موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح القاشاني
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ عبد الرزاق الكاشاني

فص حكمة إلهية في كلمة آدمية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة إلهية في كلمة آدمية


01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر

لما استعار الفص لنوع الإنسان وحقيقته المعبر عنه بآدم ، كما قال في نقش الفصوص وأعنى بآدم وجود العالم الإنسانى ، على أن العالم كالخاتم والإنسان كفصه كان قلب كل إنسان عارف باللَّه كامل فصا هو محل حكمته المخصوصة به .
كما قال : منزل الحكم على قلوب الكلم ، فإن لكل نبى مرتبة من الكمال هي جملة علوم وحكم متحدة بأحدية الاسم الإلهي الذي هو ربه .
فلذلك نقل الفص من قلبه الذي هو محل حكمته إلى الفص المشتمل على تلك الحكمة وسماه به للمناسبة .
ثم لما كان الإله المطلق الذي هو معبود الكل بذاته وجميع صفاته لا يتجلى إلا في هذا النوع فخص الفص المشتمل على الحكمة الإلهية بالكلمة الآدمية
( لما شاء الحق سبحانه ) المشيئة : اقتضاء الذات لما يقتضيه العلم فهي لازمة لجميع الأسماء ، لأن كل اسم إلهى هو الذات مع صفته فمقتضى الذات لازم لكل اسم
ولهذا قال ( من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء ) أي لما شاء مشيئة ذاتية أزلية نافذة في جميع الأسماء بحسب تطلب الكل أي الذات مع جميع الأسماء
( أن يرى أعيانها ) بظهورها وظهورها اقتضاؤها لوجود العالم مع ما فيه حتى الإنسان ولهذا قال ( وإن شئت قلت أن يرى عينه ) لأن أعيانها عينه باعتبار كثرة التعينات والنسب
( في كون جامع يحصر الأمر كله ) وهو الإنسان الكامل والعالم معه .
قوله ( لكونه متصفا بالوجود ) علة لرؤيته تعالى عينه في الكون الجامع أي لكون ذلك الكون الجامع متصفا بالوجود وذلك لأن الوجود الإضافي عكس الوجود الحقيقي المطلق.
فإن الحقيقي المطلق الواجب المقوم لكل شيء الذي هو الحق تعالى إذا ظهر في الممكن تقيد به وتخصص بالمحل فكان ممكنا من حيث التخصيص والتقيد .
وكل مقيد اسم فهو اسمه النور من حيث الظهور وكان كعكس صورة الرائي في المرآة المجلوة التي يرى الناظر صورته فيها وفي بعض النسخ لكونه متصفا بالوجوه .
فهو علة للحصر أي يحصر الأمر الإلهي كله لكونه متصفا بالوجوه الأسمائية فإن كل اسم وجه يرى الحق نفسه فيه بوجه ويرى عينه من جميع الوجوه في الإنسان الكامل الحاصر للأسماء كلها واللام في الأمر للاستغراق أي يحصر الأمور كلها أو بدل من المضاف إليه بمعنى أمره وهو إيجاده
( ويظهر به سره إليه ) منصوب عطفا على يرى ، أي يرى عينه في كون جامع ويظهر بذلك الكون سره ، أي وجوده الخفي إليه أو مرفوع عطفا على يحصر ، أي في كون يحصر الأمر ويظهر سر الحق تعالى به إليه وإليه صلة ظهر بمعنى له يقال ظهر له وإليه بمعنى .
وقد وجدت في نسخة قرأها الشيخ العارف مؤيد الدين الشارح للكتاب هذا على الشيخ الكامل صدر الدين القنوى بخطه بالوجوه .
وفي نسخة : ويظهر بالنصب والرفع معا .
قوله ( فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤية نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ) تعليل للمشيئة المذكورة يتضمن الجواب عن اعتراض مقدر .
وهو أن الله تعالى أزلى الذات والصفات ، وهو بصير في الأزل بذاته وغيره : كما قال أمير المؤمنين على رضى الله عنه :
بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، فلا يحتاج في رؤية عينه إلى مظهر كوجود العالم يرى عينه فيه ، فأجاب أن بين الرؤيتين فرقا بينا وليست الرؤية الأولى مثل الثانية وبين الفرق
بقوله ( فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه له )
وهي تعليل لنفى المماثلة بين الرؤيتين والضمير للشأن والجملة خبره أو للحق أي أن الحق يظهر له عينه في صورة المرآة وهي المحل المنظور فيه من وجه لم يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه لنفسه فيه ، فإن الظهور في المحل رؤية عينية منضمة إلى علمية وفي غير المحل رؤية علمية فقط .
كما أن تخيل الإنسان صورة حسنة جميلة في نفسه لا يوجب له من الاهتزاز والبهجة ما توجب مشاهدة لها ورؤيته إياها .
قوله ( وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه وكان كمرآة غير مجلوة ) جملة اعتراضية بين الشرط وجوابه والشرط مشيئته لرؤية أعيان الأسماء أو عينه في كون جامع ، والأسماء مقتضية لوجود العالم اقتضاء كل اسم جزءا منه ، فقد كان العالم موجدا باقتضائها له قبل وجود الإنسان الذي هو الكون الجامع .
لأن كل اسم يطلب بانفراده ظهور ما اشتمل عليه وهو الذات مع صفة ما : أي وجودا مخصوصا بصفة ، والاسم الآخر وجودا مخصوصا بصفة أخرى ، فلم يكن لشيء من الأسماء اقتضاء وجود اتحد به جميع الصفات إذ ليس لأحد من الأسماء أحدية الجمع بين الصفات ، فلم يكن للعالم مظهرية أحدية جميع الوجود ولذلك شبهه قبل وجود الإنسان فيه بأمرين شبح مسوى لا روح فيه أو مرآة غير مجلوة ، إذ لم يظهر فيه وجه الله بل وجوه أسمائه ، فوجود شبح نصب على المصدر أي أوجده وجودا مثل وجود شبح مسوى لا روح فيه
( ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا ولا بد أن يقبل روحا إليها عبر عنه بالنفخ فيه )
معناه موقوف على معرفة حكمه وهو أن حكم الله تعالى أمره أي إيجاد الأشياء بقوله كن والله عين الوجود المحض المطلق الذي هو أظهر الأشياء ونور الأنوار فهو يتجلى بذاته لذاته دائما فتسويته للمحل ظهوره في صورة اسم .
وذلك الاسم هو عينه مقيدا بصفة من الصفات القابلية فلا يظهر فيه إلا عينه ، وذلك الظهور قبوله للروح وعينه هو الموصوف بكل صفة إلا أنه لا يظهر في ذلك المحل إلا بصفة واحدة من الصفات الفاعلية ، وذلك هو الخلق باليدين فهو روح إلهى ومعنى النفخ فيه هو الظهور فيه بتلك الصفة
ولذلك قال ( وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال )
أي لقبول الفيض الذي هو التجلي الدائم فهو بمعنى اسم الإشارة كما في قول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق .... كأنه في الجلد توليع البهق
أي كان ذلك بمعنى وما ذلك وهو إشارة إلى ما ذكر من قوله ما سوى محلا إلا ولا بد أن يقبل روحا إلهيا ، أي اقتضاء تسوية المحل لقبول الروح الإلهي ، مثاله الشهب وهي الأبخرة المستعدة للاشتعال في حيز النار إذ ولا بد لها من الاشتعال ، ولما ذكر الاستعداد والفيض لزم وجود المستعد الذي هو القابل .
