الحقّ فيه ، فما دبّره إلا به ) .
العالم تجلي الأسماء الحسنى وصفات الحقّ العلى
قال رضي الله عنه :( وأمّا قولنا : « أو بصورته » أعني بصورة العالم ) إشارة إليه بلسان التفصيل كما عبّر عنه أول بلسان الإجمال ، وذلك لأنّه قد اطَّلعت مما وقفت عليه آنفا أن للعالم صورة كونيّة هي عبارة عن كثرة نسبيّة .
وذلك أعيانه المفردة الظاهرة حسّا - وصورة وجوديّة هي عبارة عن وحدة نسبيّة ، وذلك هي النسب الجمعيّة المتبطَّنة فيه ، الظاهرة أحكامها وآثارها في الإنسان .
وتلك النسب في الحقيقة هي أسماء الحق وأوصافه ، كالحياة والعلم والقدرة والإرادة وغيرها ، وهي التي فيه مستند الأفعال والآثار والأحكام وبيّن أنّ إطلاق صورة العالم على المعنى الثاني منهما غريب في مدارك العامّة من المسترشدين ،
فلذلك خصّه بالذكر قائلا : ( فأعني به الأسماء الحسنى ) .
ثمّ إنّه كم أنّ للعالم ظاهرا محسوسا وباطنا معقولا ، لا بدّ وأن يكون للصورة منه ما يطابق الطرفين جميعا ، فلذلك قال : ( والصفات العلى ) إشارة إلى ما يطابق طرف الباطن منها ، كما أنّ الأول إشارة إلى ما يطابق طرف الصورة وفي عبارته إشارة غير خفيّة إلى الطرفين ، حيث وصفهما بالحسنى والعلى فإنّ الحسن مقتضى الظاهر ، كما أن العلوّ مقتضى الباطن .
ثمّ إنّه يريد أن يبيّن ما به يتحقّق وجوديّة هذه الصورة منهما ، وكونها وحدة نسبيّة فقال : ( التي تسمّى الحقّ بها ) اسما حسنا ( واتّصف بها ) صفة عليّ .
وقوله رضي الله عنه : ( فما وصل إلينا من اسم يسمّى به إلَّا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه ) بطرفيه ( في العالم ) إشارة إلى بيان كونه صورة وذلك أنّ المعنيّ من معنى الشيء هو طرف خفائه واندماج أحكامه وآثاره ، وما يقرب إلى العدم منه .
وبيّن أنّ الصورة الكونيّة بهذه النسبة أولى من الوجوديّ ، فإنّ معنى الأسماء حقيقة هو الأعيان الكونيّة ، وإن كان بحسب مداركنا إذا قسنا إلى الترتيب الواقع فيها ظهر الأمر على عكس ذلك ولكن الكلام هاهنا إنما هو بحسب الأمر نفسه لا بحسب المدارك والمجالي ، فإنّها نسب تتخالف بالاعتبار .
قال رضي الله عنه :( فما دبّر العالم ) في لسان التفصيل ( أيضا إلا بصورة العالم ) .
آدم هو الجامع بين الصورتين
ثمّ إنّ مجموع الصورتين بأحديّة جمع الصور إنما هو صورة الحقّ ، وآدم هو الجامع بينهم
( ولذلك قال في خلق آدم الذي هو البرنامج ) - معرّب " برنامه " بالفارسية . وفي بعض النسخ : « هو الأنمونامج » ، معرّب " نموذ نامه " .
وعلى التقديرين هو العنوان الجامع لما في صحيفة الكتاب من السلام والأوصاف والأحكام - فإنّ آدم أيضا هو ( الجامع لنعوت الحضرة الإلهيّة التي هي الذات والصفات والأفعال : " إن الله خلق آدم على صورته"). رواه البخاري و مسلم وابن حبان و أحمد في المسند و البيهقي وغيرهم .
فإنّ في اسم « آدم » ما يلوح على المراتب الثلاث التي للحضرة الإلهيّة فإنّ « الألف » إشارة إلى الذات ، و « الدال » الدالَّة على الأسماء إشارة إلى الصفات ، لأنّها مبدأ الاسم ، دالَّة عليه و " الميم " المتمّم للكل إشارة إلى الأفعال كما أن في اسم « الله » ما يلوّح على تفصيل الحضرة الإلهيّة وتكرار اللام الدالّ على الصفات في هذا السياق يلوّح إلى ما للصفات من النسبة إلى الذات ، وهي التي تصير بها أسماء الحقّ وإلى الأفعال والآثار التي باعتبارها تصير عينا .
آدم جامع الأسماء الإلهيّة
قال رضي الله عنه :( وليست صورته سوى الحضرة الإلهيّة ) الظاهرة بها آدم ، فهو مثله - وليس كمثله شيء .
( فأوجد في هذا المختصر الشريف ) الممتزج به صور التفاصيل امتزاجا تنعكس به نسبة بعضها إلى البعض ، به يأنس الكلّ ضرورة أنّ الاختصار
يوجب قرب الأجزاء ، والقرب يستلزم الأنس ، فحيثيّة الاختصار فيه هو مبدأ تسميته بالإنسان ،
ولذلك وصفه بقوله رضي الله عنه : (الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهيّة ) ، التي هي الصورة الوجوديّة للعالم ( وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل ) بعضها عن البعض ، فإنّه أعيان مفردة متمايزة بالذات كثيرة ، وهي الصورة الكونيّة للعالم ، فللإنسان الصورة الكاملة الجامعة بين الجمع الوجوديّ والتفرقة الكونيّة .
آدم روح العالم والعالم مسخّر له
قال رضي الله عنه :( وجعله ) باعتبار تلك الجمعيّة والكمال ( روحا للعالم ) ، مقوّما لأعيانه المتفرّقة المنفصلة بالذات ، بأن صيّر ذلك الكثير شخصا واحدا ، تقويم الروح الحيواني جسده .
( فسخّر له العلو ) وهو طرف اللطائف الروحانية والمجرّدات (والسفل ) وهو طرف الكثائف الجسمانيّة والمتعلَّقات بالموادّ الهيولانيّة ، (لكمال الصورة ) الجامعة بين الكيانيّة من الصور والإلهيّة منها وبهذا الكمال يطلق عليه المثليّة .

قال رضي الله عنه :( فكما أنّه ليس شيء من العالم إلا وهو يسبح الله بحمده ) بما يعطيه حقيقة ذاته ، ( كذلك ليس شيء في العالم إلَّا وهو سخّر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته ، فقال ) مفصحا عن ذينك الطرفين : ( " وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه ُ " فكلّ ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك من علمه ، وهو الإنسان الكامل ) لأنّه ظاهر بصورته الكماليّة الكلاميّة
الإظهاريّة ( وجهل ذلك من جهله ، وهو الإنسان الحيوان ) لاندماج ذلك الكمال في المادّة الحيوانيّة الظهوريّة فقط .
عود إلى بيان حكمة إلقاء موسى في اليمّ
ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إذا كان ظلمات بحر الحيوان مما يوجب خفاء تلك الصورة الكماليّة الإظهاريّة والجهل بمقتضاها ، فكيف يتصوّر أن يجعل اليمّ إشارة إلى العلم الحاصل بواسطة الجسم ، كما أشار إليه
فاستشعر لم يندفع به ذلك بقوله رضي الله عنه : ( فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت وإلقاء التابوت في اليمّ صورة هلاك ) ، كم هو الظاهر من التابوت وإلقائه في اليمّ ، ( وفي الباطن كانت ) الصورة المذكورة ( له نجاة من القتل ) فكذلك يمّ الإدراكات الجسمانيّة وإلقاء موسى إليه بعد إلقائه في التابوت من القوى الجسمانيّة الحاصرة له ، وإن كان في الظاهر صورة هلاكه في ظلمات الجهالة ، ولكن في الباطن له نجاة منها .
الإحياء بالعلم
قال رضي الله عنه :( فحيّي ) بماء هذا اليمّ ( كما يحيي النفوس بالعلم من موت الجهل ، كما قال : " أَوَمن كانَ مَيْتاً " يعني بالجهل " فَأَحْيَيْناه ُ " يعني بالعلم ) هذا في العلم الظاهر للعالم باعتبار ظهوره له ، وأما باعتبار إظهاره للغير ،
فإليه أشار بقوله رضي الله عنه : ( " وَجَعَلْنا لَه ُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ " ) أي يسلك فيهم وبهم مسلك السداد ، ( وهو الهدى " كَمَنْ مَثَلُه ُ في الظُّلُماتِ " ) أي ظلمات الموادّ الهيولانيّة (وهي الضلال " لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها " أي لا يهتدي أبدا ) ولا يترقّى من مهاوي تلك المدارك الجسمانيّة إلى الحقائق الجمعيّة الكماليّة ،
كما عرفت ( فإنّ الأمر في نفسه ) - صعودا كان أو هبوطا - ( لا غاية له يوقف عندها ) وينقطع بها السلوك ويتمّ الوصول .
الهدى عبارة عن الاهتداء إلى الحيرة
قال رضي الله عنه :( فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة ، فيعلم أنّ الأمر حيرة ) وذلك لأنّ النقائض والأضداد متعانقة في الوحدة الحقيقيّة والهويّة الإطلاقيّة ، وتقابل الأحكام مم يوجب الحيرة ضرورة .
هذا من جهة المسلك . وعلم أنّه ليس فيه ما ينقطع به السلوك ، وكذلك من جهة السالك لا يمكن له أن يقعد عن السلوك ، فإنّ الأمر حيرة كما عرفت .
قال رضي الله عنه :(والحيرة قلق وحركة ، والحركة حياة ، فلا سكون ، فلا موت - ووجود فلا عدم ) .
( وكذلك في الماء الذي ) بحسب الظاهر سبب خراب الأرض وهدم صورة جمعيّته ، فإنّه ( به حياة الأرض و ) به ( حركتها ) كما كشف عنه ( قوله : فـ " اهْتَزَّتْ" ) .
( و ) به ( حملها - قوله : " وَرَبَتْ " )( و ) به ( ولادتها "وَأَنْبَتَتْ من كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ " أي أنّها ما ولدت إلا من يشبهها ، أي طبيعيّ مثلها )
فالزوج عبارة عن الولد هاهنا ، فإنّه زوج والده بحسب المماثلة الطبيعيّة ، وصورة بسطه على م دلّ عليه بهيج .
الزوجية تلزم الوجود
قال رضي الله عنه :( وكانت الزوجيّة التي هي الشفعيّة لها بما تولَّد منها وظهر عنها ، كذلك وجود الحقّ كانت الكثرة له وتعداد الأسماء أنّه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالم ) ظهور الزوج عن النابت له ، وهو ( الذي يطلب بنشأته ) الحاملة لسائر القوابل ( حقائق الأسماء الإلهيّة ) التي هي أولاد القوابل وأزواجه ، طلب اهتزاز وانبساط وربى ، ( فنبت به ، وبخالقه أحديّة الكثرة ) أي نبت بالعالم وبخالقه شجرة أحديّة الكثرة العدديّة التي هي ذات ثمار كريمة ونعم جسيمة ومن ذلك جلائل العلوم وفنون الحقائق التي ظهرت من الحروف المتعدّدة وأعداده .
فقد ظهر من هذا أنّ الشفعيّة والزوجيّة التي هي أحديّة الكثرة تلزم وجود الحقّ بما ظهر عنه .
قال رضي الله عنه :( وقد كان ) قبل هذا الطلب ( أحديّ العين من حيث ذاته ) فنبت أحديّ العين ، أحديّ كثرة نبات الواحد العددي سائر المراتب العدديّة المتكثّرة .
هذا مثاله في العقل ، وأمّا ما في الخارج منه فهو المشار إليه بقوله : (كالجوهر الهيولانيّ ، أحديّ العين من حيث ذاته ، كثير بالصور الظاهرة فيه ، التي ) ذلك الجوهر الهيولانيّ ( هو حامل لها بذاته ) ، فإنّه من حيث أحديّة عينه محيط بالصور الكثيرة ، إحاطة الحامل بالجنين .
ومن هاهن ترى كلمة المشّاءين وغيرهم من الحكماء متّفقة على أنّ وحدة الهيولى شخصيّة لا غير ، ( كذلك الحقّ بما ظهر منه من صور التجلَّي ، فكان مجلى صور العالم مع الأحديّة المعقولة ) كما أنّ الجوهر الهيولاني مع أحديّة عينه مجلى سائر صوره النوعيّة وتنوّعاته الطبيعيّة ، التي أرض قابليته أنبتت بها من كلّ زوج بهيج .
قال رضي الله عنه :(فانظر ما أحسن هذ التعليم الإلهي الذي خصّ الله بالاطلاع عليه من شاء من عباده ) من أمر التولَّد والتوالد الواقع بين الوالد وزوجه ، ومن أمر تعانق الأطراف الموجب للحيرة كالنجاة من القتل في صورة الهلاك ، والاهتداء في صورة الضلال ، والعلم في الحيرة ، وتربية الأرض وإنباتها في صورة الهدم وتخريبها ، وأحديّة العين في كونه مجلى للكثير .
كلّ ذلك قد استشعر من الآيات الدالَّة عليه ، دلالة غير خفيّة على الخواصّ من عباده من الورثة الختميّة الواقفين على مطلع الآيات وغاياتها وفي عبارته ما يشعر به .
تسمية موسى وحضانة آل فرعون له
ثمّ إنّه تنشعب من هذا الأصل تربية آل فرعون موسى : ( و ) لذلك ( لما وجده آل فرعون ) يعني القوى الطبيعيّة الهيولانيّة ( في اليمّ عند الشجرة ) ، وهي الجمعيّة الحيوانيّة بأصولها وفروعها وشعبها وأغصانها وثمرتها ، وهي الإنسان ( سماه فرعون : موسى ) فإنّ من شأن المقابل أن يسمّى
مقابله الآخر بما عنده من وجوه النسبة ، كالابن ، فإنّه الذي سمّى الأب أبا ، كما قيل : « فبضدها تتبيّن الأشياء » .
قال رضي الله عنه :( و « المو » هو الماء بالقبطيّة ، و « السا » هو الشجرة فسماه بما وجده عنده ) من الماء الذي هو صورة العلم والنطق ، والشجرة التي هي صورة الجمعيّة الحيوانيّة ( فإنّ التابوت ) - يعني الناسوت ، باعتبار تدبير الظاهر بين بين ، تدبيرا وحدانيّ الحكم ، تامّ الأثر - ( وقف عند الشجرة في اليمّ ) لا يتجاوز عن تلك الجمعيّة مزاجا ، وقوف تنزّل الوحدة الجنسيّة لذي الطبيعة الحيوانيّة طبعا .
تأويل فرعون وموسى
وإذا كان فرعون صورة شخصيّة تلك الطبيعة من حيث حيوانيّتها الجنسيّة فإنّه هو الإنسان الحيوان كما أنّ موسى صورة شخصيّة تلك الطبيعة أيضا ، ولكن من حيث بلوغه ونوعيّتها الكماليّة ، فلذلك قابله ( فأراد قتله ) وإبادة ما له من البنيان الجمعيّ الكمالي المتوجّه إلى إبادة فرعون ( فقالت امرأته ) وهي التي تحت فرعون الطبيعة الهيولانيّة الفرقيّة العينيّة ، من الجمعيّة المتبطَّنة فيها ، الحاكمة عليه بالصوت النطقي ، وذلك عين حقيقتها الذاتيّة - كما ستقف عليه –
ولذلك قال رضي الله عنه : ( وكانت منطقة بالنطق الإلهي ) الذي به نطق كلّ شيء ( فيم قالت لفرعون ، إذ كان الله خلقها للكمال ) ولهذا أنطقه بالكلام الذي هو صورة " الكمال ".
