موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مطلع خصوص الكلم
في معاني فصوص الحكم

تأليف: الشيخ داود القيصري

فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية


04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

(القدوس) معناه المقدس. وهو مشتق من (التقديس). ك (السبوح) من (التسبيح).
وهو (التطهير) لغة. واصطلاحا تقديس الحق عن كل مالا يليق بجنابه، من الإمكان والاحتياج والنقائص الكونية مطلقا، وعن جميع ما يعد
كمالا بالنسبة إلى غيره من الموجودات، مجردة كانت أو غير مجردة.
لأنه تعالى وكمالاته الذاتية أعلى من كل كمال وأجل من أن يدركه عقل أوفهم أو خيال، إذ الكمالات المنسوبة إلى غيره متنزلة عن مقامها الأصلي، مقيدة خارجة عنالإطلاق الحقيقي، متفرعة عنه.
وهو من الأسماء الحسنى، وأخص من (السبوح) كيفية وكمية، أي، أشدتنزيها منه وأكثر، لذلك يؤخر عنه في قولهم: (سبوح قدوس) وذلك لتنزهه منحيث ذاته من التنزيه والتشبيه.
كقول القائل: جل الحق أن ينزه أو يشبه.
فهو باعتبار نوع من التنزيه غير داخل في القسم الأول، وباعتبار آخر أشد منه كالفناء والفناء من الفناء.
ويمكن أن يقال، (التسبيح) تنزيه بحسب مقام الجمع فقط،
و (التقديس) بحسب مقام الجمع والتفصيل ليكون أكثر كمية، ولهذا قيل: إن تنزيه نوح، عليه السلام، تنزيه عقلي وتنزيه إدريس، عليه السلام، تنزيه عقلي ونفسي.
ولما كانت هذه الحكمة مناسبة للحكمة المتقدمة معنى ومرتبة، جعلها يليها وخصصها بإدريس، عليه السلام، لأجل تطهير نفسه، عليه السلام، بالرياضة الشاقة وتقديسه عن الصفات الحيوانية، حتى غلبت روحانيته على حيوانيته، فصار كثير الانسلاخ عن البدن، وصاحب المعراج، وخالط الأرواح والملائكة المجردة.
وقيل: لم ينم ستة عشر عاما ولم يأكل حتى بقى عقلا مجردا.

قال رضي الله عنه : (العلو نسبتان: علو مكان وعلو مكانة. فعلو المكان: (ورفعناه مكانا عليا)).
لما جاء في بيان مرتبته: (ورفعناه مكانا عليا) وكان نتيجة التقديس العلوعن كل شئ وبه يتميز عن التسبيح، خص رضي الله عنه الفص بتحقيقه وشرع في بيان العلو، وقسمه بعلو المكان وعلو المكانة، أي، المرتبة. وبإزائه يكون السفل منقسما بالسفل المكاني كالمركز، والمكانة كمرتبة المشركين الذين هم أسفل السافلين.
ولما كان العلو نسبة من النسب ومنقسما بقسمين، قال: (العلو نسبتان). كأنه قال: العلو علوان. أو يكون تقديره العلو له نسبتان: علو مكان وعلو مكانة.

قال رضي الله عنه : (وأعلى الأمكنة المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك وهو فلك الشمس، وفيه مقام روحانية إدريس، عليه السلام).
واعلم، أن أعلى الأمكنة جهة هو العرش المحدد للجهات.
وإنما جعل فلك الشمس أعلى الأمكنة باعتبار أنه قلب الأفلاك ووسطه وعليه مدار عالم الأفلاك، لا بمعنى أنه مركز عليه دوران الأفلاك، بل كما يقال على القلب مدار البدن، أي، منه يصل الفيض إلى جميع البدن. أي، فمن روحانيته يصل الفيض إلى الأفلاك جميعا، كما أن من كوكبه تتنور الأفلاك جميعا.
وبه يرتبط الكواكب ارتباط الولاة بالسلطان.
وإن كان لكل منها روحانية خاصة، يستفيض من الجناب الإلهي الفيض الخاص به، كماأن لكل نفس من النفوس فيضا خاصا من جهة عينه التي لا واسطة بينها وبينالحق، وفيضا عاما بواسطة العقل الأول والنفس الكلية وباقي روحانيات الأفلاك السبعة من المدبرات.
فأثبت في عين العلو المكاني علو المكانة، فكأنه قال: وأعلى الأمكنة بعلو المكانة المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك.
لذلك أثبت العلو المكاني للعرش بقوله: (فعلو المكان) ك (الرحمن على العرش استوى). وهو أعلى الأماكن. وروحانية إدريس في فلك الشمس.
كما أشار إليه قوله: (ورفعناه مكانا عليا)، وحديث المعراج عينه.
(وتحته سبعة أفلاك وفوقه سبعة أفلاك وهو) أي، فلك الشمس.
(الخامس عشر. فالذي فوقه فلك الأحمر) أي، المريخ. (وفلك المشترى، وفلك الكيوان) أي، زحل.
(وفلك المنازل) أي، فلك الثوابت.
(والفلك الأطلس) صاحب الحركة اليومية. وفي بعض النسخ: (والفلك الأطلس فلك البروج).
فهو عطف بيان للفلك الأطلس.
وإنما سماه (فلك البروج)، لأن البروج يتقدر فيه بالكواكب الثابتة في فلك المنازل المسمى عند أصحاب الهيئة بفلك البروج .
قال رضي الله عنه : (وفلك الكرسي وفلك العرش). وجعل هذين الفلكين أيضا، في فتوحاته، في الباب الخامس والسبعين ومائتان، فوق الأطلس وذكر فيه: (إن الأطلس وهو عرش التكوين، أي، عنه ظهر الكون والفساد بواسطة الطبائع الأربعة.
ومستوى الرحمن هو العرش الذي ما فوقه جسم، ومستوى الرحيم هو الكرسي الكريم.
والحكماء أيضا ما جزموا أن فوق التسعة ليس فلك آخر، بل جزموا على أنه لا يمكن أن يكون أقل منه) (والذي دونه فلك الزهرة وفلك الكاتب) أي، عطارد.
(وفلك القمر وكرة الأثير وكرة الهواء وكرة الماء وكرة التراب) وإنما سمى العناصر أكرا، وإن كان سماها أفلاكا من قبل، بناء على المصطلح المشهور.
قال رضي الله عنه : (فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان) أي فمن حيث إن فلك الشمس في وسط الأفلاك هو رفيع المكان بالنسبة إلى ما تحته، ورفيع المكانة من حيث قطبيته وكونه وسطا عليه مدار الأفلاك، كما أن مدار العالم على وجود الإنسان الكامل.
ولا يريد به القطب الاصطلاحي لأهل الهيئة، وهو النقطة التي في كل من طرفي المحور.
ويجوز أن يكون الضمير في قوله: (هو رفيع المكان) عائدا إلى (إدريس)، عليه السلام، والضمير الأول (الفلك).
أي، فمن حيث إن فلك الشمس هو قطب الأفلاك، فإدريس رفيع المكان.
لذلك قال: (وأما علو المكانة فهو لنا) أي، له المكان العلى بالنص الإلهي.
والرفعة والمكانة لنا، لأنه ما وصل إلى الفناء في الحق والبقاء به، بل ارتاض حتى تبدلت هيئات بشريته وأوصاف إنسانيته بالصفات الإلهية والهيئات الروحانية.