قوله ( وما بقي إلا قابل ) اعتراض منه على نفسه كأنه قيل إذا كان الاستعداد والفيض منه فما المستعد القابل
فقال ( والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس ) وقد فسر الفيض بالتجلى ، فكأنه قال له تجليان ذاتى وهو ظهوره في صورة الأعيان الثابتة القابلة في الحضرة العلمية الأسمائية وهي الحضرة الواحدية ، فذلك الظهور ينزل عن الحضرة الأحدية إلى الحضرة الواحدية وهو فيضه الأقدس أي تجلى الذات بدون الأسماء الذي لا كثرة فيه أصلا فهو الأقدس أي أقدس من التجلي الشهودى الأسمائى الذي هو بحسب استعداد المحل لأن الثاني موقوف على المظاهر الأسمائية التي هي القوابل بخلاف التجلي الذاتي لأنه لا يتوقف على شيء فيكون أقدس ، فمنه الابتداء بالتجلى الذاتي كما ذكر في المقدمة وإليه الانتهاء بالتجلى الشهودى ( فالأمر ) أي الشأن وهو الإيجاد والتصريف والتكميل
( كله منه ابتداؤه وانتهاؤه وإليه يرجع الأمر كله كما ابتدأ منه ) .
قوله ( فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم ) جواب لما ، ولما وسط بين لما وجوابه علة المشيئة وانجر الكلام إلى اقتضاء أسمائه تعالى وجود العالم المحتاج إلى الجلاء وجب إيراد فاء السببية في جوابه ، لأن تعليل المشيئة المخصوصة تسبب للجلاء وإن كان لما لم يقتض ذلك لأنها تقتضي مقارنة الشرط والجزاء فحسب فجمع بين السببية والمقارنة ( فكان آدم ) أي حقيقة الإنسان
كما ذكر ( عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة ) بمناسبة أحدية الجمع فإن الحضرة
الإلهية جامعة الأسماء كلها لا واسطة بينها وبين الذات فكذلك الحضرة الإنسانية جامعة لها ، إذ الوجود ينزل من أحدية جمع الذات إلى الحضرة الإلهية وفاض في مراتب الممكنات على الصورة الانتشارية .
حتى انتهى إلى الإنسان منصبغا بصبغ جميع المراتب فصار الإنسان برزخا جامعا لأحكام الوجوب والإمكان كما كانت الحضرة الإلهية جامعة للذات والأسماء كلها .
فظهر فيه ما في الحضرة الإلهية فكان العالم بوجوده مرآة مجلوة ولم تبق واسطة بين الحضرة الإنسانية والذات الأحدية ، وإذا كان جلاء مرآة العالم كان روح صورته
وكانت ( الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير ، فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية والحسية التي في النشأة الإنسانية )
فكانت القوى الروحانية والنفسانية ملائكة وجود الإنسان ، لأن قوى العالم اجتمعت فيه بأسرها فالإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير لوجود الإنسان فيه ، إلا أن أحدية جمع الوجود التي ناسب بها العالم الحضرة الإلهية لم توجد في جميع أجزائه إلا في الإنسان فكان الإنسان مختصرا من الحضرة الإلهية ولهذا قال « خلق آدم على صورته » .
قوله ( وكل قوة منها محجوبة بنفسها ) إذ لم يكن عندها إلهيته الاجتماعية فلا تدرك ما ليس فيها .
فهي ( لا ترى شيئا أفضل من ذاتها ) لمعرفتها بنفسها وما تحتها واحتجابها عما فوقها .
قوله ( وإن فيها فيما تزعم الأهلية لكل منصب عال ومنزلة رفيعة عند الله ) بكسر إن وإن في هذه النشأة على حسب زعمها أي زعم النشأة الأهلية .
لما ذكر بالحقيقة أو بفتحها عطفا على أفضل أي لا ترى أن في هذه النشأة على زعمها الأهلية وفي بعض النسخ وإن فيها ما يزعم الأهلية أي شيئا يزعم الأهلية وهو قلبه لا غير أي نفسه الناطقة وحقيقته لأن القوى محجوبة عنها ولفظة ما على الأول مصدرية وعلى الثاني موصوفة .
قوله ( لما عندها ) تعليل لدعوى الأهلية المذكورة .
أي لما عنده ( من الجمعية الأهلية بين ما يرجع من ذلك إلى الجناب الإلهي وإلى جانب حقيقة الحقائق وفي هذه النشأة الحاملة لهذه الأوصاف إلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم أعلاه وأسفله )
أي من بين ثلاثة أشياء :
أحدها : الجناب الإلهي وهو الحضرة الواحدية .
والثاني : حقيقة الحقائق أي الأحدية وهي الذات التي بتجليها يتحقق الحقائق كلها وهي حقيقة الوجود من حيث هو هو ، فهي بحقيقتها تحقق حقائق العالم العلوي والسفلى ولهذا وسطها بين العالم الروحاني وبين العالم الجسماني .
والثالث : الطبيعة الحاصرة للقوابل كلها ، فهذه الجمعية هي أحدية حقيقة الحقائق في معانى الأسماء وعوالم الروحانيات .
وفي صور الأسماء وعوالم الجسمانيات فلا يخرج من أحدية الجمعية الإنسانية شيء وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره وإلى ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم كله أعلاه وأسفله في هذه النشأة الحاملة لهذه الأوصاف .
والكل بدل من الطبيعة أو عطف بيان لها ، والمراد الطبيعة الكلية الجسمانية الحاصرة لطبائع أنواع الأجسام الفلكية والعنصرية.
( وهذا لا يعرفه عقل بطريق نظر فكرى )
فإن العقل من الجناب الإلهي التي هي الحضرة الواحدية فلا يدرك إلا الحقائق المتعينة الكلية مع لوازمها في عالمها الروحاني .
وأما الجزئيات الجسمانية التي هي ما تقتضيه الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم فلا يعرفها وكذلك لا يعرف الحقيقة التي تحقق الحقائق الكلية والجزئية أي الذات التي تحقق بفيضها الأقدس أي تجلى الذاتي حقائق الروحانيات والجسمانيات وبتجليها الشهودى واسمها النور يظهر الكل .
فإنها لا يعرفها إلا عينها ، قوله وفي هذه النشأة الحاملة لهذه الأوصاف من القوى الروحانية ولوازمها من الحياة والقدرة والعلم والإرادة وأمثالها .
يشعر بأن الأوصاف المحمولة من النشأة المعنوية الروحانية المعبر عن عالمها بالجناب الإلهي .
قوله ( بل هذا الفن من الإدراك لا يكون إلا عن كشف إلهى منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه )
إشارة إلى أن صورة العالم أيض حقائق وأعيان وأصل الحقائق هو الذات الأحدية فحقيقة الحقائق كما تحقق الحقائق الروحانية في العالم الذي سماه الجناب الإلهي لتحقق أسماء الألوهية فيه فهي تحقق الحقائق الجسمانية في العالم السفلى بتجل واحد ذاتى .
فأصل الجميع أي الجناب الإلهي وما تقتضيه الطبيعة الكلية الحاصرة للقوابل واحد ، وهو الذات الأحدية السارية في الكل ولهذا قال عليه الصلاة والسلام « لو دلى أحدكم دلوه لهبط على الله وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله » .
وكيف يدرك العقل هذا المعنى فإنه لا يدركه إلا هو نفسه ، ولا يكشف إلا على من يأخذه من نفسه بنفسه.