الجنس والفصل
ثمّ إنّه ل بدّ من الإفصاح هاهنا عن تتميم هذا المساق والإبانة عن الجهات الارتباطيّة التي بها يتكلَّم لسانه هذا في وجوه تأويله ، وذلك بأن يفهم من فرعون صورة حصّة المادّة الجنسيّة من الحيوان ، فإنّه المسمّي ما تحته ،
كما أشار إليه في تسمية موسى وامرأته التي تحته هي صورة حصّة طبيعة الفصل الذي للحيوان ، فإنّها خلقت لكمال هذه المادّة وتحصيلها مواسية لها ومساوية إيّاها ، كما أنّ مريم ابنة عمران صورة فصل الإنسان ، فإنّها ولدت من الحيوان الذي هو صورة عمران العالم ، كما ولدت منها كلمة الله عيسى ، الذي هو صورة تمام المراد .
وهاتان المرأتان في الصدر الأول هما الكاملتان باعتبار مبدئيّتهما للشعور والإشعار ، ومصدريّتهما للظهور والإظهار .
وأما وجه المناسبة : فهو أنّ الفصل مصدر حمل النوع وفصاله ، كما أنّ الجنس مبد تلك المادّة التي بها حمل الفصل وفصاله .
فلئن قيل : إنّ الجنس متوغَّل في بطون إبهامه وغيب غمومه ، وكذلك الفصل من حيث أنّه كلَّي ، وبيّن أنّ هذه القصص التنزيليّة إنما هي حكاية أشخاص عينيّة خارجيّة ، فكيف يتصوّر تنزيله على الكلَّيات وتأويلها بها ؟ .
قلنا : كانّك قد اطَّلعت مما مهّدنا في الفصّ الآدمي أنّ لكل من تلك الكلَّيات من حيث طبيعته حقيقة نوعيّة واحدة بالذات في مرتبته ، سواء
كان ذلك جنس أو نوعا ذاتيّين ، أو عرضا وخاصّا خارجيّين بالقياس إلى الأفراد المفروضة لدى البحث - كما بيّن وجه تحقيقه في الصناعة الباحثة عنه - وتلك الحقيقة هي التي يتحصّل بها لأشخاص التي لها ، متعيّنة في الخارج ، فإنّه إذا تأمّلت في الجوهر - مثلا - صادفته عند تحصّل حقيقته النوعيّة في مرتبته التي قد علت على جملة الممكنات قد تعيّن في الخارج بصور اشخاص الملإ الأعلى ، أهل التقديس والتسبيح ، فإنّ العلويات - على تفاوت درجاتهم - أفراد حقيقته النوعيّة ، وهم الذين قابلوا آدم في الخلافة الإلهيّة.
خاصيّة الإنسان وأقسامه
ثمّ إنّه إذ تقرر هذا ، فاعلم أنّه قد ظهر لك غير مرّة أنّ الإنسان من حيث هو قابل لظهور أحكام سائر الكلَّيات بأجناسها المترتّبة ، ومصدر نفوذ آثارها ، فإنّ الإنسان صورة عين الكلّ ، فمن أفراده من ظهر بأحكام العوالي وغلب عليه آثارها الخاصّة بها ، وهم الواقفون في مواقف التسبيح والتقديس - كما وقفت عليه - ومنهم من غلب عليه أحكام الأواسط والأسافل ،
وبه قابل من غلب عليه أمر الاعتدال الإنساني والحكم الجمعيّ المضادّ لسائر الخصوصيّات من الكمّل ، الظاهرين في كلّ زمان بحسبه كفرعون فإنّه لغلبة حكم الطغيان - الذي هو مقتضى الطبيعة الحيوان ،
آخر تنزّلات تلك السلسلة - قابله موسى في أمر العبوديّة التي هي مقتضى العدالة الإنسانيّة وكذلك لكل نبيّ مقابل في مرتبته من تلك السلسلة به يظهر ، " وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّ شَياطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ "
وتفصيل الكلام في مثل هذا المرام يقتضي مجالا آخر - يسّرنا الله لذلك .
ثمّ هاهن نكتة إجماليّة لا يبعد أن يدرج فيه ويومي إليه ، :
وهي أنّ الأول في كل ترتيب ونظام له حكم العلوّ والشرف فيه ، كما أنّ الآخر منه له حكم الجمعيّة والكمال فالمستعدّ للظهور في كلّ نظام هو الأول منه والآخر ، وما بينهم ظهوره بحسب القرب من أحدهما والتشابه به ،
ففيما نحن فيه من السلسلة الإنبائيّة الإظهاريّة له هذا السبيل ، ومن هاهنا ترى ورود قصّة آدم وموسى في التنزيل القرآني أكثر من سائر القصص .
ثمّ إنّه ل يخفى على الواقفين بأساليب اولي الذوق ، من مستكشفي رموز التنزيل ولطائف التأويل ، أنّ تنزيل فرعون على هذا المعنى أعلى وأحكم تطبيقا من النفس الأمّارة التي هي بعض تنزّلات النفس الناطقة بعينها، المسمّاة بالروح ، الظاهرة بالتابوت ، الذي هو الناسوت الموسوي - على ما صرّح به الشيخ .
""أضاف المحقق :
تعريض لقول القاشاني: " على تأويل التابوت بالبدن الإنساني وموسى بالروح يأول فرعون بالنفس الأمارة والشجر بالقوة العلوية " . ""
أم الأول : فلأنّ هذه الصورة للنفس إنما هي من أحكام تلك الحصّة وآثارها الظاهرة وعينها ، فهذ المعنى أيضا مما يندرج فيما نزّلنا عليه فله العلوّ .
وأمّ الثاني : فلأنّ ما نزل عليه فرعون مما أشرنا إليه حقيقة مستقلَّة في الأثر لها سدنة خاصة وأهالي ممتازة في الوجود والأثر ، منها ما هو أقرب من الكلّ يمتزج به تحته امتزاج حمل ويتولَّد من ذلك الامتزاج آخر من جنسه ، فهو الصالح لأن يكون مرآته إذ الآثار الإدراكيّة التي هي مبدأ الكمال ومصدر الإذعان والإيمان منها ،
كما دلّ عليه الآيات الكاشفة عنها ، وبيّن أنّ الأصول إنما يتمّ عند تطبيقها بسائر الفروع وأحكامها ، سيّما فيما نزل عليه الحقائق التنزيليّة .
ثمّ هاهنا نكتة تؤيّد ذلك التطبيق وتقرره :
وهي أنّه قد ثبت في الميزان العقليّ أنّ الفصل له نسبتان إلى الجنس :
إحداهم تقويم أمره وتحصيل حقيقته بالامتزاج الحملي ، وهي نسبة الزوجيّة
والأخرى تقسيم تلك الحقيقة بعد الحمل والفصال إلى ما يتولَّد من ذلك الامتزاج الحملي ، وهو المعبّر عنها بنسبة البنت
وقد عرفت أيضا أنّ الخاتم صورة كماليّة الكلّ ، وشخص جمعيّة الجميع وعينه ، فجمع فيه النسبتان ضرورة .
وإلى ذلك كلَّه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم : " كملت من النساء أربع : مريم بنت عمران ،وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ، وفاطمة " .
ويمكن استخراج كثير من الحقائق الجليلة عنه بهذا التطبيق فلا تغفل عنه .
ثمّ إنّ هذ على حدّ ما ذهب إليه الشيخ في سياقه هاهنا ، ويمكن تنزيل كلّ من هذه الكلمات على غير ذلك مما ينطوي عليه وعلى غيره علوا من الأصول المنبئة بحسب المؤيّدات الحكميّة والبيّنات التلويحيّة ، مما قضى الزمان به ، إن قادنا التوفيق الإلهي نتعرّض بجملة منها في مجال غير هذا إن شاء الله تعالى .
ثمّ إنّه قد علم في طيّ هذه النكت وجه قوله : ( كما قال عليه السّلام عنها حيث شهد له ولمريم بنت عمران بالكمال الذي هو للذكران ) .
فإنّهم طرف ظهور الحقّ - على ما بيّن تحقيقه في الفصّ الأول - على ما دلّ عليه لفظ « الذكران » ، وهن طرف خفائه وستره على ما لا يخفى وقد عرفت وجه اختصاص هاتين المرأتين بالكمال بلسان هذا السياق ، فلا نعيده .
تأويل قول آسية
قال رضي الله عنه :(فقالت لفرعون في حق موسى : إنه " قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ " فيه قرّت عينها بالكمال الذي حصل لها ، كما قلنا ) وهذا من مؤيّدات ذلك التأويل فإنّ « الكمال » هو « الكلام » تلويحا وتحقيقا ، كما عرفت غير مرّة وهو إنّما حصل لفصل الحيوان الذي هو مبدأ سائر الإدراكات بوحدانيّة الناسوت ، فهو قرّة عين له ، كما أنّه قرّة عين للحيوان ، فإنّه مبدأ إذعانه ، وكسر شكيمة عصيانه الذي هو مقتضى ذاته .
إيمان فرعون
وإليه أشار بقوله : ( وكان قرّة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله ) فإنّه حصل له الإيمان من الوهب الإلهي ، وأصل ما هو عليه إنّما هو الإباء والعصيان ،
وذلك الوهب إنّما فاز به عند إعداده المحلّ يعني ( عند الغرق ) في بحر الوحدة الإطلاقية ، باقتفائه آثار موسى ومتابعته إيّاه في الخوض فيما خاض
قال رضي الله عنه :( فقبضه طاهرا ) من حدث الشرك بمتابعته موسى ، ( مطهّرا ، ليس فيه شيء من الخبث ) يعني خبث الإباء والعصيان .
قال رضي الله عنه :( لأنّه قبضه عند إيمانه ) وإذعانه لموسى بالتزام المتابعة فدخل في الإيمان قولا وفعلا ( قبل أن يكتسب شيئا من الآثام ، و « الإسلام يجبّ ما قبله » )
""أضاف الجامع :
( الإسلام يجبّ ما قبله حقيقة وقاعدة راسخة أجمعت عليه الأمة والأئمة ، وهي متواترة في جل كتب تفاسير القرآن وكتب شراح الحديث وكتب الفقة .)
ووردت بحديث : (قد عفوت عنك، وقد أحسن الله بك حيث هداك للإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله) . قاله لهبار بن الأسود أسلم بعد فتح مكة . أوره جمع الجوامع للسيوطي و كنز العمال للمتقي الهندي
وشاهد لها حديث : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب، كمن لا ذنب له» رواه ابن ماجة والطبراني والبيهقي وابي نعيم في حلية الأولياء وغيرهم .
،وفي رواية أخرى : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب، كمن لا ذنب له» ثم تلا "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين") . ""
وذلك أنه عبارة عن الدخول في الوحدة الوجوديّة الجمعيّة الكماليّة الظاهرة في كل زمان بصورة الرسول المبعوث فيه على لسان قومه ، والإذعان فيه لأحكامه ومقتضياته ، فيجبّ حينئذ حكم التفرقة العدميّة التي لذلك الشخص قبل دخوله في هذه الوحدة الوجوديّة جبّ سائر الأحكام العدميّة التي قبل هذه النشأة بالدخول فيها.
ثمّ إنّ هذ الكلام مما تفرّد به الشيخ المؤلَّف بين أئمة الإسلام ، وبذلك سار مضغة للقاصرين عن فهمه من أهل الظاهر جميعا ، وشنعة عند الذاهلين من فرق المعطَّلين كلهم ،
فتعرّض أولا لما يصلح لأن يكون حجّة للمسترشدين عليهم من النصوص التنزيليّة ،
وثانيا لما يمكن أن يدفع به ما يستدلَّون منه على عدم الاعتداد بإيمانه ذلك على قواعدهم .
فإلى الأول أشار بقوله : ( وجعله آية على عنايته سبحانه ) على ما نصّ عليه بقوله :
"فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً " فإنّه إنّم يكون آية لو كان من أهل النجاة مقبول الإيمان ، ليدلّ على أنّه عناية الحقّ غير متعلَّقة بطاعة العبد وعصيانه ، فإنّ ذلك (لمن يشاء ، حتى لا ييأس أحد من رحمة الله ، فإنّه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون ) وفي هذا الحصر دلالة على عدم دخول فرعون فيهم ، فإنّه ما ييأس من رحمة الله ، ( فلو كان فرعون ممن ييأس ما بادر إلى الإيمان ) .
فعلم إن إيمانه هذا ليس إيمان الغرغرة عند اليأس - على ما ذهب إليه الظاهريون - كما يتّفق للكافرين عند ظهور أحكام الدار الآخرة عليهم ، بعد تعطيل قواهم الحسيّة ، فإنّ ذلك عند اليأس ، وهو الذي لا يعتبر شرعا وأمّا فرعون فهو على ثقة من النجاة بإيمانه ، لما رأى طريقا واضحا في البحر يختصّ بالمؤمنين من بني إسرائيل ممّن تابع موسى ، وبيّن أنّ التجربة إذا شوهدت مكرّرة مما يفيد اليقين ، فهو على يقين من نجاته ، فضلا عن أنّه ييأس منه .
قال رضي الله عنه :( فكان موسى كم قالت امرأة فرعون فيه ) منطقا بالنطق الإلهي :(إنّه " قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ " ، " عَسى أَنْ يَنْفَعَنا " وكذلك وقع ، فإنّ الله نفعهما به ، وإن كانا ما شعرا بأنّه النبيّ الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله ) .
ردّ موسى إلى امّه
( ولما عصمه الله من فرعون ) وإجراء أحكامه الخاصّة به عليه ، من الانقهار تحت ظلمته الطبيعيّة وإبادة ما عليه جبلَّة موسى من الأنوار الكماليّة العلميّة ( " أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى " ) التي ألقاه في التابوت ، فألقاه في اليمّ - ( " فارِغاً " من الهمّ ) مطلقا ، عن الهويّات المقيّدة له من ( الذي كان قد أصابها ) قبل ، فما تقيّد بشيء ممّا كان مقيّدا به قبل تلك العصمة ، فتأكَّد بهذه الفراغة والإطلاق الباطني رقيقة النسبة بينها وبين ابنه .
وقد عرفت أنّ امّ موسى هي عبارة في سياقه هذا عن الصورة الفصليّة التي بحملها وفصالها تتحقّق الحقيقة الكليميّة ، وذلك مبدأ صنوف الكمالات العلميّة ومولد جملة اللطائف الإدراكيّة ، فمن أفراد تلك الحقيقة الكماليّة من اغتذى عند الرضاع بغير ما أرضعته امّه التي منها فصاله ، وذلك من جهة تقيّد قابليّته وعدم فراغ امّه فممّا اختصّ به موسى فراغها وإطلاقها الذي به كملت النسبة بينها وبين ابنه .
قال رضي الله عنه :( ثمّ إنّ الله حرّم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمّه ، فأرضعته ، ليكمّل الله لها سرورها به ) وانبساطها منه ، حتى يظهر به سائر الحقائق العلميّة من المعارف الإلهيّة .
