موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح القاشاني
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ عبد الرزاق الكاشاني

فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية


04 - فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

إنما قدم الشيخ فص الحكمية السبوحية على القدوسية، وجعلهما متقارنين وإن كان نوح متأخرا بالزمان عن إدريس عليهما السلام لاشتراكهما في التنزيه.
مع أن التقديس أبلغ من التسبيح والأبلغ بالتأخير أولى، فالتسبيح تنزيه عن الشريك وصفات النقص كالعجز وأمثاله .
والتقديس تنزيه عما ذكر مع التبعيد عن لوازم الإمكان وتعلق المواد ، وكل ما يتوهم ويتعقل في حقه تعالى من أحكام التعينات الموجبة للتحديد والتقييد ، وقد بالغ إدريس في التجريد والتروح حتى غلبت الروحانية على نفسه ، وخلع بدنه وخالط الملائكة واتصل بروحانيات الأفلاك وترقى إلى عالم القدس .
وأقام على ذلك ستة عشر عاما لم ينم ولم يطعم شيئ ، فتنزيهه ذوقى وجدانى تأصل في نفسه حتى خرق العادة ، وأما تنزيه نوح عليه السلام فهو عقلى لأنه كان أول المرسلين فلم يتجاوز في التنزيه مبالغة فهوم الأمة ، ولم يخل عن شوب التشبيه على ما هو طريق الرسالة وقاعدة الدعوى ، وتزوج وولد له بخلاف إدريس ، لأن الشهوة قد سقطت عنه وتروحت طبيعته وتبدلت أحكامها بالأحكام الروحية ، وانقلبت بكثرة الرياضة وصار عقلا مجردا ، ورفع مكانا عليا في السماء الرابعة .
فلهذا قال ( العلو نسبتان : علو مكان وعلو مكانة فعلو المكان – " ورَفَعْناه مَكاناً عَلِيًّا " .
وأعلى الأمكنة الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك ، وهو فلك الشمس ، وفيه مقام روحانية إدريس عليه السلام ) علو المكان كون الشيء في أرفع الأماكن ، وعلو المكانة كونه في أرفع المراتب ، وإن لم يكن مكانيا أو كان في أدنى الأماكن كعلو رتبة الإنسان الكامل بالنسبة إلى الفلك الأعلى .
وإنما أثبت لإدريس العلو المكاني لأنه لم يتجرد عن التعين الروحاني ، ولم يصل إلى التوحيد الذاتي المحمدي بالانسلاخ عن جميع صفات الغيرية ، والانطماس في عين الذات الأحدية ، بل انسلخ عن الصفات البشرية الطبيعية فتجرد عن النشأة العنصرية وأحكامها ، وبقي مع الصفات الروحانية وهيئاتها .
فتبدلت هيئات نفسه المظلمة بهيئات روحه المنور ، وانقلبت صورته صورة مثالية نورانية مناسبة بهيئاته الروحانية ، فعرج به إلى مأواه الأصلي ومقام فطرته الذي هو فلك الشمس وروحه منشأ تنزل روح القطب .
فإن روح هذا الفلك أشرف الأرواح السماوية كما أن روح القطب أشرف الأرواح الإنسية ، ولهذا كانت الشمس أشرف الكواكب ورئيس السماء ، وارتبطت بها جميع الكواكب ارتباط أصحاب الملك به .
العلوية من وجه والسفلية من وجه كما تبين في علم الهيئة ، وكان فلكها أخص الأفلاك وأوسطها كمكان الملك في وسط المملكة إذ الوسط أفضل المواضع وأحماها عن الفساد فهو بالنسبة إلى الأفلاك كالقطب من الرحى وبسيره ينتظم أمور العالم وينضبط الحساب والمواقيت.
فهو أعلى قدرا وأفضل روحا من الأماكن كلها .
قال رضي الله عنه : ( وتحته سبعة أفلاك وفوقه سبعة أفلاك وهو الخامس عشر فالذي فوقه :
فلك الأحمر أي المريخ ، وفلك المشترى ، وفلك كحيوان ، وفلك المنازل ، وفلك الأطلس فلك البروج ) أي الفلك الذي قسم إلى البروج الاثنى عشر ، واعلم كل برج بما بإزائه من صور الكواكب الثابتة التي على فلك المنازل الذي تحته.
وإنما سمى بفلك المنازل باعتبار منازل القمر المعروفة عند العرب من الثوابت التي عليه ( وفلك الكرسي ، وفلك العرش ) الظاهر أن المراد بهما النفس الكلية والعقل الكلى أي الروح الأعظم ، فإنهما مرتبتان في الوجود أعظم من مراتب الأفلاك ، والروح لوح القضاء والنفس لوح القدر ، فهما أرفع من الأجرام الفلكية فسماهما فلكين مجازا ، كما سمى كرة التراب فلكا مجازا فإنها لم تتحرك ولم تحط بشيء حتى تسمى فلكا بالحقيقة ، على أن البرهان لم يمنع وجود أفلاك غير مكوكبة فوق التسعة ، والحكماء جزموا في جانب القلة ، أي لا يجوز أقل مما ذكروا وأما في جانب الكثرة فلا جزم.