( فسمى هذا المذكور إنسانا وخليفة ، فأما إنسانيته فلعموم نشأته وحصره الحقائق كلها ) أي لأن نشأته تحوى الحقائق كلها ، وجميع مراتب الوجود العلوية والسفلية بأحدية الجمع التي ناسب لها حقيقة الحقائق.
وهي الجمعية المذكورة إذ لا شيء في النشأتين إلا وهو موجود فيه أي لا مرتبة في الوجود إلا وشيء منها فيه فناسب وجود الكل مؤانسا به ، فسمى إنسانا لأنه عالم صغير ، والعالم يسمى إنسانا كبيرا ، أو باعتبار آخر ( وهو ) أنه ( للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر وهو المعبر عنه بالبصر )
لأن الله تعالى نظر به إلى الخلق فرحمهم ( فلهذا سمى إنسانا ) أيضا .
والمعنى أنه المقصود من خلق العالم لأنه الحامل للسر الإلهي وأمانته أي معرفته والمقصود من الكل معرفته ،.
كما قال « فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق »
فلو لا محبة المعرفة لم يخلق الخلق فلا يعرفه من العالم إلا الإنسان فلو لا الإنسان العارف باللَّه لم يخلق العالم فالعالم تابع لوجوده
( فإنه به نظر الحق إلى خلقه فرحمهم ) أي فهو الذي نظر به إلى الخلق الموقوف هو عليهم فرحمهم بالإيجاد
( فهو الإنسان الحادث ) بجسده ( الأزلى ) بروحه ( والنشء الدائم الأبدى ) بحقيقته الجامعة بجسمانيته وروحانيته لأنه إذا انتقل من هذا العالم إلى الآخرة يعمر الآخرة في النشأة الثانية
( والكلمة الفاصلة ) أي المميزة للحقائق ( الجامعة ) لعموم نشأته كما ذكر ( فتم العالم بوجوده ) لمظهريته أسماءه كلها .
قوله ( فهو من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم وهو محل النقش والعلامة التي بها يختم الملك على خزائنه ) معلوم من المقدمة الثالثة
( وسماه خليفة لأجل هذا ) أي لأن نقش اسمه الأعظم وهو الذات مع الأسماء كلها منقوش في قلبه ، الذي هو فص الخاتم فيحفظ به خزانة العالم بجميع ما فيه على النظام المعلوم والفسق المضبوط
( لأنه الحافظ خلقه كما يحفظ بالختم الخزائن ) أي لأن الإنسان الكامل هو الحافظ خلق الله بالحكمة الأحدية والواحدية الأسمائية البالغة التي هي نقش قلبه وهي العدالة أعنى صورة الواحدة في عالم الكثرة الذي هو خزانة القوابل والآلاء كلها كما يحفظ الختم الخزائن
( فما دام ختم الملك عليها لا يجسر أحد على فتحها إلا بإذنه ) لأن الختم صورة الجمعية الإلهية والعلامة التي هي نقش الفص هو الاسم الأعظم فلا يجسر أحد من خصوصيات طبائع العالم التي هي الأسماء الفاصلة على فتحها إلا بإذن خاص من الله على مقتضى حكمته
( فاستخلفه في حفظ العالم ) لأنه مظهر الأحق الأعظم والله باطنه فيحفظ بإذنه وما جعل في يده من المفاتيح الأسمائية صورة العالم
( فلا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ) لأن الخليفة ظاهر بصورة مستخلفه في حفظ خزائنه والله يحفظ صور خلقه في العالم بصورته فإنها طلسم الحفظ من حيث مظهريته لأسمائه وواسطة تدبيره بظهور تأثيرات أسمائه فيها.
( ألا تراه إذا زال وفك من خزانة الدنيا لم يبق فيها ما اختزنه الحق فيها وخرج ما كان فيها والتحق بعضه ببعض وانتقل الأمر إلى الآخرة فكان ختما على خزانة الآخرة ختما ابديا سرمديا ) أي زال لأن النشأة العنصرية الدنيوية لا تحتمل دوام الحفظ .
فلم يبق فيها ما اختزنه من العلوم والمعارف الكلية والجزئية والأخلاق الإلهية .
وفارقتها نشأته الروحانية أي فطرته الأولى بخراب دنياه أي نشأته الصورية والتحق الجزء الروحاني بالروحانيات في الحضرات أي البرازخ العلوية وما فوقها والجسماني كل جزء بكله من الجسمانيات .
وانتقل العمارة إلى الآخرة أي العوالم الروحانية أو النشأة الثانية في القيامة .
قوله ( فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النشأة الإنسانية ، فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود وبه قامت الحجة لله تعالى على الملائكة فتحفظ ، فقد وعظك الله بغيرك وانظر من أين أتى على من أتى عليه ) أي حج من حج وبكت من بكت ظاهر وأصل أتى عليه أي أهلكه ، ويستعمل في كل مكروه .
قوله ( فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة ولا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية ، فإنه ما يعرف احد من الحق إلا ما تعطيه ذاته ، وليس للملائكة جمعية آدم ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها وسبحت الحق بها وقدسته ، وما علمت أن لله اسماء ما وصل علمها إليها فما سبحت الحق بها ولا قدسته فغلب عليها
ما ذكرنا وحكم عليها هذا الحال فقالت من حيث النشأة " أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها ".
- وليس إلا النزاع وهو عين ما وقع منهم .
فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق ، فلو لا أن نشأتهم تعطى ذلك ما قالوا في حق آدم ما قالوه وهم لا يشعرون .
فلو عرفوا نفوسهم لعلموا ولو علموا لعصموا ثم لم يقفوا مع التجريح حتى زادوا في الدعوى بما هم عليه من التقديس والتسبيح وعند آدم من الأسماء الإلهية ما لم تكن الملائكة عليها فما سبحت ربها بها ولا قدسته عنها تقديس آدم وتسبيحه )
أي لم تطلع على ما تقتضيه نشأة آدم من الجمعية الإلهية وظهوره بصورة الحق وهويته لكونه مطلوبا بجميع الأسماء ولا على ما تقتضيه الحضرة الإلهية من أن يعبد بعبادة ذاتية أي يطلب عابدا يعبد ذاته بجميع أسمائه فهو من حيث أنه مطلوب جميع الأسماء أعز الموجودات ومن حيث أنه عابد ربه بجميع الأسماء أذل الأشياء إذ لا يعبد الله العبادة الذاتية التامة بجميع الأسماء إلا الإنسان الكامل .
ولهذا عبدوا الحجارة والجمادات فإنه لا يعبد أحد معبودا إلا إذا عرفه ولا يعرف إلا ما تقتضيه ذاته بأن يكون فيه فيدركه بالذوق ، وليس للملائكة جمعية آدم فلم تطلع على الأسماء التي تخص جمعية آدم .
وسبحت الحق وقدسته جمعية آدم بها ولم تعرف أن لله أسماء لم يصل علمها إليها فما سبحت بها ولا قدسته فغلب عليها مقتضى نشأتها .
فقوله : ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها وسبحت الحق بها وقدسته ، معناه بالقياس إلى قوله لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليفة على ما ذكرته من رجوع الضمير في تخصها وسبحته وقدسته إلى جمعية آدم ظاهر . ووجه آخر وهو أن يكون الوقوف بمعنى الثبات لا بمعنى الاطلاع ، والضمائر الثلاثة ترجع إلى الملائكة .
أي لم يثبت الملائكة مع الأسماء التي تخصها ولم تقف بحكمها حتى شرعت في تجريح آدم وقدحت فيه ، إذ ما عرفت ما في آدم من الأسماء التي لم تعرفها ، فحكم عليها حالها التي هي النقص حتى نسبوا النقص الذي هو مقتضى نشأتها إلى آدم ، فقالت :" أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ".
