موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح علي التركة
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ صائن الدين التركة

فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية


12 - فصّ حكمة قلبيّة في كلمة شعيبيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة

شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

وجه تسمية الفصّ
ووجه اختصاص الكلمة بالحكمة هاهنا ما ستطلع عليه من كلام المصنّف أنّ في القلب فنونا من التشعيب لا تحصى ، بها تثمر العقائد التي عليها يتصوّر في الجنّة وبها يتجلَّى عند أربابه .
وأمّ التلويح الكاشف لذلك : فهو أنّ شعيبا ( 13 ) صورة تفصيل ما للقلب من العقود ( 6 ، 13 ) ، كما أنّ القلب ( 132 ) معرب عمّا لشعيب ( 382 ) من الأربعة المحيطة بصورة السعة الإلهيّة .
وأيض في تفصيل البيّنات القلبيّة ( أف ، أم ، 123 لف ، لف يم ، لف 381 ) ) م يشعر بأنّ الكلمة الشعيبيّة هي الكاشفة عن حكمة القلب ، ضرورة أنّه الصورة المقوّمة إياها خاصّة ، ولذلك أخذ يتكلَّم في القلب قائل
سعة القلب
قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أنّ القلب - أعني قلب العارف باللَّه - ) فإنّه يستفهم منه معاني غير ذلك ، لا دخل له هاهنا ( هو من رحمة الله ) فإنّه من الحقائق الوجوديّة المنطوية على ما في قوسي الحقائق الإلهيّة والمراتب الكيانيّة ، كما اطَّلعت على تحقيقه مرارا ، ( وهو ) لكمال سعته المذكورة ( أوسع منها ، فإنّه وسع الحقّ جلّ جلاله ، ورحمته لا تسعه ) على ما ورد : « ما وسعني أرضي ولا سمائي » ، فإنّ وجوده ورحمته ليس له مظهر غير سماء الأسماء الإلهيّة وأرض الحقائق الكيانيّة .
( هذا لسان عموم ) تكلَّم على ما ورد من الحديث غير مجاوز عن ظاهره ، ولكن (من باب الإشارة ) لا صريح العبارة ، ( فإنّ الحق ) على فهم العموم (و) لسانه ( راحم ليس بمرحوم ، فلا حكم للرحمة فيه ) حتّى يحيط به ويسعه .

الربوبية تطلب المربوب والألوهية تطلب المألوه
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا الإشارة من لسان الخصوص : فإنّ الله وصف نفسه بالنفس ، وهو من التنفيس )
الذي هو تفريج الكرب ، فإنّ في باطنه من الأسماء ما يطلب الظهور ويهتمّ به وذلك ممّ يستلزم الكرب.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإنّ الأسماء الإلهيّة عين المسمّى ، وليست إلَّا هو ، وإنّها طالبة ما تعطيه من الحقائق ، وليست الحقائق التي تطلبها الأسماء إلَّا العالم ، فالالوهة تطلب المألوه ) .
حتّى تثبت وتتعيّن ، فإنّ الأسماء الإلهيّة تقتضي ثبوت المألوه وتعيّنه ، كما أنّ أسماء الربوبيّة تقتضي وجوب المربوب وظهوره ، وإليه أشار بقوله : (والربوبيّة تطلب المربوب ) حتّى تظهر به وتوجد في العين وهذا هو الفرق بين الالوهيّة والربوبيّة ، لا ما قيل في بعض الشروح « 1 » - فتأمّل .
( وإلا ) - أي وإن لم تطلب نسبة الالوهة والربوبة ، المألوه والمربوب - لم تحصل تلك النسبة أصلا ( فلا عين لها إلَّا به وجودا ) في الخارج ( وتقديرا ) في العلم ، فإنّ النسبة وإن كانت حاكمة على الطرفين ، مسمّية لهم : لكن لا وجود لها إلَّا بهم .
هذ اقتضاء الحقّ من حيث النسب الأسمائيّة الوهيّة وربوبيّة ( والحقّ من حيث ذاته غنيّ عن العالمين ، والربوبيّة ما لها هذا الحكم ) ضرورة احتياجه إلى المربوب .
ثمّ إنّ الربوبيّة لما كان أنزل من الالوهيّة فهي أشمل ضرورة اقتصر عليها قائلا : ( فبقي الأمر بين ما تطلبه الربوبيّة وبين ما تستحقّه الذات من الغنى عن العالمين ، وليست الربوبيّة على الحقيقة ) عند الثبوت ( والاتّصاف ) عند الإثبات ( إلَّا عين هذه الذات ) - كما سبق تحقيقه مرار
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما تعارض الأمر ) بين الاحتياج والغنى ( بحكم النسب ) التي هي العين حقيقة واتّصافا ، فإنّه بالنسبة إلى الذات عينها يستلزم الغناء ، وبالنسبة إلى الأسماء التي هي عينها يقتضي الاحتياج ( ورد في الخبر م وصف الحقّ به نفسه من الشفقة على عباده ) وم كتب على نفسه من الرحمة عليهم ، وذلك لأنّ الشفقة على العباد وكتابة الرحمة عليهم فيها معنى الاستغناء مع الاحتياج على ما لا يخفى .