قال رضي الله عنه : ( والذي دونه : فلك الزهرة ، وفلك الكاتب ، وفلك القمر ، وكرة الأثير ، وكرة الهواء ، وكرة الماء وكرة التراب . فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان ) ظاهر ، وتسمية العناصر أفلاكا تعضد أنه يريد بالأفلاك مراتب الموجودات الممكنة البسيطة ، من الأشرف إلى الأدنى.
قال رضي الله عنه : ( وأما علو المكانة فهو لنا أعنى المحمديين ، قال الله تعالى – " وأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ والله مَعَكُمْ " - في هذا العلو وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة ) إنما كان علو المكانة للمحمديين ، لأن واحدية الجمع أعلى رتبة في الوجود وهي رتبة محمد عليه الصلاة والسلام ، والله تعالى بأحدية الذات بالوجود المطلق متعالي عن كل قيد فله العلو الذاتي .
لأن كل مقيد هو المطلق من حيث الهوية أي حقيقة الوجود الغير المنحصر وهو به هو وبنفسه ليس بشيء ، فلا رتبة له من غير الوجود حتى يعتبر العلو بالنسبة إليه .
فاللَّه هو العلى المطلق بحسب الذات وحده لا بالنسبة إلى شيء ، وهو مع المحمديين في هذا العلو لفنائهم في أحدية وجودهم به ، وهو متعالي عن المكان لعدم التقيد وكون المكان به مكانا ، لا عن المكانة لكون المطلق أعلى مرتبة من المقيد .
قال رضي الله عنه : ( ولما خافت نفوس العمال منا أتبع المعية بقوله : " ولَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ " فالعمل يطلب المكان والعلم يطلب المكانة ، فجمع لنا بين الرفعتين : علو المكان بالعمل وعلو المكانة بالعلم ) أي ولما وصفنا بأننا الأعلون وأن الله معنا فهم العمال منا علو المكانة لتنزه الحق عن المكان وثبوت الأعلوية بالعلم .
فخافوا فوات أجر العمل ، لأن العمل يقتضي علو المكان وحصول الثواب في الجنة ، فأتبع المعية بقوله " ولَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ " أي ينقصكم أعمالكم ، ليعلموا أن الرفعة العلمية الرتبية لا تنافي الرفعة العلمية المكانية ، وأن الله يجمعهما لهم. فإن الله تعالى مع كل شيء في كل حضرة.
قال رضي الله عنه : ( ثم قال تنزيها لاشتراك المعية " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى " عن هذا الاشتراك المعنوي ) يعنى لما أثبت له تعالى معيتنا في الأعلوية ، أو هم الاشتراك في علو المكانة فنزهه بقوله " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى " عن هذا الاشتراك ، فإن العلو المطلق الذاتي له وحده وهو أعلى بذاته مطلقا لا بالنسبة إلى غيره ، فإن كل علو ليس إلا له وكل ما ينسب إليه علوه ، فبقدر ما يتجلى فيه باسمه العلى ينسب إليه فلا شريك له في أصل العلو ، فلا علوية إضافة له وكل ما علا فباسمه علا.
قال رضي الله عنه : ( ومن أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات ، أعنى الإنسان الكامل ، وما نسب إليه العلو إلا بالتبعية ، إما إلى المكان وإما إلى المكانة وهي المنزلة ، فما كان علوه لذاته فهو العلى بعلو المكان وبعلو المكانة فالعلو لهما ) .
بيان أن العلو ليس إلا له فإن الإنسان الكامل أعلى الموجودات وما نسب إليه العلو إلا بتبعية المكان والمكانة فعلوه بسبب علوهما .
وإذا لم يكن لا على الموجودات علو ذاتى فكيف لغيره فعلم أن العلو الذي وصف به المكان والمكانة في قوله " مَكاناً عَلِيًّا " وفي كونهم أعلين بسبب معية الله ليس لهما بالذات فلا علو لمقيد أصلا إلا بالحق الذي له مطلق العلو الذاتي.
ومن ثم قال رضي الله عنه : ( فعلو المكان – كـ " الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى " وهو أعلى الأماكن ، وعلو المكانة " كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه " وإليه يرجع الأمر كله " أَإِله مَعَ الله " ) .
يعنى أن أعلى الأماكن علوه المكاني ، إنما كان بتجلى اسمه الرحمن له وهو معنى استوائه عليه ، وأما اختصاص علو المكانة به ففي قوله :" كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه " أي حقيقته التي بها وجد ما وجد وهو الوجود الحق المطلق ، فكل شيء في حد ذاته فان وهو الباقي بذاته والكل يرجع إليه بالفناء فيه ، وليس معه شيء فلا وجود لغيره فلا علو فلا وجه إلا واحد متعال بذاته ، ثم إنه نفى العلو عن كل متعين بخصوصه.
قال رضي الله عنه : ( ولما قال تعالى :" ورَفَعْناه مَكاناً عَلِيًّا " فجعل عليا نعتا للمكان " وإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً " فهذا علو المكانة .