وما حصل له الفناء في الذات الموجب للاتصاف بالعلو الذاتي والمكانة المطلقة، لذلك صار مقام روحانية فلك الشمس.
وذلك المقام لن قال رضي الله عنه : (أعني، المحمديين. قال تعالى: (وأنتم الأعلون)) مخاطبا لهذه الأمة.
كما قال: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس.)
((والله معكم) في هذا العلو، وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة). أي،الحق من حيث إطلاقه، وإن كان له العلو الذاتي الذي هو أصل أنواع العلو،مشارك معنى في العلو المرتبي أو يحكم أنه معنى يكون له العلو أيضا، لكنه يتعالىعن العلو المكاني، فإنه من خواص الأجسام. فعلوه علو المكانة.
قال رضي الله عنه : (ولما خافت نفوس العمال منا، أتبع المعية بقوله: (ولن يتركم أعمالكم.)
فالعمل يطلب المكان، والعلم يطلب المكانة، فجمع لنا بين الرفعتين: علو المكان بالعمل، وعلو المكانة بالعلم).
أي، لما علم الزهاد والعباد الذين لا علم لهم بالحقائق ولا معرفة أن علو المكانة إنما هو بحسب العلم والكشف الحقيقي وخافت نفوسهم وحسبوا أن لا نصيب لهم من العلو، ذكر الحق في كلامه بعد .
قال رضي الله عنه : (والله معكم ولن يتركم). أي، لا ينقصكم الحق أعمالكم، فيكون لكم علو المكان بحسب أعمالكم. وإنما كان علو المكانة للعلم وعلو المكان للعمل، لأن المكانة للروح، كما أن المكان للجسم، والعلم روح العمل والعمل جسده.
فاقتضى كل منهما بحسب المناسبة ما يشبهه ويماثله: فعلو المكانة للعالم، وعلو المكان للعامل، ومن جمع بينهما فله العلوان.
قال رضي الله عنه : (ثم قال تنزيها للاشتراك بالمعية: (سبح اسم ربك الأعلى). عن هذا الاشتراك المعنوي).
ولما قال: (والله معكم). وأثبت له العلو أيضا، كما أثبتهلنا، وهو له لذاته ولنا بالتبعية، فنزه عن هذا الاشتراك المعنوي بقوله: (سبح اسم ربك الأعلى) الذي له العلو الذاتي، وليس ذلك لأحد غيره.
(ومن أعجب الأمور) كون الإنسان أعلى الموجودات، أعني الإنسان الكامل،
وما نسب إليه العلو إلا بالتبعية، إما إلى المكان وإما إلى المكانة، وهي المنزلة) كون الإنسان أعلى الموجودات، إنما هو باعتبار مرتبته الجامعة للمراتب كلها. أي، ومن أعجب الأمور أنه أعلى مرتبة من جميع الموجودات، وليس له العلو بذاته، بلباعتبار المكان الذي هو دونه، أو باعتبار المكانة وهي المرتبة.
قال رضي الله عنه : (فما كان علوه لذاته، فهو العلى بعلو المكان والمكانة، فالعلو لهما). أي،فليس علو الإنسان الكامل من كونه أعلى الموجودات علوا ذاتيا، فهو على بعلوالمكان والمكانة لا لذاته، فالعلو للمكان والمكانة لا له. وعلو هما أيضا إنما هو منتجليه لهما باسمه (العلى). فالعلو الذاتي لا يكون إلا لله.
ويجوز أن يكون (ما) بمعنى الذي، ويكون المراد تشبيه الحق بما نزهه عنه،وهو كونه عليا بعلو المكان والمكانة.
ويعضده قوله: (فعلو المكان كـ (الرحمن على العرش استوى)) إلى آخره.
ومعناه: فالذي كان عليا لذاته في مرتبة أحديته ومقام ألوهيته، هو أيضا على بعلو المكان والمكانة في مرتبة أخرى، كغيره مما ليس له العلو الذاتي.
وهذا من جملة ظهور الحق بالصفات الكونية.
كقوله: (مرضت فلم تعدني).، (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا). فالعلو للمكان والمكانة وللحق بتبعيتهما، كما جعل نفسه وكيلا للعباد بقوله: (ألا تتخذوا من دوني وكيلا). وقوله: (رب المشرق والمغرب، لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا).
مع أنه مالك الملك كله. وذلك لأنه تجلى لهما باسمه (العلى)، فجعل لهما العلو، ثم جعل لنفسه العلو بتبعيتهما في بعض مراتب التنزلات.
ومن علم أن ليس في الوجود إلا هو، علم أن العلى بالذات وبالتبعية أيضا لا يكون إلا هو، وعلم أن كل ما هوعلى بالتبعية، هو أيضا على بالعلو الذاتي، كما يقرره بقوله: (فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو.)
(فعلو المكان ك (الرحمن على العرش استوى). وهو أعلى الأماكن. وعلو المكانة: (كل شئ هالك إلا وجهه).
و (إليه يرجع الأمر كله)(أإله مع الله.)
أي، فما يقتضى نسبة العلو المكاني إليه، هو قوله: (الرحمن على العرش استوى.) فإن العرش أعلى الأماكن، وهو مستو عليه بحسب ظهوره فيه، فله العلو المكاني.
ولا تناقض بين قوله: (وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة) وبين إثباته له. فإن ذلك التعالي بحسب الذات، لا بحسب المظاهر والأسماء، والإثبات بحسبهما.
وكذا ما يقتضى نسبة علو المكانة إليه هو: (كل شئ هالك...). إذ البقاء مع هلاك الأشياء. وكونه مرجع الأمور والانفراد بالإلهية منزلة عظيمة ومكانة رفيعة لا يمكن أن يكون فوقها مرتبة.
(ولما قال تعالى: (ورفعناه مكانا عليا) فجعل (عليا) نعتا للمكان). جواب (لما) محذوف اكتفاء بجواب (لما) الثاني.
أي، لما قال كذا، علمنا أن علو المكان ليس لكونه مكانا، إذ لو كان كذلك لكان لكل مكان، بل اختصاص من الله لذلك المكان، وذلك الاختصاص هو المكانة.
وقال أيضا: ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). فهذا علو المكانة.
وقال في الملائكة: (أستكبرت أم كنت من العالمين). فجعل العلو للملائكة. فلو كان لكونهم ملائكة، لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو، فلما لم يعم مع اشتراكهم في حد الملائكة، عرفنا أن هذا علو المكانة عند الله، وكذلك الخلفاء من الناس لو كان علو هم بالخلافة). أي، لو كان العلو الحاصل لهم بالخلافة. (علوا ذاتيا) أي، للطبيعة الإنسانية.
قال رضي الله عنه : (لكان لكل إنسان. فلما لم يعم، عرفنا أن ذلك العلو للمكانة) أي، أثبت علو المكانة للإنسان الكامل، الذي هو الخليفة الحقيقية للحق، وللخلفاء الذين يخلقونه في كل زمان إلى يوم القيامة، وأثبته للملائكة.
فلو كان لكونهم إنسانا، لكان ذلك لكل إنسان، ولو كان لكونهم ملائكة، لكان ذلك العلو لكل ملك، وليس كذلك، لخروج إبليس منها مع كونه ملكا بجعل الجنة من الملائكة في قوله: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا). بعد قوله:
(فاستفتهم، ألربك البنات ولهم البنون؟ أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون؟)
ولا شك أن إبليس من الجنة. فلما لم يكن كذلك، علمنا أنه اختصاص من عند الله .
