موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح علي التركة
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ صائن الدين التركة

فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية


23 - فصّ حكمة إحسانيّة في كلمة لقمانيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
(الإحسان )لغة يقال على وجهين : أحدهما الإنعام على الغير ، والثاني إحسان في فعله ، وذلك إذا علم علما حسنا أو عمل عملا حسنا وعلى هذا قول أمير المؤمنين : « الناس أبناء ما يحسنون » أي منسوبون إلى ما يعلمونه ويعملونه من الأفعال المعجبة لهم ، وقوله تعالى : “ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه ُ “ [ 32 / 17 ].
وتحقيق : على إظهار الحسن ، يعني ما فيه النسبة الكماليّة التي هي مبدأ الحياة والحمد ، فإنّ الإحسان له تلويح بيّن على السين والحاء باسميهما ،
والأوّل كاشف عن تمام النسبة ،
والثاني على كمال إظهارها كما مرّ تحقيقه فهو أوثق نسبة بين الحقّ والعبد وأظهرها ،
كم قال تعالى :" وَمن يُسْلِمْ وَجْهَه ُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى " [ 31 / 22 ] .
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم : « الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ».
رواه البخاري ومسلم وأين ماجه وغيرهم.
فإنّه قد اعتبر في مفهومه النسبة بأبلغ وجه ، كما هو مؤدّى عبارته الختميّة ، حيث صرّح بالتشبيه الذي هو النسبة الكماليّة بين أمرين ، الجامعة لوجوه المناسبات بالرؤية التي هي أبين نسبة بين الحقّ والعبد ، ثمّ كرّر المنتسبين ثلاث مرّات إبانة لأمر تلك النسبة في صورة تمام الإظهار .
تسمية الفصّ
ثمّ إنّه لغلبة سلطان هذه النسبة على الكلمة اللقمانيّة تراه - عند إبلاغه نبأه الكمالي وإظهاره حكمه الحسنة - مخاطبا لابنه خطاب شفقة وعطوفة ، وبيّن أن الخطاب هو أقرب النسب بين الرسول والمرسل إليه ، كما أنّ الابن الذي هو المخاطب فيه مختصّ بأوثق النسب ، مؤدّى في صيغة تصغير الإشفاق ، الدالّ على كمال تلك النسبة ،
وبيّن أنّ النسبة كماله الأتمّ في الوثاقة وقوّة الربط أن يؤول أمرها إلى الاتّحاد بين منتسبيها بغلبة وجوه الجمع على ما به الامتياز كالاغتذاء مثل ، فإنّه إنما يتحقّق عند جعل الغذاء جزء للمغتذي متّحدا به في صورته الشخصيّة التي بها أصبح واحدا كلَّ .
ومن ثمّة صدّر هذا الفصّ اللقمانيّ بتحقيق تلك النسبة الغذائيّة بين الحقّ والخلق لم بينهما من النسبة الظاهرة لفظا ، ولما عرفت من قرب تأدّيها للكشف عن الوجوه الجماليّة التي هو بصدده هن .
وأيض في الصورة النظميّة من النسبة الوثيقة الجمعيّة ما ليس في النثر ، فهو اللائق بتحقيق أمرها ، كما هو مؤدّى الكلمة اللقمانيّة فقال :
( إذا شاء الإله يريد رزقا .... له ، فالكون أجمعه غذاء )
مفصح عن مبدأ تلك النسبة من حضرة الأسماء ، يعني المشيئة والإرادة اللتين بهما يتحقّق الشيء والمراد ، وما يدور به أمر ظهوره من الأحكام والخصائص فالمشيئة لها تقدّم - كما سبق في المقدّمة .
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ نسبة القرب بين الخلق والحقّ تارة في صورة الفرض القطعي ، وهو أن يتوجّه المشيئة والإرادة نحو الكون الدائر في دائرة إحاطته وجمعيّته ، إلى أن يغتذي به الحقّ ، فهذا إشارة إليه وأخرى في صورة النفل الزائد ، وهو أن يتوجّها نحو رزاقيّة الحقّ إيّاه ، ليغتذي به الخلق ،
وإليه أشار بقوله :( وإن شاء الإله يريد رزق .... لنا، فهو الغذاء كما يشاء )
أيّ يكون المشيئة متوجّهة إليه ، فهو الشيء .
