موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

شرح القاشاني
على فصوص الحكم

تأليف: الشيخ عبد الرزاق الكاشاني

فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة ملكية في كلمة لوطية


13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح القاشاني كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

شرح القاشاني العارف بالله الشيخ عبد الرزاق القاشاني 938 هـ على متن كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر
إنم اختصت الكلمة اللوطية بالحكمة الملكية ، لأن الملك هو القوة والشدة ، والغالب على لوط وقومه هو الشدة والقوة ، ألا ترى إلى قوله : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " فالتج من الشدة التي كان يقاصيها من قومه إلى الركن الشديد الذي هو الله تعالى ، فاستأصلهم بشدة العذاب جزاء وفاقا .
""أضافة بالي زادة : الملك بفتح الميم وسكون اللام : الشدة ( يصف طعنته ) بشدة ضربه العدو بالرمح ( فأنهرت فتقها ) أي فأوسعت فتق الطعنة حتى ( يرى قائم من دونها ما وراءها ) أي يرى القائم ما وراء الطعنة من جانب آخر اه بالي زادة "".
قال الشيخ رضي الله عنه : ( الملك : القوة والشدة ، والمليك : الشديد ، يقال : ملكت العجين إذا شددت عجنه ، قال قيس بن الخطيم يصف طعنته ، نظم :
ملكت بها كفى فأنهرت فتقها .... يرى قائم من دونها ما وراءه
أي شددت بها كفى يعنى الطعنة ، فهو قول الله تعالى عن لوط عليه السلام : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " .
فقال صلى الله عليه وسلم: « يرحم الله أخي لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد » فنبه صلى الله عليه وسلم أنه كان مع الله من كونه شديدا ، والذي قصد لوط عليه السلام القبيلة بالركن الشديد والمقاومة بقوله : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " وهي الهمة هنا من البشر خاصة )
فهو أي الشدة والقوة الهمة القوية الشديدة ، أي لو أن لي بكم قوة من الهمة القوية أقاومكم بها وأقاويكم ، أو آوى إلى جانب قوى هو القبيلة ظاهرا والله تعالى حقيقة وباطنا ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام « لقد كان يأوى إلى ركن شديد » من اسمه القوى الشديد .
ولو لم يتأيد بالقوى الشديد لما قهر الأعداء ، فكان هذا القول يقينا من قوى شديد باللَّه ، أي بقوة همته المتأيدة بالقوى الشديد فيهم فأهلكهم ولما كان نظر لوط إلى مظاهر القوة والشدة من حيث أنه أضاف القوة إلى نفسه وقصد بالركن القبيلة .
قيد الشيخ قدس سره الهمة هنا بقوله من البشر خاصة .
وقال رضي الله عنه : ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « فمن ذلك الوقت » يعنى من الزمان الذي قال فيه لوط عليه السلام : " أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ " ما بعث نبي بعد ذلك إلا في منعة من قومه فكان يحميه قبيلته كأبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم )
يعنى من قوة همته وتأثير باطنه
""أضافة بالي زادة : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " بمقاومتكم أَوْ " آوِي " أي ألتجئ - إِلى " رُكْنٍ شَدِيدٍ " إلى قبيلة غالبة على الأعداء اهـ بالي زادة
( إنه كان مع الله من كونه شديدا ) فكان غالبا على أعدائه مع نصرة الله " من ركن شديد " فكان له أبو طالب ركنا شديدا اهـ .
وألهمه القوة الروحانية المؤثرة في النفوس لا القوة الجسمانية ، فإنها أقوى تأثيرا من الجسمانية اه بالى زادة . ""
( فقوله " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " - لكونه أي لكون لوط عليه السلام .
سمع الله تعالى يقول : " الله الَّذِي خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ "بالأصالة " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً " - فعرضت القوة بالجعل فهي قوة عرضية ، " ثُمَّ جَعَلَ من بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً " ، فالجعل تعلق بالشيبة ، وأما الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه .
وهو قوله : " خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " فرده لما خلقه منه ، كما قال : "ومِنْكُمْ من يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ من بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً " .
