موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح علي التركة
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ صائن الدين التركة

فص حكمة مالكية في كلمة زكراوية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة مالكية في كلمة زكراوية


21 - فصّ حكمة مالكيّة في كلمة زكرياويّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
وجه تسمية الفصّ
ووجه اختصاص هذه الكلمة بحكمتها هو أنّ « المالك » له معنى الشدّة .
كما يقال : « ملكت العجين » إذا شدّد عجنه . فله معنى شدّة الامتزاج .
وله معنى الوسط أيضا كما قيل ومِلْك الطريق: وسطه، قال يصف ناقة :
أقامت على ملك الطريق فملكه ..... لها ، ولمنكوب المطايا جوانبه
أي في وسط الطريق .
وإذ قد كان لزكريّا شدّة قوّة المزاج لوقوعه في وسط طريق الاعتدال - ولذلك تراه قد قاوم تصادم البليّات بدون تبرّم ولا إظهار اضطراب وتشكّ ومن هاهنا تراه ما انقطع له عند بلوغ الكبر مادّة التوالد كما هو المعهود من أمزجة بني نوعه .
هذا ما له من القوّة بحسب ظاهر مزاجه وله أيضا قوّة بحسب باطن ذلك المزاج - يعني الهمّة - وهي أنّه قد همّ بحصول ولد يحيى به ذكره مع يأس بالغ كان له من تحصيله ، بوهن آلات التناسل منه ومن زوجته حيث قال “ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ من الْكِبَرِ عِتِيًّا “ [ 19 / 8 ] ،
وأنّه قد وهب له يحيى ، حيث أنّ اسمه ينطوي على وصفه المطلوب إظهاره - كما قد اطَّلعت على ذلك .
وأيضا قد عرفت في الفصّ اللوطي الذي هو رابع الثانية أنّ حكمته ملكيّة لما فيه من الشدّة التي يأوي إليها من قومه ،
وإذ كان ذلك القوّة لزكريّا بين أفراد قومه من ابنه يحيى ، تفرّد في ثالث الثالثة الختميّة بالمالكيّة كما لا يخفى على اللبيب وجهه .
المناسبات الحرفية في اسم زكريا ومالك
ثمّ إنّ هاهنا تلويحات : وهي أنّ حاصل فضل عدد « زكريا » يوافق ذلك من مالك في أصل العقود ، وفي عدد « زكريا » أيضا مادّة حروف " الرحمة " أكثرها بالفعل والباقي بالقوّة .
ومن كمال هذه النسبة أنه ظهر أمر رحمته الوجوديّة في مرتبة الكلام ، الذي هو مادّة « المالك » ، ولذلك خصّ بين الأنبياء بالمذكوريّة فإنّ صاحب الوجود الكلامي هو المذكور الذي ظهر اسمه في هذه المرتبة - لا الذاكر - حيث قال تعالى : “ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَه ُ زَكَرِيَّ “ [19 : 1 ] . ولذلك أخذ في تحقيق معنى الرحمة قائلا :
سعة الرحمة وشمولها للكل
قال الشيخ رضي الله : ( اعلم أنّ رحمة الله وسعت كل شيء : وجودا ) - وهو ظهور ذاته وعينه في مراتب الوجود - ( وحكما ) وهو ظهوره واعتباره في حضرة الغيب بالفيض الأقدس قبل الوجود ، وبعده أيضا عند طريان الأحكام الكونيّة ، فإنّ الكلّ داخل في رحمة الله تعالى .
فالرحمة هي العامّة التي لا شيء يشذّ عنها . وما توهّم بحسب مفهومه أنّه مقابل لها - يعني الغضب - فهو أيضا داخل فيها ، ضرورة أنّه مشمول للوجود الذي هو من الرحمة .
قال الشيخ رضي الله : ( وأنّ وجود الغضب من رحمة الله بالغضب ، فسبقت رحمته غضبه ) سبقا ذاتيّا إحاطيّ ( أي سبقت نسبة الرحمة إليه نسبة الغضب إليه ) ، فإنّ الرحمة أقرب نسبة إلى الهويّة المطلقة من سائر الأسماء ، لعموم نسبتها وتمام إحاطتها والذي يدلّ على ذلك هو ما أشار إليه بقوله رضي الله عنه : ( ولمّا كان لكل عين وجود يطلبه من الله ، لذلك عمّت رحمته كلّ عين ) ، أي لما كان وجود العين مطلوبا من الله ومسئولا عنه ، والضرورة حاكمة بأنّ المطلوب من الجواد المطلق موهوب على كل حال ، عمّت رحمة الله كلّ الأعيان .
ثمّ إنّه يمكن أن يقال هاهنا : إنّ طلب العين وجوده ، قبل وجوده وحصوله ، والطلب وصف لا بدّ وأن يكون لمحلَّه حظَّ من الوجود ؟
فأزال ذلك بقوله : ( فإنّه ) أي فإنّ كلّ عين ( برحمته التي رحمه ) الله ( بها ) - في الفيض الأقدس والتجلَّي الغيبيّ الذاتي - حصل له حظَّ من الرحمة به ( قبل رغبته في وجود عينه ، فأوجدها ) بالفيض المقدّس في التجلَّي العيني
فقبول العين لرغبته التجلي وطلبه ، من حكم الرحمة التي بالفيض الأقدس( فلذلك قلنا : إنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء وجودا وحكما ) .
ثمّ إنّه قد أدرج في طيّ هذه العبارة نكتة ، وهي أنّ الضمائر التي لكل عين قد ذكَّرها ما كان منها قبل قوله : « فاوجدها » اعتبارا بلفظ الكلّ ، وتنبيها بذلك على أنّ الأعيان في الفيض الأقدس غير متميّزة عمّا فيه من التجلي الغيبي الذي هو بمنزلة كله ، بل الأعيان هناك عين الكلّ وأما في الفيض المقدس فقد حصل للعين امتياز ، كما بيّن وجهه في موضعه .
ولذلك أنّث الضمير في " أوجدها " . فلاتغفل عن دقائق إشاراته في لطائف عباراته .
ثمّ إنّك إذا عرفت هذا ظهر لك أنّ من جعل قوله « قبل رغبته » ظرفا بمعنى « سابق رغبته » ، فهو في طرف من مقصود الكتاب ، كما أنّ من جعله فعلا راجعا فاعله إلى « الله » في آخر منه .
