موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

مطلع خصوص الكلم
في معاني فصوص الحكم

تأليف: الشيخ داود القيصري

فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية


03 - ﻓﺺ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺒﻮﺣﻴﺔ ﻓﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻧﻮﺣﻴﺔ .شرح داود القيصرى فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

شرح الشيخ داود بن محمود بن محمد القَيْصَري كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺑﻌﺪ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺒﺪﺋﻴﺔ، ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻷﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺍﻟﻌﻘﻮﻝ ﺍﻟﻤﺠﺮﺩﺓ ﻭﻟﻬﻢ ﺗﻨﺰﻳﻪ ﺍﻟﺤﻖ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺎﺋﺺ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ - ﻷﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﻛﻤﺎﻻﺗﻬﻢ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻣﻮﺟﻮﺩﺓ ﻭﻧﻘﺎﺋﺼﻬﻢ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﺣﺘﻴﺎﺟﻬﻢ ﻭﺇﻣﻜﺎﻧﻬﻢ ﺑﺤﺴﺐ ﻭﺟﻮﺩﺍﺗﻬﻢ ﺍﻟﻤﺘﻌﻴﻨﺔ ﻭﺫﻭﺍﺗﻬﻢ ﺍﻟﻤﺘﻘﻴﺪﺓ ﻭﻛﻞ ﻣﻨﺰﻩ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻨﺰﻩ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺺ - ﺃﺭﺩﻑ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ (ﺍﻟﺴﺒﻮﺣﻴﺔ) ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ (ﺍﻟﻨﻔﺜﻴﺔ) ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻐﺎﻟﺐ ﻋﻠﻰ ﻧﻮﺡ، ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﺗﻨﺰﻳﻪ ﺍﻟﺤﻖ ﻟﻜﻮﻧﻪ ﺃﻭﻝ ﺍﻟﻤﺮﺳﻠﻴﻦ - ﻭﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺃﻥ ﻳﺪﻋﻮ ﺃﻣﺘﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻖ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺍﻟﻤﻨﺰﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻘﺎﺋﺺ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻭﻳﻨﻔﻰ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻋﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻭﻗﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻐﻴﺮﻳﺔ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻧﻪ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﺠﻠﻲ ﺇﻟﻬﻲ ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻟﻐﺎﻟﺐ ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻣﻪ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺍﻷﺻﻨﺎﻡ ﻭ ﻫﻮ ﻣﻨﺰﻩ ﻋﻨﻬﺎ - ﻗﺎﺭﻥ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺴﺒﻮﺣﻴﺔ ﺑﺎﻟﻜﻠﻤﺔ (ﺍﻟﻨﻮﺣﻴﺔ) ﻟﻠﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ.
ﻭﻣﻌﻨﻰ (ﺍﻟﺴﺒﻮﺡ) ﺍﻟﻤﺴﺒﺢ ﻭﺍﻟﻤﻨﺰﻩ، ﺍﺳﻢ ﻣﻔﻌﻮﻝ، ﻙ (ﺍﻟﻘﺪﻭﺱ) ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻤﻘﺪﺱ.
(ﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﻋﻨﺪ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻨﺎﺏ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﻭﺍﻟﺘﻘﻴﻴﺪ. ﻭﺍﻟﻤﻨﺰﻩ ﺇﻣﺎ ﺟﺎﻫﻞ ﻭﺇﻣﺎ ﺻﺎﺣﺐ ﺳﻮﺀ ﺃﺩﺏ). ﺍﻋﻠﻢ، ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺎﺋﺺ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻘﻂ، ﺃﻭ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻜﻤﺎﻻﺕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺃﻳﻀﺎ.
ﻭﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻋﻨﺪ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻭﺍﻟﺸﻬﻮﺩ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻟﻠﺠﻨﺎﺏ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻭﺗﻘﻴﻴﺪ ﻟﻪ، ﻷﻧﻪ ﻳﻤﻴﺰ ﺍﻟﺤﻖ ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻭﻳﺠﻌﻞ ﻇﻬﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﻣﺮﺍﺗﺒﻪ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺒﻌﺾ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻰ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ، ﻛﺎﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻭﺍﻟﺴﻤﻊ ﻭﺍﻟﺒﺼﺮ ﻭﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ.
ﻭﻟﻴﺲ ﺍﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ.
ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺑﺬﻭﺍﺗﻬﻢ ﻭﻭﺟﻮﺩﺍﺗﻬﻢ ﻭﻛﻤﺎﻻﺗﻬﻢ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﻟﻠﺤﻖ، ﻭﻫﻮ ﻇﺎﻫﺮ ﻓﻴﻬﻢ ﻭﻣﺘﺠﻞ ﻟﻬﻢ: (ﻭﻫﻮ ﻣﻌﻬﻢ ﺃﻳﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮﺍ).
ﻓﻴﻪ ﺫﻭﺍﺗﻬﻢ ﻭﻭﺟﻮﺩﻫﻢ ﻭﺑﻘﺎﺅﻫﻢ ﻭﺟﻤﻴﻊ ﺻﻔﺎﺗﻬﻢ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻇﻬﺮ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﻛﻠﻬﺎ، ﻓﻬﻲ ﻟﻠﺤﻖ ﺑﺎﻷﺻﺎﻟﺔ، ﻭﻟﻠﺨﻠﻖ ﺑﺎﻟﺘﺒﻌﻴﺔ.
ﻓﺎﻟﻤﻨﺰﻩ ﺇﻣﺎ ﺟﺎﻫﻞ ﺑﺎﻷﻣﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ، ﺃﻭ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻠﻪ ﻣﻈﻬﺮﻩ. ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﺟﺎﻫﻼ ﻭﺣﻜﻢ ﺑﺠﻬﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻗﻴﺪﻩ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﻣﺮﺍﺗﺒﻪ، ﻓﻬﻮ ﺟﺎﻫﻞ ﻭﺻﺎﺣﺐ ﺳﻮﺀ ﺃﺩﺏ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻋﺎﻟﻤﺎ ﺑﻪ، ﻓﻘﺪ ﺃﺳﺎﺀ ﺍﻷﺩﺏ ﻣﻊ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﺭﺳﻠﻪ ﺑﻨﻔﻴﻪ ﻋﻨﻪ ﻣﺎ ﺃﺛﺒﺘﻪ ﻫﻮ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻣﻲ ﺟﻤﻌﻪ ﻭﺗﻔﺼﻴﻠﻪ. ﻫﺬﺍ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ.
ﻭﺃﻣﺎ ﻓﻲ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻷﺣﺪﻳﺔ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ، ﻓﻼ ﺗﺸﺒﻴﻪ ﻭﻻ ﺗﻨﺰﻳﻪ ﺇﺫ ﻻ ﺗﻌﺪﺩ ﻓﻴﻪ ﺑﻮﺟﻪ ﺃﺻﻼ.
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻓﻲ ﻋﻨﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻐﺮﺏ ﻣﺨﺎﻃﺒﺎ ﻟﻠﻤﻨﺰﻩ: (ﻭﻏﺎﻳﺔ ﻣﻌﺮﻓﺘﻚ ﺑﻪ ﺃﻥ ﺗﺴﻠﺐ ﻋﻨﻪ ﻧﻘﺎﺋﺺ ﺍﻟﻜﻮﻥ، ﻭﺳﻠﺐ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻋﻦ ﺭﺑﻪ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﻋﻠﻴﻪ، ﺭﺍﺟﻊ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﻗﺎﻝ ﻣﻦ ﻗﺎﻝ: "ﺳﺒﺤﺎﻧﻲ" ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺘﻮﺍﻧﻲ. ﻫﻴﻬﺎﺕ ﻗﺪ ﻭﻫﻞ ﻳﻌﺮﻯ ﻣﻦ ﺷﺊ ﺇﻻ ﻣﻦ ﻟﺒﺴﻪ، ﺃﻭ ﻳﺆﺧﺬ ﺷﺊ ﺇﻻ ﻣﻤﻦ ﺣﺒﺴﻪ؟ ﻭﻣﺘﻰ ﻟﺒﺲ ﺍﻟﺤﻖ ﺻﻔﺎﺕ ﺍﻟﻨﻘﺺ ﺣﺘﻰ ﺗﺴﻠﺒﻬﺎ ﻋﻨﻪ ﺃﻭ ﺗﻌﺮﻳﻪ؟ ﻭﺍﻟﻠﻪ، ﻣﺎ ﻫﺬﻩ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ.
ﻓﺎﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﺭﺍﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺗﻄﻬﻴﺮ ﻣﺤﻠﻚ ﻻ ﺇﻟﻰ ﺫﺍﺗﻪ. ﻭﻫﻮ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺔ ﻣﻨﺤﻪ ﻟﻚ ﻭﻫﺒﺎﺗﻪ).
ﻭﺍﻟﺒﺎﺭﻱ ﻣﻨﺰﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﻨﺰﻳﻪ، ﻓﻜﻴﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ
(ولكن إذا أطلقاه وقالا به، فالقائل بالشرائع المؤمن، إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك، فقد أساء الأدب وأكذب الحق والرسل، صلوات الله عليهم، وهو لا يشعر ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت. وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض). أي، الجاهل وصاحب سوء الأدب إذا أطلقا التنزيه وقالا به،
كل منهما إما أن يكون مؤمنا بالشرائع والكتب الإلهية، أو غير مؤمن بها. فالمؤمن إذا نزه الحق ووقف عنده ولم يشبه في مقام التشبيه ولم يثبت تلك الصفات التي هي كمالات في العالم، فقد أساء الأدب وكذب الرسل والكتب الإلهية فيما أخبر به عن نفسه بأنه (الحي القيوم السميع البصير).
ولا يشعر بهذا التكذيب الصادر منه، ويتخيل أنها له حاصلا من العلوم والمعارف وأنه مؤمن وموحد، وما يعلم أنها فائت منه، وهو كمن آمن ببعض، وهو مقام التنزيه، وكفر ببعض، وهو
مقام التشبيه.
وغير المؤمن، سواء كان قائلا بعقله كالفلاسفة أو لم يكن كمقلديهمالمتفلسفة، فقد ضل وأضل، لأنه ما علم الأمر على ما هو عليه، وما اهتدى بنور الإيمان الرافع للحجب. وإنما ترك هذا القسم لوضوح بطلانه.
(ولا سيما قد علم) على البناء للفاعل أو المفعول. (إن ألسنة الشرائع الإلهية
إذا نطقت في الحق بما نطقت به، إنما جاءت به في العموم) أي، في حق عامة الخلائق. (على المفهوم الأول، وعلى الخصوص) أي، وعلى لسان الخاصة.
قال الشيخ رضي الله عنه : (على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان.) أي، وقد علم هذا العالم المنزه أن الكلام الإلهي وإن كان له مفهوم عام يفهمه كلمن يسمعه لسبق الذهن إليه عند سماعه، لكن بالنسبة إلى طائفة معينة، من الموحدين والمحققين وباقي علماء الظاهر، له مفهومات خاصة و وجوه متكثرة ومعاني متعددة، يتجلى الحق لهم فيه، يعلمون ذلك أولا يعلمون. بل بالنسبة إلى كل شخص منهم، كما قال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها.)
وقال جعفر الصادق، عليه السلام: (إن الله تعالى قد يتجلى لعباده في كلامه
لكنهم لا يعلمون) ولما كان هذا المعنى غير مختص بالقرآن، بل هو من خاصة كلامه تعالى، قال: (بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان). وقد نبه النبي، صلىالله عليه وسلم، بقوله: (إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا.)