الشرائع
قال رضي الله عنه :( كذلك علم الشرايع ) الكاشفة عن أصل الأمر كلَّه ، فإنّه يبيّن أحكام أفعال الإنسان الذي هو الآخر في تنزّلات الوجود ونهايتها ، وقد عرفت مرارا أنّ الأول هو الآخر عينا ، والنهاية هو البداية حكما ، ( كما قال : " لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً " ) أي طريقا نشأ منكم ("وَمِنْهاجاً " أي من تلك الطريقة جاء ) الكل ، ( فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي جاء منه )
الكل ، يعني القابليّة الأولى التي هي الامّ ، ومنها يغتذي الجميع وبها يقوم أمرهم ( فهو غذاؤه ، كما أنّ فرع الشجرة لا يتغذّى إلا من أصله ) ، وهو مزاج واحد ل اختلاف فيه أصلا ، فالاختلاف إنّما ظهر بالمغتذي عند تفنّن مقتضياته وتشعّب جهات وجهته وطرق نباته ، ( فما كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر يعني في الصورة ) التي هي ثمرة شجرة الظهور ، وأنهى ما يتفرّع على الأصل من فنون مراتبه وصنوف تنوّعاته .
وبيّن أن الأحكام الشرعيّة لا تظهر لها صورة محسوسة إلَّا في مرتبة الكلام ، فقال مفصحا عنه : ( أعني قولي يكون حلالا ) والفعل الذي هو معروض الحلَّية التي ظهرت بهذ القول في زمانه ، غير ما هو معروض الحرمة فيما قبله منه ، كحرمة الجمع بين الأختين مثلا في شرعنا فإنّ تزويجهما في الشرائع المتقدمة كان حلالا، والأختان في تلك الشرائع غير الأختين في شريعتن .
وبيّن أنّ الفعل - أعني التزويج - وإن كان واحدا في الصورتين صدقا ومفهوما ، ( و ) لكن ( في نفس الأمر ما هو عين ما مضى ، لأنّ الأمر خلق جديد فلا تكرار ) في الوجود أصلا ، كما سبق بيانه .
فعلم بذلك أنّ الغذاء له الوحدة الأصليّة ، وإن اختلفت الصور من المغتذي بحسب اختلاف الأزمنة وتباين مقتضياتها ، فإن نشوء كلّ أحد إنّما يتصوّر أن يكون مما حضر في وقته ، فل يغتذي إلا من طرّيات لحوم زمانه ، ولا يحتظي إلا بيوانع أثمار أوانه ، وأم الاغتذاء من الأصل والارتضاع من امّ الولادة فليس حدّ كلّ أحد ( فلهذا نبّهناك ) على اختصاص موسى بذلك .
الأمّ من أرضعت ، لا من ولدت
قال رضي الله عنه :( وكنّى عن هذا ) الاختصاص ( في حق موسى بتحريم المراضع ، فامّه )التي فرغ فؤادها له ( على الحقيقة من أرضعته ، لا من ولَّدته ، فإنّ امّ الولادة حملته على جهة الأمانة ، فتكوّن فيها ) بدون جعل منها ( وتغذّى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك ، حتى لا يكون لها عليه امتنان ، فإنّه ما تغذّى إلا بما لو لم يتغذّ به ولم يخرج عنها ذلك الدم لأهلكها وأمرضها فللجنين المنّة على امّه بكونه تغذّى بذلك الدم ، فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده ، لو امتسك ذلك الدم عندها ولا يخرج ولا يتغذّى بها جنينها والمرضعة ليست كذلك ، فإنّها قصدت برضاعته حياته وإبقاءه ) .
تأويل الإيلاد والرضاع
ثمّ إنّ هاتين المدرجتين من الامّ في تربية الولد ، يمكن تطبيقها على ما نزلت عليه وأولت به من الحصّة الكماليّة المذكورة ، التي عبّر عن باطنها بالعلم ، وعن ظاهره بالنطق ،
وذلك في الإنسان هي خصوصيّته المنفرد هو بها وذلك أنّ لها مرتبتين في تربية الحقيقة النوعيّة المتولَّدة عنها ، إحداهما عند حملها في بطون العقل إيّاه بتقويم مفهومه الحدّي العقلي وسائر ما يلزمه من النسب الاعتباريّة
التي لا تزال في بطون العقل مقصورا بها ، وبيّن أنّ ذلك التقويم والتصوير من فضلات تلك الحصّة الكماليّة ، حيث أنّها لو لم تصدق على الجنين العقلي وتتّحد بها لأهلكت تلك الطبيعة وبطلت عن وحدتها الوجوديّة ،
وذلك التقويم والاغتذاء إنما هو في العقل من غير اختيار لتلك الحصّة فيه ، فإنّ ذلك قبل ظهوره في العين ،
والأخرى عند فصالها في الأفراد الخارجيّة التي لذلك النوع ، بتكميل تلك الحصّة في عينها إيّاه ، وإظهار آثارها الكماليّة فيها من العلم الذي هو الحياة الحقيقة والبقاء السرمدي ، كما أشار إليه في تربية المرضعة .
ثمّ إنّ الارتضاع من هذه الحصّة الكماليّة التي هي خصوصيّة هذا النوع وهو عبارة عن الاغتذاء بلبن العلم الجمعيّ القلبىّ ، الذي هو مؤدّى النطق الإنساني قلَّما يهتدي إليه الأولاد من أفراده ، ضرورة أنّ ذلك مما تفرّد به واحد بعد واحد من الكمّل فإنّ العامّة من أفراد هذا النوع يرتضعون بغير زوجة هذا النوع التي هي امّ الولادة لهم ،
فإنّهم إنّم يغتذون في مهد قبولهم باللذات الجسمانيّة وما يترتّب عليها في مداركهم الجزئيّة في طائفة ، وباللذات الروحانيّة وما يترتّب عليها في مداركهم الكليّة في أخرى وبيّن أنّ ذينك الغذائين لا يستفاضان من امّ ولادتهم - أعني النطق الإنساني والعلم الجمعي - بل من امّهات أخر أجنبيّات .
قال رضي الله عنه :( فجعل الله ذلك ) الرضاع ( لموسى في امّ ولادته ، فلم يكن لامرأة عليه فضل إلَّا لامّ ولادته ، لتقرّ عينها أيضا ) - كما قرّت عين فرعون وامرأته
(بتربيته ) هذا عند ظهور آثارها به في العين ، ( وتشاهد انتشاه في حجرها ) ، أي عند عروجه في مراقي أمر الإظهار أيض يشاهد امّه أنّه في طيّ تربيتها وحجر اصطناعها ، فتنبسط به ( " وَل تَحْزَنَ " ) ومن ثمة اختصّ بكمال الصورة الكليميّة ، ( ونجّاه الله من غمّ التابوت ) المادّة الجسميّة ، (فخرق ظلمة الطبيعة بما أعطاه الله ) عند فوزه برتبة الكمال الكليمي ( من العلم الإلهي وإن لم يخرج عنها ) بحسب تعيّنه الجسديّ .
فنبّه بهذ أنّ العروج في معراج الكمالات إنما هو بالعلم والخلاص من ظلمات المراتب الطبيعيّة الكونيّة لا يتحقّق إلَّا به .
قتل القبطي وتأويله
قال رضي الله عنه :( وفتّنه فتونا - أي اختبره في مواطن كثيرة ) ظلمانيّة عند مقابلة فرعون ، ونورانيّة عند مصاحبة خضر ، ( ليتحقّق في نفسه صبره على ما ابتلاه الله به فأوّل ما ابتلاه الله به قتله القبطيّ بما ألهمه الله ووفّقه له ووقى شرّه ) عند النهوض بمقابلته ، والقبط على طبق ما ذكر من التأويل كناية عن الشركة التطبيقيّة التي من قبل المادّة الجنسيّة .
وفي بعض النسخ : « ووفّقه له في سرّه » - ( وإن لم يعلم له بذلك ) الإلهام والتوفيق ، ( ولكن ) يظهر أثره عنده ، وهو أنّه ( لا يجد في نفسه اكتراثا بقتله ، مع كونه ما توقّف حتى يأتيه أمر ربّه بذلك ) الفعل ، كما هو دأب النبوّة .
وذلك كلَّه ( لأنّ النبي معصوم الباطن ) في نفسه ( من حيث لا يشعر حتى ينبّأ أي يخبر بذلك ولهذا أراه الخضر ) عندما قصد تنبيهه على ما ذهل عنه من العلوم المخزونة فيه .
قال رضي الله عنه :( قتل الغلام ، فأنكر عليه قتله ولم يتذكَّر قتله القبطيّ ، فقال له الخضر : " ما فَعَلْتُه ُ عَنْ أَمْرِي " ، ينبّهه على مرتبته قبل أن ينبّأ : إنّه كان معصوم الحركة في نفس الأمر وإن لم يشعر بذلك ) وإنّه ما فعل ذلك عن أمره .
وقدّم هذ التنبيه لعظم شأنه وظهور آثاره على موسى ، وكمال نبوّته واختباره به ، وإلَّ فالمقدّم وجودا وذكرا أمر السفينة .
تأويل خرق السفينة
قال رضي الله عنه :( وأراه أيضا خرق السفينة ، التي ظاهرها هلك وباطنها نجاة من يد الغاصب ) الذي يتصرّف فيما لغيره أن يتصرّف فيه ويفسده عن مزاجه المتوجّه نحو غايته المقصودة منه ، ( جعل له ذلك في مقابلة التابوت الذي كان في اليمّ مطبقا عليه ) فإنّ إلقاء الشخص في التابوت المطبق عليه ( ظاهره هلاك وباطنه نجاة ، وإنّما فعلت به امّه ذلك خوف من يد الغاصب) .
أي القوّة الحيوانيّة المتفرّعة عن أصل الحيّ ، الطاغية عليه ، وهي التي عبّر عن مبدئها باسم ( فرعون ) لما يدلّ عليه مادّة كلمته من الفرع الفرقي الرفيع والعرف الظاهر الكوني ، ظاهرة بالواو والنون ، الذين من أبين دلائل التفرقة والكون ، ولذلك تراه في لغة العرب ، المعرب علامة الجمع .
الجنس السافل أجمع للكثرة
ثمّ هاهن نكتة حكمية لها كثير دخل فيما نحن بصدده ، وهي أنّ سلطان التفرقة إنّما استقرّت على سرير خلافته في الجنس السافل وطبيعته ، فإنّ غيره من الأجناس وإن كان أعم مفهوما وأشمل أفرادا ،
ولكن تخالف حقائق الأفراد وتباين أحكامها المتباعدة عن ربط الوحدة فيه أشدّ تضادا وأظهر حكم وبيّن أنّ ذلك التخالف والتبائن هو مرقى ظهور التفرقة الإمكانيّة ، ومستوى حكم الكثرة الكونيّة فالجنس السافل أجمع لوجوه الكثرة والأحكام الكونيّة من الكل ، ولذلك ترى حقيقته منطوية على حقائق العوالي كلها.
فإذا عرفت هذا وجدت المطابقة الطبيعيّة بين ذلك الاسم وهذا المعنى بما لا مزيد عليه .
مقتضى الكلمة الموسوية طرف العلو
ثمّ إنّه إنّما وقع التطبيق في القصّة الموسويّة بلسان أهل النظر ، وظهرت الكلمات المنزلة فيها بصور أصول الحكمة النظريّة كما عرفت لأنّ مقتضى الكلمة الكاملة الموسويّة طرف الظهور والعلو من كل مسلك وموطن ،
ومن ثمّة تراه قد طلب في موطن الشعور ومرتبة الظهور الرؤية التي هي أجلى المحسوسات وأعلاه قدرا في أمر الظهور ،
وفي موطن الإشعار ومرتبة الإظهار فاز برتبة الكليميّة التي أنهى غايات كماله ، وذروة شاهق جلاله ، وفي موطن الإنباء ومرتبة الرسالة بإنزال كتاب التوراة المشحونة بالقصص والأحكام ، المشتمل صورتها التلويحية على مادّة الرؤية ، محفوفة بتاء التفصيل والتبيين .
فكذلك في أمر تبيين الحقائق ، فإنّه ظهر فيه بما هو أبين أطرافه ، وهو مدرك القوّة النظريّة العقليّة التي تشترك فيها العامّة من أهل الظاهر ، ولذلك سلك فرعون عند مناظرته إيّاه وسؤاله عنه حقيقة الحقّ مسلكهم في إيراد " مطلب ما " في مطلع استكشافه - كما ستقف عليه - وكان اللسان المتداول والعلم المتناول بينهم في زمانهم هو الحكمة بهذه الصورة " وَما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِه ِ " .
كل حكم ولازم لا بد له من صورتين عدميّة ووجوديّة
ثم إنّ كل حكم ولازم ظهر - في أيّ مرتبة كانت لا بدّ له من الصورتين :
إحداهم عدميّة كونيّة من نفس المرتبة التي هي الظاهرة منها ،
وأخرى وجوديّة من أصل حقيقتها وكذلك ما هو مبدأ فعل امّ موسى به ، له فيها صورة ظاهرة عدميّة ، وهي الخوف من يد الغاصب ( أن يذبحه صبرا ، وهي تنظر إليه ) أي بمحضر منها ، فإنّ هذه الصورة هي أشدّ ما يكون تأثيرا في الامّ ونكاية لها ، والذبح صبرا هو أن يحبس ذو روح لأن يرمى عليه لقتله .
وفيه إشارة إلى م بين تلك المادّة وبين اللطيفة الإنسانيّة من البعد الرتبي وقصدها بتوجيه سهام القوى واقتضاءاتها المتفرّقة المفرّقة نحوها ، وهي المهلكة لها عن صورتها الجمعيّة الكماليّة اللطيفة ، من غير ضعف ونقصان للقابل ، بل بقهر من الفاعل ، وهو المعبّر عنه بالذبح .
وإلى الصورة الأخرى الوجوديّة التي للمبدإ أشار بقوله : ( مع الوحي الذي ألهمها الله به من حيث لا تشعر ) ، فإنّه طرف خفاء ذلك المبدء ، ( فوجدت ) من حيث هذه الصورة الوجوديّة الأصليّة التي لها ( في نفسها أنّها ترضعه فإذا خافت عليه ) من حيث سريان الصورة الأخرى فيها ( ألقته في اليمّ ) ، يعني طرف المدارك المتفرقة الجسمانيّة ، ليغيب عن نظرها فيخفّ نكايته عليها ( لأنّ في المثل : « عين لا ترى ، قلب لا يفجع » ) أي لا توجع ، من أفجعته المصيبة : إذا أوجعته .
قال رضي الله عنه :( فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ) هذا عند النظر وقبله ، ( ولا حزنت عليه ) بعد ذلك ( حزن رؤية بصر ) ولتقدم الخوف على الحزن في الوجود والرتبة - جارحة ومدركا - تقدّم الأصل على فرعه خصّ كلا منهما بمحله المرتّب ذلك الترتيب .
ثم إنّه من مقتضى غلبة الصورة الوجوديّة على باطنها ظهر عليها ( وغلب على ظنّها أنّ الله ربما ردّه إليها بحسن ظنها به ، فعاشت بهذا الظن في نفسها والرجاء ) الذي من أثر ذلك المبدء الوجودي ( يقابل الخوف واليأس ) الذي هو مبدأ الحزن ، مقابلة الرسول فرعون والقبط وغلب حكم هذا الرجاء حتى ظهر أمره في الكلام .
قال رضي الله عنه :( فقالت حين ألهمت لذلك : لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يده ، فعاشت وسرّت بهذ التوهم والظنّ )
اللذين هم مبدأ الحزن والخوف العدميين ، الحاصلين بالنظر إلى المظهر الكوني ، ولذلك قال : (بالنظر إليه ) .
