موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح علي التركة
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ صائن الدين التركة

فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية


19 - فصّ حكمة غيبية في كلمة أيوبية .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
وجه تسمية الفص
إنّك قد عرفت أنّ هذه الحكمة هي أول ما يظهر من سلسلة التجليّات الجلاليّة المغيّبة للأحكام الامتيازيّة ، المؤلمة لما هو مقتضى النشأة العنصريّة المزاجيّة ، إبرازا لما عليه النسبة الاتحاديّة العلميّة الكماليّة التي إنما يختمها الخاتم المطلق لهذا السير الإظهاري الإرسالي الإنبائي.
وذلك هو الحكمة الغيبيّة فإنّ الغيب هو أوّل ما يطلق عليه مبدئيّة الظهور ، ولذلك نسب هذه الحكمة إلى الغيب .
مناسبة الفص مع أيّوب عليه السّلام
ثمّ إنّ « أيّوب » لما لم يتميّز عن « الغيب » إلَّا بالألف - التي هي باطن الهاء - والواو ، اللتين هما مادّة اسم « هو » ، المعرب عن الغيب طبعا وذاتا - لا وضعا وجعلا فقط - : ناسب تخصيص هذه الحكمة به .
ومن ثمّة ترى تصادم نبال النوائب المضنية وتراكم نصال المصائب المفنية له عن خصوصيّاته الشخصيّة قد أبادت بنيان قواه المشخّصة له ، إلى أن طهّرته عن شوائب الأحكام الامتيازيّة ، وأفنته عن نفسه بالكليّة فعند ذلك امر بركض الرجل - الذي هو أبعد الأعضاء عن مظهريّة الأوصاف السبعة الإلهيّة ،
فهو غيب الأعضاء - نحو الأرض التي هي مظهر الغيب أيضا في الكائنات الآفاقيّة ضرورة اندماج سائر الأوصاف الوجوديّة الإلهيّة فيها ،
حتّى نبع من عين تلك الغيوب ماء حاضر يصلح لرطوبته أن يغتسل به درن الصور الكونيّة الإمكانية ويمحو النقوش الباطلة ، وببرودته تثبت الصور الحقيقيّة الأسمائيّة ، والمعارف العلميّة اليقينيّة ، وبها يسكَّن الحرارة المفنية المفرّقة للصورة الجمعيّة ، المؤذية للمزاج العنصري الشخصيّ ، وبشر به يصلح لأن يكون مادّة للرطوبة الغريزيّة التي هي بمنزلة الدهن لسراج المزاج وبقاء نور حياته فإنّ الحرارة المشتعلة بنور الحياة ما لم يتغذّ بها لم يتمكَّن من ذلك ، كما لم يتمكَّن للسراج أن يشتعل بنور الإراءة ما لم يتغذّ بالدهن .
وقد اومي إلى تلك الحقائق كلَّها بقوله تعالى : “ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ “.
ثمّ إنّك قد عرفت أن الحياة كما تطلق على الحياة الصوريّة الطبيعيّة التي هي مبدأ الظهور من الحيّ بأوصافه الوجودية ، فقد تطلق أيضا على الحياة المعنوية العلمية التي هي مبدأ الإظهار من الحيّ الحقيقي بأوصافه الكماليّة ، كما قال تعالى : “أَوَمن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناه ُ وَجَعَلْنا لَه ُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ “ [ 6 / 122 ] .
وقد ظهر لك من هذا التحقيق الذي اقتبس من مشكاة الآية الكريمة أنّ للماء نسبة اتحاديّة إلى كلي نوعي الحياة ولذلك قال :" وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ " [يونس : 30]
( اعلم أنّ سرّ الحياة سرى في الماء ، فهو أصل العناصر و ) سائر ( الأركان ) فإنّ الكلّ به يتقوّم حقائقهم فلو لم تكن مقدّما في الوجود على الكل لم يمكن وجود شيء أصل ( ولذلك جعل الله “ وَجَعَلْنَ من الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ “ [ 21 / 30 ] وما ثمّ شيء إلَّا وهو حيّ ) ،
فإنّ مبدأ الظهور المذكور في سائر الأشياء - على ما لا يخفى - هو الحياة ،
( فإنّه ما ثمّ شيء إلا وهو حيّ “ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه ِ “ [ 17 / 44 ] ولكن لا نفقة تسبيحه إلا بكشف إلهي - ولا يسبّح إلا حيّ ) متكلم ، وهو الكامل في الحياة ، والكل مشترك في تلك الحياة الكاملة . " د. أبو العلا عفيفي : فإنه ما من شيء إلا وهو يسبح بحمد الله . ".
"" أضاف الجامع :
قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات الباب الثالث والأربعون عن كل شيء حي يسبح بحمد ربه: فالله يقول "وإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً "
بإمهالكم حيث لم يؤاخذكم سريعا بما رددتم من ذلك "غَفُوراً " ، حيث ستر عنكم تسبيح هؤلاء فلم تفقهوه .