الأسماء في الفيض الأقدس
ثمّ إنّه لما ذكر أنّ سبق الرحمة إنما هو لقرب نسبته إلى الحقّ ، وذلك لشمول إحاطتها وكمال سعتها ، أخذ يحقّق مراتب سعة الرحمة وموادّها بقوله :
قال الشيخ رضي الله : ( والأسماء الإلهية من الأشياء ) التي شملتها الرحمة ( وهي ) من حيث أنّها مشمولة للرحمة والوجود ( ترجع إلى عين واحدة ) كما سبق تحقيقه من أنّ الأسماء من حيث خصوصيّاتها الامتيازيّة نسب لا وجود لها ، ومن حيث أنّها راجعة إلى عين واحدة لها الوجود . فتلك العين الواحدة مبدأ وجود الأسماء .
قال الشيخ رضي الله : ( فأول ما وسعت رحمة الله شيئيّة تلك العين الموجدة للرحمة بالرحمة ) فهي الراحمة ، وهي المرحومة . وهذه مرتبة الفيض الأقدس ، الذي لا ثنويّة فيه بين الفائض والمفاض .
وفي هذه الحضرة ظهرت أعيان سائر الأسماء والحقائق ، لا وجودها وشيئيّتها والأعيان في هذه الحضرة هي المسمّاة بالشؤون الذاتيّة اصطلاحا ومعناه بلسان الإشارة التلويحية أنّ شيئيّتها عين عينيّتها فيه .
مراحل انتشار الأسماء والأعيان
قال رضي الله عنه : ( فأوّل شيء وسعته الرحمة نفسها ) ، ونفس الرحمة هي المسمّاة بالنفس الرحماني عند فتح فاء التفصيل ونصبه شفتيه وفاه لجمع الكلمات الوجوديّة والفرق فيها في الثاني من الحضرتين .
قال الشيخ رضي الله : ( ثمّ الشيئيّة المشار إليها ) بالشيء المطلق ، وهو التجلَّي الثاني النفسيّ في الحضرة الواحدية . وهاهنا تتميّز الأعيان عن الوجودات ، ويقال لها الأعيان الثابتة .
قال الشيخ رضي الله : ( ثمّ شيئيّة كل موجود ) في العوالم والمراتب الإمكانية التي غلبت الكثرة وحكمها حتّى ( يوجد إلى ما لا يتناهى ، دنيا وآخرة ) ، صورة ومعنى ( و ) الصورة ( جوهرا وعرضا ، و ) الجوهر ( مركَّبا وبسيطا ) فلا تخصيص لوصف ولا وضع أصلا ، ( ولا يعتبر فيها حصول غرض ولا ملاءمة طبع ، بل الملائم وغير الملائم كلَّه وسعته الرحمة الإلهيّة وجودا ) في العوالم ، فتكون الرحمة سابقة على الغضب .
الأثر للمعدوم ، لا للموجود
ثمّ إنّه قد ظهر لك من تحقيقه هذا أنّ الوجود أثر طلب الأعيان الثابتة في العدم ، إذ طلبها للوجود إنما يكون عند خلوّها عنه ضرورة ، وإلا لزم طلب الحاضر وتحصيل الحاصل فقال مفصحا عن أنّه مجرّد الاستبعاد الناشئ عن عدم حكم الجمعيّة القلبيّة الإنسانيّة وعزلها عند استكشاف الحقائق عن صدد الاعتبار والاعتداد :
قال الشيخ رضي الله : (وقد ذكرنا في الفتوحات أنّ الأثر لا يكون إلا للمعدوم لا للموجود ) ، فإنّ التوجّه نحو الأثر إنما يتصور عند فقد المتوجّه ما يستحصل بذلك الأثر ، فذلك المتوجه إمّا أصل القابليّة الأولى ، الفاقدة سائر الأسماء ، الخالية عن الكلّ حتى الرحمة والوجود ، فإنّها الطالبة إيّاها ، المستجلبة لها ، المؤثّرة فيها فذلك الأثر للمعدوم ، لا للموجود .
"" قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب التاسع والخمسون وخمسمائة :
لأن الأمور إنما هي بغاياتها ولها وجدت ،
قال عز وجل وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ،
فاعتبر الغاية وإن تأخرت في الوجود مثل طالب الاستظلال بالسقف فحركته الغاية إلى ابتدائها، فما وقعت العبادة إلا بعد الخلق ، فالغاية هي التي أبرزتهم إلى الوجود
فهي المبتدأ وإن تأخرت في الوجود فما تأخرت بالأثر فإن الحكم والأثر له
ولذلك قلنا إن الأثر أبدا في الموجود إنما هو للمعدوم والغاية معدومة ولهذا يصح من الطالب طلبه
لأن الموجود غير مرادفالغاية المعدومة هي التي أثرت الإيجاد أو هي سبب في أن أوجد الحق ما أوجده مما لم يكن له وجود عيني قبل هذا الأثر السببي،
ويسمونه بعض العلماء العلة وبعضهم يسميه الحكمة وبعد أن عرف المعنى فلا مشاحة في الإطلاق ومن ذلك الجهر والهمس لفظ النفس
الأمر في العقل وفي النفس ..... مقرر في الجهر والهمس
فكل ما يشهده ناظري ..... أدركه بالعقل والحس
وأشهد المعنى الذي ساقه ..... ولست من ذلك في ليس ""
وأمّا حقيقة الحقائق عند تطوّرها في أطوار المراتب الاستيداعيّة منها والاستقراريّة ، فذلك الأثر قال الشيخ رضي الله : (وإن كان للموجود ) ولكن إذ كان التوجّه له نحو الأثر إنما ينبعث عند عثوره بفقد المستحصل به ، الحاصل منه ، يكون الحكم والقهرمان في هذه الصورة أيضا للمعدوم وإليه أشار بقوله : ( فبحكم المعدوم ) .
وهذا يناسب ما تسمع الحكماء يقولون : « إنّ الغاية علَّة عليّة الفاعل » وهي حينئذ معدومة ، وإن كان ذوو النظر منهم يعكسون القضيّة ويحكمون جزما بأنّ الأثر إنما يكون للموجود ، والمعدوم لا أثر له ويجعلون هذا الحكم مبادئ مسائلهم ومباني أصولهم ومقاصدهم .
ولذلك قال الشيخ رضي الله : (وهو علم غريب ) - فإنّه بعيد عن مدارك العقل الذي ما جاوز عما هو خاصّة مرتبته ، ولا تلطَّف من هذا الامتزاج الجمعي بعض التلطَّف ، ولا تقلَّب بهذه التقلَّبات البرزخيّة القلبيّة بعض التقلب –
قال رضي الله عنه : ( ومسألة نادرة )فإنّ أكثر المسائل في عرف تخاطب هذا المصطلح مبنى براهينها على الاستدلال بوجود الأثر على وجود المؤثّر ، والجزم بوجود المعلول عند العثور على وجود علَّته وهذه المسئلة نادرة بين تلك المسائل ، حيث أنّ مبنى حكمها على عكس ما عليه مباني البراهين اليقينيّة الكاشفة عن الأحكام أنفسه .
