موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مطلع خصوص الكلم
في معاني فصوص الحكم

تأليف: الشيخ داود القيصري

فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية


14 - فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي


شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي


والمراد بالحكمة ( القدرية ) سر القدر والأعيان الثابتة والنقوش التي فيها ، لا نفس ( القدر ) الذي هو بعد ( القضاء ) المعبر عنه بتوقيت في عينها ، فإن هذا القضاء والقدر مرتب على الأعيان الثابتة ونقوشها الغيبية .
وإنم اختصت الكلمة ( العزيرية ) بهذه الحكمة القدرية ، لأن عينه كانت باستعداده الأصلي طالبة لمعرفة سر القدر وشهود الإحياء ، ولذلك قال مستبعدا عند مروره بالقرية الخربة : ( أنى يحيى هذه الله بعد موتها ؟ ) فأشهده الله في نفسه وحماره ذلك بإماتتهما وإحيائهما .
كم قال : فأماته الله مأة عام ، ثم بعثه إظهارا للقدرة على الإعادة .
ولم كان ( القضاء ) حكما كليا في الأشياء على ما يقتضيها أعيانها ، و ( القدر ) جعله جزئيا معينا مخصوصا بأزمنة مشخصة له ، قدم القضاء على القدر فقال :
قال رضي الله عنه : ( اعلم ، أن القضاء حكم الله في الأشياء . ) وراعى فيه معناه اللغوي ، إذ القضاء لغة (الحكم).
يقال : قضى القاضي . أي ، حكم الحاكم من جهة الشرع .
وفي الاصطلاح عبارة عن الحكم الكلى الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية من الأزل إلى الأبد .
قال رضي الله عنه : ( وحكم الله في الأشياء على حد علمه بها وفيها . ) إذ الحكم يستدعى العلم بالمحكوم به وعليه وما فيهما من الأحوال والاستعدادات .
قال رضي الله عنه : ( وعلم الله في الأشياء على ما أعطته المعلومات بما هي عليه في نفسها . ) قد مر في المقدمات أن العلم في المرتبة ( الأحدية ) عين الذات مطلقا ، فالعالم والمعلوم والعلم شئ واحد لا مغايرة فيه وفي المرتبة ( الواحدية ) ، وهي الإلهية ، العلم إما صفة حقيقية ، أو نسبة إضافية . أياما كان ، يستدعى معلوما ليتعلق العلم به ، والمعلوم الذات الإلهية وأسماؤها وصفاته والأعيان .
فالعلم الإلهي من حيث مغايرته للذات من وجه ، تابع لما تعطيه الذات من نفسها من الأسماء والصفات ، ولما تعطيه الأعيان من أحوالها باستعداداتها وقبولها إياه .
( و (القدر ) توقيت ما عليه الأشياء في عينها ) أي ، ( القدر ) هو تفصيل ذلك الحكم بإيجادها في أوقاتها وأزمانها التي يقتضى الأشياء وقوعها فيها باستعداداتها الجزئية .
فتعليق كل حال من أحوال الأعيان بزمان معين وسبب معين عبارة عن (القدر).

قوله : ( من غير مزيد ) تأكيد ورفع لوهم من يتوهم أن الحق من حيث أسمائه يحكم على الأعيان مطلقا ، سواء كانت مستعدة أو غير مستعدة ، كما يقول المحجوب بأنه تعالى حاكم في ملكه يحكم بما يشاء : يقدر على الكافر الكفر وعلى العاصي المعصية ، مع عدم اقتضاء أعيانها ذلك ، ويكلف عبيده بما لا يطاق لحكمة يعلمه .
( فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها ) أي ، إذا كان حكم الله على حد علمه بالأشياء وعلمه تابع لها ، فما حكم الحق على الأشياء إلا باقتضائها من الحضرة الإلهية ذلك الحكم ، أي ، اقتضت أن يحكم الحق عليها بما هي مستعدة له وقابلة .
فأطلق القضاء وأراد القاضي على المجاز .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا هو عين سر القدر الذي يظهر " لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ".)
هذ إشارة إلى قوله : ( فما حكم القضاء على الأشياء إلا بها ) أي ، هذا المعنى هو سر القدر الذي يظهر لمن كان له قلب ، يتقلب في أطوار عوالم الملك والملكوت ، أو ألقى السمع بنور الإيمان الصحيح ، وهو شهيد يشاهد أنوار الحق في بعض عوالمه الحسية والمثالية .

قال رضي الله عنه : ( " فلله الحجة البالغة " . ) أي ، فلله الحجة التامة القوية على خلقه فيما يعطيهم من الإيمان والكفر والانقياد والعصيان ، لا للخلق عليه ، إذ لا يعطيهم إلا ما طلبوا منه باستعدادهم . فما قدر عليهم الكفر والعصيان من نفسه ، بل باقتضاء أعيانهم ذلك وطلبهم بلسان استعدادتهم أن يجعلهم كافرا أو عاصيا ، كما طلب عين الحمار صورته وعين الكلب صورته ، والحكم عليه بالنجاسة
العينية أيضا مقتضى ذاته .

وإذ أمعن النظر في غير الإنسان من الجمادات والحيوانات ، يحصل له ما فيه شفاء ورحمة .
فإن قلت : الأعيان واستعداداتها فائضة من الحق تعالى ، فهو جعلها كذلك .
قلت : الأعيان ليست مجعولة بجعل الجاعل ، كما مر في المقدمات ، بل هي صور علمية للأسماء الإلهية التي لا تأخر لها عن الحق إلا بالذات لا بالزمان ، فهي أزلية وأبدية .
والمعنى بالإضافة ( التأخر ) بحسب الذات لا غير .
قال رضي الله عنه : (فالحاكم في التحقيق تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما يقتضيه ذاتها) لما أثبت أن الحكم بحسب القابلية التي للأعيان ، وهي أعيان الموجودات ، وكل حال من الأحوال أيضا يقتضى بقابليته حكما خاصا .
عمم القول بقوله ( لعين المسألة ) . إذ ( اللام ) للاستغراق .
أي ، فالحاكم الذي هو الحق في حكمه في الحقيقة تابع للأعيان وأحوالها التي هي أعيان المسائل التي يقع الحكم فيها ، فما يحكم الحاكم في القضاء والقدر إلا بما يقتضيه ذات الأعيان وأحواله .
قال رضي الله عنه : ( فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم ) بقابليته . ( على الحاكم أن يحكم عليه السلام بذلك . )
ولم كان الأمر في نفسه كما قرره وليس مختصا ببعض الحاكمين دون البعض ، عمم الحكم بقوله رضي الله عنه :( فكل حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه ، كان الحاكم من كان . ) .