- لأنها أدركت بنقصها نقص آدم وما تحت حيطتها ومرتبتها من خواص القوة الشهوانية والغضبية واحتجبت عما فوق نشأتها من الأسماء التي ليست لها فأظهرت النزاع الذي هو حالها ومقتضى نشأتها لأن إدراك النقص والاحتجاب عن الكمال عين الإنكار والنزاع.
فكان ما قالوا في حق آدم عين ما هم فيه مع الله
( فوصف الحق لنا ما جرى لنقف عنده ونتعلم الأدب مع الله تعالى ، فلا ندعى ما نحن متحققون به وحاوون عليه بالتقييد ) أي ما أن كل واحد منا محقق به وحاو عليه والمحقق لا يلتفت لفت العبارة فلا حرج في أن تختلف الضمائر بالجمع والتوحيد ، والمراد أن الحق تعالى قص لنا القصة لنتعلم الأدب معه ، فلا نعترض ولا ندعى فيما تحقق عندنا ولا نشك فيه أنه علمنا أو حالنا على التعيين والتقييد لأنه علم الله
( فكيف أن نطلق في الدعوى فنعم بها ما ليس لي بحال ولا أنا منه على علم ) أي فكيف ندعى ما ليس بعلمنا وحالنا ، أو لا ندعى أنه هو الحق على التعيين والتقييد وليس وراءه علم
( فنفتضح ، فهذا التعريف الإلهي مما أدب الحق به عباده الأدباء الأمناء الخلفاء ) أي تعريف حال الملائكة في ادعاء مطلق التسبيح والتقديس فإنه تأديب لعباده من الأناسى
( ثم نرجع إلى الحكمة ) أي الحكمة الإلهية المذكورة ، فإن قصة الملائكة اعتراض وقع في أثنائها على سبيل الاستطراد .
ليعلم أن ما قالوا إنما قالوه لنقصان نشأتهم بالنسبة إلى نشأة آدم ولم يعلموا أن تجرحهم أيضا كمال له ، فإن العبادة الذاتية إنما تتحقق بتجلى جميع الأسماء فيه .
وتجلى اسم التواب والعفو والغفور والعدل والمنتقم لا يمكن إلا إذا اقتضت المشيئة الإلهية جريان الذنب على العبد.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه « أنين المذنبين أحب إلىّ من زجل المسبحين » واعتبر بخطيئة آدم وداود عليهما السلام فإن بعض كمالات العبد وقبول تجلى بعض الأسماء الإلهية موقوف على انكساره بالذنب والاعتذار والتوبة .
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام « لو لم تذنبوا لخشيت عليكم أشد من الذنب العجب العجب العجب ».
ألا ترى أن عصمتهم حملتهم على قولهم :" ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ ".
- ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام « لو لا أنكم تذنبون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم » .
فضم بنى آدم المعصية إلى الطاعة عبادة توجب تجلى الحق بأسماء كثيرة ، وذلك مما لم تقف الملائكة عليه أيضا لقصور نشأتهم .
وإذا رجع إلى الحكمة ومهد قاعدة يبتنى عليها ارتباط الحق بالخلق وتتبين منها الحكمة في إيجاد العالم وهو ظهور معنى الإلهية
فقال ( فنقول : اعلم أن الأمور الكلية وإن لم يكن لها وجود في عينها فهي معقولة معلومة بلا شك في الذهن فهي باطنة لا تزال عن الوجود الغيبى ) يعنى أن الأمور الكلية أي المطلقة كالحياة والعلم مثلا لها وجود عينى في العقل ووجود غيبى في الخارج .
فإن الوجود الخارجي عين المطلق العقلي مقيدا بقيد الجزئية لكن الكلية المطلقة لا تزال معقولة مندرجة تحت اسم الباطن ، ولا توجد من حيث كليته في الخارج بل من حيث هي مقيدة وهي من تلك الحيثية تندرج تحت اسم الظاهر .
وفي بعض النسخ لا تزول فمعناه ومعنى لا تزال بضم التاء مبنيا للمفعول من أزال واحد ، والغيبى بالغين المعجمة والباء بمعنى المعقول .
وعند بعض الشارحين عن الوجود العيني بالعين المهملة والنون ، أي لا تزال من حيث هي طبائع مطلقة لا مقيدة بقيد الكلية عن الوجود العيني .
فإن الكل الطبيعي موجود في الخارج .
وقرئ لا تزال بفتح التاء على أنه من الأفعال الناقصة ، فهي باطنة عن الوجود العيني الشخصي لا تزال كذلك بحذف الخبر لدلالة باطنه عليه أو باطنة بالنصب على تقديم الخبر .
أي فهي لا تزال باطنة عن الوجود العيني ، والأول أظهر وأوفق لما بعده من قوله ولم تزل عن كونها معقولة في نفسه
( ولها الحكم والأثر في كل ما له وجود عينى ) أي للأمور الكلية الحكم والأثر في كل ما له وجود عينى ، كتأثير العلم والحياة في الموصوف بهما فيحكم عليه بأنه حى عالم ولا يحكم عليه إلا إذا كان فيه عين الحياة والعلم
وهذا معنى قوله ( بل هو عينها لا غيرها ) يعنى أن الأمر الكلى كالعلم والحياة عين الوصفين الموجودين في ذلك الموصوف لا غيرهما .
والمراد بقوله ( أعنى أعيان الموجودات العينية ) أعيان الأوصاف لا أعيان الموصوفات ، فإن الموصوفات أيضا معنى كلى وهو الإنسان المطلق فإنه عين هذا الإنسان مع قيد الجزئية ، فهذه نسبة الحياة والعلم المطلقين إلى الوصفين المقيدين
( ولم تزل عن كونها معقولة في نفسها ، فهي الظاهرة من حيث أعيان الموجودات ، كما هي الباطنة من حيث معقوليتها ) أي الكليات .
وإن ظهرت في الصورة الجزئية فهي باقية على معقوليتها من حيث كليتها لم تزل عن كونها باطنة مع كونها ظاهرة
( فاستناد كل موجود عينى لهذه الأمور الكلية التي لا يمكن دفعها عن العقل ولا يمكن وجودها في العين ، وجودا تزول به عن أن تكون معقولة ) أي استناد كل عين موجود شخصى يكون إلى هذه الموجودات الكلية أبدا مع بقائها في عالم العقل على كليتها لا تزول عن ذلك الوجود الغيبى أبدا أي العيني موجود به .
فقوله فاستناد مبتدأ خبره لهذه الأمور واللام بمعنى إلى .
قوله ( وسواء كان ذلك الموجود العيني موقتا أو غير موقت ) أي زمانيا أو غير زمانى وكل منهما إما جسمانى أو غير جسمانى فالجسمانى الموقت كأجسادنا وغير الموقت كالفلك الأعظم .
فإن الزمان مقدار حركته فلا يكون جسمه زمانيا .