وقال تعالى في حال من مات ممقوتا عند الله "فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والْأَرْضُ" فوصف السماء والأرض بالبكاء على أهل الله ،
ولا يشك مؤمن في كل شيء أنه مسبح ، وكل مسبح حي عقلا ،
وورد أن العصفور يأتي يوم القيامة فيقول يا رب سل هذا لم قتلني عبثا ،
وكذلك من يقطع شجرة لغير منفعة أو ينقل حجرا لغير فائدة تعود على أحد من خلق الله .أه ""
( فكلّ شيء حيّ ، وكل شيء الماء أصله ) ، فإنّ الماء هو ظاهر الحياة - على ما سبق الإيماء إليه - كما أنّ الشيء هو ظاهر الماء عقدا ، إذا بسط بيّناتهما فهو أصل سائر الأشياء ( ألا ترى العرش كيف كان على الماء ) ، يعني عرش الحياة ، التي هو مقدّم العروش الخمسة فإنّه صرّح في كتاب
عقلة المستوفز : " إنّ العرش خمسة : عرش الحياة - وهو عرش هو - وعرش الرحمانية ، والعرش العظيم ، والعرش الكريم ، والعرش المجيد فعرش الحياة هو عرش المشيئة ، وهو مستوى الذات ، وهو عرش الهويّة " .
وهاهنا تلويح يدلّ على هذا : وهو أنّ بينات " الحياة " إذا أضيفت إلى عددها تشتمل على اللام ، التي هي ظاهر " ماء " كما أنّ عددها إذا أخذ بحسب العقد فهو " هو " .
فعرش الحياة منها هو الذي على الماء ، لا الجسمانيّ فقط ، المسمى بالعرش الرحماني ، فإنّ ذلك أيضا داخل فيه ، وعرش الحياة محيط بالكلّ ، وهو الذي على الماء ، فإنّ الماء من الطبائع هو الجامع بين الرطوبة التي هي مبدأ قبول الصور ، والبرودة التي هي مبدأ إثبات تلك الصور والحياة هو وجود الصور مع بقائها ، ومبنى أمرهما على الماء ، ( لأنّه منه تكوّن ) إذ الماء أصل كل شيء وامّه - على ما عرفت تحقيقه فلا نعيده - فالكلّ إنما تكوّن منه .
( فطفا عليه ) لأنّه ظهر منه ، والظاهر لا بدّ وأن يكون طافيا على أصله ،
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو يحفظه من تحته ، كما أنّ الإنسان خلقه الله عبدا ، فتكبّر على ربّه وعلا عليه ، فهو سبحانه مع هذا يحفظه من تحته ، بالنظر إلى هذا العبد الجاهل
بنفسه ) ،
وهو المنهمك في أحكام التفرقة الكونيّة ، الحائر في ظلمات كثرة الإمكان كما دلّ عليه كلام الخاتم حيث خاطب بالجمع ، ( وهو قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : "لو دلَّيتم بحبل لهبط على الله " ) .
""الحديث : عن أبي هريرة، قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما هذا؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله تبارك وتعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه» ثم قال: «هل تدرون ما فوقكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها الرقيع، سقف محفوظ، وموج مكفوف»، ثم قال: «هل تدرون كم بينكم وبينها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «بينكم وبينها مسيرة خمس مائة سنة». ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن فوق ذلك سماءين، ما بينهما مسيرة خمسمائة عام» حتى عد سبع سماوات، ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين». ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحتكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها الأرض». ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحت ذلك»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن تحتها أرضا أخرى، بينهما مسيرة خمس مائة سنة» حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمس مائة سنة. ثم قال: «والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله». ثم قرأ {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3]. ""
رواه الترمذي والبيهقي وفي العظمة للآصبهاني والسنة لابن أبي عاصم وتحفة الأحوذي والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد والجامع الكبير للسيوطي.
ظهر جهة الفوق والتحت باللَّه تعالى ، وباقي الجهات بالإنسان
ثمّ إنّه لما كان لله بحسب أسمائه الحسنى عند التوجّه إلى كمالها مظهران - :
أحدهما عند تمام أمر الظهور ، وهو العالم بأسره وهيأته الجمعيّة الإحاطيّة هو العرش .
وثانيهما عند كمال أمر الإظهار ، وهو آدم بتمامه وهيأته الجمعيّة الإحاطيّة هو الإنسان العبد - أشار إليهما في إثبات نسبة التحت وإضافته إلى الحقّ .
( فأشار ) بكلامه هذ (إلى أنّ نسبة التحت إليه كما نسب الفوقيّة إليه في قوله : “ يَخافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ “ [ 16 / 50 ] “وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِه “ [ 6 / 18 ] فله الفوق والتحت) .
وهما الجهتان الحقيقيّتان اللتان قد حصلتا بظهور الحقّ وأمّا باقي الجهات فلا يظهر إلا بالإنسان ، الذي هو محلّ إظهار الحقّ تمام .