وأمّا من حيث الأمر الوجودي ( فهو علم في نفس الأمر ) ، وهذا كلَّه ظهر من الامّ التي هي الخصوصيّة الكماليّة التي للنوع الحقيقيّ الكماليّ وقد عرفت أنّ تلك الخصوصيّة هي أحديّة الجمعيّة ، فيصلح لأن يكون مولدا للكل كما نبّه إليه .
الحركة الحبّية
قال رضي الله عنه :( ثمّ إنّه ) سرت خصوصيّات الامّ في ولدها وخلفها الحقّ ، ولذلك (لما وقع عليه الطلب خرج فارّا خوفا في الظاهر ، وكان في المعنى حبّا في النجاة ، فإنّ الحركة أبدا إنّما هي حبّية ، ويحجب الناظر فيها بأسباب أخر ) عدميّة قريبة إلى الصورة الكونيّة ، لكونه محجوبا بها ،

قال رضي الله عنه :( وليست ) الأسباب في الحقيقة ( تلك ) الأمور ، ( وذلك لأنّ الأصل ) في سائر الحركات ( حركة العالم من العدم الذي كان ساكنا فيه ) إلى العدم الإضافي الذي له بالقياس إلى كونه عالما ، وهو المسمّى بالثبوت ، فإنّه ينتقل عين العالم منه ( إلى الوجود ، ولذلك يقال : إنّ الأمر حركة عن سكون فكانت الحركة - التي هي وجود العالم - حركة حبّ ) يعني الحياة والبقاء ، كما يلوّح عليهما بحرفيه .
قال رضي الله عنه :(وقد نبّه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على ذلك بقوله : « كنت كنزا لم أعرف ، فأحببت أن اعرف » ) أي أظهر ، ( فلو لا هذه المحبّة ما ظهر العالم في عينه ، فحركته من العدم إلى الوجود حركة حبّ الموجد لذلك ) .
هذا بلسان الإجمال ، وأما لسان التفصيل : فأشار إليه بقوله رضي الله عنه : ( ولأنّ العالم أيضا يحبّ شهود نفسه وجود ، كما شهدها ثبوتا ) في الحضرات الجلائيّة (فكانت بكلّ وجه حركته من العدم الثبوتيّ إلى الوجود حركة حبّ من جانب الحقّ و ) من ( جانبه فإنّ الكمال محبوب لذاته ) وساير ما ينسب إليه المحبّة فلاشتماله على الكمال كالحسن - مثلا - فإنّه كمال النسبة الاعتداليّة التي هي ظلّ الوحدة ، وكذلك كلّ ما يميل إليه القلب من المستلذّات الجسمانيّة فإنّه كمال تلك القوة المدركة لتلك اللذة فإنّ الكمال هو الظهور على نفسه بصورته الكلَّية العلميّة والجزئيّة الحسيّة .
علمه تعالى مبدأ وجود الخلق
قال رضي الله عنه :( وعلمه تعالى بنفسه من حيث هو غنيّ عن العالمين ، هو ) الظهور الكمالي الذي ( له ) لذاته ، وهو الذي يقال له الكمال الذاتي وبيّن أنّ الكمال الإلهي أعمّ من الذاتي والأسمائي ، إذ له الكمال على الإطلاق .
فإلى الأسمائيّ منه أشار بقوله : ( وما بقي ) له ( الإتمام مرتبة العلم بالعلم الحادث الذي يكون من هذه الأعيان ، أعيان العالم ) الظاهرة بصورة الآثار من كلّ اسم ، كالعلم مثلا ، فإنّه ظاهر بصورة الكلام الذي هو أثره ، والحياة فإنّها ظاهرة بصورة الحسّ والحركة الإراديّة التي هي أثرها وكذا في سائر الأسماء .
وكأنّك قد عرفت أنّه كما أنّ في الأعيان آثارا من الأسماء - كما بيّن - كذلك في الأسماء آثارا من الأعيان ، وهي اتّصافها بالحدوث وذلك لأنّ الأعيان
قال رضي الله عنه :(إذا وجدت ) حكمت على علمها بالحدوث ، ( فتظهر صورة الكمال بالعلم المحدث والقديم ، فتكمل مرتبة العلم بالوجهين ) وكذا غيره من الأسماء ( وكذلك تكمل مراتب الوجود ) وإذ كان الوجود أصل الكلّ فمرتبة كل اسم هي مرتبة الوجود ، نبّه إلى تلك الدقيقة بصيغة الجمع .
قال رضي الله عنه :( فإنّ الوجود منه أزليّ ، وغير أزليّ وهو الحادث : فالأزلي وجود الحقّ لنفسه ) وعليه يطلق الكمال الذاتي ، ويلزمه الغناء المطلق من حيث علمه بنفسه فإنّه به مستغن عن العالم .
قال رضي الله عنه :( وغير الأزلي وجود الحقّ بصور العالم الثابت ) في المراتب الجلائيّة ، القديم بذلك الوجه إلَّ أنّ العالم بذلك الوجه له الخفاء من حيثيّة العالم ، ولذلك ما كانت أعيانه ظاهرة بصورها لنفسها ولا بعضها للبعض ، فإنّه إنما يتحقّق له ذلك في الوجود الذي له بحقّ الوهب من حضرة الجود ، ويستقلّ كل من تلك الأعيان به ظهورا وإظهارا فتحدث النسب الإدراكية التي بعضها للبعض .
وإليه أشار بقوله :( فيسمّى حدوثا ، لأنّه ظهر بعضه لبعضه ) في أعيان العالم ، ( فظهر لنفسه ) من حيث تلك الأعيان ( بصور العالم ) ، كم ظهر لها بصورته ، ( فكمل الوجود ) بصورتيه وظهوريه .
قال رضي الله عنه :( فكانت حركة العالم حبّية للكمال ) الأسمائي الذي هو عبارة عن ظهور الأعيان بعضها للبعض ، ولنفسه جملة وفرادى ، وتفرقة وجمعا ( فافهم ) بل الحركة مطلقا سواء كان للعالم أو للحضرات كلها حبّية .
النفس الرحماني
قال رضي الله عنه :( ألا تراه ) يعني الهوية المطلقة ( كيف نفّس عن الأسماء الإلهيّة ما كانت تجده ) في غيبه ( من عدم ظهور آثارها في عين مسمّى العالم ) ، فإنّه نفّس في عين العالم عن الأسماء الإلهيّة - المعبّر عنها جملة بالرحمن - مالها من الكرب الذي لها في عينه ولهذ يقال له النفس الرحماني (فكانت الراحة محبوبة له ، ولم يوصل إليه إلا بالوجود الصوري ، الأعلى والأسفل ) يعني الحضرات والعوالم .
العلم بالحركة الحبيّة وعدمه سبب اختلاف الصوفيّة وأهل النظر
قال رضي الله عنه :( فثبت أنّ الحركة كانت للحبّ ، فما ثمّ حركة في الكون إلَّا وهي حبّية فمن العلماء من يعلم ذلك ) فينسب سائر ما يظهر في المراتب الكونيّة من الآثار إلى الحبّ ، باعتبار المحبيّة والمحبوبيّة ، كبعض المتأخّرين من الصوفيّة ، الذين يجعلون موضوع كلامهم العاشق والمعشوق ، ويثبتون سائر الأحكام بهم
قال رضي الله عنه :( ومنهم من يحجبه السبب الأقرب ) كأكثر أهل النظر من الحكماء والمتكلمين ( بحكمه في الحال واستيلائه على النفس ) ، فإنّ أعيان المراتب المحسوسة منها الآثار والأحكام ، لظهور حكمها على مدارك العامّة ، هي أقرب ما ينسب إليه تلك الآثار - ومما يتفرّع على ذلك الأصل الاختلاف بين أهل النظر في أنّ اللذة والراحة من دفع المنافي وإدراك الملائم .
ذكر سبب فرار موسى
قال رضي الله عنه :( فكان الخوف لموسى مشهودا له لما وقع من قتله القبطي ) ، فهو صورته الكونيّة ، ( وتضمّن الخوف حبّ النجاة من القتل ) ، تضمّن الصور الكونيّة حقائقها الوجوديّة ، ( ففرّ ) عندما هو الظاهر عند العامّة ( لمّا خاف وفي المعنى : ففرّ لمّ أحبّ النجاة من فرعون وعمله به فذكر السبب الأقرب المشهود له في الوقت الذي هو كصورة الجسم للبشر ) ، فإنها الصورة الكونية للشخص ( وحبّ النجاة متضمن فيه تضمين الجسد للروح المدبّر له ) وهو صورة حقيقته الوجوديّة .
الأنبياء يتكلمون بلسان العموم ، والخاصة يفهمون منهم الإشارات
ثمّ إنّه يمكن أن يقال : « لو كان الأمر كذلك ، كان منطوق التنزيل على طبقه ، والواقع على خلاف ذلك فإنّ منطوق التنزيل في هذا الأمر أنّ سبب الفرار إنما هو الخوف ، بقوله : " فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ".
فأشار إلى دفع ذلك بقوله :( والأنبياء لهم لسان الظاهر به يتكلَّمون لعموم الخطاب ) ، فإنّ بعث الأنبياء للعامّة أولا ، وكلامهم في ظاهر ما فهم منه معهم ، والخواصّ إنما يفهمون الحقائق منه بضرب من الإشارات الخفيّة والدلالات الطبيعيّة ، دون الجعليّة الوضعيّة ،
( واعتمادهم ) في اخفاء الحقائق ( على فهم العالم السامع ، فلا يعتبر الرسل ) عند إظهار الأحكام في الصور الكلاميّة
قال رضي الله عنه :( إلَّا العامّة ، لعلمهم بمرتبة أهل الفهم ، كما نبّه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على هذه المرتبة في العطايا ، فقال : "إنّي لاعطى الرجل - وغيره أحبّ إليّ منه - مخافة أن يكبّه الله في النار " ) ، فعلم أنّه في إحكام رقيقة الأبعدين ، مخافة أن يبعدوا عنه كلّ البعد ، فيكبّوا في النار .
قال رضي الله عنه :(فاعتبر الضعيف العقل والنظر ، الذي غلب عليه الطمع و ) هو عين ( الطبع ) الذي طبع على قلوبهم - بميم التمام ، بدل باء الإبانة والظهور - ( فكذا ما جاؤوا به من العلوم ، جاؤوا به وعليه خلعة أدنى الفهوم ) أي صورة قبول من كان في أوائل درجات الفهم الذي يختصّ بنوعه ( ليقف من لا غوص له ) في الصور القشريّة التي هي لشخص المعنى - وبدن الأب بمنزلة الخلقة للشخص من الأبعدين .
قال رضي الله عنه :( عند الخلعة ) كعلماء الرسوم المتدبّرين فيه بما عندهم من العلوم الأدبيّة المميّزة بين الفاخرة من تلك الخلع التركيبيّة وغيرها ، والعلوم الاعتقاديّة العلميّة والعمليّة أصول وفروع .
قال رضي الله عنه :( فيقول : ما أحسن هذه الخلعة ) عند مطابقتها أصل عقيدتهم وعلى قدر نيّتهم وامنيّتهم فيم يحسنونه من العلوم ، ( ويراها غاية الدرجة ) حيث يقول صاحب علم الأدب : « إنّه حد الإعجاز » .
قال رضي الله عنه :( ويقول صاحب الفهم الدقيق ، الغائص على درر الحكم ) عند الخوض في بحور معانيه ولطائف حقائقه ( بما استوجب هذا ) القول ( « هذه الخلعة - الفاخرة التي على قدر جملة النيّات والعقائد - من الملك » ) الذي إنما يخلع على كل أحد بقدّ قابليّته .
( فينظر في قدر الخلعة ) من الصفاء والخلوص المعبّر عندهم بالفصاحة والبلاغة (وصنفها من الثياب ) المعمولة هي منها ، ككونها في كسوة العربيّ أو السريانيّ ، أو غير ذلك .
قال رضي الله عنه :( فيعلم منها قدر من خلعت عليه ) من المعاني اللطيفة الذوقيّة المستنبطة تارة من قدر تلك الخلعة وصورتها التركيبيّة وخواصّ هيئاتها الجمعيّة ، وأخرى من أصل كسوتها وموادّ حروفه ، رقميّة ولفظيّة ، ( فيعثر على علم لم يحصل لغيره ممن لا علم له بمثل هذا ) الانتقال والاستنباط .
قال رضي الله عنه :(ولما علمت الأنبياء والرسل والورثة أنّ في العالم وفي امّتهم من هو بهذه المثابة ) في الفهم عن الكلام المنزل إليهم ، الظاهر عنهم ، (عمدوا في العبارة إلى اللسان الظاهر الذي يقع فيه اشتراك الخاصّ والعامّ ، فيفهم منه الخاصّ ما فهم العام منه وزيادة ، مما صحّ له به اسم أنّه خاصّ ، فيتميّز به عن العامّي فاكتفى المبلَّغون ) في إبلاغهم ( العلوم بهذا )القدر من الإيماء والإشارة .
ل منافاة بين فهم أهل الخصوص والعموم من القرآن الكريم
ثم إنّه ممّ علم في طيّ هذه المقدّمات من الحكم أنّ فهم أهل الخصوص يشارك فهم العامّة عند الاحتظاء من الكلام النبوي ويوافقونهم عند الاغتذاء من نوال كمالهم غير أنّ الخواصّ يفهمون مع ذلك غيره من اللطائف الذوقيّة ، فلا منافاة بين المفهومين أصلا ،
والذي تسمعه من المعزوّين إلى الصوفية "إنّ ما في التفاسير من المعاني غير مراد من القرآن ، وإنّ المراد منه أمر آخر " .
فمما لا أصل له في التحقيق ، فإنّ كل ما فهم منه عند الأذكياء على أصل من أصول ، لا بدّ وأن يكون من المراد نعم - الحصر في معنى معيّن ومفهوم خاصّ من ذلك المعاني ينافي التحقيق ، كما علم أنّ غير الأنبياء من ورثتهم ، الذين لهم استحقاق إبلاغ العلوم ، لا بدّ وأن يكون كلامهم أيضا جامعا بين الطرفين ، محيطا بالفهمين .


) قال رضي الله عنه :فهذا حكمة قوله : فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ) حيث عبر عن مبدأ فراره وحركته بالخوف ، تنزّلا إلى مدارك فهوم العامّة ، وممّا يؤيّد هذا تكرر الخطاب بصورة الجمع والتفرقة الكونيّة ( ولم يقل : « ففررت منكم حبّا في السلامة والعافية » ) .
ارتباط سقي موسى للجاريتين وإقامة خضر للجدار
قال رضي الله عنه :( فجاء إلى مدين ) - الدين الجمعي والكمال الإظهاري وإفاضة علمي الظاهر والباطن الإنبائي والتشريعي ، العامّي والخاصّي - ( فوجد الجاريتين( القابلتين لتينك الإفاضتين بوثاقة نسبة القرب والجارية ، ( فسقى لهما من غير أجر ) من النقود الفعليّة المعدّة لهما في استفاضة ذلك النوع من صنفي الكمال والأعمال الصالحة ، المورّثة لهما تلك العلوم والمعارف .
قال رضي الله عنه :( " ثُمَّ تَوَلَّى " ) من التفرقة الكونيّة ( " إِلَى الظِّلِّ " الإلهيّ ) والجمع الإجمالي ، فإنّ « الظلّ »هو لام الجمعيّة الإلهيّة وشجرة كليّتها التي أصلها ثابت وفرعها في السماء - كما عرفت من تلويحاته - إذا ظهر به ظاء الظهور وبيّن أنّ هذا الظلّ مستقرّ الكلمات الكاملة ومقيل استراحتهم وقربهم إلى أصل تلك الشجرة ، وموطن مناداتهم ومناجاتهم معه .