ثمّ بعد تحقيق أمر النسبة بين الحقّ والخلق يريد إبانة ما بين مبدأيهما من النسبة - يعني المشيئة والإرادة - بوجهي جمّيتهما وافتراقهما ، فإلى الأولى منهما أشار بقوله :
مشيئة الحقّ إرادته
( مشيئته إرادته ) ، أي هما متّحدان عند نسبتهما إلى الهويّة الذاتيّة ، ولكن للمشيئة تقدّم على الإرادة تقدّم إحاطة وشمول ، كما نبّهت عليه في المقدّمة عند الكلام في ترتيب الأسماء وإنّ المشيئة هي توجّه الذات نحو حقيقة الشيء وعينه ، اسما كان أو وصفا أو عينا ، والإرادة تعلَّقها بتخصيص أحد الجائزين من الممكن ، فتكون الإرادة مما يتعلَّق به المشيئة ،
وإليه أشار بقوله : ( فقولوا . بها ) أي بالإرادة ، فإنّ التغاير بينهما اعتباريّ إنما يظهر حكمه في القول والعقل فقط ، دون العين ( قد شاءها ، فهي المشاء ) بفتح الميم ، اسم مفعول من المشيئة على غير القياس هذا جهة جمعيّتهما ، وأما جهة الفرق ،
فقد أشار إليه بقوله :( يريد زيادة ويريد نقص .... وليس مشاءه إلَّا المشاء )
أي متعلق الإرادة قابل للزيادة والنقص ، حيث أنّها تعلَّق الذات بتخصيص أحد الجائزين من طرفي الممكن ، دون المشيئة ، فإنّ متعلَّقها ذات الشيء ، وهي بحالها ف « المشاء » هاهنا مصدر ميمي ، ولو جعل الأول مصدرا والثاني اسم مفعول ، له معنى .
( فهذا الفرق بينهما ، فحقّق .... ومن وجه ، فعينهما سواء )
لأنّه لا تمايز بينهما في العين كما عرفت .
اختصاص لقمان بالإحسان
ثمّ إنّه يريد أن يبيّن وجه اختصاص الكلمة المذكورة بالحكمة الإحسانيّة التي هي إظهار ما هو حسن - أي ذو نسب كماليّة - بقوله : ( قال الله تعالى : "وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ " [لقمان :12 ] . "وَمن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً " [البقرة : 269] )
وفي هذين اللفظين من الإشعار بالنسبة الكماليّة المذكورة ما لا يخفى ، فلذلك صرّح بالمقصود في قوله : ( فلقمان بالنصّ هو ذو الخير الكثير ، بشهادة الله تعالى له بذلك )
إبانة لما هو بصدده من إثبات النسبة الكماليّة المذكورة للقمان وقد أدرج في طيّ عبارته هذه مفهومات ذات نسب شهادة بذلك .
ثمّ إنّ الإظهار المذكور قد يكون بصورة النطق والإفصاح ، وقد يكون بصورة الإشارة والسكوت على ما هو مقتضى كل حكمة، بما لها من الموطن والزمان كما قيل "ابن الفارض":
ولولا حجاب الكون قلت وإنما .... قيامي بأحكام المظاهر مسكتي
وقيل : " وما كل ما أملت عيون الضبي يروى "
الآتي بكل شيء هو الله تعالى
فأخذ في تبيين القسمين بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه : (والحكمة قد تكون متلفّظا بها ، ومسكوت عنها مثل قول لقمان لابنه)
فيم هو بصدده من أمر التغذية ، وجعل الغذاء فيها متّحدا بالمغتذي وأنّ الآتي به من مستجنّ البطون إلى مجالي الشهادة هو الله تعالى مظهرا إيّاه ، منطوقا به :
(" يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ ") أي مقدارا يقدّر به الكميّة العدديّة من موزونات الأشياء ، فهو أصغر المقادير من الصورة المشخّصة الحبيّة من جنس الخردل الذي هو أصغر الحبوب المقتاتة وأبعدها نسبة إلى الاتّصال الغذائي لغلبة المزاج الدوائي عليه ، المانع عنه من التقطيع الذي يستتبع تنفيذ الكيموسات اللزجة .