( ولهذا ما ظهرت الجهات الستّ إلا بالإنسان ) الذي هو موطن تمام الظهور والإظهار ( وهو على صورة الرحمن ) الجامع لتمام الأسماء .
وكيف لا يكون الأمر على هذا ( و ) قد أفاد الذوق الصحيح أنّه (لا مطعم إلا الله ) ، أي لا مفيض لما يتغذّى به الشخص في أطواره روحانيّا ذلك أو نفسانيّا أو جسمانياًّ إلا الله ، ( وقد قال في حقّ طائفة : “ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجِيلَ “ ) بإنفاذ أحكامهما وهما الكتابان المنزلان على الرسولين : أحدهما الغالب عليه التنزيه ، والآخر التشبيه .
ولما كان فيض الحقّ لا يختص بأن يكون من الرسول أو كتابه ، فإنّ لكل أحد مدرجة خاصّة إلى فيضه العامّ ، لذلك قال - : ( ثم نكَّر وعمّم وقال : “وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ “ - فدخل في قوله :“وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ “ كلّ حكم منزل على لسان رسول أو ملهم )
على غيره من الناس ( “لأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ “ ، وهو المطعم من الفوقيّة التي نسبت إليه ) عقلا وعقدا من العلو التنزيهي .
(“وَمن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ“ [ 5 / 66 ] وهو المطعم من التحتيّة التي نسبها إلى نفسه ، على لسان رسوله المترجم عنه صلَّى الله عليه وسلَّم “).
المعرب عن الأشياء والمظهر إيّاها على ما هي عليه في نفسها ، وذلك في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « لهبط على الله » ، وهو طرف التشبيه الحقيقيّ الختميّ ، الذي فيه نهاية التنزيه - كما نبّهت عليه غير مرّة .
ويمكن أن ينزل هذين الطرفين للفيض الوارد من الحقّ إلى طريقي الكسب والوهب ، فإنّ الوهب من جهة فوق الامتنان وعلوّ رحمته تعالى ، والكسب من طرف تحت السؤال ومساعي أرجل جدّ العبد وتعبه .
الماء مبدأ نظام الأركان ، وسر الإرجاع إليها في قصة أيوب عليه السّلام
ثمّ إذا تقرّر أنّ الماء الذي عليه العرش هو الذي يحفظه ( ولو لم يكن العرشعلى الماء ما انحفظ وجوده ، فإنّه بالحياة ينحفظ وجود الحيّ ) على هيأته الشخصيّة المزاجيّة ،
( ألا ترى الحيّ إذا مات - الموت العرفي - تنحلّ أجزاء نظامه وتنعدم قواه عن ذلك النظم الخاصّ ) فإنّ لتلك الأجزاء والقوى نظما في كلّ عالم بما يناسبه ، وحياة يقبله ويوافقه ولذلك قيّد الموت ب "العرفي " والنظم ب « الخاص » ظهر من هذه المقدّمات أنّ الماء هو مبدأ نظام الأجزاء والأركان والقوى ، التي عليها بناء المزاج الشخصي والهيئة الوحدانيّة الجمعيّة .
ولذلك ( قال تعالى لأيّوب عليه السّلام ) حين أشرف مزاجه على الانحلال ، ونظام أمره إلى الاختلال : ( “ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ“ يعني ماء “بارِدٌ “) [ 38 / 42 ] .
وكأنّك قد نبّهت على وجه خصوصيّة العبارة في مطلع الفصّ واختصاص ذلك بأيّوب ( لما كان عليه من إفراط حرارة الألم ، فسكَّنه الله ببرد الماء ) وكسره شدّة حرارته ونقصه له .
قال رضي الله عنه : ( ولهذا كان الطبّ النقص من الزائد ، والزيادة في الناقص ) حتّى يستقرّ في مقام الاعتدال ( والمقصود طلب الاعتدال ، ولا سبيل إليه ) أي إلى الاعتدال الحقيقيّ المطلق ، الذي شهد البراهين بامتناعه واستحالة تكوّنه .
فإنّ المبادر إلى الأفهام مما قال من « أنّ المطلوب من الطبّ زيادة الناقص ونقصان الزائد » : هو أنّ التساوي المطلق والاعتدال الحقيقي هو المطلوب ولا يخفى أنّه لا يصلح لأنّ يكون غاية لحركة حكمية ، لأنّه ممتنع .
فقال : ولا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي ، ( إلا أنّه يقاربه ) ، أي المطلوب في الطبّ هو ما يقرب الاعتدال وهو غير ممتنع .