(فإن للحق في كل خلق ظهورا خاصا) تعليل على أن المراد مفهوم عموم الناس وخصوصهم، سواء كان ذلك الكلام عربيا كالقرآن، أو غير عربي كالتوراة والإنجيل. أي، الحق يتجلى لعباده على ما يعطيه استعداداتهم، فله فيكل خلق ظهور خاص.
(فهو الظاهر في كل مفهوم ، وهو الباطن عن كل فهم) أي، فهو المتجلي فيكل مفهوم ومدرك من حيث كونه مدركا، وهو مختف وباطن عن كل فهم، لعدم إدراك الفهوم جميع تجلياته وظهوراته في مظاهره. (إلا عن فهم من قال: إن العالم صورته ومظهر هويته). أي، هو مختلف عن كل فهم إلا عن فهم من يعرف أن العالم صورته ومظهر هويته، فإنه حينئذ يشاهده في جميع المظاهر، كما قالأبو يزيد، قدس الله سره: (الآن، ثلثين سنة ما أتكلم إلا مع الله، والناس يزعمون أني معهم أتكلم).
واعلم، أن هذا الفهم إنما هو بحسب الظهوروالتجلي لا بحسب الحقيقة، فإن حقيقته وذاته لا يدرك أبدا ولا يمكن الإحاطة عليها سرمدا. ولا بحسب مجموع التفصيل أيضا، فإن مظاهر الحق مفصلا غيرمتناهية وإن كانت بحسب مجموع الأمهات متناهية.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الباطن). أي، العالم، بأسره، عبارة عن اسمه (الظاهر)، كما أن الحق من حيث المعنى والحقيقة روح العالم. وهذا الروح هو عبارة عن اسمه (الباطن.)
واعلم، أن الاسم (الظاهر) اقتضى ظهور العالم، و (الباطن) اقتضى بطون حقائقه. والمقتضى وهو إن كان باعتبار غير المقتضى، لكون الربوبية غير المربوبية، لكنه باعتبار آخر عينه وهو أحدية حقيقة الحقائق، لذلك جعل العالم عين الاسم الظاهر وروحه عين الاسم الباطن.
(فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة). أي، إذا كان العالم صورة الحق وهو روحه، فنسبة الحق إلى كل ما ظهر من صور العالم نسبة الروح الجزئي المدبر للصورة المعينة إليها في كونه مدبرا، كما قال: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض). و (اللام) في (لما ظهر) بمعنى (إلى). وقوله:
(للصورة) متعلق ب (المدبر). وصلة (النسبة) محذوفة، أي إلى الصورة.
(فيؤخذ في حد الإنسان، مثلا، باطنه وظاهره وكذلك كل محدود). (الفاء) للسببية.
ولما كان ظاهر العالم ظاهر الحق وباطنه باطن الحق، والباطن مأخوذ فيتعريف الإنسان وتحديده لأنه معرف بالحيوان الناطق، والناطق باطنه والحيوان ظاهره. أو الهيئة الاجتماعية الحاصلة من الجنس والفصل ظاهره الذي به سر
الأحدية فيه وحقائقهما المشتركة والمميزة باطنه، فالحق مأخوذ في حده وكذلك فيكل محدود، إذ لا بد في كل من المحدودات من أمر عام مشترك وأمر خاص مميز، وكلاهما ينتهيان إلى الحق الذي هو باطن كل شئ.
(فالحق محدود بكل حد) لأن كل ما هو محدود بحد مظهر من مظاهره:
ظاهره من اسمه الظاهر وباطنه من اسمه الباطن، والمظهر عين الظاهر باعتبار الأحذية، فالحق هو المحدود.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وصور العالم لا ينضبط ولا يحاط بها، ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورة، فلذلك يجهل حد الحق. فإنه لا يعلم حده إلا ويعلم حد كل صورة، وهذا محال حصوله، فحد الحق محال). أي، صور العالم وجزئياته مفصلا غير منضبطة ولا منحصر، والحدود لا تعلم إلا بعد الإحاطة بصور الأشياء وحقائقها، فالعلم بحدودها محال، فحد الحق من حيث مظاهره أيضا محال.
وفي قوله: (إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورة) إشارة إلى أن كلواحد من الموجودات أيضا لا يعلم من حيث حقيقته، لأن حقيقته راجعة إلى عين الحق وحقيقته، وهي غير معلومة للعالم.
قال رضى الله عنه: (ولست أدرك من شئ حقيقته وكيف أدركه وأنتم فيه)
(وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه. ومن جمع في معرفته
بين التنزيه والتشبيه ووصفه بالوجهين على الإجمال - لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور - فقد عرفه مجملا لا على التفصيل، كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل). أي، من شبهه مطلقا وما نزهه في مقام التنزيه،فقد قيده أيضا وحده في تشبيه وما عرفه، كالمجسمة.
ومن جمع في معرفته بين التشبيه والتنزيه ونزل كلا منزلته ومرتبته ووصف الحق بهما على الإجمال - لأنه يستحيل ذلك على التفصيل إذ كل منهما مراتب غير متناهية لا يمكن الإحاطة بها- فقد عرف ربه مجملا، كما عرف نفسه مجملا.
لأن المرتبة الإنسانية محيطة بجميع مراتب العالم، والإنسان لا يقدر أن يعرف تلك المراتب على التفصيل، بل إذا علمأن مرتبته مشتملة بمراتب العالم كلها، علما اجماليا، فهو عارف بنفسه معرفة اجمالية، إلا من له مقام القطبية، فإنه من حيث سريانه في الحقائق بالحق يطلع على المراتب كلها تفصيلا، وإن كان هو أيضا من حيث تعينه وبشريته لا يقدر) عليها دائما.
(ولذلك ربط النبي، صلى الله عليه وسلم، معرفة الحق بمعرفة النفس فقال:
"من عرف نفسه فقد عرف ربه".) أي، ولكون النفس الإنسانية مشتملة على جميع المراتب الكونية والإلهية، والحق أيضا مشتمل عليها بحسب ظهوراته فيها،وما يعرف العارف نفسه غالبا إلا مجملا كما لا يعلم مراتب ربه إلا مجملا، ربط النبي، صلى الله عليه وسلم، معرفة الرب بمعرفة النفس.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وقال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق) وهو ما خرج عنك (وفي أنفسهم) وهو عينك (حتى يتبين لهم) أي،للناظرين لهم (أنه الحق) من حيث إنك صورته، وهو روحك).
استشهاد بالكلام المجيد وتأكيد لهذه الرابطة. فإن إرائة الآيات في الآفاق، أي في الأكوان، ليس إلا ظهور الحق وتجلياته في حقائق الأكوان، وكل منها دال على مرتبة معينة وحقيقة خاصة إلهية، كما أن إرائة الآيات في الأنفس إنما هي ظهوره وتجلياته فيها بحسب مراتبها، والعالم كله مظهر الحق، فالنفس الإنسانية أيضا كذلك، فالعارف لنفسه عارف لربه.
ولما كان ما اشتمل عليه النفس الإنسانية في العالم الكبير موجودا مفصلا يسهل إدراكه، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق) أولا، ثم أردفه بقوله: (وفي أنفسهم) أي، أعيانهم و ذواتهم (حتى يتبين) للناظرين فيهم
(أنه الحق) الذي ظهر فيها وتجلى لهما رحمة على أعيانهما، فأوجد هما بوجوده وأظهرهما بنوره وأعطاهما آيات دالة على حقيقته ووحدته.
والضمير في قوله: (وهو ما خرج) عائد إلى (الآفاق). ذكره تغليبا للخبر وهو (ما) وضمير (وهو عينك) عائد إلى (أنفسهم). ذكره اعتبارا للمعنى، و إرادة فرد من أفرادها، كأنه قال: وهو أنت. ولما كان نفس الشئ عبارة عن عينه وذاته.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهو عينك). والضمير في (أنه الحق) لله. أي، حتى يتبين لهم أن الله هو الحق الثابت في الآفاق وفي الأنفس. لكنه ساق الكلام بحيث يرجع ضمير(إنه) إلى (العين)، أي، حتى يتبين للناظرين أن عينك هو الحق من حيث إنك مظهره وصورته، فالحق روحك من حيث إنه يربك و يدبرك. فذكره أيضا لتغليب الخبر وهو (الحق).
(فأنت له، كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك).
ولما كان الاسم من وجه غير المسمى، جاء بكاف التشبيه هنا الموجب للمغايرة، ليعطى حق الوجهين: وجه أحدية العين، ووجه المغايرة. وقال:
(فأنت له) أي، نسبة عينك للحق كنسبة جسدك لعينك: فكما أن جسدكصورة عينك، كذلك عينك صورة الحق وهو ظاهر في عينك، كما أن عينك ظاهرة في جسدك. (وهو لك) أي، الحق لعينك كالروح المدبر لصورة
جسدك. وقد مر بيان هذا المعنى في المقدمات من أن الحق يرب الأعيان الثابتة بأسمائه وصفاته، ويرب الأرواح بالأعيان، والأجساد بالأرواح، لتكون ربوبيته في جميع المراتب ظاهرة.
قال الشيخ رضي الله عنه : (والحد يشمل الظاهر والباطن منك، فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها، لم يبق إنسانا، ولكن يقال فيها إنها صورة تشبه صورة الإنسان، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة. ولا ينطلق عليها اسم الإنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة) أي، التعريف الحدي يشمل الظاهر منك وهو بدنك، لأنك معرف بالحيوان الناطق والحيوان ليس إلا بدنك، إذ هو جسم نام حساس متحرك بالإرادة، والباطن أيضا هو روحك ونفسك المعبر عنها بالناطق. ولا يسمى ذلك البدن إنسانا بالحقيقة، إلا عند كونه حي إذا روح ونفس. وأما عند كونه ميتا فلا يسمى إنسانا إلا بالمجاز، باعتبار ما كان، إذ لا يصدق عليه أنه حيوان ناطق.
فلا فرق بين الصورة الإنسانية حينئذ، وبين صورة من خشب في الجمادية.
والغرض، أن الإنسان إنما هو إنسان بالروح، وروحه في الحقيقة هو الحق، لأنه روح الأرواح كلها، فلو نفرض مفارقة الحق منه، لا يبقى الإنسان إنسانا، ولذلك عقبه.
بقوله رضي الله عنه : (وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلا) لأنه بلا حق عدم محض، فكيف يمكن لها البقاء مع زوال الحق عنها. ولا ينبغي أن يتوهم منه أنه قائل بقدم الدنيا من أن الحق قديم فتكون صورته قديمة، لأن مراده عدم انفكاك الحق عن صور العالم إذا كانت موجودة. والصورة الدنياوية مبدلة بالصورة الأخروية، وهي الصورة الباقية للعالم أبدا، كما كانت في العلم أزلا.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز، كما هو حد الإنسان إذا كان حيا). وفي بعض النسخ: (فحد الألوهة).
(والألوهة) اسم للمرتبة الإلهية فقط. والألوهية اسم تلك المرتبة مع ملاحظة نسبة الذات إليها، كالعبودة والعبودية.
و (الإلهية) اسم نسبة الذات إليها. وهذه المرتبة لا تزال طالبة للمألوه، وليس ذلك إلا العالم.
ولما ذكر أن صورة العالم لا يمكن زوال الحق عنها لأنه روحها، وذكر أيضاأن العالم صورته واسمه الظاهر ونسبته إلى العالم نسبة الروح المدبر للصورة،أنتج أن حد الألوهية له، أي، للحق بالحقيقة لا بالمجاز، كما أن حد الإنسان، إذا كان حيا، له بالحقيقة. فإن كلا من الصورة والروح المدبر لها، حاصل له دائما.