ويقال من اللغة : « خردلت اللحم » أي قطعته قطعا فإذا كان هذا المقدار من حبّة من هذا الجنس البعيد عن الاتّصال الغذائي والامتزاج الوحداني ، ويكون في أبعد المواضع للتناول ( "فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ ") هي أصلب المركَّبات وأشدّه منعا لاستخراج ما فيها يعني المادّيات المزاجيّة المانعة لخروج ما فيه ، ("أَوْ في السَّماواتِ") من البسائط العلى ، يعني المجرّدات المنزّهة عن الموادّ التي هي أبعد منها ، ("أَوْ في الأَرْضِ ") وهي أرض القابليّة الأصلية التي تنزل منها المتحرّك نحو الظهور إلى السماء - وكأنّك قد نبّهت عليها فله زيادة البعد، ("يَأْتِ بِهَا الله ") [ 31 / 16 ]
للامتزاج الجمعي والاتّصال الوحدانيّ الغذائيّ فكيف بما دونه والآتي المحرّك له هو الله .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فهذه حكمة منطوق بها ، وهي أن جعل الله هو الآتي بها ) بناء على الأصل الممهّد أنّ المؤثريّة وما يتفرّع عليها مرجعها إلى الحقّ عند تفصيل الأحكام وتمييز الطرفين من الحقّ والعبد ، فذلك هو الذي يصلح لأن يثبت على صحائف الإعلان ، ويقرّر في منابر البيان ، ولذلك نطق به : ( وقرّر الله ذلك في كتابه ، ولم يردّ هذا القول على قائله ) لا عقلا ولا شرعا.
الحكمة التي أشار لقمان رمز
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما الحكمة المسكوت عنها ، وعلمت بقرينة الحال ) التي إنما يفهمها من يصلح لأن يكشف له عن وجوه جمال الإجمال : ( فكونه سكت عن المؤتى إليه بتلك الحبّة ، فما ذكره ) في ظاهر منطوقه ، ( ولا قال لابنه ) عند تعليمه إيّاه رعاية لأدب الإرشاد والتسليك في علوم الحقائق ، وتنبيها لمن هو بصدده من الأولياء المحمديّين ، الذين يرثون علوم الأنبياء أجمع ، حيث صرّح بنسبة التأثير إلى الحقّ ، وسكت عن التأثّر ونسبته إلى أحد - يعني المغتذي .
فإنّه صرح بالغذاء الفرضي العلمي ومواضعه ، وأنّ الحقّ هو الآتي به ، دون المأتي إليه فإنّه ما قال : ( " يأت بها الله إليك " ولا " إلى غيرك "فأرسل الإتيان ) من حيث متعلَّقه المتأثّر منه ( عامّا ) غير معيّن ، (وجعل المؤتى به ) متوسّطا بين الآتي المصرّح به معيّنا ، وبين المأتيّ إليه ، المسكوت عنه مطلقا ، حيث عيّن مكانه
بأن قال : ( "في السَّماواتِ " إن كان "أَوْ في الأَرْضِ"، تنبيها ) إلى أنّ تعيين الآتي ليس تعيين تفرقة يكون في جهة العلو فقط ، بل تعيين جمعي إحاطيّ ، (لينظر الناظر في قوله: "وَهُوَ الله في السَّماواتِ وَ في الأَرْضِ") [ 6 / 3 ] فتجده مطابقا لذلك.
الحقّ تعالى عين كلّ معلوم
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فنبّه لقمان بما تكلَّم به ) في تعميم الغذاء الفرضيّ ومقداره العدديّ ومكانه الجمعيّ الإحاطيّ ، وأن الآتي به هو الله ( وبما سكت عنه ) في عدم تعيين المأتيّ إليه ( أنّ الحقّ عين كلّ معلوم ) ، فإنّ المعلوم هو الذي يشمل المراتب المذكورة كلَّها ، من المأتيّ به الفرضي ، بعموم أحواله ، والآتي به بذلك العموم والمأتيّ إليه من غير تعيين ، دون الشيء الذي يساوي الوجود الخارجي الإمكاني على رأي أو يعمّه والثابت منه على آخر أو يرادف الوجود العارض المعلول فإنّه على كل تقدير يختصّ بالإمكانيات ويخرج عنه الامتناعيّات الفرضيّة والواجب .
وأم « المعلوم » فيشمل الكلّ (لأنّ المعلوم أعمّ من الشيء ، فهو أنكر النكرات) إطلاقا ، وأشمل المفهومات حيطة وكفى بذلك شهادة على كمال إطلاقه وحيطته ما فيه من التعانق - بين المعرفة والنكرة ، فإنّ المعلوم مع أنّه أبين الأشياء أنكر النكرات .