لا سبيل إلى الاعتدال الحقيقي وإلا يلزم التعطيل
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإنما قلنا : « ولا سبيل إليه » - أعني الاعتدال - من أجل أنّ الحقائق الحكمية والشهود ) الذوقي ( تعطي التكوين مع الأنفاس على الدوام ، ولا يكون التكوين إلا عن ميل ) من أحد أجزاء ذلك المكوّن فإنّ التكوين إنما يلحق المركَّبات من الطبائع وليس في الوجود إلا ذلك ، كما سبق تحقيقه ، فإنّ الطبائع ما لم يحصل بينها تفاعل وتقاهر لم يتكوّن منها مزاج واحد بالشخص - كما بيّن تحقيقه في الصنائع الحكميّة - وهذا الميل الذي عند التفاعل والتقاهر ( يسمّى في الطبيعة انحرافا ) إذا كان ذلك الميل مبدأ فساد مزاج ( أو تعفينا ) إن كان مبدأ كون ذلك المزاج ، هذا في عالم الطبائع .
وإذ كان الأمر متطابق الأحكام ، لا بدّ وأن يكون في الحضرات الأسمائيّة هذا الميل ، وإليه أشار بقوله : ( وفي حقّ الحقّ إرادة ، وهي ميل إلى المراد الخاصّ ) من مقتضيات الأسماء فإنّ لكلّ منها اقتضاء حكمه الخاصّ به ، وأحديّة جمع الكل قد حكم بإطلاق خزائن الجود المطلق على سائر تلك الأحكام لكنّ الإرادة ما لم تخصّص أحد الأحكام الخاصّة لم يتكوّن .
فعلم أنه ما لم يحصل في هذه الحضرة أيضا ميل إلى مراد خاصّ ( دون غيره ) لم يمكن التكوّن ، ( والاعتدال ) الذي هو مقتضى أحديّة الجمع والإطلاق ( يؤذن بالسواء في الجميع ، وهذا ليس بواقع فلهذا منعنا من حكم الاعتدال ) وظهور ذلك في مظهر كونيّ ، والتفاوت بين المكوّنات هو بحسب مدارج قربه إليه وبعده عنه . ومن هاهنا ترى المقام المحمدي يعبّر عنه ب « أَوْ أَدْنى » فإنّه لا أعدل منه في المكوّنات ، فهو الأقرب على الإطلاق ، كما هو مؤدّى قوله تعالى : “ أَوْ أَدْنى“ [ 53 / 9 ] هذا في المظاهر الكونيّة .
تقابل الأسماء تنفي الاعتدال الحقيقي
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقد ورد في العلم الإلهيّ النبويّ اتّصاف الحقّ بالرضا والغضب ، وبالصفات ) المتقابلة جملة ( والرضا مزيل للغضب ، والغضب مزيل للرضا عن المرضيّ عنه ) ، أيّ لا بدّ من إنفاذ أحد الحكمين المتقابلين عند التوجّه إلى المحكوم عليه ، فإنّ الحقّ في نفسه له الإطلاق في سائر هذه الأوصاف ، كما سيشير إليه .
وإذ كان لا بدّ من إنفاذ أحد الحكمين المتقابلين عند ملاحظة المحكوم عليه ، فكيف يتصوّر الاعتدال ،
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والاعتدال أن يتساوى الرضا والغضب ، فما غضب الغاضب على من غضب عليه ، وهو عنه راض فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه ، وهو ميل ) ، وإن كان للحقّ في نفسه سائر المتقابلات مطلقا ، (وما رضي الراضي عمّن رضي عنه وهو غاضب عليه فقد اتّصف بأحد الحكمين في حقّه ، وهو ميل ) .
قال رضي الله عنه : ( وإنما قلنا هذا ) الكلام هنا - وهو أنّه لا بدّ من إنفاذ حكم أحد المتقابلين - أعني الرضا والغضب - بالنسبة إلى العبد ، ولا يزال العبد تحت أحدهما - ( من أجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا ) هذ ( في زعمه ، فما لهم حكم الرضا من الله فصحّ المقصود ) من عدم التساوي والاعتدال على زعمهم .
هذا إن كان كما قالوا فهو يطابق الظاهر ، ( فإن كان - كما قلنا - مآل أهل النار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النار ) وبقي عندهم صورتها النوعية الناريّة على ما عليه ذوق اولي الألباب من أهل الباطن. ( فذلك رضى ) عنهم ، لأنه زال تألَّمهم منها .

قال الشيخ رضي الله عنه : (فزال الغضب لزوال الآلام ، إذ عين الألم عين الغضبإن فهمت فمن غضب فقد تأذّى ، فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلَّا ليجد الغاضب الراحة بذلك ، فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه ) فلا يزال هذا الميل متحقّقا .
فعلم أنّ هذا الكلام يوافق عقائد أهل الظاهر ويطابق أذواق أهل الباطن .