فلئن قيل : لو اعتبر اصطلاح التخاطب في استعمال المسألة لا يصحّ أصلا ، فإن المسألة في عرف التخاطب بين أرباب هذه الصناعة هو ما برهن عليه ، ولا برهان على هذا الحكم ، فكيف يكون مسألة ، حتّى يقال : إنّها نادرة ؟
قلنا : كأنّ الغرض في استعمال لفظ « المسألة » هاهنا التنبيه على أنّها مما يمكن أن يبرهن عليها لذوي القرائح اللطيفة ،
والخواطر الفارغة الخفيفة وذلك أنّه لو اعتبر حيثيّة التأثير في المؤثّر لا يمكن أن يكون بذلك الاعتبار موجودا عند المتفطَّن الذي لا يقصر أمر الحكم في الحقائق على ما هو مجرّد العقل وفيما سبق لك هاهنا من كلام الحكماء دلالة بيّنة على حقيقة الأمر ،
فإنّ الغاية إذا كانت علَّة لعليّة الفاعل والسبب المحرّك له نحو تحصيل المعلول وإيجاده في مرتبة تكون الغاية معدومة فيها ، كانت العلَّة الفاعلية فيها معدومة ، وإن
كان لها حظَّ من الوجود في مرتبة أخرى ولكن الكلام في أنّ الأثر - حيثما كان - إنما هو للمعدوم فيه وهذا البرهان إنما هو لمن جمع بين سائر القوى الإدراكيّة التي في الجمعيّة القلبيّة الإنسانيّة ، غير عاذل ولا معطَّل لشيء فيها ، كما هو دأب المترهّبين من المتصوّفة والمتفلسفة.
العقل والخيال والوهم
ثم إنّ هاهنا نكتة حكميّة لا بدّ من الوقوف عليها ، وهي أنّ مقتضى نشأة العقل ومؤدّى مداركه وحكمه إنما هو التنزّه والتجرّد عن القيود المشخّصة مطلقا - صوريّة كثيفة ظلمانيّة كانت ، أو معنويّة لطيفة غير ظلمانيّة - فلا يكون مسرح أنظاره إلا الكليّات من المعاني المجرّدة عن الموادّ الهيولانيّة الظلمانيّة ،
والقيود المشخّصة الإمكانيّة ، والخيال - بما في حيطة حكمه من سدنة القوى الحسّية - يقابل العقل في مداركه فإنّه إنما يدرك الصور الجزئيّة المشخّصة ، المحفوفة بالغواشي الإمكانية والمواد الهيولانيّة
وأمّا الوهم فهو البرزخ الجامع بينهم ، فإنّه إنما يدرك المعاني المجرّدة عن الكثائف الهيولانيّة التي بها يتصوّر المعاني ، ولكن محفوفة بالمشخّصات المعنويّة فهو الجامع بين المدارك الجزئيّة الصوريّة التي هي مناط أمر التشبيه ، وبين المعاني الكليّة التي هي مظاهر حكم التنزيه .
ومن هاهنا تراه مبدأ أمر الوجد ومنشأ ظهور الشوق . وكأنّا قد أشرنا في كتاب المناظرات إلى مزيد بحث لذلك البحث ، فمن أراد الوقوف عليه فليطالع ثمة .
مدرك أصحاب الأوهام
وإلى مغزى هذه النكتة أشار بقوله : ( ولا يعلم تحقيقها إلا أصحاب الأوهام ) الذين لم يقتصروا في هذه الجمعيّة الكماليّة الإنسانيّة على حكم العقل الصرف ، بل مزّجوه بما هو مقتضى هذا الاعتدال ، وقلَّبوا حكم العقل بالتقلَّبات القلبيّة ، ومدرك القلب هو المسمى بالذوق .
وإليه أشار بقوله : ( فذلك بالذوق عندهم ) الناشئ من إدراك المعاني الجزئيّة في المراتب ، لا بالفكر المستحصل من تعقّل الكلَّيات المجرّدة عن الموادّ جملة .
قال الشيخ رضي الله : ( وأمّا من لا يؤثّر الوهم فيه فهو بعيد عن هذه المسألة ) فإنّ من الناس من سلَّط في محكمة علومه وإدراكاته العقل ، وعزل الوهم عنها ، وذلك إنما يتمّ له بفنون التعمّلات الشاقّة ، والرياضات المتعبة له فوق الطاقة فإنّه خلاف مقتضى هذه النشأة القلبيّة الإنسانيّة ، إذ الوهم في هذه النشأة له سلطان عظيم وقهرمان قوىّ على العقل ، ولذلك ترى العقل واقفا بما له من المقدّمات البيّنة الإنتاج عندما توقّف الوهم ، كما في صورة جماديّة الموتى وعدم الخوف من الجماد .
وذلك لأنّ حكم الجزئيّات في الوجود الخارجي وسائر المراتب الظهوريّة غالب على حكم الكليّات . حيث أنّها موطن ظهور الجزئيّات ، ونفاذ أحكامه .
والوهم هو الحاكم الفصل بين القوى المدركة للجزئيّات ، فإنّه المتدبّر في لطائف المعاني منها ، دون كثائف الصور ومن ثمة ترى مقاليد أحكام طرف التشبيه بيده - كما سيبيّن تحقيقه في الفصّ الآتي :-
ثمّ إنّ هذه المسألة أصلها من تأثير حكم المرتبة التي هي معدومة في نفسه .
وبيّن أن مبادئ التأثير من تلك المراتب إنما هي معاني جزئيّة مستحصلة من النسب العدميّة ، والوهم هو الذي يفهم ذلك الحكم بين المشاعر ، فمن لم يكن للوهم سلطان وتأثير في باطنه يكون بعيدا عن إدراك هذه المسألة .
مناقشة ما قاله بعض الشارحين
وإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ من أوّل « الوهم » هاهنا بـ « الهمة المؤثّرة في الأشياء » بعيد عن إدراك هذا الموضع ، وكأنّه إنما حمله على ذلك ما سمعه من بعض أرباب النظر ومترهّبيهم - : « إنّ الوهم والخيال هما المانعان عن إدراك الحقائق ، فيجب عزلهما عن الحكم » وقصدهم في ذلك إنما هو تحقيق الحقائق التنزيهيّة ،
""أضاف المحقق :
إشارة إلى ما قاله الكاشاني: « أي الذين يؤثرون الأشياء بالوهم فيوجدونها » . ""
فإنّ العلوم عندهم مقصورة عليها - ذاهلا عمّا مهّد الشيخ من الأصول النافية لذلك ، وعمّا سيحقّقه في الفصّ الإلياسي من أنّ التشبيه في عين التنزيه إنما يفهمه الوهم ، كما أن التنزيه في عين التشبيه إنما يدركه العقل .