التنزيه مع التشبيه
ثمّ إنّ إثبات هذه المفهومات الإطلاقيّة الواحدة بالوحدة ، النافية للنسب والتعيّنات وصور الإضافات والخصوصيّات جملة للحق ، إنما يدلّ على طرف التنزيه منه فقط ، دون التشبيه المتمّم له .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ تمّم الحكمة ) بإيراد ما يدلّ على التشبيه منه (واستوفاه ) بكمالها الجمعي من طرفي الظهور والإظهار والشعور الإشعار بقوله : "إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ" (لتكون النشأة) اللقمانيّة عند التعبير عن حكمتها (كاملة فيها فقال : "إِنَّ الله لَطِيفٌ ") لكمال سرايته في المراتب ، صوريّة كانت أو معنويّة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن لطافته ) في الصورة ولطفه المعنوي ( أنّه في الشيء المسمّى كذا ) صورة ( المحدود بكذا ) معنى ( عين ذلك الشيء ، حتى يقال فيه ) أي في ذلك المسمى المحدود ( إلا ما يدلّ عليه اسمه ) إجمالا وتفصيلا إذ المسمّى الصوري إنما يقال فيه ما يدلّ عليه ( بالتواطؤ ) إجمالا ، والمحدود المعنوي إنما يقال فيه ما يدلّ عليه بالتفصيل ، ( والاصطلاح ) ، فإنّ الأسامي والحدود إنما تتخالف بالتواطؤ والاصطلاح ، كما فيما نحن بصدده من الغذاء والمغتذي ، ومكامن الغذاء وأماكنه
( فيقال : هذا سماء وأرض وصخرة و ) يقال : ( شجرة ) وهي ما في الصخرة ( و ) يقال : ( حيوان وملك ) في المغتذي ( و ) يقال : ( رزق وطعام ) في الغذاء .
الاتحاد بالعين والاختلاف بالعوارض
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والعين واحدة من كل شيء ) هذا في المسمى بالتواطؤ إجمالا ، وهو الذي يختلف فيه الناس بحسب تباين الأقاليم وألسنتهم ، وذلك لظهوره بما يفرض لوجه التخالف وأما في المحدود بالاصطلاح تفصيلا ، المختلف فيه الناس بحسب تباعد الأزمنة ومقتضياتها ،
فهو المشار إليه بقوله : ( وفيه كما يقول الأشاعرة : إنّ العالم كلَّه متماثل بالجوهر ، فهو جوهر واحد ) بالنوع على زعمها ، ( فهو عين قولنا : « العين واحدة » ) إنما يختلف بمجرّد الاصطلاح .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثمّ قالت: « ويختلف بالأعراض ». وهو قولنا : وتختلف وتتكثر بالصور والنسب حتّى تتميّز) بحسبها ، فتكون موردا للأحكام المتقابلة الموهمة للتفرقة في العين والجوهر ( فيقال : هذا ليس هذا من حيث صورته ) في عرف التحقيق ( أو عرضه ) في عرف التكلَّم ( أو مزاجه ) في عرف الحكمة ( كيف شئت فقل ) فإنّ المؤدّى في الكل واحد .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا ) الواحد المشخّص بتلك الصور والأعراض ( عين هذا ) الآخر المشخّص بها ( من حيث جوهره ، ولهذا يؤخذ عين الجوهر في حد كل صورة ) كم يقال في تعريفها : « إنّها المتقوّم بالمحلّ » وهو الجوهر . هذا في عرف التحقيق وفي عرف الحكمة يقال لها : المزاج . وإليه أشار بقوله : ( ومزاج ) .
كم يقال : هو الكيفيّة الوحدانيّة الحاصلة من تفاعل الكيفيّات .
والكيفيّة هي عرض غير قابل للقسمة والنسبة ، والعرض هو الموجود في موضوع ، وهو الجوهر وم تعرض للعرض الذي هو عرف المتكلَّم ، اكتفاء بالمزاج، فإنّه عرض كما عرفت.