والضمير في قوله: (كما هو) عائد إلى (الحد) المذكور في قوله: (والحد يشمل الظاهر والباطن) أي، كما أن الحد حد بالحقيقة للإنسان، إذا كان حيا)٩( ولا يتوهم أن هذا الكلام يناقض قوله: (فحد الحق محال).
لأن الحد، هنا،للمرتبة باعتبار الحق والعالم، لا للحق من حيث ذاته
قال الشيخ رضي الله عنه : (وكما أن ظاهر صورة الإنسان يثنى بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها،كذلك جعل الله صور العالم تسبح بحمده ولكن لا نفقه تسبيحهم، لأنا لا نحيط بمافي
العالم من الصور). أي، كما أن ظاهر الإنسان يثنى على نفسه وروحه الذي يربه و يدبره بلسان صورته وقواها الجسمانية والروحانية، كذلك ظواهر العالم، من الإنسان والحيوان والنبات والجماد وغيرها، يثنى بألسنتهم وألسنة قواه الروحانية والجسمانية على روحه الحقيقي الذي هو الحق، تسبحه وتنزهه عن النقائص اللازمة لهم اللاحقة بهم.
ولكن لا يفقه ذلك التسبيح والتنزيه إلا منتنور باطنه بنور الإيمان أولا، ثم الإيقان ثانيا، ثم العيان ثالثا، ثم يوجد أن نفسه وروحه ساريا في عين كل مرتبة وحقيقة كل موجود حالا وعلما، لا علما و شهودا فقط، كسريان الحق فيها، فيدرك تسبيح الموجودات بذلك النور
ويسمعه، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
وورد: (إن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس).
وقال أمير المؤمنين، على بن أبي طالب، كرم الله وجهه: (كنت مع رسول الله بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله حجر ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله). وأمثاله كثيرة في الأحاديث الصحيحة.
وقال الشيخ رضي الله عنه : في آخر الباب الثاني عشر من الفتوحات: (فإن المسمى بالجماد والنبات عندنا لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إياها في العادة، فلا يحس بها مثل ما يحسها من الحيوان. فالكل، عند أهل الكشف، حيوان
ناطق بل حي ناطق غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير. ونحن زدنا من الإيمان
بالإخبار الكشف. فقد سمعنا الأحجار تذكر الله، رؤية عين، بلسان نطق تسمعه آذاننا منها، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله مما ليس يدركه كلإنسان).
وقال في موضع آخر منه: (وليس هذا التسبيح بلسان الحال، كما يقولهأهل النظر ممن لا كشف له. هذا شأن من تحقق بالمراتب الثلاث الأول. وأما صاحب المقام الرابع، فهو مسبح لربه بلسان تلك الحقائق وحامد له في تلك
المراتب، فهو العبد التام لله، يعبده في كل موطن ومقام عبادة جميع العالم، ويحمده حمدهم. ويرى جميع ما يراه بالبصر والبصيرة عند تحققه بمقام الجمادية، ويسمعما كان يسمع، ويعقل ما كان يعقل من غير خلل ونقصان. وفي هذا المقام يطوى الزمان والمكان. ويتصرف في جميع الأكوان تصرف النفوس في الأبدان، ويظهرفي الحالة الواحدة في مراتب الأرواح النورانية والنفوس القدسية الروحانية والأجسام الكثيفة الظلمانية). ولهذه المراتب أسرار آخر غامضة جدا يحرم كشفها.
فقوله: (لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور). تعليل عن لسان المحجوبين والمكاشفين أيضا. لأن المكاشف لا يقدر على كشف تفصيل الوجود بأسرها ولايعرف تسبيح كل منهم على التعيين إلا ما شاء الله،
كما قال الشيخ رضي الله عنه : (ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء). أي، لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور النوعية التي هي الملكوت في الأجسام وهي الناطقة والمسبحة لا غير.
(فالكل ألسنة الحق ناطقة بالثناء على الحق، ولذلك قال: (الحمد لله رب العالمين).
أي، إليه يرجع عواقب الثناء، فهو المثنى والمثنى عليه.
لما أسند الثناء والحمد إلى صور العالم وبين أن الحق روحها وليس المتصرف في الصورة إلاالروح، أنتج منها أن صور الكل ألسنة الحق، إذ باللسان يظهر النطق.
والناطق والحامد هو الحق يثنى ويحمد بنفسه على نفسه في مقام تفصيله، كما حمد وأثنى على نفسه في مقام جمعه بقوله: (الحمد لله رب العالمين) وفيه إشارة إلى أن الحمدفي هذا المقام أيضا إنما هو باعتبار أعيان العالمين، لأن ربوبيته يقتضى المربوبين.
فإليه يرجع عواقب الثناء، أي، إذا حققنا الأمر، وجدنا أن الثناء منته إليه، بمعنىأنه هو الذي يثنى في هذه الألسنة على نفسه وهو المثنى عليه بالحقيقة، فهو المثنى والمثنى عليه، لا غير شعر:
(فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا وإن قلت بالتشبيه كنت محددا) ظاهر مما مر.
(وإن قلت بالأمرين كنت مسددا وكنت إماما في المعارف سيدا )
أي، إذا قلت بالتنزيه والتشبيه في مقاميهما كنت مسددا، أي، جاعلا نفسك على طريق السداد والصلاح. (وكنت إماما في المعارف) أي، في أهل المعارف سيدا باتباعك طريق الرسل، صلوات الله عليهم.
(فمن قال بالإشفاع كان مشركا ومن قال بالأوتار كان موحدا)
من قال بالإشفاع، بصيغة المصدر من (أشفع). أي، صار قائلا بالشفع، كان مشركا، أي، شرك مع الحق غيره بإثباته.
ومن قال بالإفراد، مصدر (أفرد)،كان موحدا، إذ لا يثبت معه غير.
(فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا وإياك والتنزيه إن كنت مفردا) مفردا على صيغة اسم الفاعل، أي موحدا. و (ثانيا) اسم فاعل من (الثنى.) أي، وإن كنت تجعل الواحد الحقيقي ثانيا بإثبات غيره معه.
ولما كان القولب الثاني مقصورا على طريقين: أحدهما أن يكونا قديمين، وهو قول المشركين، وثانيهما أن يكون الأول واجبا قديما والثاني فائضا منه محدثا بحيث لا يمكن أن يكون عين الآخر بوجه من الوجوه، وهو قول المؤمنين الظاهرين والحكماء المحجوبين.
وصرح بقوله: (وإياك والتشبيه إن كنت ثانيا). أي، قلت بالثاني بالمعنى الثاني، إذ بالمعنى الأول لا يقول إلا المشركون.
فإياك أن تشبه الغير الحادث الفائض من الحق بالحق في الوجود والصفات اللازمة له، لأن وجوده منه فهو قديم ووجودالغير ليس منه وهو حادث.
وجميع صفات الأول من ذاته، لا احتياج له فيها إلى غيره، بخلاف صفات الثاني.
وما للأول، من الصفات، على وجه الكمال، وما للثاني على سبيل العكس والظلال المستعارة، بل ليس إلا كالسراب يتوهم أنه موجود، وهو في الحقيقة معدوم، فلا تشبيه بينهما.
وإن كنت قائلا بالحقيقة الواحدة التي يظهر في مقام جمعه بالإلهية وفي مقام تفصيله بالمألوهية، فإياك أن تنزه فقط، بل لك أن تنزه في مقام التنزيه، وتشبه في مقام التشبيه.
(فما أنت هو، بل أنت هو وتراه في * عين الأمور مسرحا ومقيدا)
أي، فلست أنت هو، لتقيدك الظاهرة وإمكانك واحتياجك إليه، باعتبار أنك غيره، وأنت هو، لأنك في الحقيقة عينه وهويته الظاهرة بصفة من صفاته في مرتبةمن مراتب وجوده. فترجع ذاتك وصفاتك كلها إليه. قوله: (وتراه في عيون الأمور) أي، وترى الحق في عين الأشياء مسرحا ومقيدا، على اسم المفعول،أي، تراه مطلقا بحسب ذاته، ومقيدا بحسب ظهوره في صفة من صفاته. وعلى اسم الفاعل، أي، تراه مبقيا للوجود على إطلاقه في عين المقيدات ومقيدا له في مراتب ظهوراته. والثاني أنسب لتناسب الأبيات الأول. وعلى التقديرين هما منصوبان على الحال.
قال رضي الله عنه : (قال تعالى: "ليس كمثله شيء" فنزه، "وهو السميع البصير" فشبه.
قال تعالى: "ليس كمثله شيء" فشبه وثنى، "وهو السميع البصير" فنزه وأفرد).
اعلم، أن (الكاف) تارة تؤخذ زائدة، وأخرى غير زائدة. فعلى الأول معناه التنزيه، لأنه نفى أن يماثله شيء بوجه من الوجوه، وقوله: (وهو السميع البصير) تشبيه، لأنهمايطلقان عليه تعالى وعلى غيره من العباد. وعلى الثاني معناه: ليس مثل مثله شيء. فشبه بالمثل في نفى المثل عن المثل، وثنى أيضا بإثبات المثل.
ونزه بقوله: (وهو السميع البصير). فإن السمع والبصر في الحقيقة لله لا لغيره. وفي علم الفصاحة والبلاغة مبين أن الضمير إذا قدم وخبره معرف باللام، يفيد الحصر.
كقولك: فلان هو الرجل. أي، الرجولية منحصرة فيه وليست لغيره. كذلك هاهنا.
أي، هو السميع البصير لا غيره. فيفيد حصرهما فيه، وهو الإفراد والتنزيه عن النقصان، وهو عدم السمع والبصر. وإنما جعل السمع والبصر في الأولتشبيها وفي الثاني تنزيها، ليجمع بين التنزيه والتشبيه، وهو مقام الكمال.
ولما كان السمع والبصر راجعين إلى الحق في مقام الجمع، قال: (وأفرد) ولم يقل: ووحد. تنبيها على أن فردانيته لا يكون إلا في عين الكثرة، لأن الفردية يشتملعليها ضرورة لكونه عددا، والوحدانية تقابلها .
(فلو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، فدعاهم جهارا، ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا).
وقال: (دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا). ولما كانت هذه الحكمة في كلمة نوح ومرتبته، قال: إنه، عليه السلام، لو كان يجمع بين الدعوتين، أي لو كان
يجمع في دعوته بين التشبيه والتنزيه كما جمع في القرآن بينهما، لأجابوه، لأنه لو أتى بالتشبيه، لحصلت المناسبة بينه وبينهم من حيث التشبيه، إذ كانوا مثبتين لأصنامهم الصفات الكمالية، لذلك قالوا: (وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى). فجعلوهم من المقربين عند الله والمقربين لغيرهم، وأثبتوا لهم الشفاعة كما قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله).
والتقرب من الله والشفاعة عنده لا يكون إلالمن له الصفات الكمالية. فلو أتى بالتشبيه لصدقوه وقبلوا كلامه أيضا في التنزيه.
ولكن دعاهم جهارا، أي، ظاهرا إلى الظاهر المطلق من حيث صورهم و ظواهرهم ليعبدوا الله بظواهرهم بالعبادات البدنية والإتيان بالأعمال الحسية.
