موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب الفكوك في أسرار
مستندات حكم الفصوص

تأليف: الشيخ صدر الدين القونوي

فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية


16 - فك ختم الفص السليمانى .كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص على فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي

كتاب الفكوك في أسرار مستندات حكم الفصوص أبو المعالي محمد بن إسحاق صدر الدين القونوي
1 / 16 - اعلم ان الرحمة تنقسم اولا على قسمين : أحدهما الرحمة الذاتية والاخرى الرحمة الصفاتية وكل واحد من هاتين الرحمتين تنقسم الى قسمين :
عامة وخاصة ، فيصير أربعة اصول هي الأمهات ، ثم يتفرع من هذه الأمهات ستة وتسعون فرعا فتكون مائة ، كما أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ان لله مائة رحمة "الحديث" .
2 / 16 -فقد نبه الحق سبحانه على ذلك بقوله في ام الكتاب: "بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّه رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيم" [الفاتحة / 1 - 3].
فاللتان في البسملة هما الذاتية العامة والخاصة، واللتان في الفاتحة هما الصفاتية العامة والخاصة وباقى الرحمات متفرعة عن هذه.
3 / 16 - وإذا عرفت هذا فاعلم: ان الرحمة الخصيصة بسليمان عليه السلام من الرحمة العامة الصفاتية ومن حكم الرحمة الذاتية التي وسعت كل شيء، فكان بحكمها ايضا صفة العموم، ولهذا عم حكم سليمان وتصرفه في العالم، فسخر الله له العالم الأعلى والأسفل .
4 / 16 - واما تسخيره له العالم السفلى فواضح ، لتحكمه في الجن والانس والوحش والطير وسائر الحيوانات البرية والبحرية ، وتعدى حكمه الى العناصر ، فسخر الريح تجرى بامره وسخر له الماء يغوص له فيه الشياطين النارية ، وهذا من اعظم تسخيرات الجمع بين ما من النار مع الماء - مع تضاد طبائعهما.
ولذلك نبه سبحانه على ذلك بقوله: "ومن الشَّياطِينِ من يَغُوصُونَ لَه ويَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ" [ الأنبياء / 82 ] .
فأخبر ان كل ما كانوا يعملون له فهو دون غوصهم - لما ذكرت من صعوبة الجمع بين الاضداد - وسخرت له الأرض ايضا يتبوأ منها حيث يشاء.
5 / 16 - واما تسخير الجن له العالم العلوي فواضح ايضا عند المستبصرين ، فان كل ما تيسر له عليه السلام في هذا العالم فإنه من آثار تسخير الله له ذلك العالم وتعليمه إياه اسباب التصريفات. فافهم، فهذا من آثار حكم العام الخصيص بالرحمة العامة .
6 / 16 -واما الرحمة الخاصة الذاتية فهي العناية والمسماة ايضا بقدم صدق التي هي من آثار حب الحق بعض عباده ، لا لموجب معلوم على التعيين من علم او عمل او غيرهما من الأسباب والوسائل ، واليه الإشارة بقوله تعالى في حق الخضر : " آتَيْناه رَحْمَةً من عِنْدِنا وعَلَّمْناه من لَدُنَّا عِلْماً " [ الكهف / 65 ] .
7 / 16 - واما الرحمة الخاصة الصفاتية فخصيص بالسعداء وينقسم حكمها الى قسمين : قسم موقت وقسم غير موقت ، فالموقت يختص بالسعداء في الدني الفائزين بنيل مراداتهم في غالب الأحوال والأوقات - دون الآخرة - ولهذا نبهنا الحق بما يفهم منه استثناء سليمان بقوله تعالى : " وإِنَّ لَه عِنْدَنا لَزُلْفى وحُسْنَ مَآبٍ " [ سورة ص / 40 ] فجمع له السعادتين فلم يكن سعادته موقتة ، بل ابدية الحكم . فافهم .