ثمّ إذ قد انساق الكلام في بحث الرحمة إلى أنّ الأعيان والأكوان الجزئيّة الظاهرة في المراتب هي المؤثّرة في الرحمة الوجوديّة السارية فيها ، المكتسبة منها أحكامها . عبّر عن ذلك نظما ، مفصحا بقوله :
قال الشيخ رضي الله : ( فرحمة الله في الأكوان سارية ) ... بكمال لطفها وبكون ألطف ما في المراتب والعوالم من الذوات والأعيان ، فلذلك قال فيه « سارية » إشعارا لمعنى السري الذي هو السير بالليل لخفائه وبطونه .
قال الشيخ رضي الله : ( وفي الذوات وفي الأعيان جارية ) فإنّ الجريان إنما يقال لما له قوام وكثافة ما وظهور . ثم إنّ نسبة السراية والجريان في الجزئيّات المذكورة إنما هي مدرك الوهم الذي هو مؤسّس قواعد الشهود ، دون الفكر ،
ولذلك قال رضي الله عنه : ( مكانة الرحمة المثلى إذا علمت .... من الشهود مع الأفكار ، عالية )
أي مكانة الرحمة وإن علمت مع الأفكار ، فهي عالية عنها لأن مدارك الأفكار والأنظار مقصورة على المجرّدات من الغواشي المشخّصة الخارجية واللواحق المعيّنة ، أعني الكليّات المنزهّة جملة عن الموادّ وما يتبعها .
ونبّه بلفظ « المعيّة » هاهنا إلى أنّ الأفكار أيضا من الأكوان التي سرت فيها الرحمة ، فيكون معها ، فالرحمة إذا علمت يكون معها الأفكار ، لا بها ومنها .
ذكر الرحمة شيئا عين إيجاده
ثمّ إنّه إذا ظهر أنّ الرحمة هي التي بسريانها وجريانها وجدت الأكوان والأعيان ( فكلّ من ذكرته الرحمة ) بنفسها ، المسمّى بالنفس الرحماني ( فقد سعد ) فإنّ السعادة هي معاونة الأمور الإلهيّة للإنسان على نيل الخير ، والوجود منبع الخيرات ( وما ثمّ الا من ذكرته الرحمة ) فإنّ ذكر الرحمة عبارة عن ظهور الكلمات الوجوديّة بالنفس الرحماني، وما لم يظهر به فهو معدوم .
قال الشيخ رضي الله : ( وذكر الرحمة الأشياء عين إيجادها إيّاها ) فإنّ ذكر الرحمة من قبيل إضافة المصدر إلى فاعله ،
قال رضي الله عنه : ( فكل موجود مرحوم ولا تحجب - يا وليّ - عن إدراك ما قلناه بما تراه من أصحاب البلاء ، وما تؤمن به من آلام الآخرة التي لا تفترّ عمن قامت به )
ولا تسكن وذلك لأنّ ما تدفعه المقدّمات اليقينيّة كالمحسوسات أو ما يجري مجراها من العقائد الراسخة بفنون المؤيّدات وصنوف الشواهد والبيّنات
لا بدّ وأن يحتجب بذلك اللبيب الطالب عن التفطَّن له ، يعني أرباب الذكاء ، ممن له نسبة أكيدة بأهل الحقّ وإليه أشار بقوله : « يا وليّ » ، فإنّ من دونه في الفهم والنسبة لا تقف في مقام الحجاب والتردّد أصلا ، بل ينبو عن ذلك ويتنفّر - فرار الحمر من القسورة - إذ هي الغلبة ، وأهل الحجاب القويّ والتعيّن الغالب يتنفّرون من تلك الغلبة التي بها ينكسر تعيّنهم ، ويفرّون فرار الحمر من قسورة الأسد أو الصائد .
الحقّ المخلوق أول مرحوم
ثمّ إنّه أخذ في بيان ما يكشف به حجاب التدافع المذكور بقوله :
قال الشيخ رضي الله : (واعلم أوّلا أنّ الرحمة إنما هي في الإيجاد عامّة ) بناء على ما مهّد في مطلع الفصّ من أنّ الرحمة لها الإحاطة بالوجود ، ( فبالرحمة بالآلام أوجد الآلام . ثم إنّ الرحمة ) عند انبساطها المسمّى بالإيجاد ( لها الأثر بوجهين : أثر بالذات ) في أنفس الأشياء وذواتها ،
( وهو إيجادها كل عين موجودة ، ولا تنظر ) الرحمة عند تأثيرها بهذا الأثر إلى ما يزيد على نفس الأعيان والذوات فلا تنظر ضرورة حينئذ ( إلى غرض ، ولا إلى عدم غرض ) بالنسبة إلى الموجد ،
قال الشيخ رضي الله : ( ولا إلى ملائم ، ولا إلى غير ملائم ) بالنسبة إلى الموجود ، فإنّها نسب خارجة عن الذوات والأعيان ، وهي غير منظور ولا ملتفت إليها في هذه الأثر ( فإنّها ناظرة في عين كل موجود قبل وجوده ) عند إفضاء حكم الرحمة إليه - على ما عرفت تحقيقه - ( بل تنظره في عين ثبوته ) ، ولا تغفل عمّا نبّهت هناك في وجه تذكير الضمير وتغليب حكم الكل على العين .
قال الشيخ رضي الله : ( ولهذا رأت الحقّ المخلوق في الاعتقادات ) ، يعني الصور المجعولة لكلّ أحد في متخيّلته ، على أنّه الحقّ ، مأخوذة إمّا من الدلائل النظريّة معقّدة بها ، أو من المستحسنات التقليديّة مستوثقة منها فهذه صور الحقّ رأتها الرحمة في هذه الحضرة ( عينا ثابتة في العيون الثابتة ، فرحمته ) ، أي الرحمة عند رؤيتها الحقّ المخلوق في العيون الاعتقاديّة ، رحمه الحقّ ( بنفسها بالإيجاد ) ، أي إيجاد الأعيان فإنّ الأعيان بوجودها يظهر الحقّ المخلوق . فهو المرحوم هاهنا كما أنّه الراحم .