سعة الرحمة
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأوّل ما نفّس عن الربوبيّة بنفسه المنسوب إلى الرحمن ) فإنّ الرحمة هي الوجود ، فنسب إليه النفس ( بإيجاده العالم الذي تطلبه الربوبيّة بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهيّة ) .
( فيثبت من هذا الوجه ) الذي يتكلَّم فيه لسان الخصوص ( أنّ رحمته وسعت كلّ شيء ، فوسعت الحقّ ، فهي أوسع من القلب ) بناء على أنّ الرحمة
الوجوديّة لها الإحاطة بالأشياء ، ومنها القلب ، فهي أوسع منه ضرورة أنّه لا يسع نفسه .
ثمّ إنّ من شأن القلب الإحاطة بسائر المتقابلات وبنفسه أيضا إحاطة علميّة وإليه أشار بقوله :
( أو مساوية له في السعة ، هذا مضى ) مما تكلَّم به لسان العموم ولسان الخصوص .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ ليعلم أنّ الحقّ تعالى - كما ثبت في الصحيح يتحوّل في الصور عند التجلَّي ) أيّ الصور كلَّها ، فإنّها الجمع المحلَّى ، وهو يستغرق الأفراد الغير المتناهية كلَّها .
سعة القلب وضيقه
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأنّ الحقّ تعالى إذا وسعه القلب لا يسع معه غيره من المخلوقات ، فكأنّه يملؤه ) بأحديّة جمعيّته التي لا يمكن أن يكون معه غيره ، لامتناع أن يكون الخارج من الغير المتناهي شيئا ( ومعنى هذا أنّه إذا نظر إلى الحقّ عند تجلَّيه له لا يمكن أن ينظر معه إلى غيره ) وهذا من كمال إحاطة الحقّ بالكلّ ، لا من ضيق القلب ، كيف...
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقلب العارف من السعة كما قال أبو يزيد البسطامي : " لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف
ما أحسّ به " ) .
وذلك لأنّ هذا كلَّه متناه ، وهو مندرج في أحديّة جمع الصور الغير المتناهية ، مندمج فيها ، فلا يحسّ به أصل .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقال الجنيد في هذا المعنى : « إنّ المحدث إذا قرن بالقديم لم يبق له أثر » ) وفي عبارة الجنيد زيادة بيان لذلك المعنى ، فإنّ المحدث - المحصور بين الحاصرين - إذا قرن بالقديم الذي لا يحصره حدّ لم يبق له أثر . فإنّه مندمج فيه ، فلا يحسّ بوجوده أصلا ، وإن كان فيه .
وإليه أشار بقوله : ( وقلب يسع القديم كيف يحسّ بالمحدث موجودا ) وإن أحسّ به في ضمن الموجود .
القلب والتجلي الإلهي
ثمّ إنّ من كمال السعة أن لا يقابله الضيق - بل يجمعه - والسعة القلبيّة بهذه المثابة ، كما أشار إليه بقوله رضي الله عنه : ( وإذا كان الحقّ يتنوّع تجلَّيه في الصور ) كلَّه ( فبالضرورة يتّسع القلب ) بحسب قبوله للصور المتنوّعة على كثرتها واختلافها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلَّي الإلهي ، فإنّه لا يفضل من القلب شيء عن صورة ما يقع فيه التجلَّي ، فإنّ القلب من العارف أو الإنسان الكامل بمنزلة محلّ فصّ الخاتم من الخاتم ) على ما نبّهت عليه في صدر الكتاب من وجوه المناسبات بين القلب والفصّ ولكن فصّل تلك
المناسبة بما يميّز بين مراتب القلب وأطواره ، وما شبّه به من الخاتم وطبقاته ، بحيث تتطابق أحكام تلك المراتب على تلك الطبقات .
وذلك لأنّه ظهر من عبارته التمييز بين القلب والتجلَّي ، وما وقع فيه التجلَّي وصورته ، وكذلك بين الخاتم والفصّ وما وقع فيه الفصّ وصورته ، ولا يخفى على الذكيّ وجه التطابق بين الكلّ ، ولكن غرض المصنّف تحقيق أمر التطابق بين صورة ما وقع فيه التجلَّي ، وبين صورة ما وقع فيه الفصّ ، حيث أنّ شيئا من أجزائه عن الفصّ ( لا يفضل ، بل يكون على قدره وشكله من الاستدارة - إن كان الفصّ مستديرا - و من التربيع والتسديس والتثمين ) .
وفي تخصيص هذه الصور في المثال المذكور بالبيان نكتة ، وهي أن يكون الاستدارة إشارة إلى التنزيه الصرف ، لما فيها من الأوصاف العدميّة ، لعدم تمايز الأطراف ، وعدم التشكَّل بالزوايا والسطوح ، والباقي إشارة إلى طرق التشبيه المعتبرة ، وهي الظاهرة أحكامها من الأزواج ، كما سبق التنبيه إليه والذي يدلّ على ذلك قوله تعالى : " ما يَكُونُ من نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى من ذلِكَ وَل أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ " [ 58 / 7 ] .