تعالى الحق تعالى في مقامه الإطلاقي عن الرضا والغضب
ثمّ إنّه لما كان سوق كلامه هذا إلى مساقه المذكور مع أهل الظاهر ولأجلهم نزّله إلى مداركهم الجزئيّة ، لأنّ أمثال هذه الأحكام التي قيل للغضب والغاضب من الانتقام والالتذاذ به يختصّ به المظاهر الكونيّة ،
والكلام في صفات الله تعالى على ما هي عليه في نفسها عند أهل التحقيق في مشهدهم الذوقيّ لذلك أشار إلى وجه تحقيق الأمر بما عنده بقوله : ( والحقّ إذا أفردته عن العالم يتعالى علوّا كبيرا عن هذه الصفة ) فإنّك قد عرفت أنّ أحكام هذه الأسماء المتقابلة وظهور تنافيهما وتقابلهما ليس إلا باعتبار المحكوم عليه وملاحظة المظاهر الكونيّة ، وإذا أفردت الحقّ عنها فله الإطلاق في سائر هذه الأسماء والتقدّس بها عنه .
وفي بعض النسخ ( على هذا الحدّ ) ، وأنت عرفت أن الكلام بإطلاقه صحيح ، فلا احتياج إلى هذا القيد إلا لمجرّد تبيين خصوصيّة المحلّ والظاهر أنّه كان من الحاشية فوقع في المتن .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وإذا كان الحقّ هويّة العالم فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه)
فلا يكون الغضب والانتقام إلا له ، (وهو قوله : “وَإِلَيْه ِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه ُ“ [ 11 / 123 ] حقيقة وكشفا ) .
وينبغي أن يعلم هاهنا أنّ العلم له مدرجتان في العالم عند إنفاذ حكمه فيه - يعني إظهار المعلوم - إحداهما تبيّنه في نفس العالم وتيقّنه وتحقّقه فيها ، ويلزمه إظهار المعلوم للعالم فقط .
والأخرى هي مبدأ تبيّنه مع ذلك التيقّن وكشفه ، ويلزمه الإظهار للعالم ولمن يقربه في النسبة ممن يفهم عرفه ووجوه تخاطبه .
ثمّ إنّه إذ قد وقع في عبارته ما هو مبدأ لهذين المرتبتين ، حيث قال : « ما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه » أي متحقّقة فيه ، وظاهرة منه أفصح عنهما في مرتبة العلم والعين ، بجميع الأحوال التابعة لهما ، تبيينا لكليّة حكمته وتعميما لخصائص ذوقه ، فإنّ ذلك هو المستتبع لانتظام قوانين التوحيد وتطبيق لطائف جمال الإجمال منه بدقائق جلائل التفصيل وإلى المرتبتين الأخريين أشار بقوله : (" فَاعْبُدْه ُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه ِ")أي فاعبده تحقّقا ، وتوكَّل عليه كشفا وتبيينا ، حتى تكون العبادة (حجابا و ) التوكَّل ( سترا ) فقد طابق بهذا التحقيق الإجمال بالتفصيل علما وعينا وحالا .

ظهور الحقّ بظهور العالم
ثمّ إنّه إذا كان العالم هذا - مع أنّ الحقّ عين هويّته - يكون محلا للأحكام المتقابلة ، والكلّ منه وفيه .
ولهذا قال : ( وليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنّه على صورة الرحمن أوجده الله ) وهو شامل لجميع الأسماء ، فله أحديّة الجمع الوجوديّة فكلّ شيء على صورته له وجود الحقّ ، وبه ظهوره
ولهذا قال : ( أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم ) فإنّه ظهر بالعالم أحكام سائر الأسماء جمعا وفرادى ( كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعيّة ) فإنّه ما لم توجد هذه الصورة لم تكن لأوصاف الإنسان وأحكامه أثر .
ظهور الحقّ بظهور العالم
( فنحن ) بجميع أعيان العالم وأحكامه ( صورته الظاهرة ، وهويّته روح هذه الصورة المدبّرة لها ) ، ولا شكّ أنّ الروح باطن الصورة (فما كان التدبير ) الذي هو حكم الروح ( إلَّا فيه ، كما لم يكن ) ظهور الأوصاف والأحكام الخارجيّة ( إلَّا منه .
فهو "الأَوَّلُ " بالمعنى "وَالآخِرُ " بالصورة ، وهُوَ " الظَّاهِرُ " بتغيير الأحكام والأحوال "وَالْباطِنُ " بالتدبير ) .
فعلم أنّ سائر هذه الأحكام التي للعالم إنما هو في الحقّ من حيث الباطن ، ومنه من حيث الظاهر ، (" وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ) [ 57 / 3 ] في الباطن ، ( فهو "عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ") [ 58 / 6 ] في الظاهر .
فإنّ العلم الصحيح هو أن يكون مبدؤه الذوق القلبي ، أو الشهود الحسّي ، كما أشير إليه في قوله تعالى : “ لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ “ [ 50 / 37 ] .