ثمّ إذا تقرّر أنّ الجوهر عين هذه الصور ، المعبّر عنها بوجوه من العبارات المتخالفة حسب اختلاف الاصطلاحات والاعتبارات ،
قال الشيخ رضي الله عنه : (فنقول نحن :"إنّه ليس سوى الحقّ"، ويظنّ المتكلَّم أنّ مسمّى الجوهر وإن كان حقّا)ثابت عنده ، مطابقا لما هو الواقع في نفسه (ما هو عين الحقّ الذي يطلقه أهل الكشف والتجلَّي) على مشهودهم ، فإنّهم يطلقونه عن الجوهريّة أيض (وهذ حكمة كونه لطيفا ) حيث أنّه سرى في المعلوم من كلّ صورة ومعنى بما يتنوّع به ويتشخّص منه ، حتى يعطيه اسمه وحده وهو الذي من آيات أنّه هو هو ، كما بيّن أمره في صناعة الميزان .
هذ ما له من التشبيه والسريان بحسب العين الوجودي .
التشبيه في الصفة
وأم العلميّ الشهوديّ منه ، فإليه أشار بقوله : (ثمّ نعت فقال: خبيرا، أي عالما عن اختبار) فإنّ من العلوم الذي يتّصف بها الحقّ هو العلم بالجزئيّات بعد الاختبار ، وعقيب الإظهار المترتّب على الاستتار ، المنساق أمر تمامه إلى الإخبار على ما دلّ عليه النصّ القرآني (وهو قوله : “ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ “) [ 47 / 31 ] ، فإنّ الخبر لغة هو معرفة الأشياء بطريق الخبر والبيان .
وقيل : هو المعرفة ببواطن الأشياء
.
وحيث أنّ الكلام الكامل هو الجامع بين المعنيين بصدقهما عليه فإنّه هو البيان المنبئ عن البواطن كنهها ، بصورتيه الرقميّ واللفظيّ ، وكسوتيه القطعيّ والمزجيّ يكون من امّهات ما يتحصّل به الخبر ، ويتوصّل منه العالم إلى أن يكون خبيرا وبيّن أن مدركه هو السمع ، كما أنّ مدرك غيره من تلك الأمهات هو باقي القوى والجوارح .
وإليه أشار بقوله :
علم الأذواق
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا هو علم الأذواق ) المستفاد بهذه القوى والجوارح من مبادئها المدركة بها ، ( فجعل الحقّ نفسه - مع علمه بما هو الأمر عليه - مستفيدا علما ، ولا نقدر على إنكار ما نصّ الحقّ عليه في حقّ نفسه ) فإنّه مما يستنكره أهل الظاهر كل الإنكار وفي هذه العبارة لطيفة إجمالا كما فيم سبق ، حيث حكى عن المتكلمين أنّهم مقرّون فعلا بلسان الإنكار .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ففرّق تعالى ما بين علم الذوق ) هذا ( والعلم المطلق ) كما قال : "وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [ 57 / 3 ] فأطلق . وقال :"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ " فقيّد .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فعلم الذوق مقيّد بالقوى ، وقد قال عن نفسه : أنّه عين قوى عبده في قوله: «كنت سمعه» وهو قوّة من قوى العبد ، «وبصره» وهو قوّة من قوى العبد ) وجزء من أجزاء باطنه ، ( « ولسانه » وهو عضو من أعضاء العبد ) وجزء من أجزاء ظاهره ، ( « ورجله ويده » ) وهما البرزخ بينهم
( فما اقتصر في التعريف على القوى فحسب ، حتى ذكر الأعضاء ، وليس العبد بغير لهذه الأعضاء والقوى فعين مسمّى العبد هو الحقّ ، ل عين العبد هو السيّد )
أي المجموع من تلك القوى والأعضاء التي هي مسمّى العبد ، الذي هو من المفهومات الإضافيّة ، فإنّه إنّما يعقل بالقياس إلى سيّده عين الحقّ الواحد بدون هذه الإضافة ، فإنّ أحد المتضايفين من حيث هو كذلك لا يمكن أن يكون المتضائف الآخر من حيث هو الآخر .
"" أضاف المحقق :
قال القيصري: أي العين الواحدة التي لحقتها العبوديّة وصارت مسماة بالعبد، هو الحق مجردة عن العبودية وليس عين العبد مع صفة العبودية عين السيد مع صفة السيادة.أهـ شرح القيصري.""
الوحدة للعين والتميز للنسب
قال رضي الله عنه : ( فإنّ النسب متميّزة لذواتها ) فإنّها مبدأ تميّزات الأسماء والأعيان ، فهي المتميّزة بذاتها ، المتميّز بها غيره ، وما بالذات من الشيء ل يزول عنه أصلا هذا في نفس النسبة لا في منتسبيها ، فإنّه لا تمايز فيها بالذات ، بل ( وليس المنسوب إليه متميّزا ) في نفسه ، فإنّ الأب عينه هو الابن لآخر .