فصرّح بما صرّح به التنزيل من تلك الصور ، وأجمل حيث أجمل ، ولذلك عمّم .
وقال رضي الله عنه : ( وغير ذلك من الأشكال ، إن كان الفصّ مربعا أو مسدّسا أو مثمّنا - أو ما كان من الأشكال - فإنّ محلَّه من الخاتم يكون مثله - لا غير – وهذ عكس ما يشير إليه الطائفة من أنّ الحقّ يتجلَّى على قدر استعداد العبد ) فيكون التجلَّي حسب إشارتهم تابعا لمحلَّه من العبد .
( وهذا ليس كذلك فإنّ العبد يظهر له الحقّ ) بحسب استعداده ( على قدر الصورة التي يتجلَّى له فيها الحقّ ) إذ ليس للعبد صورة مستقلَّة بحسب استعداده ، بدون تجلَّي الحقّ في غيبه .
لله تعالى تجليين وحظَّ العبد من كلّ منهم
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وتحرير هذه المسئلة ) وتبيين مشاهد كلّ طائفة فيها : ( أنّ لله تجليين تجلَّي غيب ، وتجلَّي شهادة ) - على ما بيّن لك تفصيله في المقدّمة أنّ له تجلَّيين بحسب التعيّنين - ( فمن تجلَّي الغيب يعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب ) وهذا الإعطاء ليس على صورة الأثر والفعل ، فإنّك قد نبّهت أنّه من قبيل الفيض الأقدس عن ثنويّة الفائض والمستفيض .
ولذلك قال :
(و ) ذلك ( هو التجلَّي الذاتي الذي الغيب حقيقته و ) ذلك الغيب ( هو الهويّة التي يستحقّها بقوله عن نفسه "هو") فإنّ « هو » إنّما يدلّ على ذات مستقلَّة في الجمعيّة ، مستوية على عرش الوجود غائبة .
والذي يلوّح عليه أن « الغيب » صورة ظهور « هو » في عقده الذي هو حامل العرش .
( ين ) ( ااو )( فلا يزال هو له دائما أبدا ، فإذا حصل له - أعني القلب - هذا الاستعداد تجلَّى له التجلَّي الشهودي في الشهادة ، فرآه ) - ضرورة جمعيّته بين الغيب والشهادة - (فظهر بصورة ما تجلَّى له ) من الصور الغيبيّة الاستعداديّة
قال الشيخ رضي الله عنه : (كما ذكرناه ، فهو تعالى أعطاه الاستعداد بقوله : " أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ُ " ) [ 20 / 50 ] فإن خلق الشيء هو ما خصّ لوح قابليّته به من رقوم صوره المنوعة والمشخّصة ، ولا يكون ذلك إلَّا الاستعداد الأصلي الذي من التجلَّي الغيبي المحتجب بستائر الاندماج والكمون ، اندماج أوّل لامي الجلالة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ رفع ) ذلك ( الحجاب بينه وبين عبده ) بالتجلَّي العينيّ الشهاديّ ، وظهر على المشاعر ظهور ذلك اللام في الثاني من ذلك الاسم ( فرآه في صورة معتقده ، فهو عين اعتقاده ) الذي هو صورة استعداده ، ( فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلَّا صورة معتقده في الحقّ ) بين صورة الإحاطيّة الجمعيّة ، لأنّك قد عرفت أنّ ما عليه القلب هي صورة استعداده الأصلي .
تنوّع التجليّات والاعتقادات
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالحقّ الذي في المعتقد ) - بكسر القاف - ( هو الذي وسع القلب صورته ، وهو الذي يتجلَّى له فيعرفه ، فلا ترى العين إلَّا الحقّ الاعتقادي ، ول خفاء بتنوّع الاعتقادات ) حسب تفاوت المعتقدين في درجات إدراكاتهم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن قيّده أنكره في غير ما قيّده به ، وأقرّ به فيما قيّده به إذا تجلَّى ، ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره ، وأقرّ له في كلّ صورة يتحوّل فيها ، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلَّى له ) فيها بإقامة مراسم التعظيم والإجلال ، على قدر درجته في مرتبته ، كما قال شيخ الشيخ المؤلَّف أبو مدين :
لا تنكر الباطل في طوره ..... فإنّه بعض ظهوراته
وأعطه منه بمقداره ..... حتّى توفّي حقّ إثباته
فإنّ الحقّ يتحوّل في اعتقاد العارف في المجالي المتنوّعة المشتمل كل منها على الصور المترتّبة المنتظمة ( إلى ما لا يتناهي ) كما نظم الشيخ المؤلَّف :
لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة .... فمرعى لغزلان ، ودير لرهبان
وبيت لأوثان ، وكعبة طائف ..... وألواح توراة ، ومصحف قرآن
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ صورة التجلَّي ما لها نهاية تقف عندها ، وكذلك العلم باللَّه ما له غاية في العارفين يقف عندها ، بل ) الحقّ ( هو العارف ) يترقّى ( في كلّ زمان ) ويظهر في تجدّدات أدواره وتنوّعات أطواره (يطلب الزيادة من العلم به ) ، فتارة بلسان وجه العارف داعي :( "رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ) [ 20 / 114 ] .