العلم الصحيح هو علم الأذواق
ولذلك قال ( ليعلم عن شهود ، لا عن فكر فكذلك علم الأذواق ، لا عن فكر ، وهو العلم الصحيح ، وما عداه ) - أي ما عدا ما كان عن شهود وذوق
(فحدس وتخمين ) ، فإنّ الحدسيّات والمتواترات والتجربيّات وإن عدّت من اليقينيّات عند أهل النظر ، ولكن لما أمكن فيها تطرّق الشبه من قوّتي الوهم والخيال ما عدّها من العلم وكذلك البرهانيّات إذا استحصلت بمجرّد الفكر العاري عن الذوق جملة ، ولذلك أطلق عليه التخمين ، الذي فيه بقيّة تردّد الظن وتشويشه .
ولذلك قال : ( ليس بعلم أصلا ) ، ولذلك لا تراها لمتعطَّشي بوادي الطلب عند الاستفاضة منها أنّها تشفي غلَّتهم ، ولا لمتخمّصي سني الافتقار أنها تسمنهم أو تغنيهم من جوع وأنت عرفت أنّ الماء صورة العلم ، فهو الذي يزيل ألم العطش الذي من نصب المتعلَّقات المحلَّلة للروح وعذابه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثمّ كان لأيّوب ذلك الماء شرابا لإزالة ألم العطش الذي هو من النصب ) - أي التعب - وهي التعلَّقات الناصبة للشخص في مناصب المتجوّهين وأنصابهم الشاغلة المتعبة ، ( والعذاب ) وهو ما يستعذبون منها من مؤلمات الروح ومكدّرات لطائف صفوه ، وهو (الذي مسّه به الشيطان - أي البعد عن الحقائق أن يدركها على ما هي عليه .فيكون بإدراكها في محلّ القرب).
الشيطان والبعد
ولما كان الشيطان مبدأ الأحكام العدميّة كلها ، وأصل ذلك هو النسبة التي مبدأ سائر التعيّنات ، فهو النسبة التي هي مبدأ الأوصاف العدميّة .
وفي تحليل موادّ « إبليس » ما يدلّ على هذا ومن ثمّة ترى المصنّف عرّفه بالبعد عن الحقائق أن يدرك . فبالبعد أفصح عن النسبة ، وبالباقي عن مبدئيّته للأوصاف العدميّة العامّة ، كالجهل والإباء للإذعان .
فعلم أنّ هذا بيان ماهيّة الشيطان حقيقة ، وليس فيه ارتكاب مجاز كيف وهو في صدد التعريف والإبانة عن حقيقته بما هو عليه ، وأدب هذا المقام يأبى أن يستعمل فيه غير الحقيقة - على ما بيّن في صناعته .
والذي يلوّح على هذا الكلام أنّ البعد إذا أخذ مع بيّناته هو عدد الشيطان ناقصا منه عقدان من العشرة ، الدالَّة على هيأتيه الفرقيّة والعلميّة فتأمّل .
وهاهنا تلويح آخر : وهو أنّ « العين » الذي هو الدالّ على عين الجمع ، إذا ظهر على باء البينونة والبيان والإباء .
التي هي بدؤ التعينات - إذ بها انتشاء النقطة ومنها ظهرت فهو العبد الذي له الإطاعة .
وأمّا إذا ظهر الباء المذكورة على العين ، واختفيت هي تحتها ، فهو البعد الذي منه الإباء ، وهو الشيطان .
ثمّ إنّه لما كان هو البعد عن إدراك الحقائق ، فإنّ المدرك قريب لمن يدركه فإنّ المدرك مشهود ( فكل مشهود قريب من العين ، ولو كان بعيدا بالمسافة ، فإنّ البصر يتّصل به ) على رأي الذاهبين إلى الشعاع .
( من حيث شهوده ولولا ذلك لم يشهده أو يتّصل المشهود بالبصر ) على رأي الذاهبين إلى الانطباع ( كيف كان ، فهو قرب بين البصر والمبصر ) .
فقد علم أنّ الشيطان هو البعد عن هذا القرب ، والبعد من جملة الإضافة ( ولهذا كنّى أيّوب في المسّ ) الذي هو من الإضافات ( فأضافه إلى الشيطان ) الذي هو البعد ، إضافة إسناد ( مع قرب المسّ ) أي مع أنّ المسّ هو القرب فأسند القرب إلى البعد ( فقال : البعد منى قريب بحكمه في ) ، أعني البعد .
ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إنّ حكم القريب إنما هو القرب ، كما أن حكم البعيد هو البعد . فكيف جعل حكم القريب هو البعد ؟
فدفع ذلك بقوله : ( وقد علمت أنّ القرب والبعد أمران إضافيّان ، فهما نسبتان لا وجود لهما في العين ) .
فلئن قيل : فكيف يكون الشيطان هو البعد ، وله وجود في العين كما لا يخفى ؟
قلنا : إن البعد المطلق - من حيث هو هو - وإن لم يكن له وجود عيني ، ولكن أفراده المشخّصة منه موجودة في الخارج وهو البعد المشخّص في البعيد .
وإلى ذلك أشار بقوله : ( مع ثبوت أحكامهما في البعيد والقريب ) .