فلو كان المنسوب إليه متميّزا بعينه لم يمكن ذلك وقد علم أنّ العين لا تمايز فيها أصل ، ولا تمايز إلَّا في النسب التعينية ، ( فإنّه ليس ثمّ سوى عينه في جميع النسب ) المتخالفة ، كالواحد مثلا في العدد ، فإنّ النسب العارضة إيّاه في صور مراتبه وتعيّناته ، هي التي عيّنته بالتعيّنات وسمّته بالأسامي ، لأنّه ليس ثمّ سوى عينه في جميع النسب ( فهو عين واحدة ، ذات نسب وإضافات وصفات ) .
وملخّص هذا الكلام : أنّ الخبير إنما هو باعتبار العلم المستفاد من قوى العبد ، من حيث أنّ الحقّ عينه ، فهو منتهى التشبيه باعتبار الشعور والشهود ، كما أنّ « اللطيف » منتهاه باعتبار العين والوجود .
(فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في هذه الآية من هذين الاسمين الإلهيّين « لطيفا خبيرا » سمّي بهما الله تعالى ) .
نكتة حكميّة
ثمّ إنّ هاهنا نكتة حكميّة لها كثير دخل في استكشاف هذا الموضع ، وهي أنّ الصورة مطلق - حيثما ظهرت - إنما يتمّ أحكامها ويظهر قهرمانها إذا دخل في حيطة خاتمها ، وختم عليها بنقشها الخاصّ به ، أعني خاتم النبوّة - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله - وكذلك المعاني بالنسبة إلى خاتم الولاية .
ثمّ إنّ الكلام الظاهر بصورة العينيّة المظهرة للمعاني الغيبيّة - إنم يتكمّل أركانه ويتم أمره إذا وسم بأحد الختمين ، واشتمل بما يدلّ على إحدى الجمعيّتين ، يعني الظهور الوجوديّ العينيّ والإظهار الشهوديّ العلميّ ك « الكون » فإنّه صاحب أزمّة الجمعيّة في الأوّل ، و « القول » فإنّه صاحبها في الثاني .
ولذلك ترى فواتح الآيات القرآنيّة وخواتمها مشحونة بهما ومن ثمّة قال : ( فلو جعل ذلك في الكون - وهو الوجود - فقال : « كان » لكان أتم في الحكمة وأبلغ ) .
ثمّ إنّه يمكن أن يقال عذرا من لقمان : إنّه إنما يكون أتمّ إذا لم يكن ذلك منه على طريق التعليم ، فإنّه يجب في أمثال ذلك مراعاة أمر المتعلَّم وسهولة فهمه وعسى أن يكون تكميل الحكمة لا يجمعه وكان قوله في تعليمه ابنه إشارة إلى هذا الوجه ( فحكى الله قول لقمان على المعنى ) فإنّه إنما أدّى ذلك المعنى بصورة يقتضيها زمانه واممه فيه ، من العربي المعرب عن الأمر ، إعراب كشف وتبيين ، فإنّه ما أرسل رسول إلَّا بلسان قومه ، حتى يتمكَّن من أمر البلاغ ويتفصّى من مقتضى حكم الرسالة .
فهذه حكاية مؤدّى كلامه ( كما قال : لم يزد عليه شيئا ، وإن كان قوله ) في القرآن الكريم : ( “ إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ “ [ 31 / 16 ] من قول الله ) فإنّه العربي المبين الذي قبل الخاتم ما كان أن يظهر (فلم علم الله من لقمان أنّه لو نطق متمّما لتمّم بهذا ) خاليا عمّا يدلّ على تلك الجمعيّة الختميّة .