وتارة بلسان وجه الحقّ وهويّته قائلا : ( " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ) * وتارة بلسان الوجه الجمعي سائلا : ( " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ) ويمكن أن يجعل هذه التكرار إلى مراتب اليقين من العلم والعين والحقّ .
فإنّ لكلّ مرتبة من علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين مدارج في الكمال غير محصورة ، فيقتضي الحال طلب الزيادة ، لكن الوجه الأوّل أليق ربطا في هذا السياق وهو قوله : ( فالأمر لا يتناهي من الطرفين ) يعني الحقّ والخلق .
قال الشيخ رضي الله عنه : (هذا إذا قلت : « حقّ وخلق » وإذا نظرت في قوله : « كنت رجله التي يسعى به ، ويده التي يبطش بها ، ولسانه الذي يتكلَّم به » - إلى غير ذلك من القوى ) التي هي مبادئ الإدراكات والأفعال ( ومحالَّها التي هي الأعضاء - لم تفرّق ) في نظرك هذا ( فقلت : « الأمر حقّ كلَّه » أو : « خلق كلَّه " ).
وإذ كان الأمر ذا وجهين :( فهو خلق بنسبة ، وهو حقّ بنسبة ، والعين واحدة ، فعين صورة ما تجلَّى عين صورة من قبل ذلك التجلَّي ، فهو المتجلَّي والمتجلَّى له فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويّته ) الذاتيّة العينيّة ، التي تقتضي إسقاط النسب .
( ومن حيث نسبته إلى العالم في حقائق أسمائه الحسنى ) حيث أنّ الحيثيّتين لهما عين واحدة ، وأنّ الحقّ فيها عين الحيثيّتين المتقابلتين مع وحدته الآبية عن الثنويّة والتقابل.
وهذ هو كمال الوحدة الذاتيّة ، حيث أنّه لا خارج عن واحدها أمر يثبت به للثنويّة حكم ، ويصحّ هناك نسبة ، إليه أشار في النظم المفصّح :( فمن ثمّ ؟ وما ثمّه ؟ )
منكر جاحدا للأشخاص والماهيّات من ذوي العقول وغيرهم أن يكونوا في الخارج والواقع ، أو في تلك الحضرة ، المشار إليها في صورة الاستفهام المعرب عن الاستبعاد ، تقرير لذلك الجحد .
( فعين ثمّ ، هو ثمّه ) أي عين تعيّن في الواقع ، أو تحقّق بتلك الحضرة ، هو عين تلك الحضرة أو الواقع - أيّتهما شئت فقل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن قد عمّه ) وأطلقه عن القيود المشخّصة والفصول المنوّعة ( خصّه ) بالإطلاق ، ونزّهه بالتنزيه الرسمي ( ومن قد خصّه ) بتلك القيود والفصول المعيّنة للعين ( عمّه ) وأطلقه عن الإطلاق المقابل للتقييد ، ونزّهه بالتنزيه الحقيقي ، كما سبق تحقيقه غير مرّة .
وإذ كان تعيين الأعيان عين تعميمها : ( فما عين ) من الأعيان الشخصيّة ( سوى عين ) آخر منها ، وإذا كان نور الإطلاق إنّما يظهر في دياجير القيود المعيّنة العدميّة ( فنور عينه ظلمة ) ضرورة تراكم الحجب الكونيّة على العين الظاهرة ، وهي ظلمات بعضها فوق بعض ( فمن يغفل عن هذا ) بتراكم الحجب الحاجزة له عن إدراك الحقّ ،( يجد في نفسه غمّة )لأنّ المحجوب مغموم أبدا جاهل ( ول يعرف ما قلنا )من الإطلاق الذاتي .
( سوى عبد له همّة ) يأنف بها أن يقلَّد أحدا في عقيدته حتّى يظهر الأمر له في مدرجة استعداده الفطري وسكينته الذاتيّة ، فلا سفينة في هذه اللجج إلَّا السكينة .
الحقّ تعالى عند العارف واعتقاد أهل النظر
ثمّ إنّ هذه الدقيقة الجليلة لمّا كانت من المسائل الغامضة التي لا يصل إليها العقول بقوتها النظريّة أصلا ، لاستلزامه الجمع بين النقيضين ، واحتوائه للضدّين - وهو من أجلى البديهيّات من المستحيلات عندها .
إلى ذلك أشار بقوله : ( "إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ " لتقلَّبه في أنواع الصور والصفات ) حسب تقلَّب الحقّ وتنوّعه فيها وعدم توقّفه في شيء منها .