والروحاني الموقت كنفوس الحيوانات وغير الموقت كالأرواح العلوية المجردة
( نسبة الموقت وغير الموقت إلى هذا الأمر الكلى المعقول نسبة واحدة ) أي كلها في استنادها إلى الأمر الكلى المعقول سواء
( غير أن هذا الأمر الكلى يرجع إليه حكم من الموجودات العينية بحسب ما تطلبه حقائق تلك الموجودات العينية ، كنسبة العلم إلى العالم والحياة إلى الحي ، فالحياة حقيقة معقولة والعلم حقيقة معقولة متميزة عن الحياة ، كما أن الحياة متميزة عنه . ثم نقول في الحق إن له علما وحياة فهو الحي العالم ، ونقول في الملك إن له حياة وعلما فهو الحي العالم ، ونقول في الإنسان إن له حياة وعلما فهو الحي العالم ، وحقيقة العلم واحدة وحقيقة الحياة واحدة ونسبتهما إلى العالم والحي نسبة واحدة ، ونقول في علم الحق إنه قديم وفي علم الإنسان إنه محدث ، فانظر ما أحدثته الإضافة من الحكم في هذه الحقيقة المعقولة ، وانظر إلى هذا الارتباط بين المعقولات والموجودات العينية ، فكما حكم العلم على من قام به أن يقال فيه إنه عالم حكم الموصوف به على العلم بأنه حادث في حق الحادث قديم في حق القديم ، فصار كل واحد محكوما به محكوما عليه ، ومعلوم أن هذه الأمور الكلية وإن كانت معقولة فإنها معدومة العين موجودة الحكم كما هي محكوم عليها إذا نسب إلى الموجود العيني ، فتقبل الحكم في الأعيان الموجودة ولا تقبل التفصيل ولا التجزي فإن ذلك محال عليها ، فإنها بذاتها في كل موصوف بها كالإنسانية في كل شخص شخص من هذا النوع الخاص لم تتفصل ولم تتعدد بتعدد الأشخاص ولا برحت معقولة ) أي لكون الموجود العيني يحكم على الكلى الغيبى بمقتضى حقيقته . والكلى أيضا يحكم على الجزئى بحقيقته.
كما أن العلم والحياة بالنسبة إلى الله تعالى محكوم عليهما بالقدم الذي هو مقتضى حقيقته تعالى.
وبالنسبة إلى الإنسان والملك محكوم عليهما بالحدوث بمقتضى حقيقة الإنسان والملك.
وكذلك العلم والحياة يحكمان على كل موصوف بهما بأنه حى عالم ولكل واحد من العيني والغيبى حكم على صاحبه بمقتضاه مع أن حقيقة العلم حقيقة واحدة لم تنقسم ولم تختلف باختلاف العارف لها بسبب الإضافة.
وكذلك الحياة ونسبتها إلى الموصوفين بها فإنها نسبة واحدة لم تختلف .
وانظر إلى هذا الارتباط بين الموجودات العينية وبين الموجودات العينية ، مع أن المعقولات الغيبية كليات معدومة العين في الخارج من حيث كليتها ، فإن كل موجود عينى مشخص جزئى وألفاظ الكتاب ظاهرة .
قوله ( وإذا كان الارتباط بين من له وجود عينى وبين من ليس له وجود عينى قد ثبت وهي نسب عدمية ، فارتباط الموجودات بعضها ببعض أقرب أن يعقل لأنه على كل حال بينها جامع وهو الوجود العيني وهناك ، فما ثمة جامع وقد وجد الارتباط بعدم الجامع فبالجامع أقوى وأحق )
رجع إلى المقصود من تمهيد القاعدة ، وهو أن الارتباط بين الموجودات الغيبى الذي لا وجود له إلا في العقل وبين الموجودات العيني ثابت كما ذكر وهي نسبة عدمية عقلية فبالحرى أن يكون بين الموجودات العينية ثابتا ، وكيف لا وبينهما جامع وهو الوجود العيني وما ثم جامع ، إذ لا يكون بين الموجود العيني وبين المعدوم في العين جامع .
قوله ( ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه وافتقاره إلى محدث أحدثه لإمكانه لنفسه فوجوده من غيره فهو مرتبط به ارتباط افتقار ولا بد أن يكون المستند إليه واجب الوجود لذاته غنيا في وجوده بنفسه غير مفتقر ، وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه ) ظاهر ، وهو بيان الارتباط بين الواجب والممكن وهو الافتقار .
قوله ( ولما اقتضاه لذاته كان واجبا به ، ولما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم وصفة ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح في الحادث وإن كان واجب الوجود ولكن وجوبه بغيره لا بنفسه ) معناه ولما اقتضى الواجب لذاته الممكن لذاته كان الممكن لذاته واجبا به معدوما في حد نفسه مستندا إليه في وجوده وعينه لأنه الذي أعطى عينه من ذاته ثم وجوده من اسمه النور .
فاستناده إلى الواجب الذي ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته في كل ما ينسب إلى ذلك الممكن من اسم وصفة وأي شيء كان لأن أصله العدم .
فاستند إلى الواجب في عينه وكل ما يتبع عينه من صفاته ووجوده وذلك صمديته تعالى أو في كل ما ينسب إلى الواجب والمراد بالممكن كل ما للواجب الصمد إلا الوجوب الذاتي وإنما قيد الوجوب بالذاتي لأنه ما لم يجب لم يوجد لكنه واجب به لا بنفسه
( ثم ليعلم أنه لما كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته أحالنا تعالى في العلم به على النظر في الحادث وذكر أنه أرانا آياته فيه فاستدللنا بنا عليه ، فما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف إلا الوجوب الذاتي الخاص ، فلما علمناه بنا ومنا نسبنا إليه كل ما نسبناه إلينا ، وبذلك وردت الإخبارات الإلهية على ألسنة التراجم إلينا فوصف نفسه لنا بنا فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا وإذا شهدنا شهد نفسه ، ولا شك أنا كثيرون بالشخص والنوع وإنا وإن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعا أن ثم فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض ، ولو لا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد فكذلك أيضا ، وإن وصفنا بما وصف نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق وليس إلا افتقارنا في الوجود وتوقف وجودنا عليه لإمكاننا وغناه عن مثل ما افتقرنا إليه ) معناه لما ظهر الحادث بصورته أحالنا في معرفته على النظر في الحادث
فقال :" سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّه الْحَقُّ ".
- فبسبب ما أحالنا استدللنا بنا عليه أي طلبنا الدليل بأنفسنا عليه ، فما وصفناه بوصف إلا وجدنا ذلك الوصف فينا إذ لو لم يكن فينا ولم نتصف به لم يمكنا أن نصفه به .
وهو معنى قوله إلا كنا نحن ذلك الوصف أي لو لم نكن نحن ذلك الوصف لم نصف به إلا الوجوب الذاتي .
فلما علمناه ومنا نسبناه إليه كل ما نسبناه إلينا كالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والكلام وغير ذلك ، والتراجم هم الأنبياء عليهم السلام .
فإنهم أخبروا بهذا المعنى في قوله تعالى :"وما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله ".
" وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى ".
" من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله ".
" إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ الله ".
- وفي الحديث « من عرف نفسه فقد عرف ربه » وأمثالها .
وهذا معنى قوله فوصف نفسه بنا فإذا شهدناه بوصف شهدنا نفوسنا بذلك الوصف ، إذ لو لم يكن ذلك الوصف فينا ما شهدناه به .
وإذا شهدنا بوصف شهد نفسه بذلك الوصف ، فإن ذلك الوصف وصفه تجلى به لنا بحسب استعدادنا وإلا من أين حصل لنا ذلك ونحن عدم محض ، ومن ثمة يعلم أن وجودنا وجوده تعين بصورتنا وانتسب إلينا فتقيد وتذكر صمديته لكل شيء حتى تراه في كل شيء.
" أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ".
- ولما بين هذا الاتحاد أراد أن يبين الفرق بين الحق والخلق .
فمثل بتعدد أشخاص النوع وأنواع الجنس .