لا مباينة بين صبر العبد ودعائه لكشف الضرّ
ثمّ إنّ هاهنا سرّا عزيزا يدلّ على علوّ ذوق أيوب في العلم باللَّه ، وعلى قرب صاحب هذه الإضافات المتقابلة من الذات وهي أنّ أبين وصف للهويّة الذاتيّة الإطلاقيّة هو جمعيّة الأضداد - كما عرفت غير مرة - وقد أشير في قوله : “ مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ “ [ 38 / 41 ]
إلى تلك الجمعية على ما لا يخفى على الفطن وإليه أشار بقوله : ( واعلم أن سرّ الله في أيّوب الذي جعله عبرة لنا وكتابا مسطورا حاكيا ، يقرؤه هذه الامّة المحمديّة ) ، التي لها جمعيّة كمالات الأمم السالفة ، وقابليّة استفهام جوامع الكلم وتعلَّمها ،
ولذلك قال : ( لتعلم ما فيه ، تلحق بصاحبه ، تشريفا لها ) ، وحسبهم تشريفا وتعظيما أنّ سائر أساطين الأنبياء السالفة وأممهم قد ظهر لهم بالوجود الكلامي كاشفا عن دقائق عرفانهم وإيقانهم ، حاكيا عن كنه تجاربهم ومآل آمالهم ، عبرة لهذه الامّة الشريفة عن جملة ما كانوا عليه في أحوالهم . وذلك الظهور تارة في الصور الكتابيّة مسطورا ، منبّها بها إلى جلائل المعاني بلطائف الإشارات ، وأخرى في الصور الكلاميّة مقروّا ، دالا بها على دقائق الحقائق بخفيّ المناسبات . وإلى هذا كلَّه إشارة في المتن فلا تغفل.
الترجي من الله تعالى وأو من الأسباب
ومن جملة تلك الحكم التي هي عبرة المعتبرين ما صدر منه ( فأثنى الله عليه - أعني على أيوب - بالصبر مع دعائه في رفع الضرّ عنه . فعلمنا أنّ العبد إذا دعي الله في كشف الضرّ عنه ، لا يقدح في صبره ) ، بل الكفّ عن ذلك الدعاء - بما فيه من رائحة رعونة الدعوى والتجلَّد وقوّة الاحتمال - ينافي كمال العبوديّة .
ولذلك قال تعالى حين أظهر ما به : ( وأنّه صابر ، وأنّه "إِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ " ، كما قال ) في بيان تحققه بكمال العبوديّة : (إِنَّه ُ أَوَّابٌ “ أي رجّاء إلى الله ، لا إلى الأسباب ، والحقّ يفعل ) فيما يفعل ( عند ذلك ) الفعل ( بالأسباب ) فهي الآلة ، والفاعل هو الحقّ ( لأنّ العبد ) الكامل في عبوديّته هو الذي ( يستند إليه ) نفسه وسائر الأفعال ، ويسأل عنه سائر ما يستحصل من الأسباب ، لا عنها ،
(إذ الأسباب المزيلة لأمر ما كثيرة ، والمسبّب واحد العين ، فرجوع العبد إلى الواحد العين المزيل بالسبب ذلك الألم أولى من الرجوع إلى سبب خاصّ ، إذ ربما لا يوافق علم الله فيه فيقول : إن الله لم يستجب لي ، وهو ما دعاه ، وإنّما جنح إلى سبب خاصّ لم يقتضه الزمان ولا الوقت )
اللذان هما مدارج تنزّل الصور العلمية إلى العين هذا بيان تحقّقه بكمال العبوديّة وأنّه نعم العبد .
الصبر هو عدم الشكوى إلى غير الله ، لا إلى الله
وأمّا وجه أن هذا الدعاء لا يقدح في صبره وأنّه صابر ، فقوله : (فعمل أيّوب بحكمة الله ، إذ كان نبيّا ) عارفا بدقائق الأحوال والمقامات ووجوه كمالها ونقصها ، ( لما علم أنّ الصبر الذي هو حبس النفس عن الشكوى عند الطائفة ) من متصوّفة أهل الظاهر ، ( وليس ذلك بحدّ للصبر عندنا وإنّما حدّه حبس النفس عن الشكوى لغير الله لا إلى الله ).
كما قال صاحب التائيّة :
ولم أحك في حبّيك حالي تبرّم ... بها لاضطراب ، بل لتنفيس كربتي
ويحسن إظهار التجلد للعدى .... ويقبح إلَّا العجز عند الأحبّة
ويمنعني شكواي حسن تصبّري ..... ولو أشك ما بي للأعادي لأشكت
وعقبى اصطباري في هواك حميدة .... عليك ، ولكن عنك غير حميدة
والذي حمل المتصوّفة على الوقوف في هذا المدحض أنّهم رأوا أن الشكوى تنافي الرض
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فحجب الطائفة نظرهم في أنّ الشاكي يقدح بالشكوى في الرضا بالقضاء ، وليس كذلك . فإنّ الرضا بالقضاء لا تقدح فيه الشكوى إلى الله ، ولا إلى غيره . وإنما تقدح في الرضا بالمقضي ونحن ما خوطبنا بالرضا بالمقضيّ والضرّ هو المقضيّ ، ما هو عين القضاء) .