أي ، سواء كان الحاكم حاكما حقيقيا وهو في الباطن ، كالحق سبحانه تعالى والمجردات المدبرات لأمر العالم لعلمهم بما في نفس الأمر ، أو في الظاهر ، كالأنبياء والرسل لاطلاعهم على ما في نفس الأمر من الاستعدادات بالكشف أو الوحي ، أو مجازيا ، كالملوك وأرباب الدول الظاهرة ، لكونهم آلة وحجابا في صدور الحكم من الحاكم الحقيقي .
فأكثر أحكامهم وإن كان ظاهرا مما ينسب إلى الخطأ ، لكن في الباطن كلها صادرة من الله بحسب طبائع القوم واستعداداتهم .
وإذ كان كل حاكم من وجه محكوما عليه ،كان المجازاة بين مقامي الجمع والتفصيل واقعا.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فتحقق هذه المسألة ،فإن القدر ما جهل إلا لشدة ظهوره فلم يعرف ، وكثر فيه الطلب والإلحاح.)
أي ، تحقق مسألة سر القدر .
وإنم قال : ( لشدة ظهوره ) لأن كل ذي بصر وبصيرة يشاهد أن وجود الأشياء صادر من الله في كل آن بحسب القوابل ، كإفاضة الصورة الإنسانية على النطفة الإنسانية والصورة الفرسية على النطفة الفرسية .
وهذ أظهر شئ في الوجود . وكما يترتب إفاضة الصور على الأشياء بالاستعداد والقابلية ، كذلك يترتب إفاضة لوازمها على قابلية تلك الصور . وهذا أيضا أمر بين عند العقل .
وكثير من الأشياء البالغة في الظهور قد يختفي اختفاء لا يكاد يبدو ، كالوجود والعلم والزمان ، وأنواع الوجدانيات والبديهيات أيضا كذلك .
والطلب والإلحاح على معرفة سر القدر من الأنبياء ، عليهم السلام ، إنما كان للاحتجاب . فإن النبي إذا اطلع عليه ، لا يقدر على الدعوة وإجراء أحكام الشريعة على الأمة ، بل يعذر كل
منهم فيما هو عليه لإعطاء عينه ذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( واعلم ، أن الرسل ، صلوات الله عليهم ، من حيث هم رسل ، لا من حيث هم أولياء وعارفون على مراتب ما هي عليه أممهم ، فما عندهم من العلم الذي أرسلوا به إلا قدر ما تحتاج إليه أمة ذلك الرسل ، لا زائد ولا ناقص )
أي ، الرسل من حيث إنهم رسل ، ما أعطى لهم العلم إلا قدر ما يطلب استعدادات أمته ، ل يمكن أن يكون زائدا عليه ولا ناقصا منه ، لأن الرسول إنما هو مبلغ لما أنزل إليه ، كقوله
تعالى : ( بلغ ما أنزل إليك وما عليك إلا البلاغ إن أنت إلا نذير مبين ) . لأحكام أفعالهم لإصلاح معاشهم ومعادهم .
والتبليغ والتبيين لا يكون إلا بحسب استعدادات المبلغين إليهم وأفعالهم ، لا زائدا ول ناقصا . وأما من حيث إنهم أولياء فانون في الحق ، أو أنبياء عارفون ، فليس كذلك ، لأن هاتين الصفتين
بحسب استعداداتهم في أنفسهم ، لا مدخل لاستعداد الأمة فيه .
فقوله : ( وعارفون ) أي ، ولا من حيث إنهم أنبياء . فنبه بهذا الاطلاع على كون النبوة تعطى العلم والمعرفة بالله والمراتب ، وعلى أن العارفين لهم نصيب من النبوة العامة ، لا الخاصة التشريعية .
وقوله رضي الله عنه : ( على مراتب ما هي عليه أممهم ) بإضافة ( المراتب ) إلى ( ما ) خبر ( أن ) . و ( هي ) ضمير مبهم مفسره ( أممهم ) .
تقديره : أن الرسل ، من حيث هم رسل ، عالمون على قدر مراتب أممهم على ما هي عليه .
قال رضي الله عنه : ( والأمم متفاضلة ، يزيد بعضها على بعض ، فيتفاضل الرسل في علم الإرسال بتفاضل أممها . وهو قوله : " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " . ) معناه ظاهر .
و ( هو ) بمعنى ذلك . أي ، وذلك التفاضل ثابت بقوله : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم ، عليه السلام ، من العلوم والأحكام متفاضلون بحسب استعداداتهم . وهو ) أي ، ذلك التفاضل هو المشار إليه ( في قوله : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض . ) أي ، الرسل يتفاضلون بتفاضل أممهم .
كم يتفاضلون فيما يرجع إلى ذواتهم من العلوم والمعارف والأحكام الإلهية .
ففي الكلام تقديم وتأخير . تقديره : كما هم متفاضلون فيما يرجع إلى ذواتهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقال تعالى في حق الخلق " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " . والرزق منه ما هو روحاني كالعلوم ، وحسى كالأغذية . وما ينزله الحق إلا بقدر معلوم . )
أي ، بقدر يعلمه الحق من استعداد عين العبد في كل حين .
قال رضي الله عنه : ( وهو الاستحقاق الذي يطلبه الخلق . ) أي ، ذلك ( القدر المعلوم ) هو ما استحق الخلق وطلبه
من الحضرة الإلهية .
( فإن الله "أعطى كل شئ خلقه " . ) أي ، أعطى كل شئ مقتضى خلقه وعينه دفعة واحدة في الأزل ، ثم جعله وديعة في خزائن السماوات والأرض ، بل في نفس كل شئ إلى أن يظهر في الحس .
وإليه أشار بقوله : ( فينزل بقدر مايشاء . ) أي ، في كل حين .
قال رضي الله عنه : ( وما يشاء إلا ما علم فحكم به . وما علم ، كما قلناه ، إلا بم أعطاه المعلوم من نفسه . ) .
أي ، ما تتعلق المشيئة الذاتية إلا بما علم الله من الأعيان ، فحكم بما علم من أحواله ، وما علم إلا ما أعطى الأعيان من نفسها بحسب استعداداته .
قال رضي الله عنه : ( فالتوقيت في الأصل للمعلوم ، والقضاء والعلم والإرادة والمشية تبع للقدر . ) أي ، تعيين كل حال من أحوال الأعيان بوقت معين وزمان خاص ، إنما هو في الحقيقة مقتضى الأعيان ، فإنها تطلب باستعداداتها ذلك التوقيت .
والعلم الإلهي تابع للمعلوم ، فالقضاء والقدر الذي هو التوقيت والإرادة والمشيئة كله تابعة للقدر ، أي المقدور ، إذ القدر بمعنى التوقيت تابع للمقدور .
كم مر آنفا . فما هو المشهور من أن الإرادة مخصصة ، أو المشيئة أو العناية الإلهية مقتضية
أمر ما ، محمول بالمشيئة والإرادة الذاتية ، لا الأسمائية .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فسر القدر من أجل العلوم ، وما يفهمه الله إلا لمن اختصه بالمعرفة التامة ). ظاهر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالعلم به يعطى الراحة الكلية للعالم به ، ويعطى العذاب الأليم للعالم به أيضا ، فهو يعطى النقيضين . ) .