( ولم يقل : « لمن كان له عقل » فإنّ العقل قيد ) ضرورة غلبة قهرمان الكون عليه ، ومقتضاه أن يعيّن ( فيحصر الأمر في نعت واحد ) ويتوقّف هناك ( والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر ) للزومها الإطلاق الذاتي .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فما هو ذكرى لمن كان له عقل ، وهم أصحاب الاعتقادات ، الذين يكفّر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ) على ما هو مقتضى قوّة حكم القيد ونفوذ أمر التقابل فيه فما لهم إلَّا وجه واحد من الجمعيّة الكماليّة ، ودليل واحد ينصره عليه السلام .
( وما لهم من ناصرين ، فإنّ الإله المعتقد ما له حكم في الإله المعتقد الآخر ، فصاحب الاعتقاد يذبّ عنه - أي عن الأمر الذي اعتقده في إلهه ) حافظا له عن أن يصيبه ما يدفعه أو يزلزله عن عقده من ورود الشبهات والشكوك ( وينصره ) على وثوق ذلك العقد .
والعجب أنّه ينصر ذلك ( وذلك الذي في اعتقاده لا ينصره ) عليه ، ضرورة أنّه الذي جعله وعقد عليه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلهذا لا يكون له أثر في اعتقاد المنازع له وكذ المنازع ) له لكونه صاحب عقد مجعول مثله ( م له نصرة من إلهه الذي في اعتقاده فـ " ما لَهُمْ من ناصِرِينَ " ، فنفى الحقّ النصرة عن آلهة الاعتقادات ، على انفراد كلّ معتقد على حدته ، فالمنصورالمجموع ) ضرورة أنّه هو الذي له الناصرون .
( والناصر ) الذي يصلح لأن ينصر هو ( المجموع ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالحقّ عند العارف هو المعروف الذي لا ينكر ) بوجه ، وبهذه النسبة يقال لأهله : العارف ، ( فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ) أي من له أهليّة عرفان الحقّ في موطن الصور عند تقلَّبه فيها ، بحيث لا يتغيّر وجه معروفيّته من ذلك التقلَّبات ، فهو الذي له أهليّة عرفانه في موطن المعاني عند تقلَّبه فيها .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلهذا قال : " لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ "فعلم تقليب الحقّ في الصور بتقليبه في الأشكال ) باطنا في متخيّلته ومتفكَّرته ، وظاهرا في أشكاله وأوضاعه عند النموّ والذبول .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فمن نفسه عرف نفسه ، وليست نفسه بغير لهويّة الحقّ ، ولا شيء من الكون - مما هو كائن ويكون - بغير لهويّة الحقّ ، بل هو عين الهويّة ) ، إذ هو الظاهر وهو الباطن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهو العارف والعالم ، والمقرّ في هذه الصورة ، وهو الذي لا عارف ولا عالم ، وهو المنكر في هذه الصورة الأخرى ) .
مقلدو الرسل عليهم السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه : ( هذا حظَّ من عرف الحقّ من التجلَّي والشهود في عين الجمع ، فهو قوله :" لِمَنْ كانَ لَه ُ قَلْبٌ " يتنوّع في تقليبه ، وأمّا أهل الإيمان ) العقدي ( فهم المقلَّدة الذين قلَّدوا الأنبياء والرسل فيما أخبرو به عن الحقّ ) وهم أهل إلقاء السمع على ما ورد : " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " [ 50 / 37 ] .
( ل من قلَّد أصحاب الأفكار والمتأوّلين للأخبار الواردة ) الكاشفة عن الحقّ كشفا مبينا ( بحملها على أدلَّتهم العقليّة ) وارتكاب احتمالاتها البعيدة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهؤلاء الذين قلَّدوا الرسل - صلوات الله عليهم - هم المرادون بقوله : " أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ " لما وردت به الأخبار الإلهيّة على ألسنة الأنبياء عليهم السّلام ، وهو - يعني هذا الذي يلقى السمع - شهيد ، ينبّه على حضرة الخيال واستعمالها ) فإنّه باستعمال القوّة الخياليّة يتمثّل الصور ويحضر ، وحينئذ يصدق الشهود .
( و ) ذلك التنبيه ( هو قوله عليه السّلام في الإحسان : « أن تعبد الله كأنّك تراه » ) فإنّ الحضرة المشبهة بالمرئيّة هي حضرة الخيال ليست إلَّا .
وكذلك قوله : ( والله في قبلة المصلَّي ) حيث عيّن الجهة التي لذات الصورة ليست إلَّا ( فلذلك " هُوَ شَهِيدٌ " ) .
وملخّص هذا الكلام أنّه إنّما يختصّ بتذكَّر ما في الكتاب :
من كان له قلب يتقلَّب في شؤونه - وهو مقام اولي التنزيه ، وليس كمثله شيء - أو كان ممن ألقى السمع لأرباب القلوب وهو شهيد لما ألقى إليه شهادة صاحب حضرة الحيال - وهو مقام اولي التشبيه ، وهو السميع البصير .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن قلَّد صاحب نظر فكري وتقيّد به فليس هو الذي ألقى السمع ، فإنّ هذ الذي ألقى السمع لا بدّ وأن يكون شهيدا لما ذكرناه ) شهادة أهل الرؤية الخياليّة الإحسانيّة ، جامع بين شهادة المشعرين الشاهدين ، فإنّ الشاهد الواحد لا يكفي في الحكم .