فقال: (ولا شك أنا أي المحدثات كثيرون بالشخص كأشخاص الإنسان مع اتحادهم في حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان ، فإنه حقيقة واحدة ، وبالنوع كالإنسان والفرس المتحدين في حقيقة الحيوان ، التي هي حقيقة واحدة وبالجملة أشخاص الموجودات المحدثة والموجودات المتعينة فإنها متميزة متعينة متشخصة ومتنوعة مع اتحادها في حقيقة الوجود ، ولو لا ذلك لما كان الكثرة في الواحد ، فكذلك ، وإن وصفنا الحق بما وصف به نفسه من جميع الوجوه فلا بد من فارق وليس إلا افتقارنا إليه وغناه عنا ، فإن الوجود المشخص مطلق الوجود مع قيد ، فذلك القيد الذي هو به غير المقيد الآخر ، وهو افتقار المقيد إلى المطلق وغنى المطلق عن المقيد ( فبهذا صح له الأزل والقدم الذي انتفت عنه الأولية التي لها افتتاح الوجود عن عدم فلا تنسب إليه مع كونه الأول ) أي فبالغنى الذاتي الصمدى القيومى لكل ممكن وكونه سند مقوم لكل مقيد صح له الأزل والقدم ، وانتفت عنه الأولية بمعنى افتتاح الوجود عن العدم ، فإنه محال في حقه مع كونه الأول
( ولهذا قيل فيه الآخر ) أي ولأن أوليته بالغنى الذاتي وعدم الاحتياج في وجوده إلى الغير قيل فيه الآخر ، لا بمعنى أنه آخر كل ممكن إذ الممكنات غير متناهية فلا آخر لها.
( فلو كانت أوليته أولية وجود التقييد لم يصح أن يكون الآخر للمقيد لأنه لا آخر للممكن لأن الممكنات غير متناهية فلا آخر لها ، وإنما كان آخرا لرجوع الأمر كله إليه بعد نسبة ذلك إلينا فهو الآخر في عين أوليته والأول في عين آخريته ) أي فلو كانت أوليته بأن يكون وجودا مقيدا واحدا من الموجودات المقيدة فابتدأ منه المقيدات لزم أن يكون آخريته بأن يكون آخرا للمقيدات لكنه لا آخر لها ولو كان لها آخرية ينتهى به الوجود لم يصح أن يكون الآخر عين الأول فآخريته برجوع الأمر كله إليه بعد نسبته إلينا كما ذكر في دائرة الوجود .
فكذلك أوليته بابتداء الكل منه بنسبته إلينا فالنسب والإضافات ممكنة والحقيقة من حيث هي هي واجبة وذلك معنى قولهم التوحيد إسقاط الإضافات ولا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه.
( ثم ليعلم أن الحق ) أي بعد العلم بما ذكر .
ليعلم أنه تعالى لما أرانا آيات أسمائه وصفاته في العالم جعل فينا ما نعرف به ذلك فشركنا مع العالم في صفاته لنعرف بما فينا ما فيه وما أمكن العالم قبول جميع أسماء الحق وصفاته ، لأن الفارق بينه وبين الحق الوجوب الذاتي والإمكان وما يلزمهما من الغنى والفقر لازم فيقبل بعضها وهو الذي لا يختص بالوجوب كالوجود والظهور والبطون .
وأما البعض الآخر فلا يقبل إلا آثارها التي يليق بفقره ونقصه ،وجمع فينا بأحدية الجمع الأمرين.
فلذلك قسمها قسمين وجعل القسم الأول مشتركا بين الكل أي بين الحق تعالى وبيننا وبين العالم فقال ( وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن فأوجد العالم عالم غيب وشهادة لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا )
لكنه فرق بين وصف العالم ووصف الحق بهما بأن جعل العالم عالمين عالم غيب وعالم شهادة إذ ليس في العالم إلا أحدية الجمع ولم يفرق بين وصف الحق ووصفنا فأضاف الغيب والشهادة إلينا بحكم أحدية جمعنا المخصوص فنحن على معناه وصورته دون العالم ، وأما القسم الآخر فسوانا فيه مع العالم وجعل في مقابلة كل صفة فعلية محضة لله تعالى صفة انفعالية مشتركة بيننا وبين العالم
فقال ( ووصف نفسه بالرضا والغضب وأوجد العالم ذا خوف ورجاء ) فإن الخوف انفعال وتأثر من تأثير الغضب نعرف به غضبه ، وكذا الرجاء في مقابلة الرض
ولهذا قال ( فنخاف غضبه ونرجو رضاه )
وقال ( ووصف نفسه بأنه جميل ذو جلال فأوجدنا على هيبة وأنس ) فإن الهيبة انفعال من صفة الجلال ونعرف به عظمته وجلاله .
وكذا الأنس في مقابلة الجمال فجعلنا على صفته بوجه وعلى صفة العالم بوجه كما سيجيء




( وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويسمى به فعبر عن هاتين الصفتين ) أي المتقابلتين اللتين له تعالى كالظهور والبطون والرضا والغضب والجمال والجلال.
( باليدين اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل ) .
قوله ( لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته ) فيه إشعار بأنه مع مساواته العالم في حقائقه ومفرداته يختص بالجامعية الأحدية دونه .
وبهذه الجمعية التي اتحدت بها مفردات العالم كاتحاد العناصر بالتركيب واتحاد كيفياتها بالمزاج واتحاد صورته بقوى العالم المسماة بالتسوية ليستعد لقبول روحه المنفوخ فيه .
فاستحق به الخلافة لأن الخليفة يجب أن يناسب المستخلف ليعرفه بصفاته وأسمائه وينفذ حكمه في المستخلف فيه .
ويناسب المستخلف فيه ليعرفه بصفاته وأسمائه فيجري كل حكم على ما يستحقه من مفرداته.
فيناسب بروحه وأحدية جمعية الحق وشارك بصورته وأجزاء وجوده ومفرداته العالم فهو عبد الله رب العالم وصورته التي هي من العالم شهادة وروحه غيب وربوبيته من جهة غيبه ولهذ
قال ( فالعالم شهادة والخليفة غيب ) لأنه من حيث الصورة داخل في العالم ، ومن حيث معناه خليفة الله ورب وسلطان للعالم
( ولهذا المعنى يحجب السلطان كما ذكر ووصف الحق نفسه بالحجب الظلمانية وهي الأجسام الطبيعية والنورية وهي الأرواح اللطيفة ، فالعالم بين كثيف ولطيف وهو عين الحجاب على نفسه ) فالظلمانية أجساد العالم والنورانية أرواحه .
وليس العالم إلا هذه الأجسام الكثيفة والأرواح اللطيفة فهو حجاب على نفسه.


( فلا يدرك الحق إدراكه نفسه ) لأن الشيء لا يدرك إلا ما فيه وليس في العالم إلا الحجب ، فلا يدرك إلا الحجاب دون المحجوب.
( فلا يزال في حجاب لا يرفع ) من هذا الوجه ( مع علمه ) أي مع أنه محجوب بحجاب آخر وهو علمه .
( بأنه متميز عن موجده بافتقاره ولكن لا حظ له في الوجوب الذاتي الذي لوجود الحق فلا يدركه أبدا ) أي ولكن لا يعلم من علمه بافتقاره الوجوب الذاتي الذي للحق إذ لا حظ له منه بوجه ، وما ليس فيه شيء منه لم يدركه إدراك ذوق وشهود.

( فلا يزال الحق من هذه الحيثية ) أي من هذا الوجه ( غير معلوم ) أبد ( علم ذوق وشهود لأنه لا قدم ) ولا سابقة ( للحادث في ذلك ) أي في الوجوب الذاتي البتة .