فذكر أنه رد إلى الضعف الأول ، فحكم الشيخ حكم الطفل في الضعف )
أي سمع لوط عليه السلام سمع روحه من الله تعالى قوله : " الَّذِي خَلَقَكُمْ من ضَعْفٍ " فتحقق أن الممكن لا وجود له بالأصالة فلا قوة له ، فأصله الضعف حين خلق من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم يخرجكم طفلا ، فالضعف له ذاتي بمقتضى طبيعة الإمكان ، وبمقتضى أصل خلقته الجمادية ، والقوة عارضية بالجعل .
""أضافة بالي زادة : فالضعف منش ومبدأ للخلق . ( فالجعل تعلق بالشيبة ) لكونها أمرا وجوديا عرضيا كالقوة وأوجدها الحق تعالى بالخلق الجديد ( وأما الضعف فهو رجوع ) وهو عدم القوة فلا يتعلق الجعل به . فإن قيل : إن تعلق الجعل بهما ظاهر في الآية .
قلنا : لما كان الشيب صفة عارضة للإنسان اعتبر الشيخ تعلقه إليه بمعنى الإيجاد ، ولما كان الضعف وصفا أصليا له اعتبر تعلقه إليه بمعنى الرد إلى أصله لذلك قال ( فرده لما خلقه منه ) وهو الضعف والشيبة سبب موجب لرد الشيء إلى أصله وهو الضعف ، وأورد دليلا على أن الضعف بعد القوة رد على أصله لا يتعلق به الجعل .
قوله تعالى كما قال : " ومِنْكُمْ من يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ " اهـ بالى . ""
والجعل الثاني هو القدر المشترك بين الرد إلى الضعف الأصلي وإحداث الشيبة ، فإن كليهما جعل والجعل بمعنى الفعل ، كما في قوله تعالى : " إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً " أورد الجعل للقدر المشترك بين الخلق والإبداع ، إنما قال فالجعل تعلق بالشيبة لأن الضعف يتبعه طبعا ، ولهذا وصفه بالرجوع إلى أصل خلقه .
ثم لما تبين أن الرجوع إنما هو بتبعية الشيب المجعول مجعول فسره بالرد إلى ما خلقه منه لإشراك الرد والإحداث في معنى الجعل والباقي ظاهر ، والمقصود أن القوة للخلق عارضى ، ولهذا أورد لو الامتناعية إشارة منه إلى محض التوحيد ، وأن لا جعل ولا قوة إلا باللَّه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما بعث نبي إلا بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النقص والضعف ، فلهذا قال : " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " مع كون ذلك يطلب همة مؤثرة )
إنم بعث بعد تمام الأربعين لأن القوة النورية قبله مغمورة في مقتضيات الخلقة ، وأحكام الفطرة مغلوبة بأوصاف النشأة فانصبغ النور بالظلمة ، ولهذا غلب السواد على الشعر.
""أضافة بالي زادة : (ولهذا ) أي ولأجل إدراك لوط معنى قول الله تعالى - بالنور الإلهي - قالَ "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ " - فظهر أن ما طلبها لوط ليست بقوة جسمانية اهـ بالى . ""
فلم ذهبت القوى الطبيعية وظهر ضعف القوى الجسمانية لكونها متناهية ، اشتد سلطنة القوة الفطرية وظهر سلطان النور الإلهي ، فغلب البياض بحكم العكس على سواد الشعر وحان وقت تأثير الهمة بالقوة الإلهية برجوع حجابيات الخلقية إلى الضعف الأصلي .
وبروز الحقيقة الإلهية والقوى الروحانية من الحجاب ورجوعا إلى التأثير الأصلي ، فتمنى بلو الامتناعية بالتشبيه إليه لأن القوى لله لا له .
فإن أصل وضعها للامتناع واستعيرت للتمني الدال على طلب الهمة المؤثرة ، فالقوة ليست له من حيث أنه خلق سيما عند ضعف الخلقة ونقصانها عند الأربعين ، وهي له من حيث أنه حق .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإن قلت : وما يمنعه من الهمة المؤثرة وهي موجودة في السالكين من الأتباع ، فالرسل أولى بها ، قلت : صدقت ولكن نقصك علم آخر ، وذلك أن المعرفة لا تترك للهمة تصرفا ، فكلما علمت معرفته نقص تصرفه بالهمة ، وذلك لوجهين:
الوجه الواحد لتحققه بمقام العبودية ونظره إلى أصل خلقه الطبيعي (فإن أصله الضعف ، وللعبد قبول أمر السيد وامتثاله ، وإنما الفعل للسيد وحده ( .