فلذلك قال : ( ومتى لم يكن شهيدا لما ذكرناه ، فما هو المراد بهذه الآية ) وما كان من المتذكَّرين والموقنين .
( فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من الَّذِينَ اتَّبَعُوا " [ 2 / 166 ] والرسل لا يتبرّؤن من أتباعهم الذين اتّبعوهم ) .
( فحقّق يا وليّ ما ذكرته لك في هذه الحكمة القلبيّة ) من تحقيق تطوّرات القلب وسعة أحوالها وتجلَّياتها وبيان من تحقّق بكلّ منها من أرباب القلوب ، ومن ناسبهم وانتسب إليهم .

وجه اختصاص الفص بشعيب عليه السّلام
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا اختصاصها بشعيب : لما فيها من التشعيب ، أي شعبها لا تنحصر ، لأنّ كلّ اعتقاد شعبة ، فهي شعب كلَّها - أعني الاعتقادات - فإذا انكشف الغطاء انكشف لكلّ أحد بحسب معتقده ) في الهويّة الذاتيّة .
( وينكشفبخلاف معتقده في الحكم ) عليها بجزئيّات الأوصاف والأفعال ( و ) الذي يدلّ على ذلك ( هو قوله : " وَبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ") [ 39 / 47 ] .
بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون
( فـ ) تلك الاعتقادات ( أكثرها في الحكم : كالمعتزلي يعتقد في الله نفوذ الوعيد في المعاصي إذا مات على غير توبة ، فإذا مات ) المعتزلي ذلك ( وكان مرحوما عند الله - قد سبقت له عناية بأنّه لا يعاقب - وجد الله غفورا رحيما ، فبدا له من الله ما لم يكن يحتسبه ) . هذا ما في الحكم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا في الهويّة : فإنّ بعض العباد يجزم في اعتقاده أنّ الله كذا وكذا ، فإذا انكشف الغطاء رأى صورة معتقده - وهي حقّ - فاعتقدها ) علما وانشراحا ، لا عقدا .
فإنّه قد انكشفت ( وانحلَّت العقدة ، فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة . وبعد احتداد البصر ) - بانحلال عقد الاعتقاد وانكشاف صورة اليقين .
( لا يرجع كليل النظر ، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلَّي في الصور عند الرؤية ، لأنّه لا يتكرّر ) فإنّه كلّ يوم من أيّام تجلَّياته في شأن آخر من شؤون الصور ( فيصدق عليه في الهويّة "وَبَدا لَهُمْ " في هويّته " ما لَمْ يَكُونُو يَحْتَسِبُونَ " فيها قبل كشف الغطاء ) من اختلاف صور الحقّ .
التكامل بعد الموت
ثمّ إذ قد استشعر أن يقال هاهنا : كيف يصحّ ذلك وبعد الموت ينبت على العبد مدارج ترقّيه وينقطع انتظام أسبابه ؟
قال : ( وقد ذكرنا صورة الترقّىبعد الموت في المعارف الإلهيّة )
خاصّة ( في كتاب التجلَّي لنا ، عند ذكرنا من اجتمعنا به من الطائفة في الكشف ، وما أفدناهم في هذه المسئلة مما لم يكن عندهم ومن أعجب الأمر أنّه في الترقي دائما ولا يشعر بذلك للطافة الحجاب ورقّته ) .
فإنّ التخالف بين الصور وتمايزها إنّما يترتّب على قوّة الحجاب الكوني وكثافته - كم سبق تفصيل ذلك في المقدّمة .
الكثرة في الوحدة وعكسه
ثمّ إنّ تلك الحجب الكونيّة يوم القيامة إذ لطفت لزمها عدم التمايز (وتشابه الصور ، مثل قوله تعالى : " وَأُتُوا به مُتَشابِهاً ") في الآية الكريمة الكاشفة عن أمر غذاء أهل القيامة وأرزاقهم القائلة ("كُلَّما رُزِقُوا مِنْها من ثَمَرَةٍ ") متجدّدة ( رِزْقاً ) خاصّ ( قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا من قَبْلُ ) * بعدم التمايز بين صور الأرزاق وغلبة قهرمان المعنى فيها ( وَأُتُوا به مُتَشابِهاً ) .
( وليس ) ذلك الرزق المتشابه ( هو الواحد عين الآخر ، فإنّ الشبيهين - عند العارف - أنّهما شبيهان غيران ) أي الأمران المتشابهان عند العارف لهما حكمان :
أحدهم التشابه والتناسب ،
والآخر التغاير والتخالف .
فـ « هو » ضمير الفصل و « الواحد » خبر ليس و « عين الآخر » خبر آخر له ، ف « أنّ » المفتوحة مع معمولها مفعول العارف ، والظرف معمول الشبيهين و " غيران " خبر أنّ .