قال رضي الله عنه :( " فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ " ) مما سقيته لهم ( "من خَيْرٍ") - يعني إفاضة اللطائف الكماليّة الوجوديّة فإنّ الخير هو الوجود - ( " فَقِيرٌ " ) إليك ، محتاج لأن تفيض علي من ذلك الخير ، ويشفي به غلَّة طلبي وشوقي ، ويكفي ذلك في إشباع غاذية استعدادي .
قال رضي الله عنه :( فجعل عين عمله السقي عين الخير الذي أنزله الله إليه ، ووصف نفسه
بالفقر إلى الله في الخير الذي عنده ، فأراه الخضر إقامة الجدار من غير أجر ) ، يعني جدار الإظهار في مقابلة سقيه وإفاضته ، ( فعتبه على ذلك ، فذكَّره بسقايته من غير أجر ) تنبيها لظهور مثل ذلك منه ، على ما هو مقتضى تقابل كلمتيهم وتعاكس الأمر فيهما ، كما في الصورة المشار إليها ، ( إلى غير ذلك مما لم يذكر ) .
النبوّة سلطان الاسم الظاهر ، والولاية سلطان الاسم الباطن
ثمّ هاهن نكتة حكميّة لها كثير دخل في استكشاف أسرار هذا الموضع ووجوه لطائفه ، وهي أنّ طرف النبوّة - من حيث هي هي - لغلبة حكم الصورة فيها سلطنة للاسم الظاهر ،
كما أن سلطنة طرف الولاية - من حيث هي - لغلبة حكم المعنى فيها للاسم الباطن ومن ثمّة ترى الآثار المترتّبة على النبوّة ليست إلَّا إظهار الشرائع والنواميس ، وأحكامها الخصيصة به إنّما هي الصور المنبئة عن الحقائق والأمور في نفسها والآثار المترتّبة على الولاية من حيث هي ليست إلَّا العلم بما انطوى عليه تلك الشرائع والنواميس من الحقائق ، وحكمها المختصّة بها إنّما هو كشف تلك الصور عن وجوه حقائقها .
وجه اختفاء بعض الحكم على صاحب النبوّة
ويتفرّع عن هذا الأصل وجوه من الحكم :
منها : ما سبق الإيماء به من أنّ النبوّة - من حيث أنّها نبوّة - قد يظهر منها أحكام وصور ذوات حكم وإيقان على ذهول من صاحبها ، بل قد يشتبه عليه وجه حقيقتها مع كمال عصمته ، فضلا عن عثوره على وجوه حكمتها ، إلى أن يبلغ مجمع بحري الولاية والنبوّة ،
ويظهر حكم قهرمان الجمعيّة بمصاحبة الصاحبين هنالك وحينئذ ينكشف لصاحب النبوّة ما اشتبه عليه وذهل عنه كما اشتبه على الكلمة الموسويّة ما جرى عليها ، ذاهلة عنه من الأمور المعدّة لها في نشوء تلك المرتبة الرفيعة ،
إلى بلوغه الحافظة لها عمّا يعوقها عن كمالها الموصلة إيّاها ، لتمام أمرها من إفاضة مدرار الإنباء والإظهار - يعني صورة إلقاء موسى في التابوت ، وقتله القبط ، وسقيه الجاريتين - إلى أن عاين وجوه حكمة تلك الصور عندم بلغ مجمع البحرين وبه صاحب خضر .
وجه اختصاص الكلمة الموسويّة بهذه الخصوصيّات
ومنها : وجه اختصاص الكلمة الموسويّة بين الأنبياء بهذا الاشتباه والذهول وذلك لأنّ النبوّة قد ظهر فيها بخصوصيّات أحكامها المنفردة بها عمّا يقابلها من العلوّ والظهور بالقهر والقوّة ، وسائر مقتضيات الكثرة ولوازم الصورة - كما نبّهت عليه في مطلع الفصّ - ومن شأن الحكم الإلهيّة أنّه إذا ظهر أحد المتقابلين بخصوصيّته الفارقة ، لا بدّ وأن يستعدي ذلك الظهور إلى الآخر ، بل يوجب ظهور الآخر بما اختصّ به .
كما عرفت تحقيق ذلك آنفا عند الكلام في حكمة إلقاء موسى في التابوت ، وإلقائه في اليمّ ، من أنّ ظهور المقابل إنّما يتمّ ويكمل بظهور ما يقابله فلا بدّ وأن تظهر الولاية بخصوصيّتها المميّزة إيّاها من العلوم والحكم الفائضة من بطون الوحدة وحضرات القرب في كلمة خضريّة ، عند ظهور الكلمة الموسويّة بخصوصيّة النبوّة وأحكامها الفارقة من الصور والأوضاع الناشئة من ظهور الكثرة فإنّ منها ما اختصّ به تلك الكلمة من الظهور بالآيات التسع ، وهي أنهى مراتب الكثرة ، وأقصى غاية الصور .
ومن هاهن ترى حكم الكثرة والتقابل سارية في سائر مدارج ظهوره :
حيث لا يحصل لها كمال في مرتبة إلَّا عند مقابلة الآخر لها في تلك المرتبة كالمنجمّين عند حكمهم على قتلها .
أول ما يدخل في المراتب الاستيداعية
ثمّ مقابلتها القبطي قبل دعوتها ،
ثمّ مناظرتها السحرة عند دعوتها وإظهار معجزتها ،
ثمّ معاداة فرعون إيّاها عند ظهور نبوّتها ،
ثمّ مباحثة خضر معها عند كمال نبوّته
ولذلك قد امر عند طيّها طوى الغرب وبساط الخطاب بخلع نعلي التقابل .
الولاية والنبوّة في زمان الخاتم صلَّى الله عليه وآله
ثمّ إذ تقرّر هذا تبيّن لك أن ظهور الولاية والنبوّة بخصوصيّتهما الفارقتين ، المميّزتين إيّاهما ، المنبئتين عن قصص ما بينهما من تفاصيل الأحكام ، إنّما يتوقع بلوغهم إلى مرتبة التمام في أيّام موسى ، وظهور كلمته العليا ،
فإنّ زمان خاتم النبوّة صلَّى الله عليه وسلَّم - لظهوره بأحديّة جمع الخصائص الكماليّة كلَّها - قد غلب فيه حكم الجمعيّة والوحدة ، ولا مجال للكثرة والتقابل .
على أنّ الولاية مندمجة مغلوبة تحت حكم نبوّته الختميّة في ذلك الزمان ، فما كان لها أن يظهر فيها خصوصيّتها الامتيازيّة ، ولذلك تراه طالبا عند الإنباء عن تينك الخصوصيّتين والإفصاح عمّا نطق به لسان الولاية والنبوّة بخصوصيّتيهما أن يظهر لسان الولاية بأحكامها الخاصّة بها أكثر مما ظهر ،
قال رضي الله عنه :( حتى تمنّى صلَّى الله عليه وسلَّم أن يسكت موسى عليه السّلام ) عن مقتضيات خصوصيّة النبوّة والغلبة التي من جهتها - كما ورد في الآثار الصحيحة منه : « لو صبر لرأى العجب ، ولكن أخذته من صاحبه ذمامة » ، ضرورة أنّ أحكام الباطن التي هي من خصوصيّات الولاية موطن عجائب الآثار وغرائب الأطوار .

"" أضاف الجامع :
حديث مسلم : رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " رحمة الله علينا، وعلى موسى لولا أنه عجل، واستحيا وأخذته ذمامة من صاحبه، فقال: "إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني" [الكهف: 76] لرأى من صاحبه عجبا ". رواه مسلم وابن حبان وابي داود والنسائي وابن ماجة واحمد ابن حنبل والحاكم في المستدرك وغيرهم. ""
حكمة نسيان موسى وعدم سكوته عند خضر عليهما السّلام
فلو أنّ موسى يسكت ( ولا يعترض حتى يقصّ الله عليه )بلساني موسى وخضر اللذين هم وجها النبوّة والولاية ( من أمرهم ، فيعلم بذلك ما وفّق إليه موسى من غير علم منه ) فإنّه وجه النبوة .
وبيّن أن ذلك الوجه وإن صدر عنه الأفعال المتقنة والأوضاع المحكمة ذوات نظم وحكم ، ولكن لا علم له من هذا الوجه بها ، ( إذ لو كان عن علم ) فيما صدر منه ( ما أنكر مثل ذلك على الخضر ، الذي قد شهد الله له عند موسى ) بالعلم - حيث قال : " وَعَلَّمْناه ُ من لَدُنَّا عِلْماً " " وزكَّاه".
(وعدّله ) حيث قال " آتَيْناه ُ رَحْمَةً من عِنْدِنا " ( ومع هذا غفل موسى عن تزكية الله وعمّا شرط عليه في اتّباعه ) ، على ما هو المستفاد من قوله تعالى :
(هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّ عُلِّمْتَ رُشْداً . قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً . قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ الله صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً . قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْه ُ ذِكْراً ) .
ثم إنّ موسى مع هذه التنبيهات والتعريكات قد غفل عمّا شرط عليه حتى سأل مع كمال تيقّظه وتفطَّنه ( رحمة بنا إذ نسينا أمر الله ولو كان موسى عالما بذلك ما قال له الخضر : " ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً ")
بعد قوله : " إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً " ( أي إنّي على علم لم يحصل لك عن ذوق ) ، فإنّ الخبرة هو العلم الحاصل من الذوق ، كما أنّ الإحاطة بالشيء يستلزم العلوّ عليه ، ( كما أنت على علم لا أعلمه أنا - فأنصف ) .
حكمة فراق خضر وموسى
قال رضي الله عنه :( وأمّا حكمة فراقه ) - مع إمكان الاستفادة من الطرفين والإفاضة من آثارهما على العالمين ( فلأنّ الرسول يقول الله فيه ) إنباء لحكم مرتبته الرفيعة ، وتنبيها لمبلغ تعظيم الناس إيّاها : ( " وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه ُ وَما نَهاكُمْ عَنْه ُ فَانْتَهُوا " فوقفت العلماء باللَّه - الذين يعرفون قدر الرسالة والرسول - عند هذا القول وقد علم الخضر ) في طيّ ما علَّمه الله من لدنه .
قال رضي الله عنه :( أنّ موسى رسول ، فأخذ يرقب ما يكون منه ، ليوفى الأدب حقّه مع الرسل ) توفية لعبوديّة الله حقّه .
( فقال له ) موسى الخضر فيما شرط معه : ( " إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَل تُصاحِبْنِي")
ووجه ذلك أنّ موسى له أن يسأل عن المواطن الثلاثة التي نبّهت عليه من مبدأ أمر النبوّة وأوسط ظهوره وكمال إظهاره
وأمّ الرابع منه - وهو موطن ختمها - فل حقّ له في ذلك ،
فلذلك قال : " فَل تُصاحِبْنِي " بعد الثالثة ، ( فنهاه عن صحبته فلمّا وقعت منه الثالثة : قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ " ، ولم يقل له موسى : "لا تفعل " ، ولا طلب صحبته )
على كمال اهتمامه بما يترتّب على تلك الصحبة من العلوم ، كما استفاد من سوابق الشروط ووثائق العهود مرّة بعد أخرى .
قال رضي الله عنه :(لعلمه بقدر الرتبة التي هو فيها ) وهي الرسالة العليا ( التي أنطقته بالنهي عن أن يصحبه ) بعد الثالثة من المواطن المذكورة ( فسكت موسى ) عند إخبار الخضر إيّاه بالفراق وإجازته ذلك عنه ، ( فوقع الفراق ) من قبل موسى وسكوته عند الإخبار والاستجازة .
الكلام متعلق بالنبوّة والكتاب بالرسالة
ثمّ هاهن نكتة جليلة لا بدّ من التلويح إليها ، وهي أنّك قد عرفت فيما بيّن لك أنّ ما يرسل به الرسل من الحروف له طرف ظاهر كلامي يتعلَّق بخصوصيّته النبويّة ، وطرف باطن كتابيّ يتعلَّق بخصوصيّته الولائيّة .
وكما أنّ الأول إنّما يظهر عند تموّج الهواء وتكيّفه بالكيفيّات المسموعة ، كذلك الثاني ل تظهر إلَّا بتوسّط الضياء وتكيّفه بالكيفيّات المبصرة .
وإذا تقرّر هذا فاعلم إنّ موسى بناء على الأصل الممهّد آنفا له استحقاق الظهور بالخصوصيّة النبويّة ، فلذلك عيّن له منصب الكليميّة وفاز به ، فلا بدّ أن يتحقّق بإزائه في زمانه من له استحقاق الظهور بالخصوصيّة الولائيّة وتعيّن بصورته الكتابيّة - وهو الخضر - فمن تأمّل في هذه التلويح ظهر له وجوه من الحكم منها سبب تسميته « خضرا » ودوام حياته وخوضه في الظلمات - إلى غير ذلك .
مراعاة موسي وخضر عليهما السّلام كمال الأدب الإلهي في التعليم والتعلَّم
قال رضي الله عنه :( فانظر إلى كمال هذين الرجلين في العلم ) بشرائط التعليم والتعلَّم وانتهاج طريق الأدب فيهم خالصا عن شائبتي الرعونة والاستنكاف ، وهو الأدب الإلهيّ المنزّه عن حكم الكون ،
ولذلك قال رضي الله عنه : ( وتوفية الأدب الإلهيّ حقّها ) ، وهو القيام بحقوق كلّ ذي رتبة من الاتّضاع له على قدر ما عليه من الارتفاع ، كسؤال موسى مع علوّ شأنه في الرسالة والخلافة : "هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً " .
قال رضي الله عنه :(وإنصاف الخضر فيما اعترف به عند موسى ، حيث قال : " أنا على علم علَّمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علَّمك الله لا أعلمه أن " ، فكان هذا الإعلام من الخضر ) الذي له رتبة التعليم والإرشاد في هذه الصحبة .
""أضاف الجامع :
حديث الحميدي: ( .... قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوبا فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا، قال: (إنك لن تستطيع معي صبرا)، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه ل تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال موسى: "ستجدني إن شاء الله صابرا، ولا أعصي لك أمرا" [الكهف: 69]، فقال له الخضر: "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا" [الكهف: 70]، فانطلق يمشيان على ساحل البحر....) صحيح البخاري و ابن حبان والبيهقي و مسند احمد ومسند الحميدي و الجامع الصغير للسيوطي ومسند ابي عوانه . ""
قال رضي الله عنه :( لموسى دواء لم جرحه به في قوله : " وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً") كما هو مقتضى حكم الإرشاد والتسليك من تمكين السالك الطالب أولا في مقام التخلية مطلقا ، عمّا هو بصدد طلبه من الكمالات ،
وتنبيهه آخر على ما هو المتحلَّى به في نفسه فمكَّن الخضر موسى في مقام التخلية أول ( مع علمه بعلوّ مرتبته بالرسالة ، وليست تلك المرتبة للخضر ) وفاء بما له من الرتبة وتعليما للعباد من الأمم الآتية .