والوجه الآخر أحدية المتصرف والمتصرف فيه ، فلا يرى على من يرسل همته فيمنعه ذلك ) قلت : الرؤية من أفعال القلوب علقت بمن الجملة لما في من من الاستفهام ، فلا يرى على من يرسل همته إذ ليس ثمة أحد غيره ، ويجوز أن يكون من رؤية البصر ، والمفعول محذوف لدلالة أحدية المتصرف والمتصرف فيه عليه ، أي فلا يرى أحدا والجملة بيان لعلة امتناع التصرف ولاقتضاء رؤية وجود المتصرف فيه ، أي على أيّ شيء أو على أي أحد يرسل همته إذ ليس ثمة غيره ، ثم قال : فيمنعه ذلك ، والوجه الثاني ، وهو شهود أحدية المتصرف والمتصرف فيه كما يمنع من التصرف ، فقد يقتضي التصرف لأنه واقع في نفس الأمر .
إذ ليس في الوجود إلا الحق وحده والتصرف واقع ، فلو تصرف العارف بالأحدية المذكورة م كان ذلك التصرف إلا للحق ولا سيما العبد الكامل .
فإنه هو الذي له جميع ما لله من حقائق الأسماء الإلهية ، وما للعبد من الصفات العبدانية بأحدية العين وإلا لم يكن كاملا ، لكن لا يكون ذلك بإرسال الهمة وتسليطها لئل يضره ويخل بمقام العبودية بل بإظهار الحق ذلك منه .
وظهوره تعالى على مظهره بالتصرف من غير تعبد منه بذلك ، ولا إرسال همة ولا تسليط نفس ول ظهورية ، فالمانع بالحقيقة هو الوقوف في مقام العبودية الذاتية ورد أمانة الربوبية العرضية إلى الله تأدبا بآداب أهل القرب فلا يتعدى للتصرف والتسخير ، ويتوجه بالكلية إلى الله الواحد الأحد المتفرد بالتدبير والتقدير .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وفي هذا المشهد يرى أن المنازع له ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلا ما كان له في حال العدم في الثبوت ، فما تعدى حقيقته ولا أخل بطريقته ، فتسمية ذلك نزاعا إنما هو أمر عرضى أظهره الحجاب الذي على أعين الناس .
كما قال الله تعالى : " ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ل يَعْلَمُونَ - يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ").
يعنى أن العارف في هذه الشهود وهو شهود أحدية العين مطلع على سر القدر يرى أن المنازع على صراط ربه ما عدل على علم الله منه وعما اقتضاه علمه في حال ثبوتها ، فليس هو نزاع في الحقيقة بل هو فيما يفعله كهذ العارف فيما يفعله ، والحجاب الحاجب للناس عن اطلاعهم على حقيقة الأمر اقتضى أن يسمى ذلك نزاعا لما بينهما من الخلاف .
""أضافة بالي زادة : (فتسمية ذلك نزاعا ) مطلقا ، وإنما قلنا مطلقا لأن أهل الله سموه نزاعا بحسب الأمر التكليفي ، ولا يسمى نزاعا بحسب الأمر الإرادى ، وأما أهل الحجاب فيسمون نزاعا مطلقا اهـ بالي زادة. ""
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهو من المقلوب ، فإنه من قولهم : " قُلُوبُنا غُلْفٌ " أي في غلاف وهو الكنّ الذي يستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه ، فهذا وأمثاله يمنع العارف من التصرف في العالم ) .
وهو أي كونه نزاعا من باب المقلوب الذي قلبه أصحاب الحجاب من حقيقته لأنه وفاق لما كان عليه عينه في حال الثبوت ، ولكن لما كانت قلوبهم في أكنة عما عليه الأمر في نفسه حسبوا أن الحق الثابت في نفس الأمر خلافه فسموه بالنسبة إليه نزاعا وليس به في نفس الأمر .
فلم كان العارف يرى ذلك وفاقا لما في علم الله ولما في عينه منعه من التصرف في العالم بدفعه وقهره وإهلاكه .