كما قال: (يختص برحمته من يشاء).
والأملاك العالون الملائكة التي وقعت في الصف الأول من الوجود. ومنهم المهيمة الذين لا شعور لهم بأن آدم وجد أو لم يوجد، إذ لا شعور لهم بذواتهم فضلا عن غيرهم.
والعقل الأول والنفس الكلية منهم، إلا أن الله تعالى لم يجعلهما مهيمين، لتدوين الوجود بهم كما نبه الشيخ رضي الله عنه في فتوحاته.
فمعنى الآية: أستكبرت أم صرت من العالين، المهيمين الذين لا يسجدون لغير الله ولا يشعرون إلا بجمال الله.
وهذا لا يناقض قوله: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين).
لأن الأمرإنما يتعلق بالعقلاء العالمين، فدخل في الأمر العقل الأول ومن دونه، في الإخبار منهم.
وأيضا إذا سجد فرد واحد من حقيقة كلية، فقد حصل السجود من تلك الحقيقة أيضا، فكأن جميع أفرادها سجدو
قال رضي الله عنه : (ومن أسمائه الحسنى، (العلى)).
واعلم، أنه اسم من أسماء الذات، وهو بهذا الاعتبار لا يستدعى من يكون عليا عليه، وأما باعتبار أن العلو نسبةإضافية يستدعى السفل، فليستدعي ذلك.
لذلك قال: (على من وما ثم إلاهو) أي، علوه على من، وما ثم في الوجود شئ غيره. (فهو العلي لذاته) أي،فهو العلي لذاته لا بالنسبة إلى غيره، فلا يستدعي أن يكون عليا عليه كما مر.
قال رضي الله عنه : (وعن ماذا؟ وما هو إلا هو فعلوه لنفسه).
أي، عمن استفاد العلو حتى لا يكون له لذاته، والحال أن ما هو. أي، ليس ذلك الشئ أيضا إلا هو، فليس شئ آخر غيره استفاده منه العلو، فعلوه لذاته.
أو يكون (العلى) متضمنا لمعنى الارتفاع. يقال: علا عليه. أي، غلب عليه. و: علا عنه. أي، ارتفع عنه.
معناه: أن المرتفع عماذا، أو عمن؟ وليس في الوجود غيره.
قال رضي الله عنه : (وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها،وليست إلا هو، فهو العلى لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ماشمت رائحة من الوجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات).
أي،الحق من حيث الوجود المضاف إلى الموجودات هو عين الموجودات الخارجية.
وذلك لأن الأعيان مرايا لوجود الحق، وما يظهر في المرأة إلا عين الرائي وصورته،فالموجودات المسمى بالمحدثات صور تفاصيل الحق. فهي العلية لذاتها، لأن
الحق على لذاته لا بالإضافة، فالموجودات أيضا كذلك، لأنها ليست إلا اثر من الحق.
وإنما قال: (لأن الأعيان... ما شمت رائحة الوجود).
لأن الأعيان صور علمية موجودة في العلم معدومة في العين. ولها اعتباران: اعتبار أنها مرايا لوجود الحق وأسمائه وصفاته، واعتبار أن وجود الحق يصير مرآة لها.
فالاعتبار الأول، لا يظهر في الخارج إلا الوجود المتعين بحسب تلك المرايا المتعددة بتعددها، كما إذا قابلت وجهك بشئ فيه مرايا متعددة، تظهر صورتك في كل منها فتعددت.
فعلى الأول، ليس شئ في الخارج إلا الوجود، والأعيان على حالها في العلم معدومة في العين، ما شمت رائحة الوجود الخارجي. هذا لسان حال الموحد الذي غلبه الحق.
وبالاعتبار الثاني، ليس في الوجود إلا الأعيان ووجود الحق الذي هو مرآة لها في الغيب، ما يتجلى إلا من وراء تتق العزة وسرادقات الجمال والجلال.
وهذا لسان من غلبه الخلق. وأما المحقق فلا يزال يشاهد المرآتين:
مرآة الأعيان، ومرآة الحق
والصور التي فيهما معا من غير انفكاك وامتياز.
والشيخ رضي الله عنه لكونه بحرا مواجا، يخرج درر الحقائق ولآلئ المعاني على لسان كل طائفة من الطوائف الثلاث في كل حين ويعطى حقها.
وقوله: (مع تعداد الصور) متعلق ب (ما شمت) أي، الأعيان ما شمت رائحة من الوجود، مع أن آثارها، وهي صورها المتكثرة الجاعلة للوجود الواحد، موجودات متعددة بحسب انعكاس صورها في مرآة الوجود، وقبول (النفس الرحماني) إياها حاصلة في الموجودات العينية.
(والعين واحدة من المجموع في المجموع) أي، والحال أن الحقيقة التي تتبدل هذه الصور عليها، واحدة ممتازة من جميع الموجودات بحسب ذاتها من حيث إطلاقها وتقييد غيرها، وظاهرة بذاتها في صور جميع الموجودات من حيث أسمائها وصفاتها.
أو، والحال أن العين القابلة للصور المتعددة واحدة ثابتة في صورة كل واحد من المجموع.
و (من) للبيان، وعلى الأول للتعدية.
(فوجود الكثرة في الأسماء هي النسب، وهي أمور عدمية).
أي، إذا كانت الذات واحدة، فالكثرة في أسمائها وصفاتها. وتلك الأسماء ذات مع كل واحدة من الصفات.
فالكثرة في الصفات والصفات نسب معقولة ليست أمورا عينية، فهي أمور عدمية بالنسبة إلى الخارج، إذ لا أعيان لها فيه مجردة عن المظاهر، وإن كانت وجودية في العقل وفي المظاهر ضمنا. أو نقول، إن الأسماء لكونها ليستحقائق موجودة متميزة بوجودها عن وجود الحق، بل وجودها عين وجود الحق، كانت نسبا واقعة على الوجود الحق المطلق، حاصلة بينه وبين الأكوان التي هي الموجودات المقيدة.
أما كون أسماء الأفعال نسبا، فظاهر، لأن (الباري) و (الخالق) و (المبدع) و (الرزاق) وأمثالها بالنسبة إلى المخلوق والمبدع والمرزوق.
وأما أسماء الصفات، ف (العليم) و (الرحيم) و (السميع) و (البصير)، فإنها أيضا بالنسبة إلى المعلوم والمرحوم والمسموع والمبصر.
وأما أسماء الذات، كالاسم (الله) و (الرب) و (القيوم)، فإنها أيضا من وجه
نسب وإن كانت من وجه آخر غيرها فإنها يقتضى المألوه والمربوب وما يقوم به من الموجودات المقيدة، إذ معنى (القيوم) القائم بنفسه المقوم لغيره.
و (الحق) أيضا اسم فاعل في صيغة المصدر كالعدل. ومعناه: الثابت بنفسه والمثبت لغيره.
(وليس إلا العين الذي هو الذات). أي، وليس وجود الكثرة الأسمائية
إلا عين الذات الإلهية الظاهرة بحسب شؤونها المختلفة بصور الأعيان الثابتة، وهي على حالها في العدم.
وفي بعض النسخ: (وليست) أي (وليست الأسماء إلا عين العين الذي هو الذات الإلهية لكون الاسم عين المسمى.
(فهو العلى بنفسه لا بالإضافة فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة).
أي، فوجود الكثرة أيضا هو العلى لذاته، لأنه ليس غير وجود الحق سبحانه من حيثالحقيقة. ويجوز أن يعود إلى الحق.