وقال في الملائكة :" أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ " فجعل العلو للملائكة فلو كان لكونهم ملائكة لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو ، فلما لم يعم مع اشتراكهم في حد الملائكة عرفنا أن هذا علو المكانة عند الله ، وكذلك الخلفاء من الناس لو كان علوهم بالخلافة علوا ذاتيا لكان لكل إنسان ، فلما لم يعم عرفنا أن ذلك العلو للمكانة ) .
إنما بين أن علو المكانة ليس لكل إنسان من حيث إنه إنسان ولا للملك من حيث إنه ملك ، وإلا لكان كل إنسان وكل ملك عاليا ، ولم يبين أن علو المكان كذلك .
لأنه لما علم أن العلو لم يكن للإشراف ذاتيا علم أنه لم يكن للأخس ذاتيا ، وللاكتفاء بما ذكر من كونه مستفادا من تجلى اسمه الرحمن ، لا لكونه مكانا ولمثل ما ذكر من الدليلين ، ولذلك حذف جواب لما .
وهو قولنا : عرفنا أن العلو له لا لكونه ذاتيا بل لكونه مجلى اسمه الرحمن ، وتقيد علو المكانة بقوله : من عند الله ، معناه علو القرب والزلفى من الله ، وهو علو المنزلة والرتبة لا علو الذات.
وقيل العالون الملائكة المهيمون لم يؤمروا بالسجود لهيمانهم في الحق وغيبوبتهم عن غيره فلم يعرفوا ما سوى الله من آدم وغيره ولا أنفسهم .
فهم في خطاب الملائكة بالسجود كالمجانين في خطاب الأناسى مستثنون عنهم.
قال رضي الله عنه : ( ومن أسمائه العلى على من وما ثم إلا هو فهو العلى لذاته ، أو عما ذا وما هو إلا هو فعلوّه لنفسه ، فهو من حيث الوجود عين الموجودات ، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو فهو العلى لا علو إضافة ، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الوجود فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات ، والعين واحدة من المجموع في المجموع ) .
ولما بين أن العلو لكل ما سواه من المتعينات نسبى شرع في بيان العلو الذاتي ، وقوله على من استفهام بمعنى الإنكار لأنه ليس في الوجود غيره فلم يكن علوه نسبيا بل ذاتيا .
وبعض النسخ عمن وما ثم إلا هو وهو العلى لذاته ، أو عما ذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه ، والعلو يعدى بعن لما فيه من معنى الارتفاع ، وبعلي لما فيه من معنى العلية .
والمراد أن علوه ليس إضافيا فيدخل فيه عن وعلى ، إنما هو ذاتى وهو من حيث الحقيقة عين جميع الموجودات ، لأنها به موجودة بل وجودها وجوده ، وهي العلية لذاتها بحسب الحقيقة لأنها ليست إلا هو حقيقة .
وعلل ذلك بأن الأعيان الثابتة في العدم باقية على حالها من العدم ، والوجود المتعين بالأعيان هو عين الوجود الحق ، إذ ليس لها من ذاتها إلا العدم وما هي إلا مرايا له ، كما قيل :
وما الوجه إلا واحد غير أنه .... إذا أنت أعددت المرايا تعددا
فتعدد الصور في الموجودات عين واحدة في مجموعها متكثرة بحسب أسمائها ، كما ذكر في المقدمة ، فإن الأعيان من مقتضيات اسمه العليم من حيث اسمه الباطن ، وظهورها وحدوثها من حيثية اسمه الظاهر .
وما العين إلا واحدة فلها العلو الذاتي باعتبار وحدتها الحقيقية ، والوجه الواحد المطلق من حيث هو مجموع الوجوه الأسمائية في صورة المجموع من حيث هو المجموع الوحدانى الذات والعلو الإضافي بنسبة بعض تلك الوجوه إلى بعض.
قال رضي الله عنه: ( فوجود الكثرة في الأسماء هي النسب وهي أمور عدمية ، وليس إلا العين الذي هو الذات فهو العلى لنفسه لا بالإضافة ، فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة لكن الوجوه الوجودية ) .
أي المنسوبة إلى الوجود المطلق وهي الموجودات الآفاقية .
قال رضي الله عنه: ( متفاضلة فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة ولذلك تقول فيه هو ) أي بحسب الحقيقة ( لا هو ) بحسب الانحصار في التعين مع الإضافة .
وكذلك في الخطاب ( أنت لا أنت ، قال الخراز رحمه الله وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ) كما علمت ( ينطق عن نفسه بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها ، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن ، فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره ، وما ثم من يراه غيره وما ثم من يبطن عنه ، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه ، وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات ) .
قيل لأبى سعيد الخراز رحمه الله : بم عرفت الله ؟
قال : بجمعه بين الأضداد وما هو إلا ظهور الحق في صورته بجميع أسمائه المتضادة ، فهو محكوم عليه بها كالحق ، بل هو حق من حيث الحقيقة ، وجه خاص من وجوهه من حيث تعينه وخصوصيته كسائر المحدثات .