الذرة أصغر المقادير وزنا
( وأما قوله : "إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ ") فهو أدنى ما يصلح لأن يكون غذاء - كمًّا وكيفا ، كما نبّهت عليه - وذلك ( لمن هي له غذاء ) ممن يناسبه قدرا وطبيعة
( وليس إلا الذرّة المذكورة في قوله تعالى : “ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ُ . وَمن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ُ “ [ 99 / 8 - 7 ] فهي أصغر متغذّ ، والحبّة من الخردل أصغر غذاء ) ، ولما كان الغالب على الكلمة اللقمانيّة أمر الحكمة الكاشفة عن خصوصيّات الأشياء ومقاديرها ، وبيّن أنّ الحدود من كلّ شيء هي مداخل استعلامها وفيها أبواب استكشافها واستفهامها ،
وأحد الحدود هو نهاية الكثرة الكليّة وكبرها ، والآخر هو غاية القلَّة الجزئيّة وصغره ، ثمّ أنّ العبد من حيث أنّه محصور جزئي إنما يقرب إليه الحدّ الثاني منهما : فتبيّن أن الكبير الكثير لا يعلم حتى يتقدّر حدّه بالصغير القليل ، فلذلك عيّن أصغر الأشياء في الغذاء والمغتذي إبانة لطريق معرفة الكلّ من كلّ شيء .
وهذ مما يؤيّد ما عليه المحقّقون من أنّ أصل الحقائق وخصوصيّاتها هو العدد وإنم يستعلم تلك الخصوصيّات من الفحص عمّا يختصّ به من الرتبة المقداريّة العدديّة وبيّن أنّه لا يعلم ذلك إلَّا بعد معرفة الأصغر مطلقا ويقدّر الكلّ من كلّ شيء به ، ولذلك جاء بالأصغر .
(ولو كان ثمّ أصغر لجاء به ، كما جاء بقوله تعالى : “ إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً “ ثمّ لما علم أنّه ثمّ ما هو أصغر من البعوضة قال : “ فَم فَوْقَها “ يعني في الصغر وهذا قول الله ، والتي في الزلزلة قول الله أيض )
حيث عيّن المقدار المعين في الذرّة ( فاعلم ذلك فنحن نعلم أنّ الله تعالى ما اقتصر على وزن الذرّة وثمّ ما هو أصغر منها ، فإنّه جاء بذلك على المبالغة ) هذا على الظاهر من القول وأمّا حقائقه بحسب خصوصيّات الحروف والأعداد فلا يحتمل إظهاره كلّ وقت ، إلى أن يطلع من أفق البيان فضل الكمال الختمي وزيادة علمه على مقتضى الوعد الموعود
وإليه أشار بقوله : ( والله أعلم ) .
ثمّ إنّ أمر التلطيف والتصغير الذين يستتبعان حكم السريان قد غلب على هذه الحكمة ، حتى ظهر في المرتبة الكلامية عند الخطاب إلى ابنه ( و ) إليه
أشار بقوله : ( أمّا تصغير اسم ابنه فتصغير رحمة ) وعطوفة ولطف ، ( ولهذ وصّاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك ) .
الشرك ظلم عظيم
( وأمّا حكمة وصيّته في نهيه إيّاه أن « لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » ) وبيّن أنّ الظلم إنما يتحقّق بين ظالم ومظلوم ، والظالم هاهنا المشرك ( والمظلوم المقام ) الذي يقع فيه الشرك ( حيث نعته بالانقسام ) والثنويّة ، وهو وضع الشيء في غير موضعه ، فإنّ العين الواحدة لا انقسام فيها ، ( و ) ذلك المقام ( هو عين واحدة ) فإنّ لكل ذي اعتقاد مقاما محمودا عنده ، ومنزلة كريمة محتوية على جملة من الصفات الكماليّة ومحامدها ، يتصوّر بها الإله في عقيدته ، ويتميّز بها عند متخيّلته .
ثمّ إذا رأى ذلك المقام أنّه يقبل الانقسام والثنويّة بالنظر إلى من يقوم به ذلك المقام في خياله ، والصورة المشخّص بها فيه ، لا بدّ وأن يتوهم لذهوله عن العين الواحدة بالذات - أنّ الثنويّة الصوريّة فيها ، فإنّه لا شيء أعلى من ذلك المقام عنده ، فيشرك بتلك الصورة الثانية ، لما تصوّرها في ذلك المقام ، ولا شرك عند التحقيق ، ( فإنّه لا يشرك معه إلا عينه ) الواحدة بالذات التي لا تتخالف بتوارد الصور ، ولا تتكثر بتعدّد الوجوه والنسب ، فحيث تصوّر فيها النسبة المكثّرة لها صار صاحب جهل ، فإنّه ما فرّق بين الواحد والكثير وحيث توهّم أنّ تلك الكثرة والتفرقة كثرة مقابل مشارك في مقام معاند له فيه ، بلغ غايته ،
ولذلك قال : ( وهذا غايته الجهل ) وهو الظلم العظيم .