قال الشيخ رضي الله : (ولذلك قلنا إنّ الحقّ المخلوق في الاعتقادات أوّل شيء مرحوم ) باعتبار أنّه الغاية وهي الأوّل في مرحوميّته ، وإن كان بعد أسباب بحسب الوجود فهو الأوّل والآخر
وإليه أشار بقوله : ( بعد رحمتها بنفسها في تعلَّقها بإيجاد المرحومين ) .
ثمّ ليعلم أنّ المصنّف قد أدرج في عبارته هذه دقيقة منطوية على جلائل الحكم ، وهي أنّ الأوّل إنما يكون أكمل إذا ظهر فيه أنّه الآخر من حيث أنّه باطن .
وتلك الأوّلية إنما يتصف بها الكامل إذا كان غاية لذي غاية مفضية إليها ، كما في الحقّ المخلوق وهذا من الحكم الجليلة لهذا الأثر الذاتي من الرحمة والتنزّل الجمليّ منها ، فإنّه به صار أوّلا باطنا ، آخرا ، ظاهرا - فلا تغفل .
يختلف سؤال أعيان أهل الحجاب وأهل الكشف
فهذا أوّل الآثار من الرحمة عند انبساطها بنفسه ( ولها أثر آخر بالسؤال )
من تلك الأعيان ، فتتفاوت مقترحاتهم بحسب نيّاتهم ومقتضياتهم عند إفصاح ألسنة استعداداتهم وأحوالهم وأقوالهم ، ( فيسأل المحجوبون من الحقّ أن يرحمهم ) من حيث صورته المخلوقة لهم ( في اعتقادهم ) .
و « الحقّ » في لسان الاصطلاح من الأسماء العامّة التي تشمل مراتب الوجود - إلهيّة وكيانيّة - فإنّ الشيخ قال في مصطلحاته :
" الحقّ ما أوجب على العبد من جانب الله ، وما أوجب الحق على نفسه " . " وما أوجبه "
فيصدق على الصورة المخلوقة التي هي مسؤول المحجوبين .
""أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الخامس والسبعون ومائتان :
فالرجوع الإلهي الأول رجوع عناية وتفضل والرجوع الثاني الذي أنتجه رجوعهم إليه
سبحانه في قوله من تقرب إلى شبرا تقربت منه ذراع ............
فالرجوع الإلهي الثاني يتضمن أمرين رجوع الاستحقاق منه بمنزلة الجسد
ورجوع المنة منه بمنزلة الروح للجسد الذي به حياته
فإنه وإن كان الاستحقاق بما أوجبه الحق على نفسه فإن الحقيقة تعطي أن لا يستحق العبد شيئا على سيده فمن منته سبحانه على عبد إن أوجب له على نفسه ليأنس العبد بما أوجبه الحق عليه من طاعته ليسارع بأداء ما وجب عليه
فإذا حصل العبد في هذا المقام فليس وراءه مرمى لرام
ويعلم أن الله قد أراد أن ينقله من عالم شهادته إلى عالم غيبه ليكون له غيبه شهادة في موطن آخر غير هذا الموطن له حكم آخر
وهو الموطن الذي تكون فيه المظاهر الإلهية وهو أوسع المواطن
فلهذا عبر عن هذا المنزل بالأجل المسمى لأنه أجل البعث إليه من عالم الشهادة المقيد بالصورة التي لا تقبل التحول في الصور لكن تقبل التغيير وهو زوال عينها بغيره
لذلك الغيب الذي كانت به فيدبر الروح الغيبي صورة ذلك الغير
فلهذا قلنا يقبل التغيير ولا يقبل التحويل فإن الحقائق لا تتبدل . أه ""
قال الشيخ رضي الله : ( وأهل الكشف ) إذ تحققوا أنّ ذواتهم أثر سريان الرحمة الذاتيّة ما عيّنوا للمسئول منه وجها ، فهم ( يسألون رحمة الله ) مطلقا ، لا من اسم خاصّ ( أن تقوم بهم ) وإذ كان القائم بهم والحاكم على نشأتهم الخاصّة إنما هي الرحمة الإلهية ،
قال الشيخ رضي الله : ( فيسألونها باسم الله ) لا بأنفسهم ، ولا بشيء من الأسماء الجزئية فهم لا يزالون تالين بسائر الألسنة : « بسم الله الرحمن الرحيم » ، داعين سائلين به الرحمة المقوّمة لهم ، القائمة بهم ( فيقولون : يا الله ارحمن ) .
الرحمة هي الحاكمة
ثمّ إنّ المبادر من عبارته حيث قال : « أن يقوم بهم » أنّ الرحمة قائمة بالعين ، والعين مقوّمة لها ، والحكم إنما هو للرحمة ،
فصرّح بذلك قائلا : ( ولا يرحمهم إلا قيام الرحمة بهم ، فلها الحكم ، لأنّ الحكم إنما هو في الحقيقة للمعنى القائم بالمحل )
وكما بيّن ذلك في الفصّ الآدمي ، أنّ الحياة هي الحاكمة على الحيّ كما ترى في أنّ السلطنة هي الحاكمة على السلطان ، وأنّ الوزارة هي الحاكمة على الوزير ، وكذا سائر المراتب والمناصب هي الحاكمة على من قامت به .
العلم الذوقي أنهى مراتب الرحمة
فعلم أنّ ذلك المعنى هو الحاكم ( فهو الراحم ) ، أي المعنى القائم بالمحل هو الراحم ( على الحقيقة . فلا يرحم الله عباده المعتنى بهم إلا بالرحمة ) القائمة بالأعيان أنفسها ، ومن جملة صورها الوجود أو العلم والمراد بهذه الرحمة هو العلم ، فلذلك خصّ العباد المعتنين بهم .
وقال أيض : ( فإذا قامت بهم وجدوا حكمها ذوقا ) وهذا أنهى مراتب الرحمة ، أعني العلم الذوقيّ الذي هو عبارة عن وجدان العارف رحمة الله القائمة به ، المقوّمة إيّاه بما هو الأوّل والآخر .
فقد بيّن بهذا الكلام أمر الرحمة وتفصيل جزئيّاتها من المبدء الذي هو قبول القابل وسؤاله بألسنة الاستعدادات ، إلى المنتهى الذي هو العلم الذوقيّ .
ويصدق على سائر المراتب أنّه ذكر الرحمة ، فإنّ المراتب الوجوديّة منها ذكر النفس الرحماني ، والشهوديّة منها ذكر النفس الإنساني ، والرحمة تشمله
وإليه أشار بقوله : ( فمن ذكرته الرحمة فقد رحم ) ، فالمذكور هو اسم المفعول ، (واسم الفاعل هو الرحيم الراحم ) وقد علم أنّ غاية ما استقرّ عليه أمر أهل الكشف في الأثر السؤالي من الرحمة ، هو وجدان حكم الرحمة ، كما أنّ غاية أمر المحجوبين فيه أن يرحمهم الحقّ المخلوق في اعتقادهم .