قوله ( فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا ، ولهذا قال لإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ ) لما ذكر أن الصفتين المتقابلتين يد الحق اللتان توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل.
وكان قد مثل بصفات الله تعالى متقابلة مشتركة في أنها مؤثرة فكانت أيادى معطية متقابلة ، وقد أومأ إلى صفات العالم متقابلة مشتركة في أنها انفعالية .
فكانت أيادى قابلة آخذة وسوانا فيها مع العالم فأراد أن يثبت لنا التشريف من الله بالجمع بين يديه المتقابلتين في الإعطاء والقبول أيضا ، فإن لله تعالى يدين متقابلات معطية كالرضا والغضب ، ومتقابلات آخذة قابلة ألا ترى إلى قوله تعالى :" أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِه ويَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ".
- ولهذا وبخ إبليس وذمه على ترك السجود لآدم ، حيث رأى منه صفات العالم من الانفعالات القابلة كالخوف والرجاء ، ولم ير الصفات الفعلية ولم يعرف أن القابلة أيضا صفات الله فإنها من الاستعداد الفائض عن الفيض الأقدس .
وقال ( وما هو إلا عين جمعه بين الصورتين صورة العالم وصورة الحق وهما يد الحق ) يعنى كما أن المتقابلات المعطية يد الحق .
فالمعطية والقابلة والآخذة أيضا يدان متقابلتان للحق .
فلو لم يكن لآدم تلك القوابل لم يعرف الحق بجميع الأسماء ولم يعبده به ( وإبليس ) لم يعرف ذلك لأنه ( جزء من العالم لم يحصل له هذه الجمعية ) فما عرف إلا ما هو من العالم فاستكبر وتعزز لاحتجابه عن معرفة آدم .
إذ لم يكن له جمعية فلم يعرف منه إلا ما هو من جنس نشأته ، فاستوهنه ونقص به وما عرف أن الذي حسبه نقصانا كان عين كماله .

كما قال ( ولهذا كان آدم خليفة ، فإن لم يكن ) أي آدم ظاهر ( بصورة من استخلفه ) أي الحق ( فيما استخلفه فيه ) من العالم وأجزائه ( فما هو خليفة ) أي لم يكن خليفة لأن الخليفة يجب أن يعلم مراد المستخلف وينفذ أمره فلو لم يعرفه بجميع صفاته لم يمكنه إنفاذ أمره ( وإن لم يكن فيه جميع ما في العالم ) من الأسماء والصفات ( وما تطلبه الرعايا التي استخلف عليها ) يعنى أجزاء العالم المستخلف هو عليها لم يكن خليفة عليهم .
إذ ليس حينئذ عنده ما يحتاج إليه الرعايا ويطلبونه منه فلم يمكنه تدبيرهم ، فقوله فليس بخليفة عليهم جواب الشرط الثاني في الحقيقة لكن لما اعترض تعليل الشرط
وهو قوله ( لأن استنادها إليه فلا بد أن يقوم بجميع ما يحتاج إليه ) بينه وبين الجزاء فانجر الكلام إلى توسط شرط آخر وهو قوله وإلا اكتفى بجواب أحدهما عن جواب الآخر لاشتراكهما في الجواب فيكون جواب الأول محذوفا لدلالة جواب الثاني عليه .

تقديره وإن لم يكن فيه جميع ما تطلبه الرعايا من الأسماء التي يرب الحق تعالى بها جميع من في العالم من الناس والدواب والأنعام وغيرها فليس بخليفة عليهم ، والاعتراض لبيان أن فيه مطالب جميع أجزاء العالم لأنها مقتضيات الأسماء الإلهية فيطلب ما في خزائن الأسماء من المعاني التي هي كمالاتها والأسماء كلها فيه كما مر فاستندت إليه فلا بد أن يقوم بكل ما يحتاج إليه ويعطيها مطالبها كله ( وإلا ) أي وإن لم يقم بجميع ما يحتاج إليه ( فليس بخليفة عليهم )
ومن هذا ظهر معنى قوله ( فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل فأنشأ صورته الظاهرة ) أي لما ثبت أن استحقاق آدم للخلافة إنما يكون بالصورتين أنشأ صورته الظاهرة ( من حقائق العالم وصوّره )
حيث جمع فيه الحقائق الكونية ، فلم يبق من صور العالم وقواه شيء إلا وفيه نظير ( وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى ) فإنه سميع بصير عالم ، فيكون متصفا بالصفات الإلهية مسمى بأسمائه
( ولذلك قال فيه « كنت سمعه وبصره » وما قال كنت عينه وأذنه ففرق بين الصورتين ) أي صورة العالم وصورة الحق .
قوله ( وهكذا هو في كل موجود ) أي وكما أن الحق في آدم ظاهر بصورته كذلك في كل موجود ( من العالم ) يظهر ( بقدر ما تطلبه حقيقة ذلك الموجود ) أي عينه باستعداده الأزلى ( لكن ليس لأحد ) أي لشيء من العالم ( مجموع ما للخليفة )
فإنه مظهر الذات مع جميع الصفات ، بخلاف سائر الأشياء وإلا لكان الكل مظهرا له ( فما فاز من بينهم إلا بالمجموع ) وإلا فكان الكل مظهرا له بقدر قبوله .
قوله ( ولو لا سريان الحق في الموجودات بالصورة ) أي بصورته ( ما كان للعالم وجود ) فإن أصل الممكن عدم والوجود صورته تعالى ووجهه الباقي بعد فناء الكل ، فلو لم يظهر بصورته التي هي الوجود من حيث هو وجود بقي الكل على العدم الصرف .

وقوله ( كما أنه لو لا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العينية ) تشبيه لاستناد وجود العالم إلى صورة وجوده تعالى باستناد الأمور العينية من الصفات إلى الحقائق الكلية . كما ذكر في الحياة والعلم .
كما كان وجود العلم في زيد مثلا مستندا إلى العلم المطلق الكلى ولولاه لما وجد عالم وما صح الحكم بالعالمية على أحد كذلك كل موجود معين عينى مستند إلى وجود الحق الذي هو وجهه وصورته ولولاه لما وجد موجود وما صح الحكم على شيء بأنه موجود .
ولذلك قال ( ومن هذه الحقيقة ) أي من جهة أن الحق في الموجودات سار بالصورة حتى وجد ما وجد ( كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده ) لأن صورته هو الموجود فبوجوده وجد كما ذكر في المقدمة قوله نظما :
( فالكل مفتقر ما الكل مستغنى )
الفاء للسببية وما نافية ورفع خبرها على اللغة التميمية ، وعليها قرئ ما هذا بشر بالرفع أي إذا كان الحق ظاهرا بصورته في العالم والعالم مفتقر في وجوده إليه .
فكل واحد من العالم والحق مفتقر إلى الآخر ليس كل منهما مستغنيا عن الآخر . أما افتقار العالم إلى الحق ففي وجوده ، وأما افتقار الحق إلى العالم ففي ظهوره .

ولما كان التصريح بهذا الافتقار غير مأذون فيه وإن كان هو الحق قال :
( هذا هو الحق قد قلناه لا تكنى ...... فإن ذكرت غنيا لا افتقار به)
أي ذاته من حيث هي هي ومن حيث اسمه الباطن لأنه تعالى بالذات غنى عن العالمين .
وأما من حيث اسمه الظاهر والخالق والرزاق فليس يغنى ( فقد علمت الذي بقولنا ) وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى ( نعنى ) أو بقولنا الحق من حيث هو أي فقد علمت لحق من حيث اسمه الباطن أو من حيث الذات بدون الصفات لأنه من هذه الحيثية غنى لا افتقار به .