اعتقاد الشرك ناش من الجهل
( وسبب ذلك ) الوصيّة والحكمة ( أنّ الشخص الذي لا معرفة له بالأمر على ما هو عليه ) يعني الصور المتخالفة جنسا ونوع وشخص ( ولا بحقيقة الشيء ) الواحدة بالوحدة الحقيقيّة ( إذا اختلفت عليه الصور ) التعيّنية ( في العين الواحدة ، وهو لا يعرف أنّ ذلك الاختلاف في عين واحدة يجعل الصورة مشاركة للأخرى في ذلك المقام ) المحمود والمنزلة المعبودة لديه
( فجعل لكل صورة جزءا من ذلك المقام ) فتكون الصورة متشاركة في أمر المحموديّة والمعبوديّة وبيّن أنّ الشركة إمّا بالتجزية والتقسيم ، بأن يكون لكل من المتشاركين حصة من المتشارك فيه ، أو بالإشاعة والبدل ، بأن يكون المتشارك فيه مشاعا لهما ، وهما يحكمان فيه على سبيل البدل ولا سبيل إلى شيء منهم عند التحقيق .
أمّا الأوّل : فلأنّه مبيّن ( ومعلوم في الشريك ) بذلك المعنى (أنّ الأمر الذي يخصّه مما وقعت فيه المشاركة ) كالجزء المفروض بالنسبة إلى المقام ( ليس ) ذلك الأمر الذي يخصّ أحد الشريكين ( عين الآخر الذي شاركه ) من الجزء الباقي ، ( إذ هو للآخر ) من الشريكين وخصائصه فإنّ لكل من الشريكين خصائص متمايزة على هذا التقدير ( فاذن ما ثمّ شريك على الحقيقة ، فإنّ كل واحد على حظَّه مما قيل فيه أنّ بينهم مشاركة ) .
وأمّا الثاني فلأنّ مبناه على تحقّق الإشاعة ( وسبب ذلك ) الوهم ( الشركةالمشاعة )
المتوهّمة لديهم ، وذلك غير متحقّق ( فإن كانت ) الشركة ( مشاعة )فالإشاعة غير زائلة ولا باطلة ، ولكن التالي باطل ( فانّ التصريف من أحدهما ) دون تعيين أبدا ( يزيل الإشاعة ) .
ومرجع هذا أيضا إلى ما مرّ من أنّ تخالف الصورتين من المتعينتين لا يقدح في وحدة العين ، فإنّ العين فيهما واحدة .
وفي قوله تعالى : ("قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ") إشارة إلى تينك الصورتين ، كما أنّ قوله : "أَيًّا ما تَدْعُوا " إشارة إلى تلك العين الواحدة الجامعة بينهما ، ولذلك كنّى عنه بالهويّة الجامعة للأسماء الحسنى كلها بقوله : "فَلَه ُ الأَسْماءُ الْحُسْنى ".
والذي يلوّح على هذا أنّ “ أَيًّا ما “ لفظا هو باطن الاسمين ، وبيّناتهما بحذف المكرّر .
ثمّ إنّ أمر مسألة الشركة حسبم حقّق أمره إنما يؤول إلى الشركة المشاعة وبيّن أنّ الأمر في المقام المحمود منحصر فيما يعتقده أرباب العقائد التقليديّة ، من الصور العقليّة أو الخياليّة المتبطَّنة .
وفيم يظهر لدى المشاعر الحسّية من الصور العينيّة الخارجيّة التي هي ظاهر الوجود والرحمة.
و « الله » إشارة إلى صورة جمعيّة الأوّل من المقامين ، كما أنّ "الرحمن" إشارة إلى الثاني منهم .
والذي يلوّح على هذا أنّ الخمسة التي هي مظهر وجود الحقّ فيهما على ما قال :
أقول وروح القدس ينفث في نفسي بأنّ وجود الحق في العدد الخمس وهو الحرف الآخر فيهما قد ظهر في "الرحمن " زوجا بالأزواج فإنّ ما في طيّه من الحروف كلَّها أزواج .
وقد ظهر في الله فردا بالأفراد .
ولذلك قال : ( هذا روح المسألة ) إذ بتلك الآية يتقوّم أمر استكشاف الشركة على ما لا يخفى للفطن ، بعد تطلَّعه لما مهّدنا له فيه .
تم الفص اللقماني
.
....

m8Koh6O4exM

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!