أي، فالحق هو العلى لذاته، إذ ليس في الوجودغيره ليتعالى عليه وعنه.
فليس في العالم من هذه الحيثية، أي من حيث الوحدة، علو إضافة بل علوه لذاته، لأن ظاهره ظاهر الحق وباطنه باطن الحق، والمجموعراجع إلى العين الواحدة التي هي عين الحق، وإن كان باعتبار آخر، هو جهة الغيرية واعتبار الكثرة للعالم، علو إضافة.
وإليه أشار بقوله: (لكن الوجوه الوجودية متفاضلة، فعلو الإضافة موجودة في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة).
أي، وإن كان للعالم كله علو بالذات من حيث الأحدية، لكن يقع التفاضل في الوجوه الوجودية التي هي المظاهر، بالعلم بالله وعدمه، والأعمال الحسنة وعدمها، والاتصاف بالأحوال وعدمه. ولكل أيضا درجات، كما قال:
(والذين أوتوا العلم درجات). ولأصحاب الأعمال والأحوال أيضا كذلك مقامات ودرجات، كما لمقابليهم من الجهال وأصحاب الشرك والضلالدركات. فحصل العلو الإضافي بين الموجودات بحسبها في العين الواحدة التيهي عين الذات من الوجوه الكثيرة.
(لذلك نقول فيه: هو لا هو، أنت لا أنت) أي، لأجل ذلك الأمر الواحد
الظاهر بمظاهر مختلفة، نقول في كل مظهر: إنه هو عين الحق. فنحمله عليه حمل المواطاة بهو هو، وتسلبه عنه بقولنا: (لا هو) لتقيده وإطلاق الحق.
قال رضي الله عنه : (قال الخراز، رحمه الله، وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته، ينطقعن نفسه بـ (أن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها: وهو الأول والآخر والظاهر والباطن. فهو عين ما ظهر في حال بطونه، وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه. وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات).
أي، قال أبو سعيد الخراز، قدس الله روحه، وهو من أكابر الأولياء لذلك قال: (وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته).
أي، والحال أنه مظهر من مظاهره الكلية ولسان من ألسنة الحق. (ينطق عن نفسه) أي، يخبر عن نفسه المتصفة بالصفات الإلهية من حيث جامعيتها للأمور المتضادة، بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الضدين والنقيضين من وجه واحد، كما صرح به في الفتوحات.
فإنه (الأول) من حيث إنه (الآخر) وبالعكس، و (الظاهر) من حيث إنه (الباطن) وبالعكس، فاختص الجمع بينهما من وجه واحد بالحق، وغيره وإن كان يجمع بينهما، لكن من وجهينمختلفين. والعقل لا يثبت الأمور المختلفة لشئ واحد إلا من جهات مختلفة، فالجمع بينهما من جهة واحدة خارج عن طور العقل)
وقوله: (فهو عين ما ظهر... الخ) يحتمل أن يكون من تتمة القول، ويحتمل أن يكون أيضا كلامه وهو الأظهر. أي، فالحق عين ما ظهر في حال بطونه، وعين ما بطن في حال ظهوره، وظهوره عين بطونه وبطونه عين ظهوره.
وما في الوجود غيره ليراه ويكون ظاهرا بالنسبة إليه، بل الرائي أيضا عينه، وما ثم من يبطن عنه ليكون باطنا.
فهو ظاهر لنفسه بنفسه، كظهوره للعارفين، وباطن عن نفسه بنفسه، كبطونه واختفائه عن المحجوبين. وليس العارف
والمحجوب إلا مظهرين من مظاهره، فالحق هو المسمى باسم المحدثات أبى سعيد وغيره من الأسماء بحسب تنزلاته في منازل الأكوان.
قال رضي الله عنه : (فيقول: الباطن، لا إذاقال: الظاهر أنا، ويقول: الظاهر لا، إذا قال: الباطن أنا. وهذا في كل ضد.)
أي، إذا قال الاسم الظاهر: أنا مظهرا إنيته ومريدا لتحققه، ينفيه الاسمالباطن، فان الضد ينفى الضد. فإذا قال الباطن: أنا ظاهرا لحقيقته ومثبت
لحقيته، ينفيه الظاهر. وهكذا الأمر في كل من الضدين، فإنه يثبت مقتضى ذاته وينفى مقتضى ما يقابله. فإذا كان الحق ظاهرا من حيث إنه باطن، وباطنا منحيث إنه ظاهر، فقد جمع بينهما من وجه واحد.
قال رضي الله عنه : (والمتكلم واحد وهو عين السامع) أي، والحال أن المتكلم في هذين الإسمين واحد بحكم أحدية العين، وهو الحق، والسامع أيضا عينه لا غيره، كما(يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (وما حدثت به أنفسها).) بضم السين على أنه فاعل (حدثت). وهو إشارة إلى ما ثبت في الصحيح أن رسول الله، صلى اللهعليه وسلم، قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أوتعمل.)
قال رضي الله عنه : (فهي المحدثة السامعة حديثها العالمة بما حدثت به نفسها، والعين واحدة وإناختلفت الأحكام. ولا سبيل إلى جهل مثل هذا، فإنه يعلمه كل إنسان من نفسه.)
أي، فالأنفس هي المحدثة وهي السامعة لحديثها وهي العالمة بما حدثت به،لا غيرها، فالعين واحدة وإن اختلفت الأحكام الصادرة منها بحسب قواها منالنطق والسمع والعلم. فكذلك المتكلم بلسان الباطن والظاهر وكل من الأسماءالمتقابلة واحد. يعلم ذلك ذوقا كل إنسان من نفسه.
قال رضي الله عنه : (وهو صورة الحق). أي، والإنسان الذي يعلم هذا من نفسه هو صورة الحق.
وهو السامع والمتكلم حديث نفسه، فيلزم أن يكون الحق الذي هوعلى صورته .
كذلك، كما قال، عليه السلام: (إن الله خلق آدم على صورته)
قال رضي الله عنه : (فاختلطت الأمور وظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة كلها)
أي، فاختلطت الأمور، واشتبهت بالتكثر الواقع فيها على المحجوب الغير المنفتح عين بصيرته، وإن كانت ظاهرة راجعة إلى الواحد الحقيقي عند من رفعت الأستار عن عينه وانكشف الحق إليه بعينه.
والاختلاط بالتجليات المختلفة صار سببا لوجود الكثرة، كما ظهرت الأعداد بظهور الواحد في المراتب المعلومة.
ولما كان ظهور الواحد في المراتب المتعددة مثالا تاما لظهور الحق في مظاهره، جعل هذا الكلام توطئة، وشرع في تقرير العدد وظهور الواحد فيه، ليستدل المحجوب به على الكثرة الواقعة في الوجود المطلق مع عدم خروجه عن كونه واحدا حقيقا.
قال رضي الله عنه : (فأوجد الواحد العدد وفصل العدد الواحد).
أي، أوجد الواحد بتكراره العدد، إذ لو لم يتكرر الواحد، لم يكن حصول العدد. وفصل العدد مراتب الواحد، مثل الاثنين والثلاثة والأربعة وغير ذلك إلى ما لا يتناهى، لأن كل مرتبة من مراتب الآحاد والعشرات والمئات والألوف ليس غير الواحد المتجلى بها، لأن الاثنين، مثلا، ليس إلا واحدا وواحدا اجتمعا بالهيئة الوحدانية، فحصل منها الاثنان، فمادته هو الواحد المتكرر وصورته أيضا واحدة، فليس فيه شئ سوى الواحد المتكرر، فهو مرتبة من مراتبه وكذلك البواقي.