أي ، العلم بسر القدر يعطى لصاحبه الراحة الكلية ، لأن العلم بأن الحق ما حكم عليه في القضاء السابق إلا بمقتضى ذاته ، ومقتضى الذات لا يمكن أن يختلف عنها بسبب ، به تحصل الاطمينان على أن كل كمال يقتضيه حقيقته وكل رزق صوري ومعنوي يطلبه عينه ل بد أن يصل إليه .
كم قال ، صلى الله عليه وسلم : " إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى يستكمل رزقها . ألا ، فأجملوا في الطلب ".
فيستريح عن تعب الطلب . وإن طلب أجمل في الطلب ، ولا يخاف من الفوات ، ولا ينتظر لعلمه بأن الله في كل حين يعطيه من خزائنه ما يناسب وقته ، فهو واجد دائما من مقصوده شيئ فشيئا ، وما لا يحصل له لا يراه من الغير ، فيحصل له الراحة العظيمة .
وكذلك يعطى العذاب الأليم . لأن صاحبه قد يكون مقتضى ذاته أمورا لا تلائم نفسه ، كالفقر
وسوء المزاج وقلة الاستعداد ، ويرى غيره في الغنى والصحة والاستعداد التام ، ولا يرى سببا للخلاص ، إذ مقتضى الذات لا يزول ، فيتألم بالعذاب الأليم .
فالعلم بسر القدر يعطى النقيضين : الراحة وعدمها ، والألم وعدمه وإطلاق النقيضين هنا مجاز ، لأن الراحة والألم ضدان ، وهما ليسا نقيضين .
ولم كان كل منهما يستلزم عدم الآخر ، أطلق اسم النقيضين عليها ، كأنه قال : الراحة وعدمها ، والألم وعدمه . وموضوعهما غير متحد أيض .
قال رضي الله عنه : (وبه وصف الحق نفسه بالغضب والرضا ، وبه تقابلت الأسماء الإلهية.)
أي ، وبسبب العلم بسر القدر وصف الحق نفسه بالغضب والرضا ، لأنه يعلم ذاته بذاته ويعلم ما تعطيه ذاته من النسب والكمالات المعبر عنها بالأسماء والصفات ، ومن جملة نسبه الرضا والغضب ، فالعلم بذاته أعطاه الرضا والغضب ، ولهاتين النسبتين انقسم الأسماء إلى .
( الجمال ) و ( الجلال ) ، ومن هذا الانقسام حصل الداران :الجنة والنار .
فصح أيضا أن العلم بالذات من حيث الرضا والغضب ، هو سبب تقابل الأسماء الإلهية .
هذ من جهة الذات وأسمائها .
وأم من جهة الأعيان ، فالعلم بها أيضا يعطى الحق الرضا والغضب ، لأن العين المؤمنة المطيعة لأمر الله تطلب من الله تعالى أن يتجلى لها بالرضا واللطف ، والعين الآبية الكافرة يطلب من الله أن يتجلى عليها بالغضب والقهر ، فأظهرت الأعيان أحكام نسبة الرضا والغضب ووجودهما بالفعل .
فتقابلت الأسماء الإلهية ، وانقسمت بالجمال والجلال ، لأن كل ما يتعلق بالرضا واللطف فهو الجمال ، وما يتعلق بالقهر والغضب فهو الجلال .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فحقيقته تحكم في الموجود المطلق والموجود المقيد ، لا يمكن أن يكون شئ أتم منه ولا أقوى ولا أعظم ، لعموم حكمها المتعدى وغير المتعدى ) أي ، فحقيقة العلم بسر القدر ، أو حقيقة سر القدر ، تحكم في الموجود المطلق .
وفي بعض النسخ : ( في الوجود المطلق ) . أي ، في الحق بإثبات الرضا والغضب له
والاتصاف بالأسماء الجمالية والجلالية .
وتحكم أيضا أن توجد كل عين بما يقتضى استعدادها ويقبل ذاتها ، ويحكم في الموجود المقيد بالسعادة والشقاوة ، وكونه مرضيا عند ربه أو مغضوبا عليه ، وأن يوجد بمقتضى عينه في الأخلاق والأفعال وجميع كمالاته .
فل يمكن أن يكون شئ أتم من حقيقة سر القدر ، لأن حكمها عام : تحكم في الحق وأسمائه وصفاته كلها من حيث إنها تابعة للأعيان ، وتحكم في جميع الموجودات .
والمراد ب‍ ( الحكم المتعدى ) الأحكام والتأثيرات التي تقع من الأعيان في مظاهرها ، ويتعدى منها إلى غيرها بالفعل والانفعال .
وغير المتعدى ما يقع في مظاهرها فقط ، كالكمالات النفسانية من العلم والحكمة وغيره .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولما كانت الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، لا تأخذ علومها إلا من الوحي الخاص الإلهي ، فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي ، لعلمهم بقصور العقل من حيث
نظره الفكري عن إدراك الأمور على ما هي عليه .
والإخبار أيضا يقصر عن إدراك مالا ينال إلا بالذوق ، فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي الإلهي ، وما يكشف الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية ، فتدرك الأمور قديمها وحديثها وعدمها ووجودها ومحالها وواجبها وجائزها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها . )
أي ، لما كانت علوم الأنبياء ، عليه السلام ، مأخوذة من الوحي ، كانت قلوبهم ساذجة مم يتعلق بالنظر العقلي ، لأنه طريق الانتقاش بالتعمل والكسب .
والأمر ، كما هو ، لا يتجلى إلا في القلب المجلو الفارع عن النقوش .
والإخبار لا يمكن إلا عما يمكن التعبير عنه ويسمع العبارة ، أما مالا يمكن ، كالوجدانيات والمدركات بالذوق ، فيقصر الإخبار أيضا عن إيضاحه ، فلا يحصل العلم التام به ، كمالا يحصل بطريق النظر العقلي .
فلم يبق أن يدرك الحقائق على ما هي عليه إلا في التجلي الإلهي ، ليشاهد تارة في العالم المثالي المقيد ، وأخرى في المطلق ، وأعلى منهما في عالم المجردات ، وأعلى من ذلك أيضا في عالم الأعيان ، فيحصل الاطلاع بحقائق الأمور ، قديمها وحديثها وعدمه ووجودها ومحالها وواجبها ، على ما هي عليه في حقائقها وأعيانه .
فجواب ( لما ) قوله : ( فقلوبهم ) . و ( ما ) في ( وما يكشف ) مصدرية . أي ، فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي وكشف الحق .
و ( من ) في قوله : ( من الأغطية ) للبيان ، والمبين مقدر . وهو ما طرأ على أعين البصائر والأبصار ، فمنعها عن شهود الحقائق والأسرار .