قال رضي الله عنه :( وظهر ذلك ) الإنصاف ( في الامّة المحمّديّة ) بالنسبة إلى محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم على كماله الأتمّ
قال رضي الله عنه :( في حديث إبار النخل ، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه : « أنتم أعلم بمصالح دنياكم » ) واعترف بأعلميّة الامّة في المصالح الجزئيّة ،
قال رضي الله عنه :( ولا شكّ أنّ العلم بالشيء ) مطلقا جزئيّا كان أو كليّا ( خير من الجهل به ) والاتّصاف به هو الكمال ، ( ولهذا مدح الله نفسه بأنّه :" بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " فقد اعترف صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه بأنّهم أعلم بمصالح الدنيا منه ، لكونه لا خبرة له بذلك ، فإنّه علم ذوق وتجربة ) يحتاج إلى تكرّر مباشرة لذلك الفعل الذي هو مبدأ استعلامه ،
قال رضي الله عنه :( ولم يتفرّغ عليه السّلام لعلم ذلك ) الجزئيات المستحصلة من الأفعال (بل كان شغله بالأهمّ فالأهمّ ) مما له دخل في أمر كماله الختميّ .
قال رضي الله عنه :( فقد نبّهتك على أدب عظيم تنتفع به إن استعملت نفسك فيه ) وهو أن لا يحجبك الكمال الذي أنت به عن الاستفادة وتمكين غيرك ممن هو دونك في الرتبة في مقام الفيض والإفادة .
ومما نبّه عليه من الأدب هو أنّه نسب هذا إلى الامّة أوّلا ثمّ بيّن أنّ من هو في مقام الإفادة والتعليم بالنسبة إلى الخاتم إنّما هو أصحابه لا غير وذلك في أمر جزئيّ ل دخل له في الكمال الإنسانيّ من حيث هو .
الخلافة والرسالة
قال رضي الله عنه :( وقوله " فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً " يريد الخلافة " وَجَعَلَنِي من الْمُرْسَلِينَ " يريد الرسالة).
ولأنّ الخلافة التي له من الخصائص الإلهيّة التي ليس للعبد من حيث أنّه عبد قوّة قبول واستعداد لها وعمل يوازيها ويورثها - نسبها إلى الوهب ، دون الرسالة ( فما كل رسول خليفة فالخليفة صاحب السيف والعزل والولاية ) بالظهور والغلبة ، ( والرسول ليس كذلك ، إنّما عليه البلاغ لما أرسل به ) على ما هو الظاهر من نصّ “ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ “ من الخضر ،
قال رضي الله عنه :( فإن قاتل عليه وحماه بالسيف ) وفرّق بين أهل نسبته بالعزل والولاية ( فذلك الخليفة الرسول فكما أنّه ما كلّ نبيّ رسولا ، كذلك ما كلّ رسول خليفة أي ما أعطي الملك والتحكَّم فيه ) .
الحكم في محاورة موسى وفرعون
ثمّ إنّ موسى لما انساق كلامه مع فرعون إلى أن يظهر ما عليه من الكمالين رسالة وخلافة في ذلك الوقت ، اقتضى الأمر أن يظهر فرعون ما عليه من الكمال ، فلذلك سأله عن الله بمطلب « ما » الحقيقة .
وهاهن نكتة حكميّة لا بدّ من الوقوف عليها والتدبّر فيها ، وهي أنّ المادّة الجنسيّة التي هي مستقرّ سلطان الكثرة الكونيّة والتفرقة الشيطانيّة - على ما عرفت تحقيقه آنفا - لها من الكمال الإنساني - عند بلوغ أمرها إلى النوع العيني واستواء قامة تماميّتها في الشخص الخارجي - حظَّ خاصّ فيه ، هو منتهى مراقي ظهورها ،
وغاية صورة جمعيّتها وتماميّتها فإنّها إنّما ظهرت فيه بصورة الأثر ، وأثرها الظاهر هي به وصورتها البائنة من الشخص هي القوّة العقليّة النظريّة التي بها يستخرج جميع الحقائق من مكمن الخفاء الغيبي إلى مجلى الظهور العلمي تأمّل في هذه النكتة ثمّ تلطَّف ، فإنّه يستكشف به كثير من الدقائق :
منها ما وجد في بعض تصانيف صاحب المحبوبأنّ رئيس أهل النظر ابن سينا هو عكس صورة إبليس في عالمه الإنساني .
ومنها وجه م جلس فرعون على ركبتي المناظرة عند مقابلته لموسى في إظهار كماله الخاصّ به ، كم أظهر له موسى فإنّه قد أظهر ذلك في صورة المباحثة ، وتكلَّم بلسان تلك القوّة ومصطلحات أهله .
"" قال تعالى : قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّ خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَ تَأْمُرُونَ (35) سورة الشعراء ""
فإنّه " قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ " عندم قال موسى " فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي من الْمُرْسَلِينَ ".
ثمّ إنّه يمكن أن يقال هاهنا : إنّ لسان أهل النظر ومقتضى أصولهم أن لا يسأل عن الواجب بـ « ما هو » ، فإنّ جوابه عندهم يجب أن يكون هو الحدّ الذاتي المشتمل على جزئين :
تمام المشترك وكمال المميّز وليس للواجب شيء منهما ، فلا يطابق سؤال فرعون هذا عرف تخاطبهم ولسان اصطلاحهم ، فقال مستشعرا منه دفع ذلك :
حكمة سؤال فرعون بـ « ما » الحقيقة
قال رضي الله عنه :( وأمّا حكمة سؤال فرعون عن الماهيّة الإلهيّة ) مع تنزّهه عنها ، (فلم يكن عن جهل ، وإنّما كان عن اختبار ، حتى يرى جوابه مع دعواه الرسالة عن ربّه ، وقد علم فرعون ) بقوة كماله الخاصّ به ( مرتبة المرسلين في العلم ، فيستدلّ بجوابه على صدق دعواه ) .
هذا بما له في نفسه ، وله ملاحظة ما حوله من أصحابه وأصحابه موسى في
هذا السؤال ، حيث لا يظهر عليهم أمر موسى قبله ، فلذلك أبهم في السؤال ( وسأل سؤال إيهام ) يحتمل الوجهين ، ظاهرا وخفيّا ، فإنّه سأل بمطلب الماء بحسب الحقيقة ، وهو في الظاهر إنّما يطلب به عن الجهتين والحد المشتمل عليهما وإن كان هاهنا ما طلب به فرعون إلا الحقيقة مطلقا ، كما سيتبيّن ذلك .
فسأل سؤال يكون ذا جهتين مختلفتين بالتوجيه وعدمه( من أجل الحاضرين ) من الطائفتين ( حتى يعرّفهم ) ما يوافق مصالحه ويناسب ما له من المنصب (من حيث لا يشعرون بم شعر هو في نفسه ) من أمر موسى ( في سؤاله ) إيّاه وجوابه له ( فـ ) لذلك تراه ( إذا أجابه جواب العلماء بالأمر ) - كما ستطلع عليه - ( أظهر فرعون إبقاء لمنصبه ) في نظر الحاضرين ( أنّ موسى م أجابه على طبق سؤاله فيتبيّن عند الحاضرين ) المعوّدين برسوم أهل النظر والتزام معهوداتهم - فإنّ ذلك هو الغالب في زمان موسى ، فهم كسائر المقيّدين برسوم زمانهم ومستحسنات أبنائه ،
فإنّهم م داموا على عادتهم المعهودة من آبائهم بمعزل عن أهليّة الكمال في أيّ زمان كانو وأيّ طريقة سلكوا - ( لقصورهم فهمهم ) عن إدراك الأمر على ما عليه في نفسه ، حتّى أظهر لهم من جواب موسى ذلك ( أنّ فرعون أعلم من موسى ولهذا لما قال له في الجواب ما ينبغي ) أن يجاب به سؤاله على ما سيبيّنه
قال رضي الله عنه :( وهو في الظاهر غير جواب على ما سأل عنه ) بناء على ما عهد من التخاطب والتقاول الذي بينهم ( وقد علم فرعون أنّه لا يجيبه إلَّا بذلك ، فقال لأصحابه : " إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ " أي مستور عنه علم م سألته عنه ، إذ لا يتصوّر أن يعلم أصلا ) ، فإنّ المستور عن المدارك لا يتصوّر أن يعلم .
قال رضي الله عنه :( فالسؤال صحيح ، فإنّ السؤال عن الماهية ) على ما هو مؤدّى " م " الحقيقة ( سؤال عن حقيقة المطلوب ، ولا بدّ أن يكون على حقيقة في نفسه ) فإنّ لكلّ شيء حقيقة هو بها هو ، سواء كان بسيطا لا يمكن تفصيل مفهومها ، أو مركَّبا يفصّل ذلك ، ويسمى بالحد ،
ويقال في جواب « ما هو » ، على عرف تخاطبهم ولسان اصطلاحهم ، وبيّن أنّ القول الكاشف عن الحقيقة يصلح لأن يقال في جواب ما هو ، سواء كان فيه تفصيل المفهوم وتبيين جهتي الاشتراك والتمييز ، أو لم يكن - لغنائه عنه .
قال رضي الله عنه :( وأما الذين جعلو الحدود مركَّبة من جنس وفصل ، فذلك في كلّ ما يقع فيه الاشتراك ) ، وقد عرفت أنّ الواحدة بالوحدة الحقيقيّة ممّا يمتنع أن تقع فيه الشركة ، فلا جنس له بالضرورة ، ( ومن لا جنس له لا يلزم أن لا يكون على حقيقة في نفسه لا يكون لغيره ) بل الذي لا جنس له ولا شركة مع غيره أحرى بذلك .
الجواب الحقّ ما أجاب موسى
قال رضي الله عنه :( فالسؤال صحيح على مذهب أهل الحقّ ) وسواء سبيلهم الذي ليس فيه عوج الرسوم الاصطلاحية ، ( والعلم الصحيح ) الذي هو عن أصله خالص عن سقامة ما يستتبع النظر من الشبه والشكوك المدهشة ، ( والعقل السليم ) بفطرته الأصليّة عن تطرّق الآفات وطريان العوائق والعاهات ( والجواب عنه لا يكون إلَّا بما أجاب به موسى ) ظاهرا وباطن .
أم الأول فلأنّه سأل عن ربّ العالمين بـ « ما » الحقيقة ، والجواب ظاهرا هو تفصيل ما دلّ عليه الاسم إجمالا ، والحدّ ليس إلَّا ذلك التفصيل وبيّن أنّ التثليث في متعلَّق الربوبيّة الذي أفصح عنه في الجواب هو غاية التفصيل فيه .
وأمّ الثاني فلأنّ الجواب هو الكاشف عن المسؤول بأبين ما له من الأحكام المظهرة له ، المحمولة عليه بهو هو وأبين الأحكام لما سأل عنه فرعون هو الفعل العينيّ الظاهر هو فيه بصورة الأثر - كما عرفت غير مرّة.
وإليه أشار بقوله : ( وهنا سرّ كبير : فإنّه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي ) ، الذي يسأل عنه بـ « ما » ، ( فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم ) وتلك الإضافة هي الفعل الظاهر في الحقّ بصورة أثره المسمّى بالعين .
تأمّل في جواب موسى
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ العالم إذا نسب إلى الحقّ في مشهد الكمّل له صورتان يعبّر عنهما بقربي النوافل والفرائض فإنّه إمّا أن يكون العالم آلة ظهور الحقّ والظاهر هو الحق أو يكون على العكس ، والظاهر هو العالم والجواب يشمل الصورتين لذلك قال : ( أو م ظهر فيه من صور العالم ) تنبيها إلى وجه تماميّة الجواب وجامعيّة كلمته .
ثمّ إنّ هذه الإضافة التي وقعت جوابا وحدا فيها إجمال ، فإنّها هو الكلام الكامل الذي هو صورة جمعيّة الكل من العلو والسفل ، وما بينهما من النسبة ، ومنه يظهر السرّ الكبير ، فلذلك بيّن تحقيقه سرّا بقوله: (فكأنّه قال له في جواب قوله : " وَما رَبُّ الْعالَمِينَ " قال : الذي يظهر فيه صور العالمين ) و « القال » لغة هو المنتشر من "القول" ، فهو نصب على المصدر ، أو فعل هو بجملته مقول القول .
وعلى التقديرين هو الفعل الذي أجاب به لمن سأل عن حدّه الذاتيّ فإنّ القول هذا هو الذي اومي به إلى منتهى مراتب الفعل والإضافة ، وآخر تنزّلاته التي فيه يظهر صور العالمين بتفاصيلها ، إيماء خفيّا على ما هو مقتضى صورة السرّ فإنّه إذا ظهر إنّم يتصوّر بما لا يطَّلع عليه إلا أهله - وهو أولو الأيدي والأبصار من ذوي الإيقان والغالب على ذوقهم من الصورتين هو الثانية منهما ، وهو أنّ الظاهر العالم ، كم قيل : " ظاهر لا يكاد يبدو ".
فلذلك قدّمه ذكرا وقال : « الذي يظهر فيه صور العالمين » ( من علو ) ، وهو طرف اللطائف من الوجوبيّات الروحانيّات (وهو السماء - ومن سفل ) وهو طرف الكثائف من الإمكانيات الجسمانيات (وهو الأرض " إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " ) لما عليه الأمر نفسه بدون تقيّده بالمدارك ، وحصره بما يعطيه المشاعر ، ( أو يظهر هو بها ) ، على أنّ الظاهر إنّم هو الحقّ ، والعالم آلة لظهوره ، وهو الغالب على ذوق أرباب العقول والحكم .
ثمّ إنّ كلام فرعون في طيّ هذه المقاولة لقومه وإن كان بحسب الظاهر لارتفاع شأن منصبه في نظرهم وحطَّ مرتبة موسى ، ولكن في نفس الأمر يفيد لهم قوّة الترقّي إلى كمالهم وذلك لم لهم من الرقيقة الإخلاصيّة بالنسبة إليه
ولذلك لم قال لهم فرعون عندما قال موسى: "أَل تَسْتَمِعُونَ " استحقّوا للخطاب ، فعدل موسى من الغيبة إلى الخطاب لهم
مبيّنا لم ذكر في جواب الـ "ما" بحسب الحقيقة : " رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الأَوَّلِينَ " فإنّ قوله : " رَبُّكُمْ " هو بيان ما بينهما بإضافة ربّه الخاص به إليه ، تبيينا لما هو أظهر صور تنوّعاته عندهم وقوله : " رَبُّ آبائِكُمُ الأَوَّلِينَ " هو بيان السماوات والأرض ولذلك ما جعل هذا جوابا مستقلا وما تعرّض له المصنّف .
تطبيق بين قول موسى وما انزل على الخاتم صلَّى الله عليه وآله
فهذا الجواب بما قبله عند التحقيق هو مؤدّى ما صدر من الخاتم بقوله :
" هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ " على ما لا يخفى . كما أن الجواب الآخر يعني : " رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " مؤدّى قوله " الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ " ، ولكن ما أعرب عن المقصود إعراب كلام الخاتم وإفصاحه .
ثمّ إنّ بسط الكلام في مثل هذا المرام يحبّ مجالا آخر ، يسع لتفصيل أطواره وبسط جوامع أسراره - حقّقنا الله تعالى به ووفّقنا إليه - وأما فيما نحن بصدده إذ قد انعطف أعنّة البيان نحو استكشاف م في هذا الكتاب المتن ، فإنما نتعرّض لما له فيه أثر عنه ، محتذيا حذو المؤلَّف في طريق التأويل ومسلك الخوض في حقائق التنزيل .