فإيجاد الواحد بتكراره العدد، مثال لإيجاد الحق الخلق بظهوره في الصور الكونية.
وتفصيل العدد مراتب الواحد، مثال لإظهار الأعيان أحكام الأسماء الإلهية والصفات الربانية، والارتباط بين الواحد والعدد، مثال للارتباط بين الحق والخلق، وكون الواحد نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة وغير ذلك، مثال للنسب اللازمة التي هي الصفات للحق.
قال رضي الله عنه : (وما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود. فالمعدود منه عدم ومنه وجود: فقد يعدم الشئ من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل).
أي، العدد لكونه كما منفصلا وعرضا غير قائم بنفسه لا بد أن يقع في معدود ما، سواء كان ذلك المعدوم موجودا في الحس، أو معدوما فيه موجودا في العقل.
وظهور العدد بالمعدود مثال لظهور الأعيان الثابتة في العلم بالموجودات، وهي بعضها حسية وبعضها غيبية، كما أن بعض المعدود في الحس وبعضه في العقل.
قال رضي الله عنه : (فلا بد من عدد ومعدود، ولابد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه).
أي، إذا كان لا يظهر حكم العدد إلا بالمعدود، ولا يتبين مراتب الواحد إلا بالعدد، فلا بد من عدد ومعدود، ولما كان العدد ينشأ بتكرار الواحد، فلا بد من واحد ينشئ ذلك العدد.
فينشأ أي،يظهر الواحد في مراتبه ومقاماته المختلفة بسبب ظهور العدد، فالسبب هنا السبب القابلي. أو لا بد من واحد ينشئ العدد، فينشأ العدد بسبب ذلك الواحد،فالسبب السبب الفاعلي. والأول أنسب.
قال رضي الله عنه : (فإن كان كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة، مثلا، والعشرة إلى أدنى وإلى أكثر إلى غير نهاية ما هي مجموع ولا ينفك عنها اسم جمع الآحاد، فإن الاثنين حقيقة واحدة والثلاثة حقيقة واحدة بالغا ما بلغت هذه المراتب).
وفي بعض النسخ: (فإن لكل مرتبة من العدد حقيقة).
والظاهر أنه تصرف ممن لا يعرف معناه ومقصوده، رضى الله عنه.
قال رضي الله عنه : (إن كل مرتبة حقيقة واحدة) أي، إن اعتبرنا في كل مرتبة ما به يمتاز العدد المعين فيها من غيرها، وهو ما به الاثنان اثنان والثلاثة ثلاثة مثلا، فما هي مجموع الآحاد فقط، بل ينضم إليها أمر آخر يميزها عن غيرها، ولا ينفك عنها اسم (جمع الآحاد)، لأنه كالجنس لها فلا بد منها. فإن الاثنين حقيقة واحدة ممتازة من الثلاثة، وهي أيضا كذلك حقيقة واحدة متميزة عن الأخرى،إلى ما لا نهاية له.
فقوله: (ما هي مجموع) جواب الشرط. والجملة الاسمية إذا وقعت جواب الشرط، يجوز حذف الفاء منه، عند الكوفيين، كقول الشاعر: (من يفعل الحسنات، الله يجزيها).
وإن لم نعتبر الأمور المتميزة بعضها عنبعض، نأخذ القدر المشترك بين الكل الذي هو جمع الآحاد، ونعتبره لا يبقى الامتياز بين كل منها، كما نعتبر الجنس الذي بين النوعين، كالإنسان والفرس، فنحكم عليهما بأنهما حيوان، فكذلك نحكم في الاثنين والثلاثة والأربعة بأنها مجموع من الآحاد، مع قطع النظر عما به يمتاز بعضه عن البعض الآخر.
وهو المراد بقوله: (وإن كانت واحدة، فما عين واحدة منهن عين ما بقى).
وهذا الشق يدل على ما ذهبنا إليه من أن الأصح. فإن كان كل مرتبة من العدد حقيقة.
أي، وإن كانت المراتب كلها واحدة في كونها جمع الآحاد أو مجموعها، فليس عين مرتبة واحدة من تلك المراتب عين ما بقى منها، لأن كل مرتبة منها حقيقة برأسها موصوفة بخواص لا توجد في غيرها. ويجوز أن يكون (ما) بمعنى (الذي).
أي، وإن كانت المراتب كلها واحدة بحسب رجوعها إلى حقيقة واحدة هي جمع الآحاد. فالذي عين واحدة، من مراتب الاثنين والثلاثة وغير ذلك، عين ما بقىفي كونه عبارة عن جمع الآحاد.
وهي أنسب بقوله: (فالجمع يأخذها فيقول بها منها ويحكم بها عليها).
أي، إذا كان لا ينفك عنها اسم جمع الآحاد، فجمع الآحاد الذي هو كالجنس لتلك المراتب يأخذها ويجمعها ويتناولها ويصدق عليها صدق الجنس على أنواعه، فيقول بتلك المراتب من تلك الحقيقة الجامعة إياها ويحكم بها عليها، أي، الجامع بين المراتب يحكم عليها بما يعطيه من الأحكام، كما يحكم الحق على الأعيان بما يعطيه من الأحوال.
قال رضي الله عنه : (وقد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة، فقد دخلها التركيب).
أي، حصل في هذا القول، وهو إن كان كل مرتبة حقيقة، عشرون مرتبة: أولها،مرتبة الواحد المنشئ للعدد، ثم مرتبة الاثنين إلى التسعة فصار تسعة، ثم مرتبة العشرة والعشرون إلى تسعين وهي تسعة أخرى فصار ثمانية عشر، ثم مرتبة المائة والألف، وعلى الباقي يدخل التركيب. وضمير (دخلها) يرجع إلى المراتب العشرين.
قال رضي الله عنه : (فما تنفك تثبت عين ما هو منفى عندك لذاته).
أي، لا يزال تثبت في كل مرتبة من المراتب عين ما تنفيه في مرتبة أخرى، كما ذكر من أن الواحد ليس من العدد، باتفاق جمهور أهل الحساب، مع أنه عين العدد، إذ هو الذي بتكرره توجد الأعداد.
فيلزمه في كل مرتبة من مراتب العدد لوازم خصوصيات متعددة، وكذلك نقول لكل مرتبة إنها جمع الآحاد وتثبت أنها ليست غير مجموع الآحاد، مع أنه منفى عندك بأنها ليست مجموع الآحاد فقط.
قال رضي الله عنه : (ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين ثبتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق).
أي، ومن عرف أن العدد هو عبارة عن ظهور الواحد في مراتب متعددة، وليس من العدد بل هو مقومه ومظهره، والعدد أيضا في الحقيقة ليس غيره، وأن نفى العددية من الواحد عين إثباتها له لأن الأعداد ليست إلامجموع الآحاد مادة وصورة، علم أن الحق المنزه عن نقائص الإمكان، بل عن كمالات الأكوان، هو بعينه الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق بإمكانه عن الخالق.
(فالأمر الخالق) أي، الشئ الذي هو الخالق هو المخلوق بعينه، لكن في مرتبة أخرى غير
المرتبة الخالقية. والأمر المخلوق وهو الخالق بعينه، لكن باعتبار ظهور الحق فيه.