ثم دعاهم إسرارا، أي، باطنا إلى الباطن المطلق من حيث عقولهم وروحانيتها ليعبدوا الباطن المطلق عبادة الملأ الأعلى والملائكة المقربين. فلما لم يقبلوا دعوته،لرسوخ المحبة للمظاهر الجزئية التي هي معبوداتهم في قلوبهم وبواطنهم، قال:
(استغفروا ربكم إنه كان غفارا). أي، اطلبوا منه سر وجوداتكم و ذواتكم وصفاتكم بوجوده وذاته وصفاته. فنفرت بواطنهم منه، لأن الأنفس مجبولة على محبة أعيانها، أو لعدم قدرتهم بأنفسهم على ذلك. فلما رأى النفور عنهم، قال:
(إني دعوت قومي ليلا ونهارا). أي، في العلانية. أو ليلا، في الباطن والغيب بالدعوة الروحانية، ونهارا، أي في الشهادة والظاهر بالدعوة الحاصلة بالقوى الجسمانية.
(فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) من قبول الوحدة وشهود الحق المطلق الظاهر بصور الكثرة.
(وذكر نوح عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابةدعوته) أي، لما علموا أن إجابة دعوته واجبة عليهم، تصامموا وسدوا أسماع قلوبهم بعدم القبول لقوله.
كما قال: و (جعلوا أصابعهم في آذانهم.)
قال الشيخ رضي الله عنه : (فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح، عليه السلام، في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم).
أي، علم الراسخون في العلم بالله وأسمائه وصفاته الذين هم أصحاب الكشف والشهود، معنى ما أشار إليه نوح، عليه السلام، في حق قومه سرا بلسان الذم من حيث صورة الشريعة، وهو الثناء عليهم في الحقيقة.
وذلك لأنهم قبلوا دعوته بالفعل لا بالقول: فإنه دعاهم إلى الاسم الظاهر، وهو عالم الملك، ثم إلى الاسم الباطن، وهو عالم الملكوت، ثم إلى الفناء في الله، ذاتا ووجودا وصفة وفعلا، كما مر تقريره آنفا، ولم يف استعدادهم بالترقي إلى هذا الكمال، فسدوا آذانهم من إجابة دعوته مكرا منهم وحيلة ليدعو عليهم بظهور الحق بالتجلي الذاتي بصفة القهارية، فيحصل لهم الكمال المدعو إليه بلسان نبيهم بإجابة دعائه.
فدعا عليهم وأوصلهم بكمالهم رحمة منه عليهم في صورة النقمة. كما يشاهد اليوم فيمن ابتلي بامر منهي لا يقدر على استخلاص نفسه من تلك الخصلة الذميمة، ويحصل له الملامة بسببها كل حين، أنه يطلب من الحاكم إفناء نفسه بلسان قاله وحاله ليخلصه منها. وهذا حال العارفين منأمته.
وأما حال المؤمنين المحجوبين منهم والكافرين به فأيضا كذلك، وإن لم يعرفوا ذلك. فإن كل أحد له كمال يليق باستعداده.
والنبي رحمة من الله إلى أمته يوصل كلا منهم إلى كماله، لذلك دعا عليهم جملة.
والشيخ رضي الله عنه نزل الآيات كلها بما يليق بحال الكمل المهديين منهم، لأنهم هم الأناسي في الحقيقة لا غير.
(وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان.) أي، وعلم نوح، عليه السلام، أنهم إنما لم يجيبوا دعوته بالقول لما فيها من الفرقان، أي بين الحق والخلق الذي هو المظاهر، أو بين التشبيه والتنزيه.
والكمال التام القرآن، أي الجمع بينهما، لأنه مأخوذ من (القرء) وهو الجمع.
وليس ذلك مقامه، وإلا كان الواجب عليه أن يأتي بالقرآن الجامع بين التشبيه والتنزيه ليؤمنوا به وبربه، إذ السعي والاجتهاد على الأنبياء، بكلما يقدرونه ،واجب عليهم.
ويجوز أن يكون (علم) بتشديد اللام، من (التعليم) عطفا على (أشار).
أي، أشار بهذا القول: وعلم العلماء أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لإتيانه بالفرقان.
(ومن أقيم في القرآن لا يصغى إلى الفرقان) أي، ومن أقيم في مقام الجمع بين التشبيه والتنزيه، كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يصغى إلى قول من يقول بالفرقان المحض كالمنزه وحده، كنوح عليه السلام، والمشبه وحده ، كقومه.
فمن يكون قائلا بالشق الآخر من الفرقان، وهو التشبيه، فهو بالطريق الأولى أن لا يصغى إلى قول من يقول بالتنزيه المحض فقط.
ومن أقيم في مقام الجمع الذي هو حق بلا خلق، كالمجذوبين والموحدين الصرفة، لا يقدر على إصغاء مرتبة الفرق بين الحق والخلق وبين التنزيه والتشبيه، كما يقدر على إصغائه الكامل، فإنه يرى الخلق في مقامه، والحق في مقامه، ويجمع بينهما في كل من المقامين، كذلك في التشبيه والتنزيه.
(وإن كان فيه، فإن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن.)
(إن) للمبالغة. أي، وإن كان الفرقان حاصلا في القرآن. فإن القرآن لكونه مقام الجمع يتضمن الفرقان، وهو مقام التفصيل، فيجمع صاحبه بينهما. فما يحكم عليه الفرقان، من التشبيه والتنزيه، أجزاء لمقام القرآن دون العكس.
ويجوز أن يعود ضمير (كان) إلى (من). أي، وإن كان من أقيم في القرآن ومقام الجمع هو في حين الفرقان، لأنه محجوب بالحق عن الخلق، وبالجمع عن الفرق،
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة التي هي "خير أمة أخرجت للناس".) أي، ولكون المقام القرآني الجمعي بين مقامي التنزيه والتشبيه أكمل من مقام كل منهما، ما اختص به إلا محمد، صلى الله عليه وسلم، لأنه مظهر الاسم الأعظم الجامع للأسماء، فله مقام الجمع وبتبعيته لأمته التي هي خير أمة.
(فليس كمثله، فجمع الأمر في أمر واحد).
(فجمع) يجوز أن يكون مبنيا للمفعول، أي، اختص محمد، صلى الله عليه وسلم، بهذا المقام. فذكر فيما أنزل إليه: (ليس كمثله شئ) فجمع بين مقامي التنزيه والتشبيه في كلام واحد.
ويجوز أن يكون مبنيا للفاعل.
فمعناه: اختص محمد، صلى الله عليه وسلم ،بمقام الجمع، فجاء بقوله تعالى: (ليس كمثله شئ) فجمع بين المقامين.
فمقامه جامع بين الوحدة والكثرة، والجمع والتفصيل، و التنزيه والتشبيه، بل جميع المقامات الأسمائية، لذلك نطق القرآن المجيد بكلها.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فلو أن نوحا، عليه السلام، أتى بمثل هذه الآية لفظا، أجابوه).
أي، بمثل قوله تعالى: (ليس كمثله شئ). (فإنه) أي فإن النبي، صلى الله عليه وسلم.
(شبه ونزه في آية واحدة بل في نصف آية).
الآية هي: (ليس كمثله شئ، وهو السميع البصير).
ونصفها: (ليس كمثله شئ). والنصف الآخر: "و هو السميع البصير".
فإن في كل من النصفين تشبيها وتنزيها، كما مر بيانه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (و نوح دعا قومه ليلا من حيث عقولهم و روحانيتهم، فإنها غيب، ونهارا دعاهم أيضا، من حيث صورتهم وحسهم) وفي بعض النسخ: (وجثثهم) جمع(الجثة). أي، أبدانهم.
ومعناه: تارة دعاهم من حيث عقولهم المعطية للتنزيه إلى مقام التنزيه، وأخرى من حيث صورهم الموجبة للتشبيه إلى مقام التشبيه.
(وما جمع في الدعوة بينهما مثل "ليس كمثله" فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان فزادهم فرارا). معناه ظاهر، وقد مر تقريره أيضا.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم قال، عن نفسه إنه دعاهم ليغفر لهم لا ليكشف لهم، وفهموا ذلك منه، صلى الله عليه وسلم، لذلك جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها، فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك). أي، أخبر عن نفسه كما قال: (إني دعوتهم لتغفر لهم). فدعاهم ليغفر لهم الحق، وما دعاهم ليكشف لهم حقيقة الأمر، والمغفرة، الستر والإخفاء.
فلما فهموا مقصوده ،أجابوا دعوته بمثل ما دعاهم به من الستر، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، أي، ما قبلوا دعوته بالسمع والإطاعة بالقول.
واستغشوا ثيابهم، أي، طلبوا الاستتار بثياب وجوداتهم وحجب إنياتهم واستتار صفاتهم، لتظهر غيرة الحق فتفنيهم عن وجوداتهم ويستر في ذاته لذواتهم، واستتروا بالثياب المعهودة لقصور فهمهم عما أشار إليه نوح، أو الاستهزاء به مع فهمهم المقصود.
(ففي "ليس كمثله شيء" إثبات المثل ونفيه. وبهذا قال عن نفسه، صلى الله عليه وسلم، أنه أوتى جوامع الكلم). (أنه) بفتح الهمزة، إذ قال عن نفسه.
معناه: أخبر عن نفسه.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فما دعا محمد، صلى الله عليه وسلم، قومه ليلا ونهارا، بل دعاهم ليلا في نهار و نهارا في ليل). أي، جمع الله للنبي، صلى الله عليه وسلم، في قوله: (ليس كمثله شئ) بين الإثبات للمثل وبين نفيه في آية واحدة، بل في نصف آية. و(بهذا) أي، بسبب هذا الجمع بين التشبيه والتنزيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم، أي، جميع الحقائق والمعارف. ولهذا جمع القرآن جميع ما أنزل من المعاني التي في كتب الأنبياء، عليهم السلام.
فدعا، صلى الله عليه وسلم، قومه إلى الظاهر في عين الباطن، وإلى الباطن في عين الظاهر. وهو المراد بقوله: (ليلا في نهار ونهارا في ليل).
أو إلى الوحدة في عين الكثرة، وإلى الكثرة في عين الوحدة. و (ما دعا ليلا ونهارا) أي، إلى الغيب والوحدة وحده، و إلى الشهادة والكثرة وحدها.
(وقال نوح في حكمته لقومه: "يرسل السماء عليكم مدرارا" وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري و "يمددكم بأموال" أي بما يميل بكم إليه. فإذا مال بكم إليه، رأيتم صورتكم فيه).
اعلم، أن السماء في الحقيقة عالم الأرواح، والأرض عالم الأجسام. ولا يفيض من عالم الأرواح إلا الأنوار الملكوتية والمعارف العقلية الموجبة للكشف واليقين، ليعتبروا بما حصل لهم ما لم يحصل ويؤمنوا بالحق وكمالاته بما أفاض عليهم من آياته.
فلما كان الأمر كذلك، أشار نوح إلى قومه وبين حكمة ما دعاهم إليه بقوله: (يرسل السماء عليكم مدرارا).
أي، يرسل الحق عليكم من السماء المعارف العقلية والعلوم الحقيقية، ويعطيكم النظر الاعتباري في الأشياء، ليستدلوا بوجودكم على وجود الحق، و بوحدتكم على وحدته، و بذواتكم على ذاته، وبما في عالم الشهادة، من الموجودات والكمالات،على ما في الغيب من العقول والنفوس وكمالاتهم. ويمددكم بأموال، أي، بتجليات حبية وجواذب جمالية، ليجذبكم إليه، ويوصلكم إلى مقام الفناء فيه،ويتجلى لكم بالتجلي الذاتي، وعند هذه التجلي تشاهدون أعيانكم في مرآة الحق.