فرق بيان الحقائق عند أهل الإيقان وأهل العقل
ثمّ إنّ بيان الحقائق له مسلكان :
أحدهم مسلك أهل الإيقان ، وهو إظهار الحقائق بصورها الكاشفة لها في نفسه مطلقا ، أعني الصور الوجوديّة الظاهرة لأهل الكشف والوجود - كما سبق بيانه –
والآخر مسلك العقل ، وهو إظهارها بصورها المتبيّنة بها لدى العقل ومشاعره
ويكفي في الأول نفس الصور الوجوديّة كما ظهر من الجواب الأول ،
والثاني يحتاج مع ذلك إلى ما يبيّنها ويظهرها عند العقل من الأدلَّة النظريّة وصورها الكونيّة وم يجري مجراها وهذا المسلك أبين ظهورا وأتمّ إبانة لدى المدارك المتعاورة للعامّة .
ولذلك لم أتى موسى عند الجواب على المسلك الأول بما أتى من البيان التامّ ،
قال فرعون خوفا من عثور الأصحاب عليه : « إِنَّه ُ لَمَجْنُونٌ » .
رجوع إلى تحليل محاورة فرعون وموسى
قال رضي الله عنه :( فلمّا قال فرعون لأصحابه : « إِنَّه ُ لَمَجْنُونٌ » كما قلنا في معنى كونه مجنونا ) بأنّه مستور ، محجوب عن ربّه لا يكاد يتصوّره ، (زاد موسى في البيان ) بأخذه في المسلك الثاني ( ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي ) بإحاطته وجمعه بين الطريق الكشفيّ الإيقانيّ والحكميّ العقليّ ، وتمّ به الكلام ، ( لعلمه بأنّ فرعون يعلم ذلك ، ف ( قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) فجاء بما يظهر ويستتر ) ، وبيّن أنّ ذلك إنما يتصوّر بحسب المدارك والمشاعر ، فإنّ الحقّ في نفسه لا يطلق عليه الظهور ول الاستتار .
قال رضي الله عنه :( وهو ) مؤدّى ما صدر من الخاتم - صلوات الله وسلامه عليه - بقوله : ( " الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ " كما عبّر في المسلك الأول عن مؤدى قوله : " الأَوَّلُ وَالآخِرُ ".
وأمّا قوله في المسلكين : ( " وَما بَيْنَهُما " ) فهو أيضا ممّا أشعر به الكلام الختميّ مع زيادة من الحقائق
قال رضي الله عنه :( وهو قوله : " بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ، "إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ " أي إن كنتم أصحاب تقييد ، فإنّ العقل يقيّد ) مداركه كما عرفت في المقدمة .
قال رضي الله عنه :( فالجواب الأول جواب الموقنين ، وهم أهل الكشف والوجود ) وهم المطَّلعون على الأمر بما عليه في نفسه من الصورة الوجوديّة الشارحة له شرح علم وإيقان ،
قال رضي الله عنه :( فقال له : " إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ " أي أهل كشف ووجود ، فقد أعلمتكم بما تيقّنتموه في شهودكم ووجودكم ، فإن لم تكونوا من هذا الصنف فقد أجبتكم في الجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد ) ، وهم المدركون للأمر بما عليه لدى المدارك من الصور الكونيّة الحاجبة له ، العاقدة عليه عقد حصر وتقييد ، فهم أرباب العقود الاعتقاديّة الحاصرة ،
ولذلك قال : ( وحصرتم الحقّ فيما تعطيه أدلَّة عقولكم ) .
صحّة جواب موسى
قال رضي الله عنه :( فظهر موسى بالوجهين ) إظهارا للكمالين ( ليعلم فرعون فضله وصدقه ) في ادّعائه الرسالة والخلافة ، ( وعلم موسى أنّ فرعون علم ذلك ) البيان (أو يعلم ذلك ) من كلامه ( لكونه سأل عن الماهيّة ، فعلم ) موسى ( إنّه ليس سؤاله على اصطلاح القدماء في السؤال بـ « ما » ) حيث أنّهم ذهبوا إلى أنّه إنّما يسأل به عن الحدّ المشتمل على جزئي المسؤول عنه ،
وهم الكاشفان عن جهتي تمام الاشتراك وكمال التمييز ،
والأمر عند المحقّقين على خلاف ذلك ، فإنّه إنّما يسأل ب « ما » عن الحقيقة مطلقا ، ( فلذلك أجاب ) بما يكشف عنها بوجهها الشهوديّ والعقليّ .
تأويل ما قاله فرعون
قال رضي الله عنه :( فلو علم منه غير ذلك لخطَّأه في السؤال ) فإنّ تمكين المخطئ للجواب في قوّة الخطأ - حاشاه من ذلك - فعلم من تمكين موسى له أنّ له علما بذلك ، ( فلما جعل موسى المسؤول عنه ) في جوابه إيّاه ( عين العالم ) التي يظهر فيها صور تفاصيله ، أو يظهر به تلك التفاصيل ( خاطبه فرعون بهذا اللسان ) الخاصّ بهما ( والقوم ل يشعرون ) ، فإنّهم إنّما يعرفون لسان التخاطب الاصطلاحي ، وموسى على طبق ذلك مخطئ مجنون ، كما نبّههم فرعون بذلك ( فقال له ) بلسانه الخاصّ : ( " لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ من الْمَسْجُونِينَ " ) وهو الجنون الذي عليه موسى بزعمه ، بزيادة سين الستر والسرّ ،
قال رضي الله عنه :( والسين في « السجن » من حروف الزوائد ، أي ) إن اتّخذت على ما أجبتني به من التصريح بالعينيّة إلها غيري ( لأسترنّك ) إنيّتك الموسويّة ، لأنّ جوابك على طبق ما أنا عليه ، فلم يمكن لك أن تظهر عليّ ، فإنّ الظاهر هو قولي ، وأنت مختف تحت ظهوري ، (فإنك أجبت بما أيّدتني به أن أقول لك مثل هذ القول ) من الخفاء والستر الذي هو مقتضى ذاتك ، فكيف تتمكَّن حينئذ من الظهور بالخلافة والرسالة .
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ فرعون في هذا الموطن صورة القوّة النظرية ، التي بلغت كمالها في الإنسان الكامل بها ، فاقتضى المقام أعني مقام المقابلة والمناظرة - على ما عليه القوّة المذكورة - أن يتعرّض من جهة موسى وعلى لسانه ما يمكن أن يورد بطريق تلك القوّة ، توفية للمقام وإتماما للكلام
فلذلك قال من جهة موسى :
قال رضي الله عنه :(فإن قلت ) بلسانك هذا ( لي : « فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إيّاي ، والعين واحدة فكيف فرّقت ) بيننا بحيلولة الحاجب سترك إيّاي به » ؟
( فيقول فرعون : « إنّما فرّقت المراتب العين ) عند تخصيصه بأحكامها التعيّنية التي تفرّد بها كلّ مرتبة ، والحكم إنّما هو للمرتبة والتمييز والتفرقة منها ( ما تفرّقت العين ولا انقسمت في ذاتها ) ، كما مرّ بيان ذلك غير مرّة ( ومرتبتي الآن التحكَّم فيك يا موسى ) والظهور عليك ( بالفعل ) ، فلي أن أسترنّك وأسجننّك بحسب المرتبة الحاكمة ( وأنا أنت بالعين ، وغيرك بالرتبة » ).
جواب موسى
قال رضي الله عنه :( فلما فهم ذلك موسى منه ) في قوله : " لأَجْعَلَنَّكَ من الْمَسْجُونِينَ " فهم العارف بلسان إشارة أهل الخصوص ( أعطاه حقّه ) ، فإنّ لكلّ مقابل ومناظر حقّا إذا أعطي سكن عن المقابلة ،
فلذلك أفحم فرعون بهذا وما ناظر بعد ذلك ، بل ظهر سلطان موسى عليه وذلك ( في كونه يقول له : لا تقدر على ذلك ، والرتبة تشهد له بالقدرة عليه ، وإظهار الأثر فيه ، لأنّ الحقّ في رتبة فرعون من الصورة الظاهرة ) بيان للحقّ في رتبة السلطنة .
وفيه إشارة غير خفيّة ( له التحكَّم على الرتبة التي كان فيها ظهور موسى في ذلك المجلس ، فـ " قالَ " له يظهر له المانع من تعدّيه عليه )
في صورة الستر والسجن : ( " أَوَ " ) يفعل ذلك ( " لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ " ) أي مظهر لي عليك من الآيات .
قال رضي الله عنه :( فلم يسع فرعون إلَّا أن يقول : " فَأْتِ به إِنْ كُنْتَ من الصَّادِقِينَ " حتى لا يظهر فرعون عند ضعفاء الرأي من قومه بعدم الإنصاف ، فكانوا يرتابون فيه ، وهي الطائفة التي استخفّها فرعون فأطاعوه ، " إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ".
قال رضي الله عنه :( أي خارجين عم يعطيه العقول الصحيحة من إنكار ما ادّعاه فرعون باللسان الظاهر في العقل ) فإنّهم خارجون عن مقتضى العقل ، وهو إنكار ما ادّعاه فرعون باللسان الظاهر فيه ،
قال رضي الله عنه :( فإنّ له حدا يقف عنده ) وهو مقتضى نشأته التنزيهيّة الرسميّة المقتضية للتقابل بين مشرق الظهور ومغرب الاختفاء على ما عرفت ( إذا جاوزه صاحب الكشف واليقين ) بمقتضى الجمعيّة القلبيّة .
فلصاحب العقل حد خاصّ مقيّد من هذه الجمعيّة الإطلاقيّة التي هو مشهد القلب وكشفه ، ( ولهذ جاء موسى في الجواب بما يقبله الموقن ) أولا بإطلاقه عموما ، ( والعاقل ) يتقيّده في مشارقه المظهرة ومغاربه المخفية (خاصّة ) .
تأويل انقلاب العصي حيّة
ثمّ إنّ موسى إذ أعطى حقّ فرعون في أمر مقابلته له ومناظرته معه سكن عنها ( " فَأَلْقى عَصاه ") وهو مما يستلزم إعطاء حقّه ، ولذلك أسند الإلقاء أيضا إلى موسى ، مع أنّ العصا هي صورة ما عليه فرعون ،
على ما أشار إليه قوله:(وهي صورة ما عصى به فرعون موسى في إبائه عن إجابة دعوته)، وهي على سياق م سبق من التأويل إشارة إلى النظر الذي بيد العقل ، يعتمد عليه في جملة أعماله عند تبيين أحكامه وتمييز أحواله ، ويتوكَّأ عليه عند التجلَّي
بجميل أفعاله وأقواله ، ويهشّ به أوراق شجرة الجمعيّة الكماليّة القلبيّة من البراهين الباهرة المقوّية على غنم غنائمه وأمواله ، ممّا يميل إليه ويغنم به عند المقابلة والمناظرة مع الموافقين والمخالفين ،
من الصور الاعتقاديّة والمحسّنات الإدراكيّة التي ترعي وتغتذي بتلك الحجج وبها يقوم أو على مراعي تلك المزارع ممن هو تحت حيطة رعية ورعايته من تلامذته وأصحابه من المستفيدين منه ، المستفيضين من مشرب كماله وله فيه " مَآرِبُ أُخْرى " عند بلوغه إلى رتبة كماله في الإنسان الكامل ،
ولذلك تراه إذا ألقى موسى إلقاء إظهار خصائصه الكمالية (" فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ") تنثعب منه وتنفجر عيون علم وكشف من : ثعبت الماء ، فانثعب : أي فجرت فانفجر فإنّ النظر من صاحب الكمال إذا ألقى وأظهر انفجر من عيون قوّته المفصّلة فنون علم وفيض (" مُبِينٌ ") .
ثم إنّك قد عرفت أنّ الحياة الحقيقيّة هي الحياة العلميّة الفائضة من معدن كماله أبدا ، من غير نقص انقراض وتوهّم انصرام ،
وإلى ذلك أشار في تفسيره الثعبان بقوله : ( أي حيّة ظاهرة فانقلبت المعصية التي هي السيّئة ) وهي التي عليها من التنزيه الذي هو مقتضى نشأة صاحبه - يعني العقل – (طاعة - أي حسنة - كما قال : " يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ " يعني في الحكم ) ،
فإنّ الأعيان أنفسها لا تتبدّل ولكن تتقلب أحكامها عند العروج في مراقي كمالها ، كما فيما نحن فيه إذا نقلت العقل قلبا ( فظهر الحكم عينا متميّزة )
أي ظهور عين متميزة بحسب الاسم والأثر ( في جوهر واحد ) .
قال رضي الله عنه :( فهي العصا ) للعوام باعتبار الاعتماد عليها في الآراء المبيّنة للمبدإ والمعاد ( وهي الحيّة ) أيضا للخواصّ ، باعتبار فيضان ماء حياة العلم منها ( والثعبان الظاهر ) أيضا باعتبار انفجار عيون انبساطه وكماله على مزارع قلوب القابلين من أهل الطلب ، المحاطين تحت حيطته (فالتقم أمثاله من الحيّات ، من كونها حيّة ، والعصيّ من كونها عصا).
والذي يدلّ على تطبيق هذا التأويل وإصابة سهامه مرامي قصد صاحب الكتاب قوله في تأويل الالتقام : ( فظهرت حجة موسى على حجج فرعون في صورة عصىّ وحيّات وحبال ) ،
وهي باعتبار جذب القلوب بها واقتناص خواطر أهل القرب والنيّة منها ( فكانت للسحرة الحبال ، ولم يكن لموسى حبل ) ، فإنّه العلم الذي هو مبدأ التخيّل والإيهام ، مما يشوّق ويجذب إلى العالم به ، ويوهم وينفّر عن غيره وليس لموسى من ذلك العلم شيء ، لعلوّ قدره عن أمثال تلك الحيل ،
ولذلك قال رضي الله عنه : ( والحبل : التلّ الصغير ) ، وهو الممتدّ من الرمل المستطيل الذي به يهتدي الساري إلى بيته ، فلذلك استعير به للوصل ، ولكل ما يتوصّل به ، قوله تعالى : " اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله ".
موسى والسحرة
قال رضي الله عنه :(أي مقاديرهم بالنسبة إلى قدر موسى بمنزلة الحبال من الجبال الشامخة فلما رأت السحرة ذلك علمو رتبة موسى ) وعلوّ قدره ( في العلم ، وأنّ الذي رأوه ليس من مقدور البشر ) من حيث أنّه بشر ، ( وإن كان من مقدور البشر ) مطلقا (فلا يكون إلَّا ممن له تميّز في العلم المحقّق عن التخيّل والإيهام ) اللذين بهم تنجذب القلوب من عوام الناس ، ( فآمنوا " بِرَبِّ الْعالَمِينَ " ) ،
وهذا القول عند القوم فيه إجمال ، لادّعاء فرعون أنّه ذلك ، فينبّه بقوله : ( " رَبِّ مُوسى وَهارُونَ" أي الرب الذي يدعوا إليه موسى وهارون ) .
إفصاح بالمقصود ، وإزالة للإجمال بحسب أفهام القوم ( لعلمهم بأنّ القوم يعلمون أنّه ما دعا لفرعون ، ولما كان فرعون في منصب التحكَّم ) على مسند الخلافة والظهور بها في ذلك.
( صاحب الوقت ، وأنّه الخليفة بالسيف ) الذي عليه مبنى أمر الظهور ، وبحكمه يتمّ القطع والفصل عند تأمير الوقت أحدا من أبنائه ، فهو آية سلطانه على غيره وقهرمانه على الكلّ
، فصاحب السيف هو صاحب الوقت ، كما قيل "الوقت سيف " .