ويجوز أن يكون ( ما ) بمعنى الذي ، و ( من الأغطية ) بيانا له . فمعناه : فلم يبق العلم الكامل إلا في التجلي وفيما يكشف الحق ، أي ، يرفعه الحق عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية . وهذا أنسب .
وإنم قال : ( عن أعين البصائر والأبصار ) لأن الأغطية إذا ارتفعت ، يتحد النوران : نور البصيرة ونور البصر ، فيدرك بكل منهما ما يدرك بالآخر ، وكذلك يدرك بالسمع ما يدرك بالبصر وبالعكس . هذا أيضا من خصوصيات الكشف التام الذي هو فوق طور العقل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما كان مطلب " العزير " على الطريقة الخاصة ، لذلك وقع العتب عليه ، كم ورد في الخبر . ولو طلب الكشف الذي ذكرناه ، ربما كان لا يقع عليه عتب في ذلك .)
المراد ب‍ ( الطريقة الخاصة ) طريق الذوق . وهو الاتصاف هنا بصفة القدرة على الإحياء ذوقا . وإنما وقع العتب عليه ، لأنها من الخصائص الإلهية ويدل عليه .
م ذكره من بعد ، وطلب أن يكون له قدرة يتعلق بالمقدور .
ويجوز أن يكون المراد بها طريق الوحي . لكن الأول أولى ، إذ لا تعتب على ما يطلبه نبي بالوحي .
إل أن يقال العتب مترتب على الطلب على سبيل التعجب والاستغراب بالنسبة إلى القدرة العظيمة الإلهية . وذلك عين سوء الأدب مع الله .
أي ، لما كان طلب العزير الاطلاع على سر القدر ذوقا واتصافا بالقدرة ، أو بطريق الوحي - إذ هو الطريقة الخاصة بالأنبياء لكونهم يحترزون عن النظر بالعقل في الأمور الإلهية خصوصا في مثل هذا المقام مع الاستغراب والتعجب - وقع العتب عليه .
كم ورد في الخبر من أنه قيل له :( لئن لم تنته يا عزير ، لأمحون اسمك من ديوان النبوة ) .
لأن مثل هذا السؤال لا يليق بمن تحقق بالحقائق الإلهية وعلم طريقه .
وكان الواجب أن يستصغر كل عظيم بالنسبة إلى قدرته تعالى .
فمن سذاجة قلبه سأل ما سأل على الطريقة الخاصة حتى وقع في معرض العتب .
ولو كان على طريق الكشف لحصول الاطمينان ، لا على طريق التعجب والاستغراب ، لما وقع
عليه العتب .
كم لم يقع على إبراهيم إذ قال : ( رب أرني كيف تحيى الموتى . قال . . . ) - الآية .
وهذ المعنى بلسان أهل الظاهر ، لذلك قال فيما بعد : ( وأما عندنا ) إلى آخره .
( والدليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه : " أنى يحيى هذه الله بعد موتها " . ) أي ، والدليل على سذاجة قلبه قوله : " أنى يحيى هذه الله بعد موتها" .
وإنم قال : ( في بعض الوجوه ) فإن أصحاب التفاسير اختلفوا في أن المار على القرية
الخاوية القائل بهذا الكلام من كان ؟
فمنهم من قال إنه عزير ، عليه السلام . وهو قول ( قتادة ) . وقال ( وهب ) : هو ( إرميا ) . وقيل ( الخضر ) وقال ( الحسن ) : ( كان علجا كافرا مر على قرية ، وكان على حمار ، ومعه سلة تبن ) . وقيل : تين وعنب . والله أعلم .
فمعناه : الدليل على سذاجة قلبه هذا القول في بعض الوجوه المذكورة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأما عندنا فصورته ، عليه السلام ، في قوله هذا كصورة إبراهيم : "أرني كيف تحيى الموتى" . ويقتضي ذلك الجواب بالفعل الذي أظهره الحق فيه في قوله : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه فقال له وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحم . فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق ، فأراه الكيفية . ) أي ، وأما عند أهل الكشف ، فصورة قوله ، عليه السلام ، من حيث المعنى كصورة قول إبراهيم ، عليه السلام : " رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ " أي ، ليس قوله : " أنى يحيى هذه الله بعد موتها " بمعنى الاستبعاد والتعجب .
فإن المتحقق بمقام النبوة والولاية لا يستبعد من الله القادر الموجد المحيي المميت أن يعيد الأموات ويوجدهم مرة أخرى .
بل المؤمن بالأنبياء ، الكامل في إيمانه ، لا يستبعد ذلك ، فإنه يقدح في إيمانه ، فكيف يتصور من النبي قد وإنما هو شأن المحجوبين بالعادة عن القدرة الإلهية .
بل بمعنى كيف : فإنه ، عليه السلام ، يطلب أن يريه الحق كيفية إحياء الموتى ، ليكون في ذلك صاحب شهود ، ويقتضي ذلك ، أي السؤال ، الجواب بالفعل ، فأجابه بإماتته وإعادته ثانيا ، فيشاهد كيف تنبت الأجسام ، شهودا محقق .
وفي قوله : " كيف تنبت "إشارة إلى ما ذكره في الفتوحات ، في الباب الرابع والستين ، من أن أجسام الأموات تنبت من " عجب الذنب " .
والظاهر أن المراد بالأجزاء الأصلية التي لم تتفتت
قال رضي الله عنه : ( فسأل عن القدر الذي ل يدرك إلا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمه ، فما أعطى ذلك ، فإن ذلك من خصائص الاطلاع الإلهي . )
( فسأل ) ليس عطفا على قوله : ( فأراه ) إذ السؤال لم يكن بعد الإراءة ، بل قبلها . فهو استيناف .
ومعناه : أنه سأل الله أن يطلعه على سر القدر الذي هو العلم بالأعيان حال ثبوتها في
عدمه ، وبكيفية تعلق القدرة بالمقدور . فما أعطى ذلك . فإنه مخصوص بالله ولمن
أراد أن يطلعه .
كم قال رضي الله عنه : ( ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ) . بل أراه كيفية الإحياء في نفسه ، وما أراه الأعيان ل عين نفسه ولا عين غيره من أهل القرية ، وما اطلعه على كيفية تعلق القدرة بالمقدور اطلاعا على سبيل الذوق ، لأنه لا يكون إلا لصاحب القدرة بالإيجاد ، فهو من خصائص الاطلاع الإلهي .
ول يلزم من شهود كيفية الإحياء الاطلاع بعين نفسه التي هي الثابتة في علم الله تعالى ، ولا الاطلاع بكيفية تعلق القدرة بالمقدور على سبيل الذوق . وما يذكر بعد يدل على ما ذكرناه .
( فمن المحال أن يعلمه إلا هو ، فإنها ) أي ، الأعيان .
قال رضي الله عنه : ( المفاتيح الأول ، أعني ، مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو ، ) كم قال تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ).
