موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب الفكوك في أسرار
مستندات حكم الفصوص

تأليف: الشيخ صدر الدين القونوي

فص حكمة وجودية في كلمة داودية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة وجودية في كلمة داودية


17 - فك ختم الفص الداودي .كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب الفكوك في أسرار مستندات حكم الفصوص أبو المعالي محمد بن إسحاق صدر الدين القونوي
17 - فك ختم الفص الداودي
1 / 17 -اعلم ان كثيرا مما عزمت بمشيئة الله تعالى على ذكره في شرح هذا الفص هو من وجه كالتتمة لما ذكر في بيان اسرار احوال سليمان ، فان بين اسرار احوال سليمان وداود عليهما السلام اشتراكا عظيما قد نبه الحق سبحانه في كتابه عليه بقوله : “ ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وسُلَيْمانَ عِلْماً “ [ النمل / 15 ] .
بما حكاه من سليمان حيث قال : “ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وأُوتِينا من كُلِّ شَيْءٍ “ [ النمل / 16 ] فاشترك معه إياه فيما رزقاه .
وكذلك شرك الحق بينهما في طلب الشكر ولذلك : “ قالا الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ من عِبادِه الْمُؤْمِنِينَ “ [ النمل / 15 ] فاشتركا في الامر والحكم ايضا .
كما قال تعالى : “ وداوُدَ وسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ في الْحَرْثِ “ [ الأنبياء / 78 ] وبقوله : “ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وعِلْماً “ [ الأنبياء / 79 ] فافهم .
2 / 17 - وذلك سر اقران شيخنا رضى الله عنه هذه الحكمة بالوجود حيث قال :
فص حكمة وجودية في كلمة داودية ، فكأنه أشار الى شيء مما أوضحته من سر الوجود وسيره في درجات ظهوره وكونه عين الرحمة التي وسعت كل شيء .
3 / 17 - فأقول : قد بينا ان الرحمة ذاتية وصفاتية وان لكل منهما حكما عاما وخاصا ، وذكرنا حكم ( 3 ) العام الخصيص بالرحمة العامة واختصاصه بسليمان وما يتعلق بذلك كله مع زوائد شتى .
4 / 17 -فاعلم ان الحكم الخاص المضاف الى الرحمة العامة الصفاتية من الخلافة الإلهية ، فظهرت أحكامها في المراتب الوجودية بالتدريج بحسب مظاهر حقيقة الانسانية الكمالية الإلهية ، المنتهى كمال ظهورها الى الصورة الادمية التي هي اكمل مظاهرها ، ولما كانت مظاهر المتقدمة على الصورة الادمية غير مستعدة لان يظهر بها وفيها الحقيقة الانسانية ظهورا تاما ، كان ظهور احكام مرتبتها المعبر عنها بالالوهية هناك وبالخلافة هنا ايضا كذلك ، ولا تم ظهورها بآدم عليه السلام ، صار لها ظهور وسير وبسط آخر في عرصة العرض الإنساني ، ولهذا اشترت في الفص السليماني الى ما معناه :
ان بروز الوجود وأحكامه من الغيب الى الشهادة كان بالتدريج حتى انتهى الامر الى النوع الإنساني، فصار ذلك الظهور على وجه آخر مخصوص، ثم لم يزل يظهر الامر بسير آخر في مراتب الاعتدال التي يتضمنها عرض النوع الإنساني، فان الخلافة لم تبسط حكمها تاما بآدم - لقلة وجود المستخلفين عليهم - فلم يكن ثمة من ينبسط عليه احكام مرتبته الا طائفة يسيرة من ذريته، ولهذا لم يتضمن خلافته مرتبة الرسالة، بل بقيت فيه بالقوة وفيما خلف من ذراريه والمتناسلين منهم بعده الى زمان نوح عليه السلام الذي هو اول المرسلين .