إذ ليس في الوجود غيره إلا أن الوجود متفاوتة متفاضلة بحسب ظهور الأسماء فيها وبطونها ، وغلبة أحكام الوجوب والإمكان فيها بعضها على بعض .
كغلبة الروحانية في بعضها والجسمانية في بعضها .
قال رضي الله عنه: ( فيقول الباطن لا إذا قال الظاهر أنا ، ويقول الظاهر لا إذا قال الباطن أنا ، وهذا في كل ضد والمتكلم واحد ، وهو عين السامع بقول النبي صلى الله عليه وسلم « وما حدثت به أنفسها » فهي المحدثة والسامعة حديثها ، العالمة بما حدثت به أنفسها ، والعين واحدة وإن اختلفت الأحكام ولا سبيل إلى جهل مثل هذا ، فإنه يعلم كل إنسان من نفسه وهو صورة الحق ).
يعنى أن كل اسم من أسمائه تعالى يثبت مقتضاه وينفى مقابله من الأسماء ما أثبته بإثبات ما يقتضيه ، وكذلك كل جزء من العالم يثبت أنانيته بإظهار خاصيته وينفى ضده ما أثبته ، ويبطل دعواه بإظهار ما يضاد تلك الخاصية ، فكل أحد يخبر عما في طبعه والآخر يجيبه والمخبر والمجيب واحد.
وقد تمثل بقول النبي عليه الصلاة والسلام في بيان مغفرته تعالى لذنوب أمته " ما صدرت عن جوارحهم وما حدثت به أنفسهم وإن لم يفعلوه ".
فإن كل إنسان قد يحدث نفسه بفعل شيء ويهم به ، ويرده عنه من فعله صارف منه وهو يسمع حديث نفسه ويعلم اختلاف أحكامها عند التردد في الفعل .
وهو المحدث والسامع والآمر والناهي والعالم بجميع ذلك ، مع أن عينه واحدة لاختلاف قواه ومبادئ أفعاله من العقل والوهم والغضب والشهوة وغير ذلك ، فهو بعينه صورة الحق في الوجوه والأحكام الأسمائية .
قال رضي الله عنه: ( فاختلطت الأمور وظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة ، فأوجد الواحد العدد وفصل العدد الواحد ، وما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود ).
سبب اختلاط الأمور واشتباهها تكثر العين الواحدة بالتعينات والمراتب ، إذ لا شيء في الوجود إلا تلك العين الواحدة المتكررة بالتعينات المختلفة .
ألا ترى أن الواحد في أول مرتبة واحد ، وفي الثانية عشرة وفي الثالثة مائة ، وفي الرابعة ألف ، وكل واحدة من هذه المراتب كلية يحتوي على بسائط الآحاد والعقود .
كالأنواع المحتوية على الأشخاص ، والأجناس المحتوية على الأنواع ، فإن الواحد في المرتبة الأولى إذا تجلى في صورة أخرى يسمى اثنين ، وليس إلا واحدا وواحدا جمعا والواحد ليس بعدد والهيئة الاجتماعية واحدة .
والمجموع المسمى اثنين عدد واحد ، فالصورة واحدة والمادة واحدة والمجموع واحد تجلى في صورة كثرة ، فأنشأ الواحد العدد بتجليه في صورتين ، وكذا الثلاثة واحد وواحد وواحد وحكمها في الواحدية حكم الاثنين .
وهكذا إلى التسعة التي هي بسائط الواحد وتعيناتها في المرتبة الأولى ، فإذا تجلى في المرتبة الثانية يسمى عشرة وليس إلا الواحد صورة ومادة ومجموعا .
فالواحد هو المسمى بجميع مراتب العدد وأسمائه ، وصور المراتب تجلياته فهو الإنسان من حيث أنه عدد واحد وثانى اثنين وثالث ثلاثة ورابع أربعة .
وكذلك في التفسير لقوله تعالى :" ما يَكُونُ من نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى من ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ".
فالواحد منشئ العدد والعدد مفصل الواحد ، وإذا فصلت العدد عند التحليل والتحقيق لم تجد إلا الواحد المتجلى في صورة تعيناته ومراتب تجلياته .
ولما كان العدد نسبة متعينة تعرض الواحد في تعيناته وتجلياته ، لم يتعين إلا بالمعدود وهو الواحد الحقيقي الذي لا حقيقة إلا له ، وبه تحقق التعدد والتعين والتجلي ، واللاتعدد واللاتعين واللاتجلى .
فإن تجلى في صورة أحديته الذاتية « كان الله ولم يكن معه شيء » وبطنت فيه الأعداد الغير المتناهية بطون النصفية والثلثية والربعية وسائر النسب الغير المتناهية في الواحد ، فإنها لا تظهر إلا بالعدد مع كونها متمايزة فيه .
وإن تجلى في صورة تعيناته ومراتب تجلياته أظهر الأعداد وأنشأ الأزواج والأفراد ، وتلك مراتب تنزلاته وليس في الوجود إلا هو.
قال رضي الله عنه: ( والمعدود منه عدم ومنه وجود فيه ) أي في الخارج ، فإن العدم المطلق الذي لا في العين ولا في الغيب لا شيء محض ولا تعدد فيه .