واعلم، أن الاثنين، مثلا، ليس عبارة إلا عن ظهور الواحد مرتين مع الجمع بينهما، والظاهر، فرادى ومجموعا فيه، ليس إلا الواحد، فما به الاثنان اثنان ويغاير الواحد بذلك ليس إلا أمر متوهم لا حقيقة له، كذلك شأن الحق مع الخلق، فإنه هو الذي يظهر بصور البسائط، ثم بصور المركبات، فيظن المحجوب أنها مغائرة لحقائقها، وما يعلم أنها أمور متوهمة، ولا موجودة إلا هو.
قال رضي الله عنه : (كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحد، وهو العيون الكثيرة.)
أي، كل ذلك الوجود الخلقي صادر من الذات الواحدة الإلهية، ثم أضرب عنه، لأنه مشعر بالمغايرة.
فقال: بل ذلك الموجود الخلقي هو عين تلك العين الواحدة الظاهرة في مراتب متعددة.
وذلك العين الواحدة التي هي الوجود المطلق، وهو العيون الكثيرة باعتبار المظاهر المتكثرة، كما قال:
سبحان من أظهر ناسوته ....... سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهر ....... في صورة الآكل والشارب
(فانظر ما ذا ترى) أي، أنظر أيها السالك طريق الحق ما ذا ترى من
الوحدة والكثرة جمعا وفرادى، فإن كنت ترى الوحدة فقط، فأنت مع الحق وحده لارتفاع الإثنينية، وإن كنت ترى الكثرة فقط، فأنت مع الخلق وحده، وإن كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة والكثرة في الوحدة مستهلكة، فقد جمعت بين الكمالين وفزت بمقام الحسنيين.
(قال يا أبت افعل ما تؤمر) ولما كانت نسبة السالك إلى الشيخ المكمل نسبة الولد إلى والده، نقل الكلام إلى حكاية إبراهيم، عليه السلام، مع ولده. وقول المريد للشيخ: (إفعل ما تؤمر) عبارة عن تسليمه بين يديه، وإشارة إلى أن فعله ليس من نفسه، بل من ربه، فإنه واسطة بين السالك وربه. (والولد عين أبيه)
بحكم اتحاد الحقيقة وفيضانه من جميع أجزاء وجوده وكونه بعضه، وإن كان غيره من حيث تعينه وتشخصه (فما رأى يذبح سوى نفسه) وذبحه صورة إفنائه من إنانيته (و (فداه بذبح عظيم)) (الذبح)، بكسر الذال، ما يذبح. وإنما وصفه ب (عظيم) لأن الظاهر بتلك الصورة هو الذي له العظمة التامة.
ثم قال إظهارا لهذا السر: (فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة الإنسان).
أي، الظاهر بهذه الصورة الكبشية هو الذي ظهر بجميع الصور الإنسانية وغيرها، لأن الحقيقة الكلية إذا تعينت بتعين كلي، تصير نوعا من الأنواع، وعند تعينها بتعين جزئي، يصير شخصا من الأشخاص.
فالظاهر في تعين شخصي من نوع، هو بعينه ظاهر في نوع آخر وأفراده.
ألا ترى أن الحقيقة الحيوانية كما ظهرت في الصورة الإنسانية، كذلك ظهرت في الصورة الفرسية والغنمية وغيرها. فما فدا من نفسه بما هو أدنى منه، فإن الدنى لا يكون فداء للشريف.
قال رضي الله عنه : (فظهر بصورة ولد، لا بل بحكم ولد من هو عين الوالد).
أي، فظهر بصورة الولد من كان ظاهرا في صورة الوالد، وهو المتجلي الحقيقي في المظاهر كلها.
ثم أضرب إثباتا لحكم الولدية بقوله: (لا، بل ظهر بحكم ولد). أي،بصورة المرتبة الولدية وأحكامها، لأن صورة الولد والوالد بحكم اتحاد الحقيقة النوعية واحدة، والمغايرة في حكم الولدية والوالدية في الصورة الشخصية لا غير.
قال رضي الله عنه : ((وخلق منها زوجها) فما نكح سوى نفسه، فمنه الصاحبة والولد، والأمر واحد في العدد).
لما كان خلق حواء من عين آدم، عليه السلام، موافقا لما هو في تقريره، نقل الكلام إليه استشهادا لما ذكره، فإن آدم وحوا يجمعهما حقيقة واحدة، ويميزهما تعين كل منهما من الآخر. فبالاعتبار الأول، ما ظهر بصورة آدم هو الذي ظهر بصورة حواء، وهو المستشهد لقوله: (ظهر بصورة الولد... من هو عين الوالد).
لأنها أيضا ولد آدم وإن لم يسم بالولد. وقوله: (فما نكح سوى نفسه) استشهاد لقوله: (فما رأى يذبح سوى نفسه. فمنه الصاحبة والولد) بظهور حقيقته في صورتهما، وليس الأمر إلا واحد، كظهور الواحد في العدد.
قال رضي الله عنه : (فمن الطبيعة؟ ومن الظاهر منها؟ وما رأيناها نقصت بما ظهر منها، ولا زادت بعدم ما ظهر).
أي، إذا كان الأمر في نفسه واحدا، فمن الذي يسمى بالطبيعة سوى الوجود الحق؟
ومن الظاهر من الطبيعة سوى أفرادها من أعيان الموجودات؟
ولا ينقص منها شئ بالظهور، ولا يزيد بعدم الظهور كالإنسانية، إذا النقصان والزيادة من خواص الأجسام.
واعلم، أن (الطبيعة) عند أهل الحق يطلق على ملكوت الجسم. وهو القوة السارية في جميع الأجسام، عنصريا كان أو فلكيا بسيطا كان أو مركبا. وهي غير الصور النوعية التي للأجسام، لاشتراكها في الكل واختصاص الصور النوعية.
وهي للنفس الكلية كالآلة في إظهار الجسم وتدبيره، وفي الحيوان بمنزلة الروح الحيواني، إذ بها يتم الفعل والانفعال، فأفرادها كالآلات للنفوس المجردة الجزئية، كما أن كليها آلة لكليها.
فهي مظهر الاسم (الموجد) الذي هو من سدنة (الرب.)
قال رضي الله عنه : (وما الذي ظهر غيرها؟ وما هي عين ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم عليها، فهذا بارد يابس وهذا حار يابس. فجمع باليبس، وأبان بغير ذلك).
(ما) في (ما الذي) للاستفهام.
والثاني بمعنى (ليس).
والثالث بمعنى (الذي). أي، ما الذي ظهر من الطبيعة غير الطبيعة؟
أي، هي التي ظهرت في صور مراتبها لا غيرها. وليست الطبيعة غير الذي ظهر، لأنها واحدة في الحكم والحقيقة، وماظهر منها مختلف بالصورة والحكم، فهذا بارد يابس وهذا حار يابس. فجمع الحق بينهما باليبس، تنبيها على الأصل الجامع، وأبان بالحرارة والبرودة، تنبيها على فرعيته.
قال رضي الله عنه : (والجامع الطبيعة، لا، بل العين الطبيعة.)
أي، والحال أن الجامع بينها، أي بين الصور، الطبيعة، لا بل العين الواحدة المعهودة، وهي التي ظهرت بصور هذه الموجودات كلها، هي عين الطبيعة.
قال رضي الله عنه : (فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة، لا بل صورة واحدة في مرآيا مختلفة.)
أي، عالم الطبيعة صور مختلفة حاصلة في مرأة الذات الإلهية من غير حصول التعدد والتكثر فيها.