وإنما فسر (الأموال) ب (ما يميل بكم إليه) تنبيها على أن (المال) إنما سمى مالا لميل القلوب إليه.
وضمير (فيه) راجع إلى ما يرجع ضمير (إليه) وهو (الحق.)
(فمن تخيل منكم إنه رآه، فما عرف، ومن عرف منكم إنه رأى نفسه، فهو العارف. فلهذا انقسم الناس إلى عالم وغير عالم).
(الفاء) للتعقيب. أي، بعدأن رأى صورته في الحق من تخيل منكم أنه رأى الحق، فما عرف، لأن ذاته، من حيث هي هي، لا يمكن أن ترى. والرؤية إنما تحصل عند التنزل والتجلي بما يمكنأن يرى، كما قال، صلى الله عليه وسلم: (سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) وشبه برؤية القمر. ومن عرف منكم أنه رأى نفسه وعينه، فهو العارف بالحقيقة.
والآخر ليس بعارف كامل مع أنه من أهل الكشف والشهود، كما مر في (الفص الشيثي.)
(و (ولده) وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري، والأمر موقوف علمه على المشاهدة بعيد عن نتائج الأفكار إلا خسارا).
إشارة إلى قوله تعالى: " قال نوح،رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا". أي، إنهم عصوني ولم تقبلوا منى ما يوجب المشاهدة والعيان، واتبعوا عقولهم ونظرهم الفكري الذي (لم يزده ماله) وهو علومهم العقلية، و (ولده) وهو نتائجهم الحاصلة من تركيب قياساتهم العقلية، (إلا خسارا) أي، ضياعا لرأس ما لهم من العمر و
الاستعداد.
وذلك لأن المقام مقام المشاهدة وهو فوق طور العقل، والعقل بفكره ونظره لا يصل إليه. فمن تصرف فيما جاءت الأنبياء به بعقله أو اعتقد أن الحكماء والعقلاء غير محتاجين إليهم، فقد خسر خسرانا مبينا.
وذلك لأن المقام مقام المشاهدة وهو فوق طور العقل، والعقل بفكره ونظره لا يصل إليه. فمن تصرف فيما جاءت الأنبياء به بعقله أو اعتقد أن الحكماء والعقلاء غير محتاجين إليهم، فقد خسر خسرانا مبينا.
("فما ربحت تجارتهم" فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملكلهم).
أي، ما حصل لهم في هذه التجارة إلا ضياع العمر والاستعداد. فإنهم أفنوا رأس ما لهم فيما لا يمكن حصوله لهم، فزال عنهم ما كان في أيديهم من الاستعداد والآلات التي يمكن بها أن يعبدوا الحق ويتبعوا الأنبياء ليحصل لهم الكشف عن حقيقة الأمر.
وكانوا يتخيلون أن ذلك ملك لهم، وما عرفوا أنه مستعار عندهم وملك للحق وسيرجع إليه.
وأزال عنهم علم ما كان في نفس الأمر، لأنهم يتخيلون أنهم أدركوا الحقائق على ما هي عليه في نفس الأمر بعقولهم الضعيفة ونظرهم الفكرية، وحسبوا إنهم ملكوها وليس الأمر كذلك، فزال عنهم وفات علم الحقيقة.
(وهو في المحمديين) أي، ما كان في أيديهم من الملك هو ملك الله كما جاءفي حق المحمديين، أو علم الحقيقة وانكشافها على ما هي عليه لله، كما جاء فيحق المحمديين: ("وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه".)
فأثبت الملك لنفسه، وجعل المحمديين خلفاء عليه، وأمر بالإنفاق والتصرف تصرف الخلفاء في ملك المستخلف. (وفي نوح: "ألا تتخذوا من دوني وكيلا". فأثبت الملك لهم والوكالة لله فيه).
أي، وجاء في حق نوح وقومه: (أن لا تتخذوا من دوني وكيلا). فأثبت الملك لقوم نوح على ما زعموا إن ما في أيديهم، من المال والعمر والآلات البدنية والقوى والكمالات، ملك لهم، وطلب منهم أن يتخذوه وكيلا في أمورهم وفي ملكهم.
وإنما قال: (وفي نوح) وإن كانت الآية في بنى إسرائيل، كقوله تعالى:
(وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا.)
لقوله بعدها: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا).
فجعل بنى إسرائيلمن ذرية قوم نوح. (فهم مستخلفون فيهم، فالملك لله). أي، فالمحمديون مستخلفون،بفتح اللام، في أنفسهم وفي كل ما لهم من الكمالات. وإذا كان كذلك، فالملك لله وحده.
(وهو وكيلهم فالملك لهم، وذلك ملك الاستخلاف). أي، الحق وكيل قوم نوح، كما قال فيهم: (أن لا تتخذوا من دوني وكيلا). فالملك لهم. وذلك ملك الاستخلاف والتبعية لا الأصالة، لأن الملك بالأصالة لله وحده.
ولما عرف المحمديون هذا المقام بالكشف والشهود أن لا ذات ولا كمال ولا وجود إلا لله،جاء في حقهم من الله ما طابق كشفهم وفهمهم وما مكر معهم.
وقوم نوح لماتخيلوا أن ما في أيديهم ملكهم ولهم، جاء في حقهم ما صدقهم، مكرا من الله معهم وتجليا منه لهم على حسب اعتقادهم. فإن الحق لا بد أن يتجلى يوم القيامة على حسب اعتقاد المعتقدين، كما قال: (أنا عند ظن عبدي بي.)
(وبهذا كان الحق (ملك الملك) كما قال الترمذي) أي، وبسبب أن الحق أثبت ملك الاستخلاف للعباد الكمل وجعل نفسه وكيلا منهم، وللموكل أن يتصرف في الوكيل بحسب العزل والإثبات كما يتصرف في الملك، صار الحق ملك ملكه.
وذكر الشيخ رضي الله عنه في اصطلاحاته: (مالك الملك هو الحق في حال مجازات العبد على ما كان منه مما أمر به). فمعناه: أن الحق جزى عبده على ما عمل مما أمر به.
واعلم، أن جزاء الأعمال الصادرة من العباد إنما هو بحسب نياتهم: فمن كان عمله للجنة يجازيه بها، ومن كان عمله لله نفسه، ولا رغبة في الجنة ولا رهبة من النار، فالحق جزاؤه لا غير، كما جاء في الحديث القدسي: (من أحبني قتلته، ومن قتلته فعلى ديته ومن على ديته، فأنا ديته).
وقال أبو يزيد في مناجاته، عند تجلى الحق له: (ملكي أعظم من ملكك لكونك لي وأنا لك، فأنا ملكك وأنت ملكي، وأنت العظيم الأعظم، وملكي أنت، فأنت أعظم من ملكك وهو أنا.)
وقوله: (كما قال الترمذي) إشارة إلى ما سأل الشيخ الكامل المكمل، محمد بن على الترمذي، قدس الله روحه، أسئلة لا يجيب عنها إلا أكابر الأولياء أوقطب الوقت. ومن جملتها: (ما ملك الملك؟)
ولما ولد وبلغ الشيخ رضي الله عنه أجاب عنها. وفي كتاب الفتوحات، في المجلد الثاني، مذكورة مع أجوبتها.
(ومكروا مكرا كبارا، لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، لأنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية "ادعوا إلى الله" فهذا عين المكر على بصيرة. فنبه أن الأمر له كله، فأجابوه مكرا كما دعاهم). أي، لما مكر نوح عليه السلام معهم، مكروا مكرا كبارا في جوابه.
وذلك لأن الدعوة إلى الله مكر من الداعي بالمدعو، لأن المدعو ما عدم الحق من البداية حتى يدعى إليه في الغاية، لأنه مظهر هويته في بعض مراتب وجوده، فالحق معه بل هو عينه.
فالداعي إذا دعى، مظهرا ما يمكر به: فإنه يريد أن الحق ليس معه، وهو غيره، وهو عين المكر. لكن مثل هذا المكر من الأنبياء إنما هو على بصيرة كما قال: (ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني). أي، يعلم النبي إنه مظهر هوية الحق، لكن يدعوه ليخلصه عن القيود وترتفع عنه الحجب الموجبة للضلالة، فيرى ذاته مظهرا للهوية، و يشاهد جميع الموجودات مظاهر الحق، ويعبده بجميع أسمائه وصفاته، كما عبده من حيث اسمه الخاص.
وفاعل (نبه) ضمير يرجع إلى نوح، أو إلى الحق. أي، نبههم على أن الملك كله لله، ليس كما تخيلوا أنه لهم.
(فجاء المحمدي، وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته، وإنما هي من حيث أسمائه، فقال: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا). فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي (أوجب عليهم أن يكونوا متقين).
فجاء القلب المحمدي، أو الداعي المحمدي، وعلم أن الدعوة إلى الله ليست من حيث هوية الحق، لأنها موجود في كل موجود، وإنما هي من حيث أسمائه، أي، يدعوا الخلق من الأسماء الجزئية التي يعبدونها إلى الاسم الجامع الإلهي وهو (الله) و (الرحمن). كما قال تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا). أي، نحشر الذين يتقون من الأمور المقيدة الحاجبة لهم عن أنوار الاسم الجامع الموجبة للظلمة والضلالة، إلى الاسم الجامع الرحماني. (فجاء بحرف الغاية) وهو (إلى). و (قرنها بالاسم الرحماني). ليعلم أن العالم من حيث إنه أسماء إلهية، أي مظهر أسماء إلهية جزئية كانت أو كلية، تحت إحاطة اسم إلهي وهو (الله) و (الرحمن) أزلا.
فأوجب ذلك الاسم على أهل العالم أن يكونوا متقين محترمين عن عبادة أسماء الجزئية دائما، ليعبدوا الله بجميع أسمائه، لأن العابد لله عابد لجميع الأسماء لأنها داخلة فيه، وأما عابد (المنعم) مثلا، ليس عابد (المنتقم) فما يعبد الله من حيث جميع أسمائه.
لذلك قال: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟)
(فقالوا في مكرهم: "لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا". فإنهم إذا تركوهم، جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها، يعرفه من عرفه ويجهله من جهله). أي، قال قومه في مكرهم معه، ليدعو عليهم: (لا تذرن آلهتكم).
وهي (ود) و (سواع) و (يغوث) و (يعوق) و (نسر). لأن هوية الحق ظاهرة فيهم، كما في غيرهم. فلوتركوهم، جهلوا من مظاهر الحق على قدر ما تركوا، لأن للحق في كل معبود وموجود وجها، إذ الوجه الباقي مع كل شئ يعرفه، أي، يعرف هذا المعنى من عرف الحق ومظاهره، ويجهله من جهل الحق ومظاهره.
(في المحمديين: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه". أي، حكم) وجاء في حق المحمديين: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه). أي، حكم أزلا رب محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو الاسم (الله) الجامع، أن لا تعبدوا إلا الله الجامع للأرباب، ولا تعبدوا الأرباب المتفرقة.
(فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية). فالعالم بالله ومظاهره يعلم أن المعبود هو الحق في أي صورة كانت، سواء كانت حسية كالأصنام، أو خيالية كالجن، أو عقلية كالملائكة.
ويعلم أن التفريق والكثرة مظاهر لأسمائه وصفاته، وهي كالأعضاء في الصورة الإنسانية: فإن العين مظهر للإبصار، والأذن للسمع، والأنف للشم، واليد للبطش، وكالقوى الروحانية، كالعقل والوهم والذاكرة والحافظة والمفكرة والمتخيلة، فإنها كلها مظاهر لصفات الروح. (فما عبد غير الله في كل معبود). إذ لا غير في الوجود.