حبس النفس عن الشكوى إليه تعالى مقاومة قهره
ثمّ أخذ في تبيين دقائق كشف أيّوب في الشكوى المذكورة وعلوّ ذوقه في ذلك بقوله :
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وعلم أيّوب أنّ في حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضرّ مقاومة القهر الإلهي ) ، وهي مما يأباها العبوديّة إذا كان الشخص له وقوف على مواقف العبوديّة وعلم .
ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه :( وهو جهل بالشخص إذا ابتلاه الله بما تتألَّم نفسه ، فلا يدعوا الله في إزالة ذلك الأمر المؤلم ) ، فالجهل هذا يمكن أن يحمل على ما يقابل العلم كما عرفت ، ويمكن أن يحمل على فعل في غير موقعه ، فإنّ من جملة معاني الجهل فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل ، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا ، كمن يترك الصلاة متعمّدا ، وعلى ذلك قوله : “ أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ من الْجاهِلِينَ “ [ 2 / 67 ] ، فجعل فعل الهزء جهل .
قال الشيخ رضي الله عنه : (بل ينبغي له عند المحقّق أن يتضرّع ويسأل الله في إزالة ذلك عنه ، فإنّ ذلك إزالة عن جناب الله عند العارف صاحب الكشف ) ، فإنّ العبد في صحائف الوجود ممحوّ ، والعبوديّة ممحوّة الأثر عندهم فمرجع اللذة والألم إنما هو الموجود الحقّ ، وذلك غير ممنوع في ظاهر الشرع
(فإنّ الله قد وصف نفسه بأنّه يؤذى، فقال :"إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَه ُ").[ 33 / 57 ]

قال الشيخ رضي الله عنه : (فأيّ أذى أعظم من أن يبتليك ببلاء عند غفلتك عنه ، أو عن مقام إلهيّ لا تعلمه ، لترجع إليه بالشكوى، فيرفعه عنك ، فيصحّ الافتقار الذي هو حقيقتك ) تصحيحا لنسبة العبوديّة وإقامة لك في مواقف العجز والاستكانة (فيرتفع عن الحقّ الأذى بسؤالك إيّاه في رفعه عنك إذ أنت صورته الظاهرة )
ولا شكّ أنّ الصورة من الشيء إذا كانت متأذّية يكون الكلّ متأذّيا وإزالة الأذى عنها إزالة عنه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (كما جاع بعض العارفين ، فبكى . فقال له في ذلك من لا ذوق له في هذا الفن معاتبا له . فقال العارف : إنما جوّعني لأبكي ) . وكذلك فيما نحن فيه

قال الشيخ رضي الله عنه : ( يقول : إنما ابتلاني بالضرّ لأسأله في رفعه عنّي ، وذلك لا يقدح في كوني صابرا . فعلمنا أنّ الصبر إنما هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله).
ثمّ إنّه يمكن أن يقال هاهنا : إنّ الغير الذي هو معدوم العين عندكم كيف يتصوّر الشكوى له ؟
فأشار إلى جوابه بقوله : ( وأعني بالغير وجها خاصّا من وجوه الله ) عيّنه الشاكي نفسه للشكوى إليه ، تصوّرا منه أنّه السبب في ذلك ، (وقد عيّن الحقّ وجها خاصّا من وجوه الله ، وهو المسمّى وجه الهوية ) للدعاء وإزالة الشكوى كما قال : فادعوه مخلصين له الدين" فَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " .
( فيدعوه من ذلك الوجه في رفع الضرّ - لا من الوجوه الأخر المسماة أسبابا - وليست ) تلك الأسباب (إلا هو من حيث تفصيل الأمر في نفسه ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالعارف لا يحجبه سؤاله هويّة الحقّ في رفع الضرّ عنه ، عن أن يكون جميع الأسباب عينه من حيثيّة خاصّة ) كل بحسب خصوصيّته في حضرة النسب الأسمائيّة .
(وهذا ) وإن أمكن طروقه لبعض الموقنين من المؤمنين ، ولكن ( لا يلزم طريقته إلا الأدباء من عباد الله ) العارفون بآداب العبوديّة والموفون حقّه والأمناء على أسرار الله من الذين لا يظهرون منها على غير أهله ، كما قيل :
ومستخبر عن سر ليلي رددته ..... بعمياء من ليلي بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها ..... وما أنا إن أخبرتهم بأمين
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن لله أمناء لا يعرفهم إلا الله ، ويعرف بعضهم بعضا ، وقد نصحناك فاعمل ).
( وإيّاه سبحانه فاسأل ).
.
....

zSlDyuoR4HI

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!