وفي بعض الشروح: « من حيث أنّهما شبيهان » هكذا صحّحه ، وذلك كأنّه الحاق من الشارح .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد ) رؤية شهود ( كما يعلم أنّ مدلول الأسماء الإلهيّة - وإن اختلفت حقائقها وكثرت - إنّها عين واحدة ) علم ذوق ويقين ، ( فهذه ) الكثرة الأسمائيّة ( كثرة معقولة في واحد العين ، فتكون في التجلَّي ) عند ظهوره على المشاهد والمشاعر ( كثرة مشهود في عين واحدة ).
وفي عبارته هاهنا لطيفة ، حيث أنّ الواحد في العلم والعقل هو متعلَّق الإدراك بعد إضافته إلى العين ووصفها به ، وفي التجلَّي والشهود إنّما يتعلَّق الإدراك بالكثرة المنطوية في الواحد ، وذلك لأنّ حكم اسم الباطن هو الغالب في الأوّل ، فالوحدة غالبة هناك ، بخلاف الثاني .
ومثال ذلك :( كما أنّ الهيولى ) وهو عندهم كلّ ما يظهر بصورة من الصور جوهرا كان أو عرضا ، مقوّما لمحلَّه أو متقوّما به فهو أعمّ ممّا عليه كلمة
المشاءين وهو يشمل المادّة الجنسيّة - إنّها ( تؤخذ في حدّ كلّ صورة ) من الصور النوعيّة عقلا - كما يؤخذ الجوهر والجسم في حدّ الحيوان والنبات والجماد ، فهو واحد العين ذو كثرة أسمائيّة - عينا - كما يؤخذ ذلك أيضا في حدود أنواع كلّ من الثلاثة وأشخاصها - ( مع كثرة الصور ) فيها ، فمبدأ تلك الصور ( واختلافها ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد ) وهو الجنس العالي ( و ) ذلك الجوهر ( هو هيولاها ) أي هيولى الصور كلَّها .
فذلك الجوهر هو واحد العين في العقل ، ذو كثرة أسمائيّة ، وهو ظاهر ، وهو العين الواحدة في الخارج التي هي ذات كثرة مشهودة فإنّ الشخص هو الجوهر في الخارج ذو كثرة مشهودة كما لا يخفى ، فهذا مثال للصورتين .
طريق المعرفة معرفة النفس
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن عرف نفسه بهذه المعرفة ) - واحدة العين ذا كثرة معقولة ، وعينا واحدة ذا كثرة مشهودة محسوسة كما ظهر - ( فقد عرف ربّه ) كذلك ( فإنّه على صورته خلقه ، بل هو عين هويّته وحقيقته ) فإنّ الذي خلق على صورته هو آدم بالمعنى الذي اصطلح عليه أوّلا ، فنفس الإنسان حينئذ هو هويّته وحقيقته (ولهذ ما عثر أحد من العلماء على معرفة النفس وحقيقتها إلَّا الإلهيّون من الرسل والصوفيّة ) إذ لا يحمل عطاياهم إلَّا مطاياهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأمّا أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلَّمين في كلامهم في النفس وماهيّتها ، فما منهم من عثر على حقيقتها ) فإنّ الحقائق لا يمكن أن يوصل إليها بطريقهم ذلك ( ولا يعطيها النظر الفكري أبدا ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا ورم ) وذلك حيث أخذ الحاصل من النظر - يعني التفصيل الانبساطي الذي يزول سريعا بأدنى شبهة - بمنزلة الانشراح العلمي والانبساط الذوقي ، الزائد أبدا بازدياد الأغذية الروحانيّة الذوقيّة .
( ونفخ في غير ضرم) وذلك حيث يتوجّه إلى استحصال الحقائق العلميّة واستنتاج اللطائف الذوقيّة من العلوم الحاصلة من النظر مما يشبه اليقين ، فإنّ ذلك التوجّه مما لا يفيد من اليقين شيئ ، ولا يحصل علما ولا نورا ، فإنّه إنّما يقول لسان الاستعداد الفطري له .
م قاله ابن الفارض :
أتيت بيوتا لم تنل من ظهوره ..... وأبوابها عن قرع مثلك سدّت
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا جرم أنّهم من الذين " ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيا " ) التي هي مادّة الحياة الحقيقيّة الأبديّة ، وتحصيل موادّها ( " وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" ) ، فمن طلب الأمر من غير طريقه فما ظفر بتحقيقه ) .
ضرورة أنّ الموصل إنّما هو الطريق القويم والصراط المستقيم ، فإذا أعرض عنه وسلك مسالك التعمّلات والتسبّبات الجعليّة ، لا يمكن له الظفر به أصلا ، كما قيل :
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى .... ولكنّم الأهواء عمّت ، فأعمت
العالم في حدوث دائم
قال الشيخ رضي الله عنه : (وما أحسن ما قال الله تعالى في حقّ العالم وتبدّله مع الأنفاس في خلق جديد في عين واحدة ) وم أطرف دلالته على الكثرة المشهودة في العين الواحدة.
( فقال في حقّ طائفة - بل أكثر العالم – " بَلْ هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " ) .