قال رضي الله عنه :( وإن جار في العرف الناموسي ) ومقتضى شريعته ، كما ورد من الخاتم صلَّى الله عليه وسلَّم : « أطيعوا أميركم ولو جار » . ""لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف""
""أضاف الجامع :
حديث مسلم : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا، وأمر عليهم رجلا، فأوقد نارا، وقال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إن قد فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة»، وقال للآخرين قولا حسنا، وقال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» ) رواه البخاري و مسلم و أحمد بالمسند و ابن حبان و النسائي ومسند البزار و البيهقي والشريعة للآجري وغيرهم. ""
فرعون والسحرة
قال رضي الله عنه :( ولذلك ) السلطنة وكونه صاحب الوقت ( قال : " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " أي وإن كان الكلّ أربابا بنسبة ما ) وإضافة إلى ما يتعلَّق به تعلَّق
تصرّف وتربية - كما يقال : « ربّ العبد ، وربّ البيت » - ( فأنا الأعلى بما أعطيته في الظاهر من التحكَّم فيكم ) بالسيف ، والإحاطة عليكم بالغلبة .
قال رضي الله عنه :( ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقرّوا له بذلك ) وأذعنو أمره ( فقالوا له : " إِنَّما تَقْضِي هذِه ِ الْحَياةَ الدُّنْيا " ) والصورة الظاهرة المبتنية أمرها على الغلبة بالسيف ،
( " فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ " ) فيه وحاكم عليه من الصورة الجسمانيّة ، ( فالدولة ) التي عليها مدار أمر الصورة ( لك ).
قال رضي الله عنه :( فصحّ قوله ) لهم : ( " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى " وإن كان ) الربّ الذي هو أعلى الأرباب على الإطلاق لا يكون إلا ( عين الحقّ فالصورة ) المتعيّنة به ذلك ( لفرعون فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حقّ في صورة باطل ) فإنّ من جملة ما تعيّنت به ذلك العين وتصوّرت هو الباطل.
كما قال شيخ الشيخ المؤلف أبو مدين :
ل تنكر الباطل في طوره .... فإنّه بعض ظهوراته
وأعطه منه بمقداره ... .... حتى توفّي حقّ إثباته
فالحقّ قد يظهر في صورة .... ينكرها الجاهل في ذاته
ومما يؤيّد ما تلونا عليك في تأويل فرعون من مبدأ أمر تربيته لموسى إلى منتهى مقام مقابلته له واستكماله منه تخصيص قهره مع عموم قدرته على الكلّ بأعوانه وأصحابه ،
من قطع آلات القوّة والسير ، وتفريقهم عن مستقرّهم الأصلي وما هم عليه بحسب نشأتهم النظريّة بتعليقهم على صليب الإفناء عن تعيّناتهم وآثارهم الخاصّة بهم - فلا تغفل .
ترتيب الأمور بالأسباب ، ولا سبيل إلى تعطيله
ثمّ إنّه إذ بيّن أن لمبدإ هذا الفعل جهتي حقّ وباطل من حيثيّتي عين وجوديّة وصورة كونيّة ، ولا بدّ أن يكون لسائر ما يتفرّع عنه أثر من تينك الجهتين أشار إلى جهة حقيّة القطع المذكور لوضوح الأخرى منهما بقوله : ( لنيل مراتب لا تنال إلَّا بذلك الفعل ) من طرف فرعون في تحقيق سياسته وقوّة سلطانه ، ومن طرف السحرة وآله في وصولهم إلى درجات الشهادة والشهود التي لا يمكن لهم الوصول إليها إلا به ،
قال رضي الله عنه :( فإنّ الأسباب ل سبيل إلى تعطيلها ، لأنّ الأعيان الثابتة اقتضتها ) بحسب النظام العلمي والربط الأسمائي ، والسلسلة الكماليّة التي في الحضرات الجلائيّة وهو المعبّر عنها في صناعة الحكمة بالعناية الأزليّة .
قال رضي الله عنه :( فلا يظهر ) الأعيان بهيئاتها الجمعيّة الارتباطيّة ( في الوجود إلَّا بصورة ما هي عليه في الثبوت ، إذ " لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ الله "، وليست كلمات الله سوى أعيان الموجودات ، فينسب إليها القدم من حيث ثبوتها ) في الحضرة العلميّة الجلائيّة ،
قال رضي الله عنه :( وينسب إليه الحدوث من حيث وجودها ) في العوالم الاستجلائية ( وظهورها ) فيها ، ( كما تقول : « حدث اليوم عندنا إنسان أو ضيف » . ولا يلزم من حدوثه أنّه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث لذلك قال تعالى في كلامه العزيز - أي في إتيانه ) أي في إثبات الحدوث لإتيان الكلام ، كما في المثال
قال رضي الله عنه :( مع قدم كلامه : " ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوه ُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ " ) أي محدث عندهم إتيانه ،
وكذلك في قوله : (" ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُو عَنْه ُ مُعْرِضِينَ ").
قال رضي الله عنه :(والرحمن لا يأتي إلَّا بالرحمة ) التي هي الحياة والعلم ( ومن أعرض عن الرحمة ) العلميّة التي بها يتفطَّن بمثل هذه الدقائق ( استقبل العذاب الذي هو عدم الرحمة ) .
إيمان فرعون ونجاته
ثمّ إنّ من تلك الدقائق ما أثبت لفرعون من نيل المراتب العلميّة الكماليّة التي أشار إليها ، وهي التي لم يتفطن لها أكثر أهل الظاهر ، مع دلالة الآيات عليها :
قال رضي الله عنه :( وأمّا قوله : " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِه ِ " )
وكذلك قوله مع الاستثناء في سورة يونس :" فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ " أي في وقت رؤيتهم العذاب .
" فَنَفَعَها إِيمانُها "، (" إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ " فلم يدلّ على ذلك أنه لا ينفعهم في الآخرة بقوله في الاستثناء " إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ") .
فإنّ سياق الآية دالّ على أنّ النفع المنفي من إيمانهم هو النفع الآجل ، ( فأراد أنّ ذلك لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا ، فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه ) م نفعه في ذلك .
قال رضي الله عنه :( هذا ) على تقدير التنزّل مع المجادل ( إن ) سلم أنّه ( كان أمره أمر من تيقّن بالانتقال في تلك الساعة ) ، حتّى يكون داخلا في عموم مفهوم الآية المذكورة ( وقرينة الحال تعطي أنّه ما كان على يقين من الانتقال لأنّه عاين المؤمنين يمشون في الطريق اليبس الذي ظهر بضرب موسى بعصاه البحر ، فلم يتيقّن فرعون بالهلاك إذا آمن ) ، بل آمن من الهلاك بإيمانه ومشاهدته المؤمنين قد نجوا به ، ( بخلاف المحتضر ) الذي تيقّن بالهلاك فآمن ( حتى لا يلحق ) فرعون (به ) ، فإنّه م كان الإيمان منه مسبوقا بتيقّن الهلاك سبق إيمان المحتضر فإنّه رأى المؤمنين بموسى من بني إسرائيل قد نجوا ،
قال رضي الله عنه :( فآمن بالذي "آمَنَتْ به بَنُوا إِسْرائِيلَ " على التيقّن بالنجاة فكان كما تيقّن ، ولكن على غير الصورة التي أراد ) ، وذلك لأنّ إيمانه وتيقّنه على غير الصورة التي أراد موسى منه ، بأن يكون في محضر من قومه حتّى يعمّ به الخبر ، وإذا لم يكن إيمانه على ما أريد ، فلم يكن نجاته كما أراد .
قال رضي الله عنه :( فنجّاه الله من عذاب الآخرة في نفسه ، ونجّى بدنه ) أيضا من الغرق في البحر وأن يكون غائبا عن نظر قومه ( كما قال : " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً " لأنّه لو غاب بصورته ربما قال قومه ) من المعتقدين فيه اعتقاد صدق : « إنّه ( احتجب ) بصورته » ( فظهر بالصورة المعهودة ميتا ليعلم ) قومه ( أنّه هو فقد عمّته النجاة حسّا ) ببدنه ( ومعنى ) بروحه ، لإيمانه قبل أن يظهر عليه من آيات الآخرة شيء ،
قال رضي الله عنه :( ومن حقّت عليه كلمة العذاب الأخروي ) بظهوره فيه آيته أن ( لا يؤمن ) في الدنيا ( ولو جاءته كل آية " حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الأَلِيمَ " ) عند حضوره الموت وتيقّنه به ، فإنّه من العذاب الأخروي ، ولذلك فسّر الرؤية المذكورة بقوله : ( أييذوقوا العذاب الأخروي فخرج فرعون من هذا الصنف ) لما مرّ من عدم تيقّنه بالموت ، وإيمانه قبل رؤيته العذاب الأليم .
قال رضي الله عنه :( هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن ) كما عرفت في هذه الآية وغيرها ، مما يمكن أن يتمسّك به أهل الظاهر على ما اعتقدوه في فرعون من أنّه غير نصّ فيه ولا ظاهر ، بل الظاهر منها خلافه ، ولذلك قال : ( ثمّ إنا نقول بعد ذلك ) البيان الذي ظهر من الآيات القرآنية : ( والأمر فيه ) أي في فرعون وكفره ( إلى الله ) لعجزنا عن الإبانة عن ذلك الأمر بما هو عليه (لما استقرّفي نفوس عامّة الخلق من شقائه ، وما لهم نصّ في ذلك يستندون إليه ) كما في غيره من الصور الاعتقاديّة الرسميّة التي لهم .
حكم آل فرعون
وأما النصوص الواردة في آل فرعون ، كقوله تعالى : " وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ " ، "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ".
فلا دخل لها فيما نحن فيه ، وإليه أشار بقوله : ( وأما آله ، فلهم حكم آخر ليس هذا موضع ذكره ) فإنّ النسبة الارتباطيّة التي بينه وبين قومه ليست حقيقيّة وجوديّة ، كما للأنبياء مع أصحابهم ، بل كونيّة [ . . ] كما عرفت من طيّ ما جرى بينه وبين موسى .
وتحقيق هذ يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا الموضع ، كما أشار إليه في التفرقة بين الكافر المحتضر والكافر المقتول غفلة أو الميّت فجأة بقوله :
كلّ محتضر مؤمن ، وليس كذلك المقتول غفلة والميت فجأة
قال رضي الله عنه :( ثمّ ليعلم أنّه م يقبض الله أحدا إلَّا وهو مؤمن - أي مصدّق بما جاءت به الأخبار الإلهيّة) لظهور الأمر عليه عند رفعه الحجب المانعة عن ذلك ، وهي القوى الإدراكية وما يترتّب عليها ، كما قال الشيخ رضي الله عنه :
وأم المسمى آدما ، فمقيّد ... بعقل وفكر أو قلادة إيمان
بذ قال سهل والمحقق مثلنا ... لأنا وإياهم بمنزل إحسان
فمن شهد الأمر الذي قد شهدته ... يقول بقولي في خفاء وإعلان
ول تلتفت قولا يخالف قولنا ... ولا تبذر السمراء في أرض عميان
( وأعني ) بذلك ( من المحتضرين ) أي من حضره الموت ، وهو واقف عليه حاضر ، ( ولهذا يكره موت الفجأة ) حيث استعيذ منه في الدعوات المأثورة ( وقتل الغفلة ) .
ثمّ إنّه يشير إلى مبدأ ذلك الإكراه وبيان لمّيته ، وذلك أن الإنسان ينبغي أن يكون عند خروجه من دار الدنيا في جمعيّة فطرته الأصليّة وإحاطته الذاتيّة ولو بمجرّد الاعتبار وصورة ذلك جمع ما تفرّق وشذّ عنه ، وهو بإدخال ما لم يكن داخلا في الوجود أو في العلم ، كالنفس الداخل مثلا ، وإثبات العقائد وامتياز الصور العلميّة ، وليس ذلك في موت الفجأة وقتل الغفلة .
أمّ الأول : فإليه أشار بقوله : ( فأمّا موت الفجأة : فحدّه أن يخرج النفس الداخل ، ولا يدخل النفس الخارج ، فهذا موت الفجأة وهذا غير المحتضر ) فإنّه في حضور من تصوّر الموت وما يترتّب عليه ، وفيه جمعيّته .
وأمّ الثاني : فإليه أشار بقوله : ( وكذلك قتل الغفلة بضرب عنقه )
صاحبه ( من ورائه وهو لا يشعر ) ، فإنّه لو لم يكن من ورائه ، أو يكون له شعور بذلك ، كان له صورة جمعيّة في الجملة ، بإدخال الخارج فيه وتصوّره ، (فيقبض على ما كان عليه من إيمان ) وهو ظهور فطرته الأصليّة وجمعيّته الكماليّة له ( أو كفر ) وهو خفاء ذلك عليه وستره عنه (ولذلك قال عليه السّلام :"ويحشر على م عليه مات " كما أنّه يقبض على ما كان عليه").
قال رضي الله عنه :(والمحتضر لا يكون إلَّا صاحب شهود) وحضور ، لارتفاع الحجب الإدراكيّة عنه حينئذ بتعطيل القوى عمّا يشغله عن شهود ما عليه الأمر في الآخرة ، ( فهو صاحب إيمان بما ثمّ ، فل يقبض إلَّا على ما كان عليه ) في ذلك الوقت ، ولا يختصّ بذلك الوقت من الزمان الماضي ، ويزول عند حلول الحال على ما هو مؤدّى صيغة « كان » ،
( لأنّ « كان » حرف وجوديّ لا ينجرّ معه الزمان إلَّا بقرائن الأحوال ) الخارجة عن نفس مفهومه ، ( فتفرق بين الكافر المحتضر في الموت ، وبين الكافر المقتول غفلة أو الميّت فجأة ، كما قلنا في حد الفجأة ) ، وبه يعرف ما بين فرعون وآله من البينونة والفرق .
حكمة التجلي لموسى في صورة النار
قال رضي الله عنه :( وأما حكمة التجلَّي ) الظهوريّ عليه ( والكلام ) وهو الإظهاريّ منه ( في صورة النار ) التي لها العلوّ في الأسطقسات : ( لأنّها كانت بغية موسى ) بحسب المناسبة الأصلية ، وبما ساق إليه حكم الوقت ، ( فتجلَّى ) الله تعالى
قال رضي الله عنه :(له في ) صورة ( مطلوبة ليقبل عليه ولا يعرض عنه ) لغلبة حكم الصورة عليه (فإنّه لو تجلَّى له في غير صورة مطلوبه ، أعرض عنه لاجتماع همّته على مطلوب خاصّ ) حسب ما حكم عليه الوقت من التفرقة التي ظهرت قهرمانها عليه في ذلك الزمان ، على ما هو مقتضى كلمته العليّة الموسويّة ، على ما نبّهت إلى بعض حكمها الكاشفة عنه .
قال رضي الله عنه :( ولو أعرض لعاد عمله عليه ) بناء على تحقّق مجازاة العمل على وفق معادلته وطبق موازاته ، كم هو مؤدّى قوله تعالى : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " ( فأعرض عنه الحقّ وبالا لعمله وهو مصطفى ) ، بقوله تعالى : " اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ " (مقرّب ) لقوله : " قَرَّبْناه ُ نَجِيًّا " ( فمن قربه ) وتقريب الله إيّاه نجيّا ( أنّه تجلَّى له في مطلوبه وهو لا يعلم ) :
( كنار موسى ، يراها عين حاجته .... وهو الإله ولكن ليس يدريه )
وفيه إشارة إلى أن المطلوب والمحتاج إليه عينه هو الحقّ إذا توجّه إليه بجمعيّة من الهمّة ، وإن لم يكن يعلم المتوجّه ، كما وقع لموسى مع كماله في العلم .
.
....

UNzn-7pTah0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!