الأحوال وأنها لا موجودة ولا معدومة
فظهر أنّ حظَّ أهل الكشف من الرحمة وأثرها أوفى وكعبهم أعلى ، فإنّ حظَّهم من حكم الرحمة ( والحكم لا يتصف بالخلق ، لأنه أمر توجبه المعاني لذواتها ) ، والخلق إنما يقال لمن تنزّل المبدء فيه بصورة الأثر والفعل . فتكون له مرتبة أخرى في الوجود أظهر وأنزل .
والحكم ليس كذلك فإنّه مقتضى المعاني لذواتها ، فلا تنزل فيه أصلا ، فإنّه في الرتبة الأولى السابقة على الوجود ، فإنّه من الأحوال .
قال رضي الله عنه : (فالأحوال لا موجودة ولا معدومة أي لا عين لها في الوجود لأنّها نسبة ) والنسبة لا عين لها في الوجود ، ( ولا معدومة ) أيضا لأنّ لها حظَّا من الوجود باعتبار الظهور الذي له ( في الحكم ) ، فإنّ الأحوال وإن لم تكن لها عين في الوجود - مثل العلم والحياة - إلا أنّ لها ظهورا في الحكم (لأن الذي قام به العلم يسمى عالما ) ، فحكم العالم موجود - يعني العلم
قال رضي الله عنه : (و ) العالم ( هو الحال ) ليست لها عين في الوجود ، لأن العين الموجودة هاهنا واحدة ، وهي العالم ( فعالم : ذات موصوفة بالعلم ) ، وكونها عالم (ما هو عين الذات ، ولا عين العلم ، وما ثم الأعلم وذات قام بها هذا العلم وكونه ) - أي كون الذي قام به العلم –
( عالما ، حال لهذه الذات باتّصافها بهذا المعنى ) ، وهو العلم .
""أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الثاني والسبعون وثلاثمائة:
فعلى الحقيقة لا أثر لموجود في موجود وإنما الأثر للمعدوم في الموجود وفي المعدوم
لأن الأثر للنسب كله وليست النسب إلا أمورا عدمية يظهر ذلك بالبديهة في أحكام المراتب
كمرتبة السلطنة ومرتبة السوقية في النوع الإنساني مثلا فيحكم السلطان في السوقة بما تريد رتبة السلطانة وليس للسلطنة وجود عيني
وإذا كان الحكم للمراتب فالأعيان التي من حقيقتها أن لا تكون على صورة طبيعية جسمية في نفسها إذا ظهرت لمن ظهرت له في صورة طبيعية جسدية في عالم التمثيل كالملك يتمثل بَشَراً سَوِيًّا وكالتجلي الإلهي في الصور .أه ""
وفي عبارته هذه إشعار بسبب تسمية الحال حالا ، إذ بها تتحول الذوات .
قال رضي الله عنه : ( فحدثت نسبة العلم إليه ) أي إلى الذي قام به بسبب الاتّصاف بالمعنى العلمي الذي هو مبدأ هذه النسبة . وإنما جعل هذين الضميرين للذي قام به دون الذات - مع قربها ،
لأنّ أصل الكلام في مطلق الحال ، وتشخيص هذه الذات وهذا المعنى للتمثيل فقط ، على ما هو الظاهر من عبارته ( فهو المسمّى عالما ) .
فعلم أنّ العالم له حظَّ من الوجود باعتبار العلم الذي هو حكمه .
الحقّ تعالى عين الرحمة
قال رضي الله عنه : ( والرحمة على الحقيقة نسبة من الراحم ) وإن كان بحسب الظاهر الراحم من الرحمة ، وهي مبدؤه كما سبق في بيان العلم والعالم .
( و ) تلك الرحمة ( هي الموجبة للحكم ) ظاهرا وحقيقة ، ( فهي الراحمة ) أي الموجبة لقيام الرحمة بالذات وتسميتها بالراحم ( والذي أوجدها ) من الرحمة ( في المرحوم ما أوجدها ليرحمه بها ) من حيث أنه مرحوم ، ( وإنما أوجدها ليرحم بها من قامت به )
تلك الرحمة على ما بيّن ذلك في العلم : أنّه سبب حدوث نسبة العلم إلى من قام به - فيكون إيجاد المرحوم وغايته ليس ليرحم المرحوم من حيث أنّه مرحوم ، بل لثبوت الرحمة لمن قامت به الرحمة ، يعني الحقّ ، ( وهو سبحانه ليس بمحل للحوادث ، فليس بمحل لإيجاد الرحمة فيه ) من جهة إيجاد المرحوم (وهو الراحم ولا يكون الراحم راحما إلا بقيام الرحمة به فثبت أنّه عين الرحمة ) وإلا لم يكن هو الراحم .
صفات الحقّ تعالى عين ذاته
قال رضي الله عنه : ( ومن لم يذق هذا الأمر ) بذائقة حصّته الخاصّة به من الرحمة الوجوديّة ( ولا كان له فيه قدم ) في المسالك العلميّة من تلك الرحمة حتّى يفهم ما هو الحقّ في الأسماء والأوصاف - من أنّ الرحمة وسائر الأوصاف الوجوديّة لو لم يكن عين الراحم والموصوف بها يلزم أن يكون الموصوف محل تجدد الحوادث .
قال رضي الله عنه : (ما اجترأ أن يقول : إنّه عين الرحمة أو عين الصفة ) مطلقا - على ما ذهب إليه الحكماء والمعتزلة والشيعة بين المليّين ،
( فقال : ما هو عين الصفة ولا غيرها ) يعني الأشعري ( فصفات الحق عنده لا هي هو ، ولا هي غيره ، لأنّه لا يقدر على نفيها ) لشهادة بديهة العقل بخلافه ، ( ولا يقدر أن يجعلها عينه ) لأنّه يخالف أكثر أصوله ، ( فعدل إلى هذه العبارة ، وهي ) عبارة ( حسنة ) لأنّها تطابق الأحكام الظاهرة وتناسب أوضاعها ، والحسن هي التناسب .