فلذلك بينه بقوله ( فقد يعدم الشيء من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل ، فلا بد من عدد ومعدود ) .
إما في الخارج وإما في العقل ( ولا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه ) كما ذكر من بيان إنشاء الواحد العدد وتفصيل العدد الواحد ( فإن كان لكل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا والعشرة إلى أدنى ) حتى الاثنين ( وإلى أكثر إلى غير نهاية ما هي مجموع ) أي ليست تلك الحقيقة نفس المجموع فإن المجموع أمر مشترك بين جميع المراتب المختلفة الحقائق ، لامتياز كل واحدة منها باللوازم والخواص من الأخرى .
ولكل مرتبة اسم خاص وصورة نوعية متقومة بفصل الامتناع ، استتار اللازم الخاص إلى الأمر المشترك ( ولا ينفك عنها اسم جميع الآحاد ) لأنه صادق على جميع المراتب لازم عام.
قال رضي الله عنه: ( فإن الاثنين حقيقة واحدة والثلاثة حقيقة واحدة ، بالغا ما بلغت هذه المراتب وإن كانت واحدة ) أي وإن كانت جميع المراتب واحدة في كونها جميع الآحاد وكونها عددا أو كثرة ومجموعا وما في معناه ( فما عين واحدة منهن عين ما بقي ) لما ذكر من اختلافها بالفصول المتنوعة . فقوله : فإن كان لكل مرتبة من العدد حقيقة واحدة ، شرط هذا جوابه .



وقوله : ما هي مجموع صفة الحقيقة . وقوله : ولا ينفك عنها صفة أخرى معطوفة عليها ، وقوله : فإن الاثنين تعليل لاختلاف المراتب بالأعداد .
والشرط الثاني تقييد له محذوف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، أي وإن كانت واحدة في كونها جميع الآحاد فهي حقائق مختلفة ( فالجمع يأخذها ) أي يتناولها ويصدق عليها صدق الجنس على الأنواع ( فيقول بها منها ) أي فيقول بأحدية كل حقيقة من عين تلك الحقيقة التي هي جمع معين من آحاد معينة لها هيئة اجتماعية خاصة ، أي صورة نوعية تخالف بها جميع المراتب الأخر ( ويحكم بها عليها ) أي ويحكم بالأحدية النوعية على تلك الحقيقة
قال رضي الله عنه : ( وقد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة ) هي من الواحد إلى التسعة التي هي مراتب الآحاد ، ثم العشرة والعشرون فإنه اسم لعقد خاص لا باعتبار أنه عقدان من العشرة ، وكذا الثلاثون والأربعون والخمسون والستون والسبعون والثمانون والتسعون ثم المائة ثم الألف .
فقد دخلها التركيب مما به الاشتراك وهو جمع الآحاد وما به الامتياز من الصورة النوعية إلا الواحد فإنه لا تركيب فيه ، وليس بعد دولة مرتبة خاصة في الوجود هي كونه أصل العدد ومنشأه .
ولهذا قال: ( وقد دخلها التركيب ) ولم يقل فإن جميع المراتب مركبة أي دخلها التركيب وجعلها عددا والضمير في دخلها يرجع إلى المراتب العشرين ، فيجوز أن يرجع إلى كل مرتبة من العدد فلا يتناول الواحد.
قال رضي الله عنه : ( فما تنفك تثبت عين ما هو منفى عندك لذاته ) أي لا تزال تثبت للكل أنه واحد ، أي حقيقة واحدة ومرتبة واحدة وكل منها عين الآخر بهذا الاعتبار ثم تقول :
إن الواحد غير البواقي لأنها عدد ، والواحد ليس بعدد وهو منشأ العدد وهي ليست كذلك وتقول لسائر المراتب إن كلا منها عدد وجمع آحاد ، فكل منها عين الأخرى بهذا الاعتبار ، وكل واحد منها حقيقة نوعية وغير الأخرى ، فإن الاثنين نوع غير الثلاثة والأربعة وسائر الأعداد وكذا الثلاثة ، فقد أثبت لكل واحدة أنها عين الأخرى ، ونفيت عنها أنها عين الأخرى لذاته.
قال رضي الله عنه : ( ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين ثبتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق من الخالق ) أي من عرف أن الواحد بذاته منشئ الأعداد بتجلياته وتعيناته ، فهو المسمى بالكثير باعتبار تعدد التجليات والتعينات في مراتب ظهوراته ، والتعدد نعت له بتلك الاعتبارات لا باعتبار الحقيقة الواحدية من حيث هو واحد .
وكل واحد من حيث أنه حقيقة معينة وحدانية ليس بواحد من حيث التركيب ولا اشتمال على مراتب الوحد ، وإن نفى الواحدية عن كل عدد وإثباتها له فإنه حقيقة واحدة من الأعداد فالواحد محيط بأوله وآخره ونفى الجمعية التي هي التعدد عين إثباتها له.
وإن كل عدد غير الآخر باعتبار وعينه باعتبار عرف أن الحق المنزه عن التشبيه باعتبار الحقيقة الأحدية ، هو الخلق المشبه باعتبار تجليه في الصورة المتعينة .