ثم أضرب بقوله: (لا، بل صورة واحدة) وهي الذات الإلهية في مرايا مختلفة، وهي الأعيان
قال رضي الله عنه : (فما الوجه الا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا)
تنبيها بحكم المقامين: مقام الموحد، ومقام المحقق. وقد مر تحقيق المرآتين مرارا.
قال رضي الله عنه : (فما ثمة إلا حيرة لتفرق النظر)
أي، نظر العقل في الوجوه المتعددة المتضادة والمتناقضة وغيرها، فإنه لا يعرف أنه حقيقة واحدة ظهرت في صور مختلفة أو حقائق كثيرة.
قال رضي الله عنه : (ومن عرف ما قلناه، لم يحر). بفتح الحاء.
أي ومن عرف ما قررناه، من أن الحقيقة الواحدة هي الظاهرة في صور المراتب المتكثرة والمظاهر المختلفة، لم يقعفي الحيرة.
قال رضي الله عنه : (وإن كان في مزيد علم، فليس إلا من حكم المحل، والمحل هو عين العين الثابتة).
(إن) هاهنا يجوز أن يكون للمبالغة فلا يقتضى الجواب، ويجوز أن يكون شرطية.
وعلى الأول معناه: ومن عرف ما قلنا لم يحر، إن كان هذا العارف في مزيد العلم بالوجوه الإلهية، كما قال، صلى الله عليه وسلم: "رب زدني علما".
فليس عدم الحيرة هنا إلا من حكم المحل، وهو العين الثابتة التي لهذا العارف، كما أن الحيرة مقتضى عين الحائر.
وعلى الثاني فمعناه: وإن كان التحير حاصلا في مزيد علم، فليس ذلك التحير إلا من حكم المحل وهو عين الحائر.
قال رضي الله عنه : (فبها يتنوع الحق في المجلى فتتنوع الأحكام عليه، فتقبل كل حكم ولا يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه، وما ثمة إلا هذا).
أي، فبسبب الأعيان الثابتة التي للموجودات، أو فيها، يتنوع الحق في مجاليه وظهوراته، كما يتنوع ظهورات الوجه في المرايا المتعددة، فيتنوع أحكام العين الثابتة على الحق بحسب ما يطلب استعداداتها منه، فيقبل الحق كل حكم يعطيه العين الثابتة التي تجلى الحق فيها، كظهور الوجه في المرآة المستديرة مستديرا وفي المستطيلة مستطيلا.
وما في نفس الأمر إلا ما أشرت إليه لا غير.
شعر:
(فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبرو ..... وليس خلقا بذاك الوجه فاذكروا)
أي، إذا كان الحق يتنوع في مجاليه ويقبل كل ما يحكم عليه الأعيان من الأحكام الكونية، فالحق خلق من حيث إنه ظهر في المظاهر الخلقية واختفى فيها،
فالمشهود، غيبا وشهادة، حق صرف لا غير معه.
قال رضي الله عنه : (فالحق المنزه هو الخلق المشبه.)
فقوله: (بهذا الوجه) إشارة إلى ما مر، من أن الحق هو الظاهر في مرايا الأعيان.
وقوله: (وليس خلقا بذاك الوجه فاذكروا) إشارة إلى أن الظاهر في مرآةالحق هي الأعيان الخلقية، فالحق ليس خلقا حينئذ، بل منزه من الصفات الخلقية ومختف بحجاب عزته، باق في غيبيته لا يشهد ولا يرى، وكل ما يشهد ويرى فهو خلق.
(من يدر ما قلت لم تخدل بصيرته ..... وليس يدر به إلا من له البصر)
أي، من عرف ما أشرت إليه من الوجهين، لم يخذل بصيرته. على البناء للفاعل أو المفعول. وليس يدريه إلا من له البصر الحاد الذي لا يعجز عن
مشاهدة الحق في عالم الغيب والشهادة، كما قال تعالى في حق نبيه، صلى الله عليه وسلم: (فبصرك اليوم حديد).
و (البصيرة) عبارة عن عيني القلب اللتين يشهد بهما المشاهد الغيبية، شهودا معنويا أو مثاليا. قال، صلى الله عليه وسلم: "ما منعبد إلا ولقلبه عينان، هما غيب ينظر بهما الغيوب. فإذا أراد الله بعبد خيرا، فتحعيني قلبه ليرى بهما ما خفى عن بصره".
وقال: "تنام عيني ولا ينام قلبي."
(جمع وفرق فإن العين واحدة ..... وهي الكثير لا تبقى ولا تذر)
أي، جمع بين الخلق والحق في مرتبة المعية، كما جمع الحق بقوله: (وهو معكم أينما كنتم).
بين هويته وعين العبد، وفي قوله: "كنت سمعه وبصره". - إذ الضمير راجع إلى العبد - وفرق بينهما بمشاهدة الحق وحده عند غلبة الوحدة عليك.
كما فرق بقوله: (قل الله ثم ذرهم). وبشهود الخلق وحده عن غلبة الكثرة عليك، كقوله تعالى: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة".
إذ العين في الحقيقة واحدة وهي الذات الإلهية، وهي الكثيرة أيضا بحسب مظاهرها وأسمائها وصفاتها.
وفاعل قوله: (لا تبقى ولا تذر) هو العين الواحدة.
أي، إذا تجلت هذه العين الواحدة، لا تبقى ولا تذر من الكثرة شيئا، بل تفنيها وتجعلها هباء منثورا.
قال رضي الله عنه : (فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به).
أي، يستغرق صاحبه بذلك الكمال. (جميع الأمور الوجودية). أي، الموجودات العينية.
(والنسب العدمية) أي، التي لا أعيان لها في الخارج.
قال رضي الله عنه : (بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا، أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا).
أي، العلى المطلق الذي علوه لذاته، هو الذي يكون كماله مستغرق الجميع الكمالات الوجودية والصفات الحقيقية والنسب الإضافية والسلبية، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت من النعوت، سواء كانت تلك النعوت محمودة، بحسب العرف أو العقل أو الشرع، أو مذمومة فيها، لأن من فاته منها شيء لا يكون له العلو بحسب ذلك الفائت، وذلك المقدار من العلو يكون لمن هو متحقق به، فالعلي المطلق لا يكون عليا مطلقا.
و (الفوت) يعدى ب (من) وبنفسه، كما يقال: فات منه الحزم وفاته الحزم.
وإنما عمم بقوله: (محمودة... أو مذمومة) لأن الوجود خير محض، والعدم شر محض. فكل أمر وجودي من حيث وجوده خير، ومن حيث العدمية التي تلحقه شر، فيصير مذموما كالزناء، مثلا، فإنه من حيث إنه كمال للقوة الشهوية خير، ومن حيث تأديه إلى انقطاع النسل ووقوع الفتن الموجب لعدم النظام الأصلح، شر.
فالخير للموجود ذاتي، والشر عارضي نسبي. فكل مذموم، عقلا أو عرفا أوشرعا، محمود من جهة أخرى، ومن هذه الحيثية ملحق بالحق، لازم للوجود المطلق، فلا ينبغي أن يفوته شئ منها.
(وليس ذلك) أي، الكمال المستغرق لجميع الكمالات.
(إلا لمسمى الله خاصة). أي، للذات الأحدية الجامعة لجميع الأسماء والصفات.