قال رضي الله عنه : ( وغيرها ) من العبارات الكاشفة عن ذلك ( أحقّ بالأمر منها ) على ما بيّن آنف ( وأرفع للإشكال ) فإن في تلك العبارة إشكالات عند التحقيق ، على ما يعلم من تصفّح كلامهم ، وهي إنما يزيد إجمالا في اللفظ ، والتحقيق ما سبق ( وهو القول بنفي أعيان الصفات ، وجودا قائما بذات الموصوف . وإنما هي نسب وإضافات بين الموصوف بها وبين أعيانها المعقولة ) ، التي هي مبدأ تمايز الأسماء وتخالفها عند تباين أحكامها وتضادّها .
تختلف كيفية سعة الرحمة لكل اسم
ثمّ إنّه ( وإن كانت الرحمة جامعة ) لسائر تلك النسب والإضافات ، ( فإنّها بالنسبة إلى كل اسم إلهيّ مختلفة ) فإنّ رحمة المعزّ غير المذلّ والضارّ غير النافع ، مغايرة بالحقيقة ، لتضادّ ما يترتّب عليها من الأحكام والآثار ( فلهذا يسأل سبحانه ) بلسان الاستعداد ( أن يرحم ) الأعيان ( بكل اسم إلهيّ ، فرحمه الله ) على ما عبّر عنه لسان الخاتم الناطق بالقول الثابت للاستعدادات بقوله تعالى : “ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ “ ، والتعبير عن الرحمة بصيغة الماضي إشارة إلى ما مهّد من شمول الرحمة لسؤال القابل وأحكامه ، فلها تقدّم ذاتي على السؤال وإن تأخّر عنه وجودا وحكم .
قال رضي الله عنه : ( والكناية ) المعبّرة بياء التكلَّم ( هي التي وسعت كل شيء ) بناء على ما تقرّر من أنّ الرحمة عين الراحم .
""أضاف المحقق :
قال القيصري: " الكناية هي ضمير المتكلم في قوله : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ ) [ 7 / 156 ] والمخاطب في قوله : ( رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ) [ 40 / 7 ] ، أي رحمة الله ، والذات التي الكناية تدل عليها هي التي وسعت كل شيء ، إذ رحمته عين ذاته" . ""
والذي يلوحك على تحقيقه دلالة الياء على النسبة الجامعة لمختلفات المنتسبات في نفس نسبته وإضافته ، وهو لا ينسب إلى شيء .
ومن ثمة قال :
الذات والأسماء ، واختلاف الرحمة بالنسبة إلى كلّ اسم
قال رضي الله عنه : ( ثم ) إنّ الرحمة ( لها شعب كثيرة تتعدّد بتعدّد الأسماء الإلهيّة ) وتتخصّص بخصائصها ، ( فما تعمّ بالنسبة إلى ذلك الاسم الخاصّ الإلهيّ ) الذي به تتخصّص ، سواء كان ظاهر الاندراج في حيطة الرحمة كم (في قول السائل : "يا ربّ ارحم " ، وغير ذلك من الأسماء )
الخفيّة الاندراج ( حتّى المنتقم له أن يقول : « يا منتقم ارحمني » ، وذلك لأنّ هذه الأسماء تدلّ على الذات المسمّاة ، وتدلّ بحقائقها على معان مختلفة ، فيدعو بها في الرحمة من حيث دلالتها على الذات المسماة بذلك الاسم )
لا من حيث دلالتها على الأسماء المتقابلة وخصوصياتها الامتيازيّة . فالرحمة المدعوّ بها في كل اسم دالَّة على الذات باعتبار خصوصيّة ذلك الاسم ، ( لا بما يعطيه مدلول ذلك الاسم ) فقط بدون دلالتها على الذات ،
فإنّه هو ( الذي ينفصل به عن غيره ويتميّز ) وهذه الحيثيّة لإشعارها بالغير لا تصلح لأن تكون دالَّة على الذات ، ( فإنّه لا يتميّز عن غيره ، وهو عنده دليل الذات ) ، أي من حيث التميّز ، وعند كونه مميّزا لا يصلح للدلالة .
منشأ التفرقة بين الأسماء
وهذا منشأ التفرقة بين الأسماء الإلهيّة التي عيّنها الشارع لأن يدعو بها الحقّ ، وبين الأسماء الكيانيّة التي لا رخصة فيها لذلك من الشارع ، على أن الكلّ أسماء الحقّ ، فإنّ الدالّ منها على الخصوصيّة الامتيازيّة إنما يدلّ على نفسه الممتازة عن الغير ، ( وإنما يتميّز بنفسه عن غيره لذاته ) ، فإنّ التمييز والتفرقة ذاتي الاسم ،
( إذ المصطلح عليه بأيّ لفظ كان ) - عربيّا معرّبا أو غيره - ( حقيقة متميّزة بذاتها عن غيرها ، وإن كان الكلّ قد سيق ) في نفس الأمر بدون اعتبار من الوضع والاصطلاح ( ليدل على عين واحدة مسماة ، فلا خلاف في أنّ لكل اسم ليس للآخر . فكذلك أيضا ينبغي أن يعتبر كما تعتبر دلالتها على الذات المسماة ) .
والحاصل أنّ الألفاظ لها في نفسها دلالة على الذات المسماة ، وعلى الخصوصيّة الامتيازيّة ، فإذا اعتبر لها هذان المعنيان فهي أسماء الحقّ ، وإن كان باعتبار الوضع والاصطلاح وجعل الجاعل ليست له إلا الدلالة على الخصوصيّة فقط .
كلّ اسم مسمّى بجميع الأسماء
ثمّ إنّه إذا كان لكل اسم في نفسه - بدون اعتبار الخارج من الوضع والجعل - له دلالة على الذات المسمّاة ، يكون له جهة جمعيّة الأسماء كلَّه ( ولهذا قال أبو القاسم بن قسي ) صاحب كتاب خلع النعلين ( في الأسماء الإلهية : « إنّ كلّ اسم على انفراده مسمّى بجميع الأسماء الإلهيّة كلَّها ، إذا قدّمته بالذكر نعتّه بجميع الأسماء » ) ، أي إذا خصّصته بالذكر - ذكرا وجوديّا ، أو لفظيّا ، أو رقميّا ، أو قلبيّا - لا بدّ وأن يستتبعه النعت بسائر الأسماء .
قال رضي الله عنه : ( وذلك لدلالتها على عين واحدة ) أي لدلالة الأسماء كلَّها على عين هي واحدة بالوحدة الإطلاقية الجمعيّة ( وإن تكثّرت الأسماء عليها ) أي على العين الواحدة فإنّ كل اسم بخصوصه له دلالة عليه ( وإن اختلفت حقائقها ) - أي حقائق تلك الأسماء .