ويجوز أن يكون المراد فإن ذكرت غنيا لا افتقار به فقد علمت أن المراد بقولنا فالكل مفتقر هو الحق مع جميع الصفات والأسماء والله أعلم .

قوله : ( فالكل بالكل مربوط وليس له ...... عنه انفصال خذوا ما قلته عنى )
أي العالم مربوط بالحق في الوجود والاستناد إلى صمديته والحق مربوط بالعالم في ظهوره وسائر أسمائه الإضافية .
قوله ( وقد علمت نشأة جسد آدم أعنى صورته الظاهرة ، وقد علمت نشأة روح آدم أعنى صورته الباطنة فهو الحق ) أي بحسب صورته الباطنة والحقيقة ( الخلق ) بحسب صورته الظاهرة .
قوله ( وقد علمت نشأة رتبته وهي المجموع الذي استحق به الخلافة ) وفي بعض النسخ بها حملا على المعنى وهو الرتبة ..
أي كونه واسطة بين الحق والخلق بمجموعه الذي استحق به الخلافة ، ليعرف صورة العالم وحقائقه بظاهره وصورة الحق وأسمائه الذاتية بباطنه ، ويتحقق له رتبة الخلافة بالجمع بين الصورتين ( فآدم هو النفس الواحدة ) أي حقيقة الإنسان من حيث هو .
وهو روح العالم ( التي خلق منها هذا النوع الكامل الإنسانى ) أي أفراد النوع وإلا فالنفس الواحدة هي حقيقة النوع بدليل قوله ( وهو قوله " يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ " .
فإن الخطاب للأفراد المخلوقة من النفس الواحدة ( وخلق منها زوجها ) أي خلق من الروح الكلى التي هي النفس الواحدة زوجها .
وهي النفس الكلية والرجال والنساء المبثوثة منها قوله تعالى " وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً ونِساءً ".

هي أشخاص النوع قوله في تفسير قوله تعالى (فقوله : " اتَّقُوا رَبَّكُمُ ".
اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم واجعلوا ما بطن منكم وهو ربكم وقاية لكم ، فإن الأمر ذم وحمد فكونوا وقايته في الذم ، واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين ) .معناه اتخذوا وقاية لأنفسكم تتقون بها من يربكم .
ولما كان الرب هو الظاهر والباطن كانت ربوبيته لظواهركم من اسمه الظاهر بإمداد الحفظ والرزق وجميع ما يتعلق بالرحمة الرحمانية من الأسماء وربوبيته لبواطنكم من اسمه الباطن بإمداد العلم والحكمة وجميع ما يتعلق بالرحمة الرحيمية من الأسماء ، فعليكم بالاستمداد بالربوبية وتهيؤ الاستعداد القابلة من الوجهين .
وذلك بالتأدب بين يديه بآداب الحضرة فاتخذوا وقاية لأنفسكم مما ظهر منكم تتقون بها ربكم الظاهر أن يمنع ألطافه الظاهرة من الرزق والحفظ وأمثالهما .
وينتقم منكم في سوء أدبكم بنسبة الشرور والمعاصي إليه فتحرموا مدد الحفظ والرزق .
وفي الجملة ألطاف الربوبية الظاهرة لفساد المربوبية بظهور صفات النفس ونسبة الشرور إليه ، واتخذوا وقاية لأنفسكم مما بطن منكم تتقون بها ربكم الباطن أن يمنع ألطافه الباطنة من الرحمة الرحيمية بسوء أدبكم بنسبة الكمالات المعنوية والمعارف والحكم إلى أنفسكم فتحجبوا بصفاتكم وظهورها عن قبول أنوار صفاته .
وتحرموا إمداد الفيض العلوي والألطاف الباطنة لفساد استعداد المربوبية بحسب الباطن .
فظهر أن لفظ الاتقاء يساعده ما فسره الشيخ رضى الله عنه به من المعنى لاشتقاقه من الوقاية ، يقال اتقاه فاتقى أي اتخذ الوقاية يتقى بها بمعنى حذره .
فحذر إذ الحذر هو اتخاذ الوقاية ، قال تعالى " خُذُوا حِذْرَكُمْ " .
كأن الحذر آلة تتقى بها كالترس ونحوه مما يتقى به .

والوقاية مصدر سمى به ما يتقى به وقوله ( ثم إنه أطلعه على ما أودع فيه وجعل ذلك في قبضتيه القبضة الواحدة فيها العالم والقبضة الأخرى آدم وبنوه وبين مراتبهم فيه ) معناه أنه أطلع الإنسان الحقيقي على ما أودع فيه من أسرار الألوهية .
وجعل الجميع مما أوجد كالواحد وأودع فيه في قبضتيه أي قبضتى الحق فجعل حقيقة آدم وبنيه في قبضته اليمنى التي هي الأقوى أي الصفات الفعلية .
وأسمائه في العالم الأعلى الروحاني وجعل صورة العالم في قبضته اليسرى التي هي الأضعف أي الصفات القابلة المذكورة وأسمائه في العالم الجسماني .
وإن كانت كلتا يدي الرحمن يمينا لأن القابلية في قوة القبول تساوى الفاعلية في قوة الفعل لا تنقص منها ، وبين في ذاته مراتب بنى آدم في عرض عريض كما يشعر سائر الفصوص ببعضها .
قوله :
( ولما أطلعنى الله في سرى على ما أودع في هذا الإمام الوالد الأكبر جعلت في هذا الكتاب منه ما حد لي لا ما وقفت عليه فإن ذلك لا يسعه كتاب ولا العالم الموجود الآن ، فمما شهدته مما نودعه في هذا الكتاب كما حده له رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حكمة إلهية في كلمة آدمية وهو هذا الباب ) ظاهر غنى عن التعريف
( ثم حكمة نفثية في كلمة شيثية
ثم حكمة سبوحية في كلمة نوحية
ثم حكمة قدوسية في كلمة إدريسية
ثم حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية
ثم حكمة حقية في كلمة إسحاقية
ثم حكمة علية في كلمة إسماعيلية
ثم حكمة روحية في كلمة يعقوبية
ثم حكمة نورية في كلمة يوسفية
ثم حكمة أحدية في كلمة هودية
ثم حكمة فاتحية في كلمة صالحية
ثم حكمة قلبية في كلمة شعيبية
ثم حكمة ملكية في كلمة لوطية
ثم حكمة قدرية في كلمة عزيرية
ثم حكمة نبوية في كلمة عيسوية
ثم حكمة روحانية في كلمة سليمانية
ثم حكمة وجودية في كلمة داودية
ثم حكمة نفسية في كلمة يونسية
ثم حكمة غيبية في كلمة أيوبية
ثم حكمة جلالية في كلمة يحيوية
ثم حكمة مالكية في كلمة زكرياوية
ثم حكمة إيناسية في كلمة إلياسية
ثم حكمة إحسانية في كلمة لقمانية
ثم حكمة إمامية في كلمة هارونية
ثم حكمة علوية في كلمة موسوية
ثم حكمة صمدية في كلمة خالدية
ثم حكمة فردية في كلمة محمدية .
وفص كل حكمة الكلمة التي نسبت إليها فاقتصرت على ما ذكرت من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب فامتثلت على ما رسم لي .
ووقفت عند ما حد لي ، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت فإن الحضرة تمنع ذلك .
والله الموفق لا رب غيره .
.

iEDaBBYyfT0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!