5 / 17 - ثم نقول : فما برحت احكام الخلافة من حيثها ومن حيث مرتبة المستخلف يزداد ظهورا وانبساطا - كالوجود - حتى انتهى الامر الى داود عليه السلام ، فتم بوجوده مرتبة الخلافة وانبسطت أحكامها في الوجود بحسب درجات الأكملية بعد استيفاء ما هو شرط في حصول مقام الكمال ، وكمل انبساط الاحكام والصفات المذكورة بابنه سليمان ، وقد ورد التنبيه على ذلك في القرآن الكريم ، اعنى ثبوت الاشتراك بينهما في الحكم والعلم وغير ذلك على ما ذكر في اول الفص ، فلينظر هناك ، فاشار سبحانه الى ما منحه ومنح ابنه مما زادا به على من تقدمهما من الخلفاء من العلم وانبساط احكام الخلافة ونفوذها وعموم التأثير في الخلق .
6 / 17 - ومن جملة ما رجحت به خلافة داود على خلافة آدم:
ان حظه من الأسماء على ما صرح به كان علمه بها واما داود: فتحقق بها علما وحالا وعملا، فاما علما : فقد سبقت الإشارة الى ذلك ، مع انه لا يخفى على الألباء ان اعظم الشروط في التحقق بمرتبة الخلافة وأولها وأولاها هو العلم .
واما تحققه من حيث العمل : فاخبار النبي صلى الله عليه وسلم عنه انه كان اعبد اهل الأرض .
واما تحققه بها ، اعنى بالأسماء حالا : فكون الحق سبحانه قدر له تزويج تسعة وتسعين زوجة ، ضرب مثال الأسماء الحسنى ، ولما أراد ان يتم عند المائة ، مع ان المتمم للمائة هو الاسم الله باعتبار دلالته على الذات والمرتبة .
7 / 17 - وذلك لما رأى من قوة قابليته لكل ما يشتمل عليه الحضرة ، فان من شأن الكمل ان كل ما هو متعذر الحصول لاحد من الحق ، هو عندهم بالنسبة الى كمال قابليتهم غير متعذر ولا مستحيل ، الى ان يخبرهم الحق باخبار مخصوصة خارج عن خواص المواد والوسائط ، فحينئذ يصدقون ربهم ويحكمون باستحالة حصول ذلك الامر - كحال موسى عليه السلام في طلب الرؤية على وجه مخصوص - فلما أخبر بتعذر ذلك ، تاب وآمن.
8 / 17 - ولما كان الامر الذي به يتم مظهرية المائة متعذر الحصول لذاته من حيث “ إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به “ [ النساء / 48 ] لهذا نبهه الحق على ذلك بما ابدى له من حيث الامثلة التي روعي فيها الأدب التام مع مرتبته ، تعظيما للمرتبة تنبيها له ، ليعرف ان الله قد اقامه في مرتبة اول من قام بحق أدبها من اقامه فيها .
كما قال تعالى ايضا بلسان البشارة مع الأدب والتعريف: “يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ “ [ ص / 26 ] .
9 / 17 - فلسان الأدب في هذه الاية قوله : “ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله “ .
والا لكان الأنسب من مقتضى المواجهة له ان يقول :
انك ان ضللت عن سبيل الله فلك عذاب شديد ، فخرج من خطاب المواجهة الى المغايبة - معرضا لا مصرحا - فتنبه وتذكر ما ذكرت لك تعرف رجحان خلافة داود على خلافة آدم بما نبهت عليه آنفا وبالحكم بين الناس أيضا.
لأنه ليس في خلافة آدم التصريح بالحكم وايضا فإنه حين اعطى الخلافة لم يكن ثمة من الناس من يحكم عليه واما الجن :
فلم يكن منهم الا ابليس الذي ابى ان يسجد له اولا وازلَّه وزوجته ودلاهما بغرور.
ثانيا - بخلاف داود وسليمان عليهما السلام - فإنه نفذ حكمهما في الجن والانس وغيرهما من الموجودات، فكان الجن والشياطين محكومين لهما بين: “بَنَّاءٍ وغَوَّاصٍ وآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأَصْفادِ “ [ ص / 37 ] فشتان بين الأمرين .
10 / 17 -ومما يؤيد ما ذكرته من رجحان خلافة داود وسليمان على خلافة آدم وعلو مرتبتهما في العلم ونيل الهمة ما ورد في الحديث الثابت الاسناد:
ان الله خير سليمان بين العلم والملك والمال، وفي رواية بدل المال النبوة، فاختار العلم، فأعطاه الله الملك والمال والنبوة لاختياره العلم.
واما آدم : فان الله اسجد له الملائكة بأجمعهم وادخله الجنة وقال له : “ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى وأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها ولا تَضْحى “ [ طه / 118 و 119 ] .