واعلم ، أن الأعيان هي المفاتيح الأول بالنسبة إلى الشهادة ، لا مطلقا ، فإن الأسماء الذاتية المقتضية للأعيان هي المفاتيح الأول مطلقا ، لأنها مفاتيح الأعيان وأربابها أيض
قال رضي الله عنه : ( وقد يطلع الله من يشاء من عباده على بعض الأمور من ذلك . )
كم قال : ( ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء ) .
وقال رضي الله عنه : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا )
( واعلم ، أنه لا تسمى " مفاتيح " إلا في حال الفتح ، وحال الفتح هو حال تعلق التكوين بالأشياء . )
أي ، الأعيان لا تسمى بالمفاتيح إلا في حال الفتح .
وهو عند تعلق الإرادة بتكوين الأشياء ولما كان ذلك التعلق غير منفك عن تعلق القدرة به وأن تعلق الإرادة بالتكوين هو بعينه أن تعلق القدرة بالمقدورات .
قال رضي الله عنه : ( أو قل إن شئت : حال تعلق القدرة بالمقدور . )
وإنم قال رضي الله عنه : ( ولا ذوق لغير الله في ذلك . ) لأن كل ما وقع عليه اسم الغيرية محصور مقيد ، وكل ما هو مقيد موصوف بالعجز والقصور لا بالقدرة ، فليس لأحد من العباد قدرة على الإيجاد . كم قال : ( لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا ذبابا لم يقدروا عليه ) .
قال رضي الله عنه : ( فلا يقع فيها تجل ولا كشف ، إذ لا قدرة ولا فعل إلا لله خاصة ، إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيد . ) .
أي ، فإذا لم يكن لغير الله ذوق في القدرة على الإيجاد ، لا يتجلى الحق للعباد من حيث القدرة ، ولا ينكشف لهم هذا الحال ، إذ القدرة على الإيجاد لله لا للغير .
فضمير ( فيها ) عائد إلى ( القدرة ) واتصاف الكمل بالقدرة على الإيجاد والإعدام في بعض الأعيان وبالنسبة على بعض الأعيان - كما هو مقرر عند الطائفة - إنما هو من حيث عدم المغايرة بينه وبين الحق بفناء جهة العبودية في جهة الربوبية .
أو من جهة الخلافة ، لا الأصالة كما قال الله تعالى عن لسان نبيه عيسى عليه السلام : ( وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله وأحيى الموتى بإذن الله ) .
فل يرد (فلم رأينا عتب الحق له ، عليه السلام ، في سؤاله في القدر ، علمنا أنه طلب
هذ الاطلاع ) أي ، الاطلاع على كيفية تعلق القدرة بالمقدور على سبيل الذوق .
( فطلب أن يكون له قدرة يتعلق بالمقدور ، وما يقتضى ذلك إلا من له الوجود المطلق.) كالحق تعالى ومن فنى وجوده وإنيته في الحق من العباد .
قال رضي الله عنه : ( فطلب مال يمكن وجوده في الخلق ذوقا ، فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق . ) كم لا يمكن للعنين إدراك لذة الوقاع على سبيل السماع . وجميع الوجدانيات بهذه المرتبة .
فمن ليس له قوة الوجدان ، لا يمكن له حصول العرفان .

قال رضي الله عنه : ( وأما م رويناه مما أوحى الله به إليه : " لئن لم تنته ، لأمحون اسمك من ديوان النبوة" ) .
أي ، أرفع عنك طريق الخبر ، وأعطيك الأمور على التجلي ، والتجلي لا يكون إلا بم أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي ، فتعلم أنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك ، فتنظر في هذه الأمر الذي طلبت ، فلما لم تره ، تعلم أنه ليس عندك الاستعداد الذي تطلبه ، وإن ذلك من خصائص الذات الإلهية .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فقد علمت أن الله " أعطى كل شئ خلقه " . فإن لم يعطك هذ الاستعداد الخاص ، فما هو خلقك ، ولو كان خلقك ، لأعطاكه الحق الذي أخبر أنه أعطى كل شئ خلقه . فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك ، لا تحتاج إلى نهى إلهي . وهذا عناية من الله بالعزير ، عليه السلام . علم ذلك من علمه ، وجهله من جهله . )
جواب ( أما ) قوله : ( أي أرفع ) . تقديره : وأما ما رويناه من قوله تعالى ب‍ ( لئن لم تنته
لأمحون اسمك من ديوان النبوة ) . فمعناه : أرفع عنك طريق الخبر ، وأعطيك الأمور على التجلي .
ولم كانت النبوة مأخوذة من ( النبأ ) وهو الخبر ، فسر طريق الكشف ، لأن النبي ولى ، ومن شأن الأولياء الكشف ، فإذا ارتفع الحجاب وانكشف حقائق الأمور ، علم أن الحق ما يعطى لأحد شيئا إلا بحسب الاستعداد .
فإذ نظر ولم يجد في عينه استعداد ما يطلبه ، ينتهى عن الطلب ويتأدب بين يدي الله ، ول يطلب ما ليس في وسعه واستعداده .
ويعلم أن مطلوبه مخصوص بالحق ، ليس لغيره فيه ذوق ولا كشف .
ويعلم أن الله أعطى كل شئ خلقه ، أي استعداده الذي يخلق في الشهادة بحسبه عند تعين المهيات وفيضها أزلا ، فمن أعطى له الحق هذا الاستعداد الخاص وجعله خليفة ، يصدر منه ذلك ، كالإحياء من عيسى عليه السلام وشق القمر من نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، والتصرفات التي يتعلق بالقدرة .
ومن لم يعط له ذلك ، لم يمكن صدوره منه ، سواء طلب ذلك أو لم يطلب .
ولم كان ظاهر الخبر سلب النبوة عنه وإبعاده من حضرته وهذا لا يليق بمراتب الأنبياء صلوات الله عليهم .

لأنهم المصطفون من العباد وأعيانهم مقتضية لها لا يمكن سلبها عنهم - صرح بأن هذ العتب عناية من الله في حقه وتأديب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " أدبني ربي ، فأحسن تأديبي " علم هذا المعنى من علم من أهل الحجاب والطغيان .
أو لما كان الخبر في الباطن والحقيقة وعدا ، لا وعيدا ، والوعيد عناية من الله في حقه .
قال رضي الله عنه : ( علم ذلك الوعد من علمه ، وجهله من جهله . )
قال الشيخ رضي الله عنه : (واعلم ، أن الولاية هي الفلك المحيط العام ، ولهذا لم ينقطع ، وله الإنباء العام . وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة . وفي محمد ، صلى الله عليه وسلم قد انقطعت ، فلا نبي بعده مشرعا أو مشرعا له ، ولا رسول وهو المشرع . )
لم فسر الغيب بما يتعلق بالولاية ، نقل الكلام إليها .