فمن نظر إلى الأحدية الحقيقية المتجلية في صور التجليات والتعينات قال حق .
ومن نظر التعدد والتكثر قال خلق .
ومن تحقق ما ذكرناه قال حق من حيث الحقيقة ، خلق من حيث الخصوصية الموجبة للتعدد ، كما أشار إليه الشيخ العارف أبو الحسين النوري قدس سره لطف نفسه فسماه حقا وكثف نفسه فسماه خلق .
فإن الحقيقة الأحدية في الكل تلطف عن الإبصار بل البصائر ، أي عن الحس والعقل والصور المتعينة بالخصوصيات المتمايزة من الهيئات والأشكال والألوان ، تكثف فتدرك به ( فالأمر الخالق المخلوق ، والأمر المخلوق الخالق ) .
بالاعتبارين على ما مر من ظهور الهوية بصورة الهاذية تحقق، والهاذية بالهوية فهو هذا، وهذا هو طردا وعكسا.
قال رضي الله عنه : (كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة) على ما بين في الواحد الكثير.
قال رضي الله عنه : (" فَانْظُرْ ما ذا ترى ؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ " والولد عين أبيه ، فما رأى يذبح سوى نفسه وفداه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان ، وظهر بصورة ولد لا بل بحكم ولد من هو عين الوالد " وخَلَقَ مِنْه زَوْجَها " فما نكح سوى نفسه ، فمنه الصاحبة والولد والأمر واحد في العدد ) .
أي العين الواحدة بالحقيقة تعدد بكثرة التعينات عيونا كثيرة ، وتلك التعينات قد تكون كلية كالتعين الذي صارت الحقيقة الأحدية به إنسانا ، وقد تكون جزئية كالذي صار به إبراهيم ، فإن المتعين بالإنسانية المطلقة هو الذي صار بعد التعين النوعي بالتعين الشخصي إبراهيم وبتعين آخر إسماعيل ، فالمتعين بالإنسانية المطلقة لم يذبح سوى نفسه " بِذِبْحٍ عَظِيمٍ " هو نفسه بحسب الحقيقة ، قد تعينت بتعين نوعى آخر متشخصة بتعين شخصى ، فالحقيقة الواحدة التي ظهرت بصورة إنسان ، هي التي ظهرت بصورة كبش بحسب التعينين المختلفين نوعا وشخصا . ولما كانت الصورة الإنسانية في الوالد والولد محفوظة باقية على واحدية النوعية أضرب عنغيرية الصورة في الوالد والولد وأثبت غيرية الحكم .
فقال : لا بل بحكم ولد ، فإن صورتهما واحدة وهي الصورة الإنسانية ولم يتغير إلا حكم الوالدية والولدية فحسب ، وكذا بين آدم وحواء فإنهما وأولادهما واحد في الإنسانية ، فالأمر واحد في الحقيقة متعدد بتعينات نوعية وشخصية لا ينافي الوحدة الحقيقية .
فهو واحد في صورة العدد.
قال رضي الله عنه : ( فمن الطبيعة ومن الظاهر منها ) يعنى كذلك الوجود الحق الواحد يتعين بتعين كلى يكون بها طبيعة ، ويظهر منها تعينات ثنائية وثلاثية أجسام طبيعية لها كيفيات متضادة ، وليس الطبيعة ولا ما ظهر منها إلا العين الأحدية التي هي حقيقة الحق.
قال رضي الله عنه : ( وما رأيناها نقصت بما ظهر عنها ، وما ازدادت بعدم ما ظهر غيرها ) لأنها كلية طبيعية معقولة لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير بنقصان جزئياتها وكثرتها وتغيرها ، فإن الحقائق الكلية كلمات الله التي لا تبديل فيه ( وما الذي ظهر غيرها ) بحسب الحقيقة ( وما هي عين ما ظهر ) بحسب التعين فإن المتعين المخصوص من حيث تعينه غير المطلق وغير المتعين الآخر.
قال رضي الله عنه : ( لاختلاف الصور بالحكم عليها ) فإن لكل صورة من الصور المتعينات حكما خاصا ليس لغيرها .
قال رضي الله عنه : ( فهذا بارد يابس ، وهذا حار يابس ، فجمع باليبس وأبان بغير ذلك ) مثال لاختلاف الصور بالأحكام ، فإن الأصل الواحد جمع بينهما باليبس وفرق بالحر والبرد ، وكذا بارد رطب وحار رطب فإنه جمع بالرطب وفرق بالحر والبرد ، وكذا بارد رطب وبارد يابس .
فقد جمع بالبرد وفرق بالرطوبة واليبوسة ، والجامع الطبيعة أي الأصل الذي يحفظ في الكثرة جهة الجمعية الأحدية.
قال رضي الله عنه : ( لا بل العين الطبيعية ) أي العين الواحدة التي هي حقيقة الحق هو الطبيعة في الحقيقة ظهرت في العالم العقلي بصورتها وتلبست بتعينها الكلى فتسمت طبيعة.