ومع ذلك لما سمع قول ابليس : “ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِه الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا من الْخالِدِينَ “ [ الأعراف / 20 ] صدقه هو وزوجته وانفعلا لقوله .
11 / 17 - وهذه القضية تشتمل على امرين مشكلين لم ار أحدا تنبه لهما ولا أجابني احد من اهل العلم الظاهر والباطن عنهما وهو : انه عليه السلام بعد سجود الملائكة له بأجمعهم ومشاهدة رجحانه عليهم بذلك وتعلم الأسماء والخلافة ووصية الحق له .
كيف أقدم على المخالفة وتشوف بقول ابليس الى ان يكون ملكا، وكيف لم يعلم ان من دخل الجنة المعرفة بلسان الشريعة لم يخرج منها.
وان النشأة الجنانية لا تقبل الكون والفساد لذاتها فهي تقتضي الخلود؟
12 / 17 - فكان هذه الحال يدل دلالة واضحة على ان الجنة التي كان فيها ليست الجنة الى عرضها السموات والأرض والتي عرضها الكرسي الذي هو الفلك الثامن وسقفها عرش الرحمن.
فان تلك لا تخفى على من دخلها انها ليست محل الكون والفساد ولا ان يكون نعيمه موقتا ممكن الانقطاع ، فان ذلك المقام يعطى بذاته معرفة ما يقتضيه حقيقته وهو عدم انقطاع نعيمه بموت او غيره كما قال تعالى : “ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ “ [ هود / 108 ] اى غير منقطع ولا متناه ، فافهم ما نبهت عليه من غرائب العلوم وغوامضه ترشد .
13 / 17 - فحالة آدم وحوا عليهما السلام في هذه القضية كحال بنى اسرائيل الذين قال الله تعالى في حقهم : “ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ “ [ البقرة / 61 ] ولهذه المناسبة والمشاركة اردف الحق قصة آدم في سورة البقرة بقصة موسى وبنى اسرائيل - مع ما بينهما من طول المدة - فراعى سبحانه في ذلك المضاهاة في الفعل والحال - دون الزمان - فافهم سر هذا من اسرار القرآن .
14 / 17 - فان القرآن العزيز ورد فيه ذكر جماعة من الأنبياء في مواضع كثيرة وسردت أسمائهم في موضع بترتيب مخصوص ، ثم ذكروا في موضع آخر بترتيب مخالف للترتيب الأول بمعنى انه قدم ذكر من أخر ذكره في الترتيب الأول وأخر من قد كان قدم ذكره من قبل ، وذكروا في موضع ثالث ورابع بترتيب غير التراتيب المقدمة هكذا في مواضع شتى مخالف بعضها بعض .
15 / 17 - السر فيه هو : انه روعي من موضع ذكرهم بحسب تفاوت مراتبهم ودرجات ما فضل به بعضهم على بعض المشار اليه بقوله تعالى : “ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ “ [ البقرة / 253 ] .
وتارة روعي في ترتيب ذكرهم تقدمهم وتأخرهم الزمانى، وتارة روعي في ترتيب ذكرهم مشاركتهم في الفعل والحال المذكورين في السورة او القصة، فالأقرب شبها ونسبة يكون هو المقدم في الذكر الأنسب فالانسب الى الامر المذكور.
وتارة يراعى فيها الاشتراك في الشرائع وأحكامها،
فان الله تعالى يقول: “لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً “ [ المائدة / 48 ]
وقال : “ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ “ [ البقرة / 60 ]
فإذا كثر اتفاق الاحكام المشروعة بين نبيين وثبوت تقدم أحدهما ورجحانه، تلاه في الذكر الأقوى مشاركة له في احكام شريعته.
16 / 17 - فاعلم ذلك واستقره تجده مطرد الحكم ، كما نبهت عليه في ارداف قصة آدم بقصة موسى وبنى اسرائيل ، وهذه النكتة وان وقع ذكرها هنا من وجه بالعرض ، فإنها مفتاح شريف يفتح به جملة من اسرار ترتيب آى القرآن وقصصه وسوره وآياته ، ان تم الاطلاع على أصله ومحتده .
فافهم والله الهادي .
.
....

YsddzTmlby4

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!