8 / 16 - واما حكم الرحمة الخاصة الغير الموقتة فيختص باهل الجنة ، لان نعيمهم ابدى كما قال تعالى : " عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ " [ هود / 108 ] فهو عطاء غير منقطع خالص من الانكاد غير مشوب بالأمور المنقصة كما قال تعالى : " قُلْ من حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِه والطَّيِّباتِ من الرِّزْقِ ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا في الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ " [الأعراف / 32 ] فقوله " خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ " :
تنبيه على انه وان حصلت لمن حصلت له من المؤمنين هنا، فإنها تكون مشوبة بالانكاد والغصص لا تعطيه خواص هذا الموطن والنشأة الامشاجية ، وانما تخلص للسعداء في الجنة فإنها محل مقدس سليم من كل ما يوجب كدرا او نكدا ، لأنها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الكرسي وسقفها عرش الرحمن المحيط بجميع الصور كالاحاطة اسم الرحمن بجميع الموجودات رحمة وعلما وحكما ، فافهم .
9 / 16 - واما الكرسي فمظهر الاسم الرحيم الذي له التخصيص ومستواه ، كما ان العرش مستوى الاسم الرحمن دون غيره وله العموم وقد نبهت فيما مر على ان كل سماء من محل حكم اسم من اسماء الحق ومستواه ، واسناد تلك السماء الى الحق انما يكون من حيثية ذلك الاسم ، ومن مقامه تعيين الامر الموحى به الى تلك السماء المشار اليه بقوله تعالى : " وأَوْحى في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها " [ فصلت / 12 ] .
فتذكر فقد عرفتك انقسام الرحمة الذاتية الى عامة وخاصة، وكذلك الصفاتية وعينتها لك وعرفتك ان الرحمة التي وسعت كل شيء هي الوجود ، وان الاسم الرحمن اسم للحق من كونه وجودا محضا منبسطا نوره على الممكنات الموجودة .
كما أخبر سبحانه عن ذلك بقوله : " الله نُورُ السَّماواتِ والأَرْضِ " [ النور / 35 ] ثم ذكر مراتب ظهورات النور وامثلة مواد مظاهره .
10 / 16 - فاعلم ان لهذا الوجود من حيث مبدأ انبساطه وتعينه من غيب هوية الحق مراتب كلية في التعين والظهور .
أولهعالم المعاني .
ثمعالم الأرواح التي نسبتها الى مرتبة الظهور أتم من نسبة عالم المعاني .
ثمعالم المثال المجسد الأرواح والمعاني ، بمعنى انه لا يظهر ولا يتعين فيه شيء الا متجسدا.
ثمعالم الحس الذي اوله صورة العرش المحيط بجميع الأجسام المحسوسة المحدد للجهات، وبه انتهى ، اى استوى السير المعنوي الوجودي الصادر من غيب الهوية في مراتبه الكلية للظهور الذي غايته عالم الحس ، لان تعينات الوجود وتنوعات ظهوره بعد العرش انما هو تفصيل وتركيب .
فوضح ان في العرش وبه تمت درجات الظهور - كما بينا - ولهذا أضيف الاستواء الى الاسم الرحمن دون غيره من الأسماء لما مر من ان الرحمن صورة الرحمة التي وسعت كل شيء وانتهت ظهوراته الكلية في العرش .
11 / 16 - واما الحكم العام الوجودي فإنه يظهر في كل مرتبة من المراتب الأربعة الكلية المذكورة ويتفصل فيها يليها من المراتب التفصيلية بحسب تلك المرتبة .