قال رضي الله عنه : ( فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة ) أي صور متضادة الكيفيات في مرآة الطبيعة الواحدة ، كما أن الطبيعة وسائر حقائق العالم صور مختلفة التعينات في مرآة واحدة هي الوجود الحق الواحد المطلق على ما هو شهود المحقق وكشف الكامل الموحد.
قال رضي الله عنه : ( لا بل صورة واحدة في مرايا مختلفة ) أي صورة الطبيعة الواحدة في مرايا قوابل مختلفة متضادة الكيفيات ، بعكس ما ذكر لظهور الوجود الواحد الحق في مرايا الحقائق والأعيان على ما هو شهود العارف الموحد المعاين.
قال رضي الله عنه : ( فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر ) أي نظر أهل الحجاب الناظرين بالفكر العقلي ، لتحيرهم في أنه واحد في مرايا مختلفة أو كثير في مرآة واحدة .
قال رضي الله عنه : ( ومن عرف ما قلناه لم يحر ) أي من عرف أن الوجود الحق يظهر في الأعيان بحسب التعينات المختلفة بصور مختلفة فيقبل أحكاما مختلفة لم يتحير لصدق الأمرين جميعا ، باعتبار شهود الكثرة في الذات الواحدة لتجليها بصور الأعيان ، ولاعتبار شهود الوحدة في صور الكثرة لتحققها بالحقيقة الأحدية.
قال رضي الله عنه : ( وإن كان في مزيد علم ) أي لم يتحير وإن كان في مزيد علم باعتبار المشهدين.
كما قيل : إن معنى قوله رب زدني تحير " رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " ، فإن علم العارف المحقق في المشهدين جميعا عائد إلى العين الثابتة لا إلى الحق .
قال رضي الله عنه : ( فليس إلا من حكم المحل والمحل عين العين الثابتة فيها ، يتنوع الحق في المجلى فتتنوع الأحكام عليه فيقبل كل حكم ، وما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه وما ثم إلا هذا ).
فالتحير إنما يكون في البداية إذا كان النظر العقلي باقيا والحجاب الفكرى مبتدأ .
فإذا تم الكشف وصفا العلم الشهودى والعرفان الذوقي ارتفع التحير مع زيادة العلم بشهود الوجود الواجد الحق المتجلى في صور الأعيان التي هي مقتضى الاسم العليم والتجلي الذاتي والفيض الأقدس ، أو شهود الأعيان الثابتة في الوجود الواحد الحق الذي لا خصوصية ولا حيثية له .
فإنه حق كل حقيقة وبه تحققت الأعيان في حقائقها بعد التعين الأول الذي ظهر به العين الواحدة المتكثرة بالتعينات المتنوعة ، فيتنوع الحق في الأعيان المختلفة الخصائص والأحكام ، فيقبل حكم كل ما يتجلى فيه من الأعيان ، فيكون كل عين عين حاكمة عليه بما فيه ولا يقبل الحكم إلا من ذاته ، فإن الذات هي الحاكمة أولا على كل عين بما فيه بعالميتها ، وما ثم أي في الوجود إلا هو وحده :
(فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ) . أي باعتبار ظهوره في صور الأعيان وقبول الأحكام منه
(وليس خلقا بهذا الوجه فادكروا ) أي بحسب الأحدية الذاتية وأسمائه الأول في الحضرة الإلهية الواحدية ، فإنه بذلك الوجه موجد الموجودات وخالق المخلوقات ، فلا يكون خلقا بذلك الاعتبار .
(من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته .... وليس يدريه إلا من له بصر)
ظاهر فإن البصيرة التي يدرك بها باطن الحق والبصر الذي يدرك به ظاهره إذا وفقهما الله وأيد صاحبهما بنوره ، فرق بهما بين الاعتبارين ، وعلم أن الحق بأى الاعتبارين خلق وبأيهما حق :
(جمع وفرق فإن العين واحدة .... وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر )
أي الوجود الواحد الحق في مرتبة الجمع الأسمائى إله ، وفي مرتبة الفرق مخلوق ، فليس في الوجود غيره فإنه العين الواحدة ، وهي بعينه الكثيرة بالتعينات ، وهي نسب لا تحقق لها بدونه فلا موجود إلا وحده.
قال رضي الله عنه : ( فالعلى لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية ، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها ، وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا ) أي العلى بالعلو الذاتي الحقيقي لا الإضافي ، هو الذي له الكمال المطلق الشامل لجميع الكمالات الثابتة لجميع الأشياء ، وجودية كانت أو عدمية ، محمودة من جميع الوجوه أو مذمومة بوجه .
فإن بعض الكمالات أمور نسبية تكون بالنسبة إلى بعض الأشياء مذمومة ، كشجاعة الأسد بالنسبة إلى فريسته ، والكامل المطلق هو الذي لا يفوته شيء من النعوت والأخلاق والأفعال ، وإلا كان ناقصا من تلك الحيثية.
قال رضي الله عنه : ( وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة ) أي ولا يكون ذلك العلو الذاتي والكمال المطلق ، إلا للذات الأحدى المتعين بالتعين الأول في الحضرة الواحدية الجامعة للأسماء كلها ، وهو الاسم الأعظم الذي هو عين مسمى الله أو الرحمن . باعتبار أحدية جميع الأسماء المؤثرة الفعالة لا باعتبار كثرتها.