(وأما غير مسمى الله خاصة مما هو مجلي له، أو صورة فيه، فإن كان مجلي له فيقع التفاضل - لا بد من ذلك - بين مجلي ومجلى، وإن كان صورة فيه، فتلك الصورة عين الكمال الذاتي، لأنها عين ما ظهرت فيه). الشرطية خبر المبتدأ الذي دخل عليه (أما).
و (الفاء) الذي دخل عليها، جواب (أما). أي، وغير الذات الأحدية فما هو مجلي،
أي مظهرا لها من جملة المظاهر، فليس له ذلك الكمال المستوعب، بل له نصيب منه.
وبحسبه يقع التفاضل بين المجلى والمجلى، على قدر الحيطة وعدم الحيطة، فنصيبه من العلو لا يكون إلا كذلك.
وقوله: (أو صورة فيه) أي، اسم إلهي أو صفة ذاتية حاصلة في الذات الأحدية التي هي مسمى (الله). وإنما أطلق عليه (الصورة)، لأن الذات مختفية فيه اختفاء المعنى في الصورة، لذلك تعد الأسماء من جملة حجب الذات.
أو لكون الذات مع صفة من الصفات تظهر بالصورة الاسمية المسماة بـ (المهية) "الماهية"، وهي التي تظهر في المظاهر الشخصية.
وقوله من بعد: (ولا يقال هي هو، ولا هي غيره).
وما نقل عن (أبى القاسم) يدل على أن المراد بالصورة، هن (الاسم). أو نقول، المراد بالمجلى هو الاسم، وبالصورة الصفة. لكن الأول أنسب.
والحاصل، أن غير مسمى الله إما مجالي ومظاهر، أو أسماء. فإن كان من
المجالي، فلا بد أن يقع بينهما التفاضل في مراتب العلو، وإن كان من الأسماء، فله ذلك الكمال الذاتي لاشتماله على الذات، أو لكون الاسم عين المسمى.
وإليه الإشارة بقوله: (لأنها عين ما ظهرت فيه). أي، لأن تلك الصورة عين تلك الذات التي ظهرت فيها.
واعلم، أن هذا الكلام إنما هو باعتبار أن الاسم عين المسمى.
وأما باعتبار أنه غيره، فليس له ذلك الكمال المستوعب، بل نصيب منه، فيقع التفاضل في الأسماء كما يقع في المظاهر.
قال رضي الله عنه : (فالذي لمسمى الله هو الذي لتلك الصورة. ولا يقال، هي هو، ولا هي غيره).
أي، فالعلو الذي لمسمى الله هو العلو الذي لتلك الصورة، أي الاسم، وإن كان لا يقال، إن تلك الصورة هي مسمى الله، ولا يقال أيضا إنها غيره.
فكل من الأسماء الإلهية عليه لذاته.
قال رضي الله عنه : (وقد أشار أبو القاسم بن قسى في خلعه) أي، في كتابه المسمى ب (خلع النعلين).
وذكر في فتوحاته أنه فتح له على يدي خليل من أهل (أبله) وهو من كبار القوم.
"قال الشيخ رضي الله عنه في الفتوحات المكية الجزء الرابع الباب اربعمائة وأربعة ما نصه : وعليك بالعدل في الحكم وأطفئ النار إذا فرغت من حاجتك إليها وعليك باستعمال الحبة السوداء وهو الشونيز فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت ولقد ابتلي عندنا رجل من أعيان الناس بالجذام وقال الأطباء بأجمعهم لما أبصروه وقد تمكنت العلة منه ما لهذا المرض دواء فرآه رجل من أهل الحديث من بنى عفير "من أهل أبلة" يقال له سعد السعود وكان عنده إيمان بالحديث عظيم يقطع به .
فقال له يا هذا لم لا تطب نفسك فقال له الرجل إن الأطباء قالوا ليس لهذه العلة دواء فقال كذبت الأطباء والنبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أصدق منهم وقد قال في الحبة السوداء إنها شفاء من كل داء
وهذا الداء الذي نزل بك من جملة ذلك ثم قال علي بالحبة السوداء والعسل فخلط هذا بهذا وطلي بهما بدنه كله ورأسه ووجهه إلى رجليه وألعقه من ذلك وتركه ساعة ثم إنه غسل ذلك عنه فانسلخ من جلده ونبت له جلد آخر ونبت ما كان قد سقط من شعره وبري ء وعاد إلى ما كان عليه في حال عافيته فتعجب الأطباء والناس من قوة إيمانه بحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وكان رحمه الله يستعمل الحبة السوداء في كل داء يصيبه حتى في الرمد إذا رمد عينه اكتحل بها فيبرأ من ساعته"أهـ.
(إلى هذا بقوله: إن كل اسم إلهي يتسمى بجميع الأسماء الإلهية وينعت بها . وذلك هناك أن كل اسم يدل على الذات وعلى المعنى الذي سيق له.) أي، وضع له الاسم.
(ويطلبه) أي، ذلك الاسم.
قال رضي الله عنه : (فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء، ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به، يتميز عن غيره، كالرب والخالق والمصور إلى غير ذلك).
قال رضي الله عنه : (فالإسم عين المسمى من حيث الذات، والاسم غير المسمى من حيث مما يختص به من المعنى الذي سيق له) . ظاهر مما مر مرارا.
قال رضي الله عنه : (فإذا علمت أن العلى ما ذكرناه) أي، الذي له العلو بذاته هو الذي لا يكون علوه بحسب المكان ولا بحسب المكانة بل بذاته. (علمت أنه) أي، أن علوه.
قال رضي الله عنه : (ليس علو المكان ولا علو المكانة، فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر، كالسلطان والحكام والوزراء والقضاء وكل ذي منصب عال، سواء كانت فيه أهلية ذلك المنصب) كالسلطان العادل والوزير العاقل والقاضي الغير الجاهل.
(أو لم تكن). كعكس ما ذكرناه. (والعلو بالصفات ليس كذلك) لأن العلى بعلو المكانة لا يبقى عليا عند زوالها عن ساعة، كانعزال السلطان والوزير والحاكم والقاضي عن مناصبهم.
لأن العلو في الحقيقة للمرتبة لا لهم. والعلي بالصفات الإلهية لا يزول ذلك العلو عنه، فما بالك بالعلو الذاتي الذي هو أعلى مرتبة من الكل.
وهذا تنبيه على أن العلو أربعة اقسام:
1 - أعلاها العلو الذاتي.
2 - ثم الصفات،
3 - ثم المرتبي. "المراتب"
4 - ثم المكاني.
والحق (على) بجميع الأقسام، جمعا وتفصيلا، وللإنسان نصيب منها.
ولما كان العلى بالعلو الصفاتي في بعض الصور تحت سلطنة من له العلو بالمنصب، كتحكم السلطان الجاهل والوزير الغير العاقل على من هو أعلم الناس وأعقلهم.
قال رضي الله عنه معللا: (فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم، وإن كان أجهل الناس.)
قال رضي الله عنه : (فهذا على بالمكانة، بحكم التبع، ما هو على في نفسه، فإذا عزل زالت رفعته، والعالم ليس كذلك).
أي، فهذا الجاهل على بعلو المكانة، بحكم التبعية، وليس عليا في نفسه وذاته، فإذا نزل ونزع منه ثياب المنصب، تزولرفعته، وتظهر فضيحته، والعالم ليس كذلك.
فإن العلم مما يبقى أبد الآبدين، ولا يزال صاحبه من العالمين.
والحمد لله رب العالمين.
.



.


9hgezHGYm-w

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!