وإنم أطلق اسم ( الفلك ) عليها ، لأنها حقيقة محيطة لكل من يتصف بالنبوة والرسالة والولاية ، كإحاطة الأفلاك لما تحتها من الأجسام ، ولكون الولاية عامة شاملة على الأنبياء والأولياء ، لم
ينقطع ، أي ، ما دام الدنيا باقية .
وعند انقطاعها ينتقل الأمر إلى الآخرة . كما مر في الفص الأول والثاني وللولاية الإنباء العام ، لأن الولي هو الذي فنى في الحق ، وعند هذا الفناء يطلع على الحقائق والمعارف الإلهية ، فينبئ عنها عند بقائه ثانيا .
وكذلك النبي ، لأنه من حيث ولايته يطلع على المعارف والحقائق ، فينبئ عنها ، لكن الولي ل
يسمى نبيا ، ولا يسمى الأنبياء العام بالنبوة .
وأم نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة ، وفي نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، قد انقطعت .
لذلك قال : ( لا نبي بعدي ) . يعنى نبيا مشرعا - على صيغة اسم الفاعل - كموسى وعيسى ومحمد ، عليهم السلام . أو نبيا مشرعا له ، أي نبيا داخلا في شريعة مشرع ، كأنبياء بني إسرائيل ، إذا كانوا كلهم على شريعة موسى ، عليه السلام .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهذا الحديث قصم ظهور أولياء الله ، لأنه يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة ، فلا ينطلق عليه اسمها الخاص به ، فإن العبد يريد أن لا يشارك
سيده ، وهو الله في اسم . والله لم يتسم بنبي ولا رسول ، وتسمى ب‍الولى واتصف بهذا
الاسم فقال : " الله ولى الذين آمنوا " . وقال : " هو الولي الحميد " . وهذا الاسم باق
جار على عباد الله ، دنيى وآخرة . فلم يبق اسم يختص به العبد دون الحق بانقطاع النبوة
والرسالة . ) .
أي ، قوله ، صلى الله عليه وسلم : ( لا نبي بعدي ) . قصم ظهور أولياء الله ، لأن الكاملين المحققين بالفقر التام والعبادة الكاملة التامة لا يختارون المشاركة في اسم من أسماء الله ، لعلمهم بأن الاتصاف بالأسماء الإلهية ليست مقتضى ذواتهم ، لكونه بالنسبة إليهم عرضيا يحصل لهم عند فنائهم في الحق ، بل يريدون أن يظهرو بمقتضى ذواتهم ، وهو العبادة .
كم قال الشيخ رضي الله عنه : ( لا تدعني إلا ب‍ " يا عبدها ". فإنه أشرف أسمائي ) .
""أضاف الجامع : قال الشيخ رضي الله عنه عن نعت المحب بأنه مجهول الأسماء
في الفتوحات الباب الثامن والسبعون ومائة في معرفة مقام المحبة
قال الشاعر : لا تدعني إلا بيا عبدها ..... فإنه أشرف أسمائي
فهذا مثل قولهم فيه إنه مخلوع النعوت فالعبودية له ذاتية فما له اسم معين سوى ما يسميه به محبوبه . فبأي اسم سماه ودعاه به أجابه ولباه .
فإذا قيل للمحب ما اسمك يقول سل المحبوب فما سماني به فهو اسمي ل اسم لي أنا المجهول الذي لا يعرف والنكرة التي لا تتعرف المحب الله لا اسم له يدل على ذاته .
وإنما المألوه الذي هو محبوبه نظر إلى ما له فيه من أثر فسماه بآثاره فقبل الحق ما سماه به .
فقال المألوه يا الله قال الله له لبيك
قال المربوب يا رب قال له الرب لبيك
قال المخلوق له يا خالق قال الخالق لبيك
قال المرزوق يا رزاق قال الرزاق لبيك
قال الضعيف يا قوي قال القوي أجبتك.أه""
والنبي والرسول مختصان بالعباد ، لأن الله تعالى لم يتسم بهما . ولا يجوز إطلاق هذين الاسمين عليه "سبحانه" ، بخلاف الاسم ( الولي ) ، فإنه اسم من أسماء الله .
كم قال : " الله ولى الذين آمنوا " . وقال : " هو الولي الحميد " .
وهذ الاسم ، أي ( الولي ) ، باق وجار ، أي ، مطلق على عباد الله تعالى دنيى وآخرة .
وفي قوله : ( وهذا الحديث قصم ظهور أولياء الله ) وتعليله بانقطاع ذوق العبودية الكاملة ، سر يطلع عليه من أمعن النظر فيه ، وتذكر قوله ،
عليه السلام : ( أنا والساعة كهاتين ) . وتحقق بأسرار القيامة وظهور الحق بفناء الخلق وعبوديتهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلا أن الله لطيف بعباده ، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها ، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام ، وأبقى لهم الوراثة في التشريع .
فقال : " العلماء ورثة الأنبياء " . وما ثمة ميراث في ذلك إل فيما اجتهدوا فيه من الأحكام ، فشرعوه . )
تقدير الكلام : وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة ، إلا النبوة العامة التي هي الإنباء عن المعارف والحقائق الإلهية من غير تشريع ، فإنها غير منقطعة .
أبقاه الله لعباده لطفا عليهم وعناية ورحمة في حقهم . وأبقى لهم من التشريع أيضا نصيبا ، لكن بحسب اجتهادهم ، لا آخذا من الله بلا واسطة أو بواسطة الملك ، فإنه مخصوص بالأنبياء ، لأن المسائل الاجتهادية والأحكام الظنية نوع من التشريع ، حاصل من المجتهدين فيه ، وجعلهم من الورثة للأنبياء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( العلماء ورثة الأنبياء ) . وليس لهم ميراث من أموال الدنيا ، كما قال : "نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث " فميراثهم الأموال الأخراوية.
فالأولياء العارفون وارثون للأنبياء في المعارف والحقائق ، والعلماء المجتهدون وارثون للأنبياء في التشريع بالاجتهاد .
فالأولياء ورثة بواطنهم ، والعلماء ورثة ظواهرهم ، والأولياء العلماء ورثة مقام جمعهم .
ول تجتمع هذه النبوة العامة والتشريع الموروث في شخص واحد ، لذلك ما اجتهد ولى من الأولياء في حكم من أحكام الشرع ، حتى خاتم الأولياء أيضا يتبع الشريعة في الظاهر .
وجعله للمذاهب مذهبا واحدا ليس تشريعا منه ، لأنه يحكم على ما يشاهد في نفس الأمر متابعا لما حكم به خاتم الأنبياء .
والأئمة الأربعة أولياء بالولاية العامة الشاملة حتى للمؤمنين ، لا الخاصة فلا يرد .
قال رضي الله عنه : ( فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع ، فمن حيث هو ولى وعارف ) وذلك كقوله ، صلى الله عليه وسلم : " لو دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على الله " .