فإنّه يدلّ على أنّ تلبّس العالم في ملابس الخلقيّة وظهوره في صورة الأثر ، والفعل متجدّد حسب تجدّد الآنات والأنفاس ، إذ الخلق خروج القابل إلى الفعل على ما ل يخفى على أهله .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس ، لكن قد عثرت عليه الأشاعرة في بعض الموجودات - وهي الأعراض - وعثرت عليه الحسبانيّة في العالم كلَّه ) وهم المسمّاة بالسوفسطائيّة الذين يذهبون إلى تبدّل العالم وعدم تقرّره بحال .
( وجهّلهم أهل النظر بأجمعهم ، ولكن أخطأ الفريقان) :
أمّا خطاء الحسبانيّة فبكونهم ما عثروا مع قولهم بالتبدّل في العالم بأثره على أحديّة عين الجوهر) المعقول ( الذي قبل هذه الصور ، ولا يوجد ) ذلك الجوهر ( إلَّا بها ، كما لا تعقل ) تلك الصور ( إلَّا به ) ضرورة امتناع قيام الصور بذواتها ، كظهور الموادّ بدونه .
وفي عبارته هاهنا لطيفة وهي أنّ عدم العثور على الشيء والعلم به لا يقال له الخطأ في عرف ، لأنّ الخطأ من الجهل المركَّب ، وهو بسيط ، فنبّه على أنّ إطلاق الخطأ على الحسبانيّة باعتبار عدم العثور هاهنا ، حيث أنّهم جهلوا ما هو المبدء الأولى لهذ العثور والملزوم البيّن له ، وهو قولهم بتبدّل العالم في الصور ، وذهابهم إليه ، مع لزومه البيّن لما يتبدّل ذلك الصور عليه .
وبيّن أن القول بالملزوم البيّن مع عدم العثور على لازمه البين ، ذلك هو الجهل المركَّب عند التحقيق ، فإنّه يستلزم عدم العلم بالملزوم مع اعتقاد علمه به .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فلو قالوا بذلك فازوا بدرجة التحقيق في الأمر ) .
( وأمّا الأشاعرة فما علموا أنّ العالم كلَّه مجموع أعراض ) أي العالم كلّ ، ومجموع ما يتقوّم به ذلك الكلّ هي الأعراض المتبدّلة .
( فهو يتبدّل في كلّ زمان إذ العرض لا يبقى زمانين ، ويظهر ذلك في الحدود للأشياء ، فإنّهم إذا حدّوا الشيء تبيّن في حدّهم كونه الأعراض )
فإنّهم إذا حدّوا الإنسان - مثلا - بالحيوان الناطق ، معناه أنّه جسم ذو حسّ وحركة إراديّة ونطق ، ولا شكّ أن « ذو » من الأعراض النسبية ، وكذلك الحس والحركة والنطق (و ) ل شكّ ( أنّ هذه الأعراض - المذكورة في حدّه - عين هذا الجوهر وحقيقته القائم بنفسه ) فإنّ المذكور في حدود الأشياء ذاتيّاتها ومقوّماتها .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن حيث هو هو عرض لا يقوم بنفسه ، فقد جاء من مجموع ما لا يقوم بنفسه ، من يقوم بنفسه ، كالتحيّز في حدّ الجوهر القائم بنفسه الذاتي ) فإنّ الجسم يحدّ بأنّه متحيّز قابل للأبعاد الثلاثة ، فالتحيّز حدّ له ذاتىّ .
( وقبوله للأعراض حدّ له ذاتىّ ، ولا شكّ أنّ القبول عرض ، إذ ل يكون إلَّا في قابل ، لأنّه لا يقوم بنفسه وهو ذاتىّ للجوهر ) الذي هو الجسم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والتحيّز عرض ولا يكون إلَّا في متحيّز ، فلا يقوم بنفسه ، وليس التحيّز والقبول بأمر زائد على عين الجوهر المحدود ، لأنّ الحدود الذاتيّة هي عين المحدود ) في العقل ( وهويّته ) في العين .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد صار ما لا يبقى زمانين يبقى زمانين وأزمنة ، وعاد ما لا يقوم بنفسه يقوم بنفسه ) هذ ما في الخارج أنفسهم ( ولا يشعرون لما هم عليه ) في أنفسهم ( وهؤلاء "هُمْ في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ " ) دائما ول يشعرون بذلك أصل .
( وأمّا أهل الكشف : الكشف : فإنّهم يرون أنّ الله يتجلَّى في كلّ نفس ، ولا يكرّر التجلَّى ، ويرون - أيضا شهودا - أن كلّ تجلّ يعطى خلقا جديد ويذهب بخلق فذهابه به هو الفناء عند التجلَّى ، والبقاء لما يعطيه التجلَّى الآخر ) .
( فافهم )سرّ البقاء والفناء حتّى تعرف المتحقّقين بالفناء والبقاء .
يهنئك هذا سرّ ما يفنى فدع ..... عنك التلفّت للحديث الموهم
.
....

CuWsGPSyVJg

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!