(فالأدنى من تخيل فيه الألوهية) أي، فالأدنى مرتبة من العابدين من تخيل- على البناء للفاعل - في معبوده الألوهية، أي، ما علم يقينا أنه مظهر من مظاهرالحق، بل توهم فيه الألوهية. وأما على البناء للمفعول. فمعناه: وأدنى مرتبة في مرتبة من مراتب المعبودين من تخيل فيه أنه إله. والأول أنسب لقوله بعده:
(والأعلى ما تخيل) على النبأ الفاعل. (بل قال: هذا مجلي). (فلو لا هذا التخيل) أي تخيل الألوهية. (ما عبد الحجر ولا غيره) لأنه جماد ظاهر لا حس له ولا حركة، فلو لا أنه تخيل هذا العابد فيه الألوهية، ما عبده أصلا. (ولهذا قال)
أي، الحق لنبيه إلزاما للكفرة وإفحام لهم: ("قل سموهم" فلو سموهم، لسموهم شجرا أو حجرا أو كوكبا. ولو قيل لهم: من عبدتم؟ لقالوا: إلها). أي، ربا من الأرباب المتفرقة، أو إلها من الآلهة المتكثرة.
(ما كانوا يقولون الله ولا الإله). ما كانوا يقولون: نعبد الله الجامع للآلهة والأرباب، ولا نعبد الإله ،أي، المعبود المعين الذي هو معبود الكل.
(والأعلى ما تخيل، بل قال: وهذا مجلي إلهي ينبغي تعظيمه. فلا يقتصر.) أي، الأعلى من العابدين والأعرف منهم لم يتخيل، كما تخيل الجهال العابد ون بالتوهم.
بل يقول: هذا مجلي إلهي ومظهر من مظاهره، يجب تعظيمه لوجوب تعظيم شعائر الله.
فلا يقتصر أن يعظمه بنفسه ويعبده، بل يأمر غيره أيضا بعبادته وتعظيمه.
أو لا يقتصر الحق في معبوده الذي جعله مجلي إلهيا، بل قال:
إنه مجلى من مجاليه ومظهرا من مظاهره، واجب تعظيمه وعزته. فيجعل هوية الحق متجلية في صور الموجودات المتكثرة.
(فالأدنى صاحب التخيل يقول: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" والأعلى العالم يقول: "إنما إلهكم إله واحد فله أسلموا". حيث ظهر).
أي، غير العالم من العابدين يقول: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله). ووسائط، نعبدهم ليقربونا عنده تقريبا تاما. والأعلى العالم يقول: (إنما إلهكم إله واحد). وله أسماء ومظاهر مختلفة، فأسلموا له و انقادوه واعبدوه في جميع مظاهره الروحانية والجسمانية.
كما قال تعالى: (فإلهكم إله واحد فله أسلموا، وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.)
("وبشر المخبتين" الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا: إلها، ولم يقولوا: طبيعة).
(خبت) من (الخبو). وخبو النار، خمودها وإطفاؤها.
و (الإخبات)، التواضع وكسر النفس. لما أورد الآية بقوله: (والأعلى العالم يقول: "إنما إلهكم إله واحد".) تممها بقوله : و (بشر المخبتين) وفسر بأنهم هم الذين خبت نار طبيعتهم، أي، بشر الذين أخبتوا أخمدوا نار طبيعتهم بالسلوك والمجاهدة، فإذا خمدت نار طبيعتهم وخبت، تجلت لهم الصفات الإلهية والأنوار الذاتية، فعرفوا الحق وأنواره وآثاره الصادرة من أسمائه وصفاته في العالم بالحق، فقالوا:
إلها. أي، سموه بالاسم الإلهي، وما سموه باسم غيره من الطبيعة، كما يقول المحجوب: إن الطبيعة فعلت كذا وكذا.
والطبيعة وإن كانت مظهرا من المظاهر الكلية، لكنها غير متخلصة عن رق العبودية وسمة الغيرية، فالموحد لا يسند إليها الآثار والأفعال.
("وقد أضلوا كثيرا" أي، حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب.) أي، أضل قومه كثيرا من أهل العالم وحيروهم في تعداد الواحد الحقيقي بحسب الوجوه والنسب التي له. فإنهم اتبعوا عقولهم ودرجات عقولهم متفاوتة، فأدرك كل منهم من تلك الوجوه ما يناسب استعداده، ونفى ما أدركه غيره، فوقعوا في الحيرة والضلالة، كما يشاهد اليوم من أحوال أرباب النظر من تخطئة بعضهم بعضا. وكلهم مصيب من وجه ومخطئ من وجه آخر) .
(ولا تزد الظالمين) لأنفسهم المصطفين الذين أورثوا الكتاب (أخذ) (الظالمين) من قوله: (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا). بمعنى الظالمين في قوله تعالى:
(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات). فاللام للعهد.
ونقل صاحب المعتمد، رحمه الله، عن الترمذي عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه: (إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قرأ: "ثم أورثنا الكتاب..." فقال: (وكلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة).
وذلك لأنهم ظلموا على أنفسهم وبإهلاكها ومنعها عن متابعة هواها الذي هو روحها وحياتها لأنفسهم، ليتحققوا بالأنوار والمعارف الإلهية والمكاشفات الروحية، كما قال عليه السلام: (اتبعوا أبدانكم لراحة أنفسكم.)
لذلك قال: (الذين اصطفينا). وأضاف إلى نفسه بقوله: (من عبادنا) تشريفا له وتعظيما لشأنهم.
(فهم أول الثلاثة، فقدمهم على (المقتصد) و (السابق)).
أي، الظالمين لأنفسهم أول الطوائف الثلاث المذكورين في الآية.
(فقدمه) أي قدم الحق (الظالم لنفسه) على (المقتصد) و (السابق بالخيرات)، لأنه ظلم نفسه لتكميل نفسه بعدم إعطاء حقوقها، فضلا عن حظوظها، حتى أوصلها إلى مقام الفناء في الذات، وجعلها موصوفة بكل الكمالات بخلاف (المقتصد)، فإنه متوسط في السلوك، غير واصل إلى مقام الفناء في الذات بل واقف في الفناء في الصفات، وبخلاف (السابق في الخيرات)، لأنه في مقام الأفعال الخيرية و التحلية بالأعمال الزكية، كالعباد والزهاد والمتقين من الأعمال الموجبة للبعد والطرد.
ولا شك أنهؤلاء الطوائف الثلاث كلهم من أهل الجنة وكلهم من المصطفين الأخيار.
فذكره بالظلم إثبات لمرتبة عظيمة، لا ذم في حقه.
("إلا ضلالا" إلا حيرة). (إلا ضلالا) تتمة لقوله: (ولا تزد الظالمين).
وفسره بالحيرة الحاصلة من العلم لا الجهل. (المحمدي: "زدني فيك تحيرا".) أي، كما قال الناطق المحمدي: (رب زدني فيك تحيرا). أي، ربى زدني فيك علما، فإني كلما أزداد فيك علما، أزداد فيك حيرة من كثرة علمي بالوجوه والنسب التي لذاتك.
وإنما قال: (المحمدي)، بياء النسبة، ليشمل الأولياء التابعين لمحمد، صلى الله عليه وسلم.
وقلبه الناطق بقوله: (رب زدني فيك تحيرا). فإن للوارثين منه مقام الحيرة، لا يزالون يطلبون الزيادة منها، لالتذاذهمبها وبلوازمها وملزوماتها المعطية إياها.
(كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا.) أي، قد جاء في حق
قوم موسى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه). أي، كلما ورد لهم التجلي الإلهي الذي هوسبب إضاءة أرواحهم وقواهم الروحانية، سلكوا في المقامات وعرجوا إلى عالم القدس.
وإذا انقطع عنهم ذلك التجلي النوري وأظلم عليهم، قاموا، أي، وقفوا حيارى لظهور التجلي الظلماني عليهم وهو معد لاستعداداتهم لقبول التجليات النورانية مرة أخرى، بحيث لا يشعر المتجلى فيه به إلا عند زوال ذلك التجلي.
وقد خلق الله الليل والنهار آيتين لهذين النورين، قال الله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة). فكان نوح، عليه السلام، أول من طلب هذا المقام لأمته، وحصل هذا المقام بكماله لهذه الأمة.
(فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه). أي، الحائر يتحرك بالحركة الدورية، لأنه يرى مطلوبه مع كل موجود يوجد في دائرة الوجود بوجه آخر، فيتحرك إليه، والوجود دوري فتقع الحركة دورية. والحركة الدورية لا يكون إلا حول القطب الذي مدار الوجود عليه، فالحائر لا تزال حركته دورية.
ولما يبرح من القطب، أي، لا ينفك منه لاستفاضته منه دائما وتوجهه إليه سرمدا. كالملائكة المهيمة في الجمال المطلق الإلهي.
(وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه) أي، إلى الخيال.
(غايته: فله (من) و (إلى) وما بينهما. وصاحب الحركة الدورية لا بدأ له، أي لا بدأ له في سيره وسلوكه، فيلزمه (من) ولا غاية) لكماله (فيحكم عليه (إلى)). (فيلزمه)، (فيحكم عليه). منصوبان بإضمار (إن) لوقوعهما بعد (الفاء) في جواب النفي. أي، صاحب الحركة المستطيلة خارج عن طريق الحق مائل عن مقصوده، لأنه ما يرى الحق في المظاهر،بل توهم أن مطلوبه خارج عن هذه المظاهر، فيتحرك بالحركة المستطيلة للوصول إليه، ومقصوده معه وهو لا يشعر.
فهذا المتحرك طالب لما هو معه وفي نفسه، وهو يطلب خارجا من الموجودات، فهو صاحب خيال وتوهم، لأن الحق مجردا عن المظاهر لا نسبة بينه وبين العالم، كما قال: (ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار). فلا يمكن إدراكه إلا في المظاهر.
قوله: (إليه غايته). أي، إلى الخيال غايته ومقصوده، فيلزم لصاحب
هذه الحركة (من) و (إلى) وما بينهما، فله بداية ونهاية. ولصاحب الحركة الدورية لا بداية ولا نهاية، لأنه يشاهده في جميع المظاهر الروحانية والجسمانية دنيا وآخرة، ولا نهاية للمظاهر، فلا نهاية لشهوده فيها، فلا يلزمه (من) ولا يحكم عليه (إلى.)
وإنما قال: (صاحب الطريق المستطيل) ولم يقل: المستقيم. لأن الصراط المستقيم يطلق على الطريق المستطيل وعلى غيره، كما يقال: فلان على الطريق المستقيم. إذا كان أقواله وأفعاله على سبيل الصواب وطريق السداد.
وصاحب الطريق المستقيم، بهذا المعنى، هو الذي يرى الحق في كل شئ ويعظمه تعظيما لائقا بظهور الحق في ذلك الشئ ويعطى حق جهة حقيته وخلقيته، لذلك صارت الاستقامة أصعب الأشياء.
وإليه إشارة النبي، صلى الله عليه وسلم،بقوله: (شيبتني سورة هود). إذ أمر فيها بالاستقامة. قال تعالى: (فاستقم كما أمرت). في السير من الخلق إلى الحق، وإن كان يلزم (من) و (إلى) لكنه غير مذموم، لأن السالك يسلك في الحقيقة من نفسه إلى نفسه وعينه الثابتة التي هي ربه، ليعرفها فيعرف ربها.