وكنقل الحديث القدسي : ( لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل . . . ) - إلى آخره ، والأحاديث المبينة للمقامات والمظهرة لأحوال الآخرة والدرجات ، وغير ذلك مما يتعلق بكشف الحقائق والأسرار الإلهية ، فهو من مقام عرفانه وولايته ، لا من مقام نبوته ورسالته .
قال رضي الله عنه : ( ولهذا مقامه من حيث هو عالم وولى أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع . ) أي ، ولأجل أن الولاية غير منقطعة والنبوة منقطعة ، صار مقام النبي ، من حديث إنه عالم بالله وأسمائه وصفاته ، وولى فان عبوديته في ربوبيته ، أتم وأكمل من مقام نبوته ورسالته ، لأن الولاية جهة حقانية ، فهي أبدية ، والنبوة جهة خلقية ، فهي منقطعة غير أبدية .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإذا سمعت أحدا من أهل الله يقول ، أو ينقل إليك عنه أنه قال : الولاية أعلى من النبوة . فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه . )
من أن ولايته أعلى من نبوته ، لا أن ولاية الولي أعلى من نبوة النبي .
وذلك كما يقول فيمن يكون عالما تاجرا خياطا : هو من حيث إنه عالم أعلى مرتبة من حيث إنه تاجر أو خياط . أو من حيث إنه تاجر أعلى من حيث إنه خياط .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( أو يقول إن الولي فوق النبي والرسول ، فإنه يعنى بذلك في شخص واحد . وهو أن الرسول من حيث إنه ولى أتم منه من حيث هو نبي ورسول . لا أن الولي التابع له ) أي ، للرسول .
( أعلى منه ، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ، إذ لو أدركه ، لم يكن تابعا ، فافهم . ) ظاهر مما مر .
قوله : ( إذ لو أدركه ) أي ، بالذوق والوجدان ، كما يدرك المتبوع ذلك . ( لم يكن تابعا ) لأنه مثله وفي مرتبته حينئذ .
( فمرجع الرسول والنبي المشرع إلى الولاية والعلم . ) أي ، إذا علمت أن الرسول والنبي لا يشرع لأمته الأحكام ولا ينبئ عن الحقائق إلا من حيث إنه ولى وعالم بالله ، فمرجعهما إلى الولاية والعلم بالله . فليس المراد بالعلم العلم الكسبي بل اليقيني الذي هو من الشهود الذاتي وما ينتجه .
قال رضي الله عنه : ( ألا ترى أن الله قد أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره ، فقال له آمر : "قل رب زدني علما " . )
أي ، ألا ترى أن الله تعالى أمره بطلب زيادة العلم بقوله : " وقل رب زدني علما ". وما أمر بطلب زيادة النبوة والرسالة ، لأن تعلقهما بالنشأة الدنياوية ، والولاية متعلقة بالنشأة الأخراوية . فأمره بالطلب ، لأنه كلما يتوجه إلى الله ، يحصل له الترقي في مراتب الولاية ، ويطلع بحسب كل مرتبة على علوم تختص بها .
فالأمر بطلب العلم أمر بالترقي في مراتب الولاية ، إذ الأمر بتحصيل اللازم للشئ أمر بتحصيل ملزومه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وذلك أنك تعلم أن الشرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهى عن أعمال مخصوصة ، ومحلها هذه الدار ، فهي منقطعة ، والولاية ليست كذلك ، إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي ، كم انقطعت الرسالة من حيث هي ، وإذا انقطعت الولاية من حيث هي ، لم يبق لها اسم ، و الولي اسم باق لله . ) .
كم قال : " إن الله هو الولي الحميد " .
وقال عن لسان يوسف ، عليه السلام : "أنت ولى في الدنيا والآخرة " .
( فهو لعبيده تخلقا تحققا وتعلقا . ) أي ، فالاسم ( الولي )للعباد يطلق بحسب تخلقهم بالأخلاق الإلهية . وهو إشارة إلى الفناء في الأفعال والصفات ، وتحققهم بالذات الإلهية المسماة ب‍ (الولي).
وهو إشارة إلى الفناء في الذات ، لأن ذواتهم إنما يتحقق بهذا الاسم إذ فنيت في الحق وتعلق أعيانهم الثابتة أزلا بالاتصاف بصفة الولاية وطلبهم إياها من الله باستعدادتهم ، أو تعلقهم بالبقاء بعد الفناء .
فالولي اسم لمن فنى عن صفاته وأخلاقه وتخلق بأخلاق الله ولمن فنيت ذاته فيه وتسترت في العين الأحدية وتحققت بها ، ولمن رجع إلى البقاء وتوجه ثانيا وتعلق بعالم الخلق والفناء .
قال رضي الله عنه : ( فقوله للعزير : " لئن لم تنته " عن السؤال عن ماهية القدر " لأمحون اسمك من ديوان النبوة " ) .
فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي ، ويزول عنك اسم "النبي " و " الرسول " ، وتبقى له ولايته . ( فقوله ) مبتداء ، وخبره أحد الأمرين المذكورين من الوعيد والوعد . أي ، هذ القول وعيد عند قوم ووعد عند آخرين . حذفه لدلالة الكلام الآتي عليه .
وقوله : ( وتبقى له ولايته ) أي ، وتبقى لله ولايته ، لأن " الولي " اسم لله بالأصالة ، واسم العبد بالتبعية .
ويجوز أن يكون ضمير ( له ) عائد إلى النبي الذي هو ( العزير ) . أي ، ويزول عنك اسم النبي وتبقى لعزير ولايته ، إذ لا يلزم من انتفاء النبوة والرسالة انتفاء الولاية .
وإنم أتى بضمير الغائب بعد الخطاب ، لأنه كان على سبيل الحكاية عن الله ، وبعد تمامه قال : ( وتبقى لعزير ولايته ) . والباقي ظاهر مم مر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلا أنه لما دلت قرينة الحال أن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد ، علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدار ، إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب . )
قوله : ( إلا ) بمعنى ( غير ) . وضمير ( أنه ) للشأن .
وجواب ( لما ) ( علم ) . أي ، غير أنه لما دلت قرينة الحال ، وهي حال السؤال أن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد - لأن الخطاب وقع في صورة العتاب - علم من جعل حالة السؤال مقترنة مع الخطاب أن هذا الكلام وعيد .
وذلك لأن الولاية أعم من النبوة ، وهي أعم من الرسالة ، فالنبوة هي الولاية مع خصوصية أخرى ، والرسالة هي النبوة مع خصوصية أخرى زائدة عليها .
وهاتان الخصوصيتان متعلقتان بدار الدنيا ، ولا يعطيهما إلا الاسم ( الظاهر ) ، كما لا تعطى الولاية إل الاسم ( الباطن ) .
فإذ انقطعتا ، تزول فضيلتهما وشرفهما اللذان أعطاهم الاسم ( الظاهر ) ويبقى مجرد الولاية ، فيكون هذا الكلام وعيدا من هذه الحيثية .