قال رضي الله عنه : ( وأما غير مسمى الله خاصة مما هو مجلى له أو صورة فيه ، فإن كان مجلى له فيقع التفاضل لا بد من ذلك بين مجلى ومجلى ، وإن كان صورة فيه فتلك الصورة عين الكمال الذاتي لأنها عين ما ظهرت فيه ، فالذي لمسمى الله هو الذي لتلك الصورة ) .
قوله : مما هو مجلى له أو صورة بيان لغير مسمى الله باعتبار المشهدين المذكورين ، فإن شهود الواحد الحق في الأعيان يوجب كونها مجالى له ، فيكون له وجوه بحسبها ، ولا بد من التفاضل بين المجالى بحسب ظهوره .
وفي بعضها بجميع الأسماء كالإنسان الكامل ، أو بأكثرها كالإنسان الغير الكامل أو بأقلها كالجمادات وشهود الصور في الوجود الحق يوجب أن يكون لكل واحدة من تلك الصور عين الكمال الذاتي الذي للكل أي لمسمى الله فإنها عين الذي ظهرت هي فيه فالذي لمسمى الله هو لها .
وفي بعض النسخ : فتلك الصورة عين الكمال الذاتي ، لأن كل صورة ظهرت فيه هي عينه فالذي له هو الذي لها ، وما في المتن أوجه وأظهر .
والفاء في قوله : فإن كان مجلى له ، هي التي تأتي في جواب أما الشرطية ، التي دخلت عليها خبر المبتدأ الذي هو غير مسمى الله.
قال رضي الله عنه : ( ولا يقال هي هو ) باعتبار تعينها وخصوصيتها . ( ولا هي غيره ) باعتبار حقيقتها .
قال رضي الله عنه : ( وقد أشار أبو القاسم بن قسى ) بفتح القاف وتخفيف السين وتشديد الياء (في خلعه ) أي في كتابه المسمى بخلع النعلين .
( إلى هذا بقوله : إن كل اسم إلهى يتسمى بجميع الأسماء الإلهية وينعت بنعتها ، وذلك هنالك أن كل اسم يدل على الذات وعلى المعنى الذي سيق له ويطلبه ) أي سيق ذلك الاسم لذلك المعنى .
أي صيغ وأطلق على الذات باعتبار ذلك المعنى ، ويطلب في ذلك المعنى ذلك الاسم ، أي يقتضيه ذلك ويطلب ذلك المعنى لأنه حقيقة الاسم.
قال رضي الله عنه : ( فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء ،ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به يتميز عن غيره كالرب والخالق والمصور إلى غير ذلك ،فالاسم عين المسمى من حيث الذات والاسم غير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى الذي سيق له) ظاهر غنى عن الشرح.
قال رضي الله عنه : ( فإذا فهمت أن العلى ما ذكرناه ، علمت أنه ليس علو المكان ولا علو المكانة ) أي إذا علمت أن العلى لنفسه أي بالعلو الذاتي ما ذكرناه . علمت أن علوه ليس علو المكان ولا علو المكانة.
قال رضي الله عنه : ( فإن علو المكانة يختص بولاية الأمر كالسلطان والحكام والوزراء والقضاة وكل ذى منصب ، سواء كانت فيه أهلية ذلك المنصب أو لم تكن ، والعلو بالصفات ليس كذلك فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم وإن كان أجهل الناس ، فهذا أعلى المكانة بحكم التبع ما هو علىّ في نفسه ، فإذا عزل زالت رفعته والعالم ليس كذلك ) .
هذا دليل على الفرق بين العلو الذاتي والعلو التبعى الذي هو بواسطة المكان أو المكانة.
وقد بينه في علو المكانة فإنه أرفع ليعلم منه الفرق بين الذاتي والتبعى .
وذلك أن العلو التبعى عرضى يزول بزوال متبوعه كما ذكر .
وأما الذاتي فلا يمكن زواله فيكون أعلى مراتب العلو وقد تمثل بالعلو الوصفي الذي هو دونه ، فإنه إذا كان الوصف لازما كان العلو ممتنع الزوال .
فمن كان أعلم كان أعلم بالصفة النفسية لا بالتبعية ، فما ظنك بمن هو أعلى بالذات ؟
قد يجتمع أنواعه من العلو بالذات والصفة والمكانة والمكان ، كما في الحق تعالى.
فإن له أعلى المكانات والمراتب وأعلى الأماكن ، وإن كان المكان في حقه مجازا كالعرش ، وأما علوه بالذات والصفات فظاهر ، وللإنسان الكامل أوفر نصيب منها كادريس عليه السلام في شرف ذاته وعلوها ، وكمال علمه ومكانة نبوته ومكانه. في قوله : " ورَفَعْناه مَكاناً عَلِيًّا " .
اللهم ارزقنا حظا وافرا ونصيبا كاملا منها بفضلك يا أرحم الراحمين .


.


9hgezHGYm-w

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!