فحركته من جهة عبوديته إلى جهة ربوبيته، فليسك المحجوب الطالب لربه خارجا عن نفسه وعن سلسلة الموجودات الممكنة جميعا، كالمتفلسف والمتكلم.
(فله الوجود الأتم وهو الموتى جوامع الكلم والحكم). أي، فلصاحب الحركة الدورية، الإدراك والوجدان التام. ف (الوجود) بمعنى (الوجدان)،كقوله تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما).
أو فله الوجود المحيط بكل شئ بتمامه، لأنه يشاهد الحقيقة الوجودية في جميع مظاهرها. وهو الذي أوتى جوامع أنوار الكلم الروحانية والحكم الربانية.
("ومما خطيئاتهم" فهي التي خطت بهم، فغرقوا في بحار العلم بالله و هو الحيرة) أي، جاء في حقهم و (مما خطيئاتهم أغرقوا).
(فأدخلوا نارا) (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا). و "الخطيئة"، الذنب.
وفي قوله: (فهي التي خطت بهم) أي، ساقهم وسلك بهم إشارة إلى أنها مأخوذة من (الخطو)، لأنه يخطو ويتعدى أوامر الله، فيقع في الذنب. وواحدة: (خطوة)، وجمعه: (خطوات).
أي، خطواتهم وقطع مقاماتهم بالسلوك هي التي خطت بهم إلى بحار العلم بالله، فغرقوا فيها و حاروا. أو ذنوبهم وخطاياهم هي التي أوجبت عليهم أن يغرقوا. والتأويل الأول لا ينافي ظاهر المفهوم منها، لأنه بالنسبة إلى الكمل من أمته، وما يفهم منه ظاهرا إنما هو بالنسبة إلى الكافرين به و المحجوبين عن دينه.
والضمير في قوله: (وهو الحيرة) راجع إلى (الغرق). أي، ذلك الغرق هو الحيرة. ويجوز أن يرجع إلى (العلم بالله).
وإنما قال كذلك لأنها يلزم العلم بالله كما يلزم العجز. فحملها عليه مجازا، حمل اللازم على الملزوم، كما حملا لإدراك على العجز مجازا في قولهم: (العجز عن درك الإدراك إدراك). حملا لملزوم على اللازم، لأن العجز عن إدراك الحق على ما هو عليه وحقيقته، إنما يلزم من غاية العلم بالله وجهاته المتكثرة المحيرة للناظر فيها.
("فأدخلوا نارا" في عين الماء). أي، فادخلوا في نار المحبة والشوق حال كونهم في عين الماء. أو نارا كائنة في عين الماء، ليفنيهم عن أنفسهم و يبقيهم بالحق.
وإنما قال: (في عين الماء) لأن نار المحبة المفنية لهم بأنوار سبحات وجه الحق، حصلت لهم واستولت عليهم في عين العلم بالله. و (الماء) صورة العلم.
(في المحمديين: (وإذا البحار سجرت) من سجرت التنور إذا أو قدته.) أي، جاء في حق المحمديين: (وإذا البحار سجرت) أي أوقدت.
تقول: سجرت التنور إذا أو قدته. والغرض، أن بحار الرحمة الذاتية التي هي خاصة بالكاملين يظهر بصورة النار، وهي نار القهارية التي بها يقهر الحق الأغيار و يفنيهم ليبقيهم بذاته، كما جاء: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). فظاهر الشهوات ماء وباطنه نار، وظاهر الجنة نار وباطنه ماء.
لذلك قال بعض العارفين من الصحابة - حين قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (أنا القاسم بين الجنة والنار): (يا قاسم الجنة والنار، إجعلني من أهل النار.)
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (تريد أن تكون من أصحاب القيامة الكبرى.)


("فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا"، فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد.) أي، حين ادخلوا في نار القهر والإفناء بتجلي القهار لهم، لم يجدوا لهم ناصرا ينصرهم غير الله. وفي هذا المعنى الجمعي شاهدوا أن أنصارهم في جميع المقامات، الذين نصروهم في سلوكهم من المكملين وأخرجوهم من المضائق، وكانوا مظاهر الله، فكان الله عين أنصارهم دنيا وآخرة، فهلكوا في الحق وفنوا في ذاته أبدا وحيوا بحياته سرمدا، وتبدلت بشريتهم بالحقيقة، كما قال: (كنت سمعه وبصره). فينادون بلسان حالهم:
تسترت عن دهري بظل جناحه ..... فعيني دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمى ما درت ...... وأين مكاني، ما درين مكاني
(فلو أخرجهم إلى السيف، سيف الطبيعة، لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة) أي، لو أخرجهم الحق من الجناب الإلهي والحضرة القدسية إلى عالم بشريتهم، مرة أخرى، لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة إلى ساحل بحر الطبيعة.
إذ (السيف)، بكسر السين وسكون الياء، هو الساحل. وهذا حال المهيمين في جمال الله، ليس لهم الرجوع إلى الخلق ثانيا، كما لغيرهم منالكمل المكملين. وإنما قال: (إلى السيف، سيف الطبيعة). ولم يقل: إلى الطبيعة. لأن الكمل الراجعين من الحق إلى الخلق وإن نزلوا إلى الطبيعة ثانيا، لكنهم لهم يظهروا بها وبآثارها كظهورهم قبل سلوكهم، بل يظهرون بالحقفيها، فكأنهم بقوا بمعزل عن الطبيعة وأفعالها، بل واقفين في ساحلها بأمر ربها.
(وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله). أي، وإن كان الكل عبدا لله وقائم الله، سواء كان طبيعة أو أهلها. بل الكل، من حيث هو كل، مظهر للإسم الجامع الذي هو الله، لكن تتفاوت درجات المقامات ومراتب أهلها كما تتفاوت درجات الأسماء الإلهية في الحيطة وغيرها.
وإنما قلت: من حيث هو كل. لأن الذات مع جميع الصفات إنما تظهر في الكل، لا في كل واحد، وإن كانت الذات مع كل واحد من المظاهر. والقطب الحقيقي لكونه مظهرا للإسم الأعظم الإلهي، مظهر للذات مع جميع الصفات، وغيره ليس كذلك.
واعلم، أن الكمل بعد وصولهم إلى الحق بفناء ذواتهم، يبقون ببقاء الحق و يحصل لهم الوجود الحقاني، ثم في رجوعهم من الله إلى الخلق يشاهدون الحق فيكل مرتبة بالحق، لا بأنفسهم، إلى أن يكمل سيرهم في أمهات المظاهر الإلهية ويعلمون أسرار الوجود في كل مرتبة من مراتب عالم الغيب والشهادة بأسرها، فينزل الحق كلا منهم في مرتبة من مراتب الكمل: فمنهم من يجعله غوثا وقطبا، ومنهم من يتحقق بمقام الإمامين الذين هما في يمين القطب ويساره كالوزيرين للسلطان، ومنهم من يبقى من الأبدال السبعة وهم الأقطاب المدبرون للأقاليم السبعة، وغير ذلك من مراتب الأولياء. ومن لم يرجع من تلك الحضرة الرفيعة، يلحق بالملائكة المهيمة.
(قال نوح: رب. ما قال: إلهي. فإن الرب له الثبوت، والإله يتنوع بالأسماء فهو كل يوم في شأن. فأراد بالرب ثبوت التلوين إذ لا يصح إلا هو). أي، خص اسم (الرب) في دعائه مضافا إلى نفسه، لأن الرب، في أي اسم كان وصفة، لا يقتضى إلا المربوب، فهو ثابت في ربوبيته للعباد، ليقضي حوائجهم ويكفي مهماتهم.
وأم (الإله) فغير مقيد بصفة معينة واسم مخصوص، لأنه مشتمل على جميع الصفات والأسماء، فإذا دعاه الداعي بقوله: يا إله، أو: يا الله، لم يدعه إلامن حيث اسم مخصوص مناسب لما يدعو. فإن المريض، مثلا، إذا التجى إلى هذا الاسم، فإنما يلتجي إليه من كونه شافيا و واهبا للعافية. والغريق إذا قال: يا الله، فإنما يلتجي إلى هذا الاسم من كونه مغيثا و منقذا، ونحو ذلك.
فيتنوع في الأسماء بحسب ظهوراته بالإحياء والإماتة والإيجاد والإعدام، إذ (كل يوم هو في شأن). وإضافة الإله إلى نفسه لا يخرجه عن مقام إطلاقه، إذ هو إله الكل بخلاف الرب، فإن رب موجود معين، ليس ربا لغيره، وإن كان الرب المطلق رب الكل.
فالرب يتقيد بالإضافة والإله لا يتقيد. فأراد نوح، عليه السلام، في دعائه بالاسم (الرب)، ما هو ثابت في ربوبيته كاف لمهماته قاض لمراداته في عين التلوين، أي، في عين تلوينات نوح، عليه السلام، في مراتبه الروحانية والقلبية.
(إذ لا يصح إلا هو) أي، إذ لا يصح في الترقي في الدرجات إلا ثبوت مقامالتلوين، فإنه بالتلوين يترقى من مقام إلى مقام.
قال الشيخ رضي الله عنه في اصطلاحاته: (إن مقام التلوين أعلى من مقام التمكين). ويريد به التلوين في الأسماء بعد الوصول، أو التلوين في مقامات القلب والروح لا النفس فإنه مذموم لظهوره في مقام القلب تارة ومقام النفس أخرى، بل التمكين أيضا قبلالوصول بمعنى الوقوف في بعض المقامات مذموم، لأنه لا يترقى إلى مقام الفناء.

("لا تذر على الأرض" يدعوا عليهم أن يصيروا في بطنها). المراد ب (الأرض) عالم الأجسام كلها.
أي، دعا عليهم أن يدخلهم الحق في باطن عالم الملك الذي هو أرض بالنسبة إلى عالم الملكوت الذي هو السماء، ولا يذرهم على وجه الأرض ليتخلصوا من العوالم الظلمانية الحاجبة للأنوار القدسية والوحدة الحقيقية، أو الأرض المعهودة، فإنها أيضا حضرة من أمهات الحضرات.
أي، لا تذرهم على وجه الأرض، بل أدخلهم في باطنها ليتضح عليهم ملكوت ما يخرج منها، فإن السالك إذا دخل في حضرة من الحضرات الإلهية، يكشف له ما في تلك الحضرة من الأعيان والحقائق وأسرارها.
(المحمدي: "لو دليتم بحبل لهبط على الله". "له ما في السماوات وما في الأرض".) أي، وجاء القلب المحمدي بقوله: (لو دليتم بحبل لهبط على الله.) فأخبر أن الله في باطن الأرض، كما أنه في باطن السماء وقال: (له ما في السماوات) أي عالم الأرواح، (وما في الأرض) أي، عالم الأجسام. وهو نور السماوات والأرض، فلا يخلوا السماوات والأرض منه.
(فإذا دفنت فيها فأنت فيها وهي ظرفك). أي، فإذا دفنت في الأرض بالموت الإرادي، فأنت في الأرض مع الحضرة الإلهية. كما قال، صلى الله عليه وسلم: (موتوا قبل أن تموتوا).
وبالموت الطبيعي أيضا، إذا كنت ممن عرف المقامات وظهورات هوية الحق. كما قال: (الموت تحفة المؤمن). وتلك الأرض ظرفك و ساترك عن عيون أهل العالم. (وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
إشارة إلى قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
أي، كما أخرجناكم من عالم الملكوت إلى عالم الملك، كذلك نعيدكم إليه ونخرجكم تارة أخرى ليوم القيامة وابتداء الدورة الأخروية من البقاء بعد الفناء فيه بالوجود الحقاني السرمدي. هذا على الأول من معنيي (الأرض).