وقوله رضي الله عنه : ( على بعض ما تحوي ) متعلق بمحذوف ، هو صفة ( رتبة ) . أي ، إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة مندرجة في الولاية ، مشتملة على بعض ما يحتوي عليها الولاية من المراتب . وفيه إيماء إلى أن رتبة النبوة والرسالة من جملة خصوصيات رتب الولاية باطنا ، وإن كان ظهورهما متوقفا إلى الاسم ( الظاهر ) كما مر .
ويظهر حقية هذا المعنى عند من يعلم أن كل ما في الخاص بالفعل من الخصوصية ، فهو في العام بالقوة ، فالعام مشتمل عليه باطنا ، وإن لم تكن الخصوصية فيه ظاهر .
( فيعلم أنه أعلى من الولي الذي لا نبوة تشريع عنده ولا رسالة . ) أي ، إذا كانت النبوة والرسالة خصوصيتين زائدتين على الولاية ، فيعلم أن النبي أعلى من الولي الذي ليس عنده نبوة تشريع ، ولا عنده رسالة . وكذلك الرسول أعلى من النبي لما فيه خصوصية أخرى زائدة على النبوة التشريعية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضا مرتبة النبوة ، تثبت عنده أن هذا وعد ل وعيد ، وأن سؤاله ، عليه السلام ، مقبول ، إذ النبي هو الولي الخاص .)
الحالة التي تقتضيها مرتبة النبوة هي أن النبي لكونه وليا واصلا عارفا بالحقائق الإلهية مشاهد لظهور الحق في جميع مراتبه ، لا يمكن أن يسأل عنه ما لم يمكن حصوله . فإذا سأل ، لا بد أن يجاب دعوته ويقبل سؤاله .
واعلم أن قبول السؤال ليس معناه أن الله تعالى أعطى ما سأل من الاطلاع على سر القدر ، لأنه قال أولا ، فسأل عن القدر الذي لا يدرك إلا بالكشف للأشياء حال ثبوتها في عدمها ، فما أعطى ذلك . بل معناه أنه أراه كيفية الإحياء عيان .
والوعد محمول على الآخرة ليكشف فيها عن سر القدر بإشهاد الأعيان أنفسها في حال عدمه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ويعرف بقرينة الحال أن النبي من حيث ماله في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أن الله يكرهه منه ، أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال . )
أي ، يعرف الذي اقترنت عنده حالة أخرى أن النبي من حيث إنه ولى عارف بحقه وأسمائه وصفاته ، محال أن يقدم على طلب ما يكرهه الحق ، أو يقدم على طلب ما يعلم أن حصوله محال .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده وتقررت ، أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله : "لأمحون اسمك من ديوان النبوة " فخرج الوعد فصار ) أي ، هذا الخطاب الإلهي .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( خبرا يدل على علو مرتبة باقية . وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل في الدار الآخرة التي ليست بمحل لشرع يكون عليه ) أي ، على ذلك الشرع .
( أحد من خلق الله في جنة ولا نار بعد الدخول فيهما) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( تلك المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل إنما هي الولاية لا غير ، فإن النبوة التشريعية والرسالة منقطعة في دار الدنيا ، وعند خرابها يرتفع التكليف ، فلا يبقى لهم إلا الولاية .
( وإنما قيدناه بالدخول في الدارين : الجنة والنار ، لما شرع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين . فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثواب العملي في أصحاب الجنة . فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن الناس ، بعث فيهم نبي من أفضلهم وتمثل لهم نار يأتي بها هذ النبي المبعوث في ذلك اليوم . فيقول لهم : أنا رسول الله إليكم . فيقع عندهم التصديق به ، ويقع التكذيب عند بعضهم .
ويقول لهم : اقتحموا هذه النار بأنفسكم ، فمن أطاعني نجى ودخل الجنة ، ومن عصاني وخالف أمري ، هلك وكان من أهل النار . فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها ، سعد ونال الثواب العملي ، ووجد تلك النار بردا وسلاما . ومن عصاه ، استحق العقوبة فدخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ، ليقوم العدل من الله في عباده . )
أي ، إنما قيدنا بالدخول في الجنة والنار ، لأن يوم الفصل قبل الدخول في المقامين تكلف بعض الناس فيه كأصحاب الفترات . وهم أهل زمان ما بعث فيهم نبي مشرع لهم ، واندرس شريعة من كان قبلهم ، وكالأطفال الذين توفوا قبل البلوغ الذي هو أوان التكليف وشرطه ، وكالمجانين لعروض مزاج ينافي وجود التكليف معه في الدنيا .
وإنم كلفوا لاقتضاء حكم العدل ذلك ، فإن الثواب أو العقاب يترتب كل منهما على أسباب توصل إليه .
والنار التي يأتي نبيهم بها ، هو النور الإلهي الذي تناسبه النفوس النورانية أزلا ، فكانت نوريتهم مختفية فيهم لعوارض النشأة الدنيوية ، فإذا زالت ، ظهرت النورية ، فمالت إلى جنسها ، فدخلوا فيها فنجوا .
والنفوس التي كانت ظلمانية ، تنفروا منها ، فعصوا أمر نبيهم ، فحق عليهم القول .
وقوله : ( فاقتحموا هذه النار بأنفسكم ) . أي ،أدخلوا أنفسكم في هذه النار . ف‍ ( الباء ) للتعدية.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك قوله : " يوم يكشف عن ساق " . أي ، عن أمر عظيم من أمور الآخرة . " ويدعون إلى السجود " . فهذا تكليف وتشريع فيهم . فمنهم من يستطيع ، ومنهم من لا يستطيع . وهم الذين قال الله تعالى فيهم : " ويدعون إلى السجود فل يستطيعون " كما لا يستطيع في الدنيا امتثال أمر الله بعض العباد ، كأبي جهل وغيره . فهذا قدر ما يبقى من الشرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول النار والجنة ، فلهذا قيدناه . والحمد لله رب العالمين . )
وإنما يدعون إلى السجود يوم يكشف عن ساق بالأمر الإلهي ، وإلى الانقياد لله مع عدم إمكان صدوره ممن لم يسجده في الدنيا ، ولم ينقد لأمر رب السماوات العلى ، إلزام لهم وحجة عليهم
وتذكر لهم أنهم ما قدروا أن يسجدوا في الدنيا ، كما لم يستطيعوا أن يسجدوا في العقبى ، فلا يستحقون الجنة .
ومن يسجد في الدنيا وانقاد ، يسجد في الآخرة وأجاد ، فاستحق الجنة وأخلص من النار نجى من عذاب ( المنتقم ) و ( القهار ) .
اللهم اجعلنا من الفائزين بجنتك والناجين من عذابك .
والحمد لله وحده ، والصلاة على خير خلقه بعده .
.

WFlumSebEeE

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!