تقسيم الرحمة بالوجوبيّة والامتنانيّة
قال رضي الله عنه : ( ثمّ إنّ الرحمة ) لها تقسيم آخر باعتبار وصولها إلى المرحومين ونيلهم منها ، فإنّه ( تنال على طريقين : طريق الوجوب ) أي اللزوم المترتّب على ما يقتضيه اقتضاء ضروريّا ، كما نصّ عليه الشارع في القرآن الختمي ( وهو قوله : “ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ “ ) [ 7 / 156 ] ،
فإنّه يدلّ على أنّ الرحمة قد أوجبها على نفسه للعالمين ، الذين يجعلون أنفسهم وقاية للحقّ في الذمّ ، والحقّ وقاية لهم في الحمد - كما سبق بيانه –
وللعالمين الذين ينمون بجوارحهم الظاهرة والباطنة عند ازدياد الأعمال منها والأفعال والأقوال ، فإنّه يزيد بها مرتبة أخرى من الوجود على شخصه ، أو الذين يعلَّمون الطالبين ذلك وأصل الزكاة : النموّ ، يقال : زكى الزرع : إذا حصل له نموّ .
وإليه أشار بقوله : ( وما قيدهم به من الصفات العملية والعلمية ) .
قال رضي الله عنه : (والطريق الآخر الذي تنال به هذه الرحمة طريق الامتنان الإلهيّ الذي لا يقترن به عمل ) ولا يوازيه من العبد فعل أصلا ، كالوجود وما قبله من مراتب الرحمة . وإليه إشارة من القرآن الختمي ( وهو قوله : « وسعت رحمتي كل شيء » ) ، هذا لسان الإجمال الشامل لمراتب الرحمة إجمالا ، وفيه ما يدلّ عليها تفصيلا ،
قال رضي الله عنه : ( ومنه قيل : “ لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ “ ) على هذه النشأة ( "من ذَنْبِكَ وَ" ) وهو ما يتأخّر عن رتبة الاعتبار من الأوصاف الحدثانيّة والأحكام الإمكانيّة ، فإنّ أذناب القوم أراذلهم ، وذنب الدابة : هو ما يتأخّر من أعضائه عن درجة الاعتبار ورتبة الاحتياج ( "وَما تَأَخَّرَ ") [ 48 / 2 ] منها ،
فإنّ الفتح المبين الذي تفرّد به الخاتم يستتبع هذه الرحمة الامتنانيّة التي لا يوازيها عمل من العبد ، وهو الستر لما تقدّم من نشأته هذه من أحكام الإمكان . وما تأخّر عنها منها وإخفائهما في صحائف الظهور وإسقاطهما عن درجة التأثير .
ويمكن أن يجعل هذه الآية إشارة إلى قسمي الرحمة ، فإنّ « ما تقدّم »إشارة إلى الرحمة الامتنانيّة المتقدّمة على الأعمال ،
كما أنّ "ما تأخّر "إشارة إلى الوجوبيّة المترتّبة المتأخّرة عن الأعمال ،
والذنب حينئذ عبارة عن أحكامه صلَّى الله عليه وسلَّم المتمّمة التي بها تمام الأوضاع النبويّة المشعرة ، كما أنّ الذنب تمام الأعضاء ، كذلك إنّ المراد بالغفران في هذا اللسان هو الإظهار الذي يلزمه ضرورة .
ولكن التوجيه الأوّل أوفق بسياق كلامه ، وإن كان الثاني أعلى .
قال رضي الله عنه : ( ومنها قوله : « اعمل ما شئت فقد غفرت لك » ) وذلك لأنّ الغفر أصله إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس .
ومنه قيل : « أغفر ثوبك في الوعاء ، واصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ » .
وبيّن أن أوضاع محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وشرائعه - لأنّه خاتم النبوّة - لا بدّ وأن يكون هو التامّ الكامل من مراتب الرحمة وصورها الصائنة للكائنات عن دنس النقص والبوار ، وذنب العيب والعوار .
ومن هاهنا ترى الحديث القدسي يفصح عن أنّ العبد المذكور المخاطب مغفور ، ولو عمل من الذنب ما عمل .
وتمام تحقيق ذلك ما أورده الشيخ في الفتوحات ، فإنّه قال فيها : " إنّه ثبت في الأخبار الإلهيّة وصحّ أنّ العبد يذنب الذنب ويعلم أنّ له ربّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم يذنب الذنب فيعلم أنّ له ربّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، فيقول الله في ثالث مرّة أو رابع مرّة : اعمل ما شئت فقد غفرت لك " إلى هنا كلامه .
""أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الرابع والسبعون في التوبة :
ومما يؤيد ما ذكرناه من أن التوبة اعتراف ودعاء لا عزم على أنه لا يعود
ما ثبت في الأخبار الإلهية وصح أن العبد بذنب الذنب ويعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب
ولم يزد على هذا مثل صورة آدم سواء ثم يذنب الذنب فيعلم إن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فيقول الله له في ثالث مرة أو رابع مرة اعمل ما شئت فقد غفرت لك
وهذا مشروع أن الله قد رفع في حق من هذه صفته المؤاخذة بالذنب على من يرى أن الخطاب على غير من ليس بهذه الصفة منسحب
وأما ظاهر الحديث فإن الله قد أباح له ما قد كان حجر عليه لأجل هذه الصفة كما أحل الميتة للمضطر وقد كانت محرمة على هذا الشخص قبل أن تقوم به صفة الاضطرار
ثم إنه قد بينا أن من عباد الله من يطلعه الله على ما يقع منه في المستأنف
فكيف يعزم على أن لا يعود فيما يعلم بالقطع أنه يعود
ولم يرد شرع نقف عنده أن من حد التوبة المشروعة العزم في المستأنف
فلم تبق التوبة إلا ما قررناه في حديث آدم عليه السلام
ثم يؤيد ذلك قوله تعالى ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ
يعني في الحالتين ما هم أنتم ينظر إليه قوله وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى
وقوله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنَّ الله قَتَلَهُمْ
وقوله ما قَطَعْتُمْ من لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ الله . أه ""
فقد ظهر من هذا الخبر الإلهي أنّ سبب انطلاق ذلك العبد المذكور عن مؤاخذة التكاليف هو علمه بأنّ له ربّا يغفر الذنب ، والعلم من جزئيّات الرحمة الامتنانية ، والأولياء المحمديّون أصحاب السبق في ذلك الميدان ،
وإليه أشار بقوله : ( فاعلم ذلك ) فإنّه لبّ معنى الرحمة وأصله .
وعلم من هذا الكلام أنّ الرحمة الامتنانيّة هي الفاتحة لغيب الوجود والخاتمة لكمال إظهاره .
.
....

PVVJptG-TZQ

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!