وعلى الثاني، أي نعيدكم إلى ملكوت الأرض بالموت الإرادي أو الطبيعي، ومنها نخرجكم تارة أخرى مكتسيا خلع الأعمال الحسنة و ملتبسا بهيئات العلوم الحقيقية التي صارت ملكة في نفوسكم، وذلك (ليقضى الله أمرا كان مفعولا). فيستقر كل من السعداء والأشقياء مكانه.
(لاختلاف الوجوه) أي، يخرج كل واحد منكم من الأرض، تارة أخرى، على صورة تقتضيها هيئاته الغالبة على نفسه حال انتقاله إلى باطن الأرض، لاختلاف الوجوه والهيئات التي بها تستحق النفس صورة من واهب الصور وتستعد لها. ولاختلاف وجوه الحق وأسمائه المقتضية للإحياء والإماتة والإعادة في النشأة الأخروية. ويجوز أن يكون تعليلا لقوله: (يدعو عليهم أن يصيروا في باطنها) .
أي، دعا على أممه كلهم، العامة منهم والخاصة، بدعاء واحد يشملهم ليعطى الحق كلا منهم حقه، لأن الكافرين منهم من عرف الله وستره، ومنهم من أنكره وجحد، فاختلف وجوههم.
ولما كان الأمر كذلك، دعا عليهم بدعاء واحد يستر الخواص منهم، كما ستروا الحق عن أعين الأغيار، جزاء لهم، ويستر العوام المنكرين بالإفناء في وجوده وصفاته، ليتيقنوا الإلهية ويقروا بوحدانيته.
("من الكافرين" الذين "استغشوا ثيابهم".) أي، لا تذر على الأرض من الكافرين الذين ستروا بوجوداتهم وجود الحق و بصفاتهم صفاته وبافعالهم أفعاله. (وجعلوا أصابعهم في آذانهم) وما قبلوا كلام الأنبياء ودعوتهم.
(طلبا للستر) أي، لأجل طلبهم منه ستر وجوداتهم وإفناء ذواتهم في وجوده وذاته، لتبقوا بالبقاء الأبدي. (لأنه "دعاهم ليغفر لهم" والغفر، الستر). تعليل لقوله: (طلبا للستر.)
(ديارا) أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة). تتمة من الآية. أي،
لا تذر أحدا في دياره، ودياره أنانيته ووجوده وما يصير به هو هو، حتى تعم المنفعة على أنواع الكافرين والساترين وجه الحق ووجوده بوجوههم، ووجودهم ليكون لكل منهم نصيب، ولا يحرم أحد منها، كما عمت الدعوة عليهم.
("إنك" إن"تذرهم" أي، تدعهم وتتركهم "يضلوا عبادك" أي، يحيروهم فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية).
أي، إن تذرهم على حالهم يضلوا عبادك ويحيروهم فيك وفي ظهوراتك، فيخرجهم من مقام عبوديتهم بإظهار أسرار الربوبية لهم، كما ظهر لنفوسهم، فيظهرون بالأنانية و يتفرعنوا بظهورهم بأنفسهم.
(فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند نفوسهم عبيدا) فيدعون الألوهية، ويظهرون بالربوبية لغلبة مقام الوحدة عليهم وهم عبيد بالنسبة إلى تعيناتهم. ولا يجوز للعبد دعوى الربوبية مطلقا، لذلك يظهر شرف نبينا، صلى الله عليه وسلم.
بقوله: (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). وقال عيسى: (إني عبد الله آتاني الكتاب والحكم والنبوة).
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا تدعني إلا بـ " يا عبدها "، فأنه أشرف أسمائي).
(فهم العبيد الأرباب) أي، فهم حينئذ عبيد من حيث تعينهم وتقيدهم للحق المطلق، وأرباب لما تحت حيطتهم وأحكامهم، فهم العبيد والأرباب بالاعتبارين.
("ولا يلدوا" أي، وما ينتجون ولا يظهرون "إلا فاجرا" أي، مظهرا ما ستر).
(مظهر) اسم فاعل من (الإظهار). (ستر) على البناء للمفعول. أي، مظهرا ما ستره الحق من أسرار ربوبيته في مظاهره.
("كفارا" أي، ساترا ما ظهر بعد ظهوره) كما يعلمون اليوم في قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن).
فإنه صريح في أن ما في الوجود غيره، و يأولونه على مبلغهم من العلم بحسب عقولهم، كتأويلهم قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم). وأمثال ذلك.
(فيظهرون ما ستر) من الأسرار الإلهية. (ثم يسترونه بعد ظهوره). مرة أخرى. إما خوفا من الجهلاء، أو غيرة على الله.
(فيظهرون ما ستر) من الأسرار الإلهية. (ثم يسترونه بعد ظهوره). مرة أخرى. إما خوفا من الجهلاء، أو غيرة على الله.
(فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره). أي، يحار الناظر في كلامهم، ولا يعرف مقصود المظهرين في إظهارهم ولا مطلوب الساترين في سترهم، كما يصدر اليوم من العرفاء.
وذلك الإظهار إنما يحصل من غلبة الوحدة عليهم، والستر لا يكون إلا عند رجوعهم إلى أنفسهم وغلبة الكثرة عليهم. ولا بد أن يكون الأمر كذلك إلى أن يظهر خاتم الأولياء وينكشف الأمر على الكل.
(والشخص واحد) أي، والحال أن الفاجر المظهر هو الذي يستر ما أظهره ويكفر نفسه في زمان آخر. كما هو مشهور عن أبى يزيد في قوله: "لا إله إلا أنا"، و"سبحاني ما أعظم شأني " فكيف إذا كان المظهر غيره قد كما أفتى الجنيد بقتل الحلاج، رضى الله عنهما. ويحار الناظر، إذ لو كان المظهر غير الساتر، ربما كان لم يقع الناظر في الحيرة.
("رب اغفر لي" أي، استرني) أي، أستر ذاتي. (واستر من أجلى). أي، أستر صفاتي وكمالاتي من أجلى ليكون ذخيرة للآخرة.
(فيجهل مقامي و قدري) على البناء للمفعول. أي، أستر كمالاتي لئلا يطلع الخلق على مقامي و قدري عندك فيحسدونني ويهلكوني كم (جهل قدرك في قولك :و"ما قدروا الله حق قدره".) ولما كان هذا أيضا مقاما من المقامات الإلهية، طلب الاتصاف به أيضا للمضاهات بينه وبين الحق.
("ولوالدي" من كنت نتيجة عنهما، وهما العقل والطبيعة). وإنما فسر الوالدين بالعقل والطبيعة، لأنهما مظهرا حقيقة آدم وحواء في العالم الروحاني. ولكون العقل فعالا والطبيعة منفعلة، خص العقل بالأبوةوالطبيعة بالأمومة.
والمراد بالعقل ها هنا، هو الروح، كما هو اصطلاح أهل التصوف، لا القوة النظرية والمفكرة، وبالطبيعة، النفس المنطبعة، ونتيجتها القلب.
("ولمن دخل بيتي" أي قلبي). حين فنى عن نفسه وهواه. وجعل (القلب) مستقر الحق ومأواه. ("مؤمنا" أي، مصدقا بما يكون فيه) أي، بما يحصل في القلب.
(من الإخبارات الإلهية) إنما جعل الواردات القلبية والإلهامات الروحية (إخبارات إلهية)، لأن القلب والروح مطهر عن الأجارس البدنية ومقدس من الكدورات الجسمانية، وكلما يرد عليهما مطابق لما هو الأمر عليه في نفسه، فهو رباني.
لذلك قيل: إن الخواطر الأول كلها ربانية حقية، وإنما يتطرق إليها منتعملات النفس وتصرفاتها أمور تخرجها عن الصواب، فتصير أحاديث نفسانية ووساوس شيطانية.
(وهو) أي، ما يكون وما يحصل فيه من الإخبارات الإلهية. (ما حدثت به أنفسها.)
(أنفسها) فاعل (حدثت). وفي بعض النسخ: (أنفسهم.)
والضمير للمذكرين في الآية أنثه باعتبار (النفوس). فهو تعريف ما للخبر الإلهي الذي لا يكون بواسطة الملك.
ولا ينبغي أن يتوهم أن كل ما يحصل في النفوس هوكذلك، بل هذا المقام لمن تطهر من الأدناس نفسه، وأجاد وأسلم شيطانه وانقاد، ولا يوسوس الخناس في صدره وعرف جميع مكائد نفسه، فإذا خطر في قلبه خاطر أولا، يكون ذلك حديثا ربانيا، والحق ناطقا بلسانه، كما نطق بلسان غيره.
("وللمؤمنين" من العقول "والمؤمنات" من النفوس).
وإنما فسر (المؤمنين) بالعقول، أي المجردات، لأن نفوسهم فعالة في نفوس غيرهم مؤثرة بالهمة فيها،بل في العالم على قدر قربهم ونصيبهم من الاسم (القادر) وكمالهم من الله،
كالعقول.
و (المؤمنات) بالنفوس، أي المنطبعة المطمئنة، إذ (النفس) في اصطلاح هذه الطائفة لا يطلق إلا بها، لا بالناطقة المجردة، كاصطلاح الحكماء، لأنها هي المنفعلة عن الروح أولا، ثم بواسطتها ينفعل الطبيعة الجسمية والبدن.
("ولا تزد الظالمين") أي، المستترين بالغواشي التي توجب الظلمات، لذلك قال: (من الظلمات) أي، مأخوذة من الظلمات.
كما قال عليه السلام: (الظلم ظلمات يوم القيامة). (أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية) منصوب على أنه عطف بيان (الظالمين). والمراد منه العارفون بالغيب وإن كانوا ظاهرين بالحجب الظلمانية التي يسترهم كالملامية. وهؤلاء هم الذين جاء في حقهم: (أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري) ("إلا تبارا" أي، هلاكا) أي، هلاكا فيك.
(فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم). أي، إذا هلكوا فيك، فلا يعرفون نفوسهم ولا يشعرون بذواتهم ولا يظهرون بإنياتهم، لشهودهم وجه الحق الباقي أبدا دون أنفسهم، لئلا يحتجبوا بها عن الحق.
(في المحمديين:"كل شئ هالك إلا وجهه" وذاته. و "التبار" الهلاك.)
أي، كما جاء في حق المحمديين وفي كتابهم: (كل شئ هالك إلا وجهه). و ذاته، و التبار الهلاك، فطلب نوح، عليه السلام، الهلاك فيه بقوله: (ولا تزد الظالمين إلا تبارا.)
(ومن أراد أن يقف على أسرار نوح، فعليه بالترقي في فلك يوح). (يوحبالياء والواو الساكنة والحاء، هي (الشمس).
وإنما أحال الطالب السالك بالترقي إلى فلك الشمس. لأن الغالب على أملاك فلكها التنزيه. و روحانية فلك الشمس قلب عالم الأرواح المنزهة، فحصلت المناسبة بينهما.
(وهو في التنزلات الموصلية لنا، والسلام).
أي، الوقوف عليها وبيانها مذكور في كتاب التنزلات الموصلية. فإنه بين هناك وجه المناسبة بينهما، وكشف بعض أسراره الذي لم يذكره هاهنا. والله أعلم بالصواب.ٍ
.



4N9Quurkpb0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!