فان فهمت ما نبهت عليه في فص هذه الحكمة السليمانية استشرفت على اسرار غريبة من جملتها سر الاستواء، فتلقاه صادقا بمعنى التمامية في درجات السير المعنوي لتكمل مراتب ظهورات الوجود وبمعنى الاستيلاء الحكمي المنبث من العرش وبه ومما فوقه من الملإ الأعلى في السموات والأرض وما فيها وما بينهما، وعرفت بقية معانى الاستواء.
عرفت ايضا ان ما بعد العرش من الصور الاحكام تفاصيل ظهورات الوجود وأحكامه، يجتمع في كل موجود منها جملة بحسب ما يقبله استعداده ويقتضيه سعة دائرته المعنوية .
12 / 16 - ولم يزل الامر يتدرج في الجميع والظهور حتى انتهى الامر الى النوع الإنساني ، فكان هدفا لجميع القوى الطبيعية والاحكام الاسمائية الوجوبية والتوجهات الملكية والآثار الفلكية ومحل جمعها ، وقد سبق التنبيه على كل ذلك .
13 / 16 - لكن ينبغي لك ان تعلم ان انبساط هذه الاحكام والآثار والخواص يختلف تعيناتها وظهوراتها واجتماعاتها في عرض المرتبة الانسانية بحسب درجات الاعتدال المتعينة بامزجة الأناسي وفيها ، وهي سبب تعينات مراتب أرواحهم ، ان تفاوت تعينات الأرواح الجزئية الانسانية هو بحسب التفاوت الواقع في درجات اعتدال امزجة أربابه .
14 / 16 - ثم أقول : ولم يزل الاحكام والآثار المذكورة وخواص الظهورات التعينية تبرز من الغيب الى الشهادة ومن القوة الى الفعل ومن حضرة البطون الى حضرة الظهور في الطور الإنساني ايضا ، كالامر فيما ذكر من قبل بالتدريج والحكم والفعل ، حتى انتهى الامر من الوجه المذكور الى داود وسليمان عليهما السلام .
وكان داود مظهر كليات تلك الاحكام الاسمائية والصفات الربانية والآثار الروحانية والقوى الطبيعية مستجمعها ، فاستحق لظهور مقام الخلافة وأحكامها واحكام الحكمة وفصل الخطاب وورثه سليمان في الجمع وزاد بالتفصيل الفعلى والحكم الظاهر الجلي والتسخير العام الكلى العلى.
15 / 16 - فما ظهر في الوجود احد من الناس اعظم ملكا ولا اعم حكما منه ولا يظهر بعده ، لأنه لما بلغ ظهور ما قدر الله ظهوره من اسرار الربوبية والأمور التي سبق ذكرها المضافة الى الحق والى الكون من حضرة العلم الى اقصى درجات الظهور المعلومة عند الله ، وقع التحجير باجابة دعوته ، فعادت هذه الأمور بعد كمال ظهورها راجعة من حضرة الظهور الى حضرة البطون بنحو من التدريج الواقع في ازمنة بروزها من حضرة البطون الى حضرة الظهور.
فإنه ما ثمة الا ظهور من بطون او بطون من ظهور، فما نقص من الباطن اخذه الظاهر وبالعكس .
16 / 16 - ولما كانت نسبة حكم الرحمة العامة الخصيصة بحال سليمان عليه السلام الى حقيقة الرحمة العامة نسبة الصفة الى الموصوف مع اشتراكهما ايضا في الحيطة وعموم الأثر.
وكان ما أعطيه سليمان عطاء ممزوجا من حقيقة الرحمة وحكمها، فتوقف ميل ما منحه على الدعاء الذي هو من سر حكم الرحمة باعتبار امتياز الصفة عن الموصوف ونزولها عن درجة الموصوف بها ومن حيث الهام الحق إياه الدعاء واجابته لدعائه واخبار الحق له بقوله: " فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ " [ ص / 39 ] هو سر الرحمة الذاتية العامة ، فافهم .
17 / 16 - فهذا ما قدر الله ذكره من اسرار احوال سليمان عليه السلام مما لم ينبه عليه شيخنا رضى الله عنه ، ولو بسطت القول في بيان اسرار أحواله ما اطلعت عليه لطال الكلام ونبت عنه الافهام ، فليكتف الألباء بما يسر الله ذكره ، والله المرشد.
.
....

jZaiezXmH-A

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!