""أضافة بالي زادة : ( أظهره الحجاب ) المانع للاطلاع على سر القدر ويزعمون أن الناس كلهم قابل الهداية واتباع الرسل ، وما علموا أن كلا موافق لطريقه في الأزل باقتضاء أعيانهم الثابتة في العلم ، لذلك يسمون عدم الطاعة في الظاهر نزاعا ومخالفة مطلقا ، ولو علموا الأمر لسموا نزاعا من وجه واتباعا من وجه فقلب اللام والفاء بالقلب المكان ، فكان أصل غافلون غالفون أي غالفون قلوبهم في غلاف الحجاب ، وهو الكن الذي يستره أي يستر القلب ، لقوله تعالى : "وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً " - ( فهذ ) أي التحقق بمقام العبودية والنظر إلى أصل الخلقة والاطلاع على أحدية المتصرف والمتصرف فيه وأمثاله ( يمنع العارف من التصرف ) بالهمة ( في العالم ) اهـ بالى . ""
قال الشيخ رضي الله عنه : (قال الشيخ أبو عبد الله بن القائد للشيخ أبى السعود بن الشبلي : لم لا تتصرف ؟
فقال أبو السعود : تركت الحق يتصرف لي كما يشاء .
يريد قوله تعالى آمرا : " فَاتَّخِذْه وَكِيلًا " - فالوكيل هو المتصرف ولا سيما وقد سمع أن الله يقول : " وأَنْفِقُوا مِمَّ جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه " .
فعلم أبو السعود والعارفون أن الأمر الذي بيده ليس له وأنه مستخلف فيه .
ثم قال له الحق : هذا الأمر الذي استخلفتك فيه وملكتك إياه اجعلني واتخذني وكيلا فيه ، امتثل أبو السعود أمر الله فاتخذه وكيلا ، فكيف يبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همة يتصرف بها ، والهمة لا تفعل إلا بالجمعية التي لا متسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه السلام .
وهذه المعرفة تفرقه عن هذه الجمعية فيظهر العارف التام المعرفة بغاية العجز والضعف .
قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزاق : قل للشيخ أبى مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين ، لم لا يعتاص علينا شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء ؟
ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا ) هذا كله غنى عن الشرح .
""أضافة بالي زادة : (لم لا يعتاص علينا شيء ) إذا أردنا حصوله يحصل بتصرفنا ويلين لنا ولا ينازعنا ( وأنت تعتاص عليك الأشياء ؟ ) أي لا تتبع على مرادك ، يعنى نحن نتصرف وأنت لا تتصرف ( وهذا ) أي الذي منع أبا مدين من التصرف ( من ذلك القبيل ) أي من قبيل ما يمنع أبا السعود وأمثاله من التصرف وهو المعرفة التامة ( أيضا ) كأبي السعود وغيره اهـ .
فظهر أن البدل الذي قال لأبى مدين نقص من المعرفة ، ولو علم ما قاله له لعلم أن العارف لا يتصرف بالاختيار بل بالجبر والأمر من الله اهـ بالى . ""
ومن هاهنا كلام الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك كان ) أي كان تعتاص عليه الأمور .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( مع كون أبى مدين كان عنده ذلك المقام وغيره ، ونحن أتم في مقام الضعف والعجز منه ومع هذا قال له هذا البدل ما قال ، وهذا من ذلك القبيل أيضا ) أي وما نحن فيه من العجز من كمال المعرفة أيضا .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال صلى الله عليه وسلم في هذا المقام عن أمر الله له بذلك : " ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ول بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ " فالرسول بحكم ما يوحى إليه به ما عنده غير ذلك .
فإن أوحى إليه بالتصرف بجزم تصرف ، وإن منع امتنع ، وإن خير اختار ترك التصرف ) تأدبا بآداب العبودية في مقام الاستقامة وملازمة لما له ذاتي ، وتفويضا للتصرف إلى من له تصرف ذاتي
( إلا أن يكون ناقص المعرفة ) أي أن يكون المخير ناقص المعرفة فاختاره ، وذلك:
إما لعدم علمه بأن التصرف والتأثير مخصوص بالحضرة الإلهية ، وأنه ذاتي للحق عارضى للعهد ، وأن الوقوف مع معبودية للعبد أولى ، لأن الوقوف مع الذاتيات والظهور بها أعلى وأشرف من الظهور بالأمور العرضية .
وإما لعدم التأدب والمعرفة بأن مراعاة الآداب مع الحضور الإلهية أولى بالعبد ، وأن اتخاذ الله وكيل فيما استخلفه فيه أعلى مقاما للعبد .
ولهذ كان الرسل خصوصا أكملهم وخاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم بحكم ما يوحى إليه في التصرف وتركه ، فإن الأدب يقتضي الطاعة .
وإن أوحى إليه بالتخيير علموا أن الأولى به لو كان خلاف التخيير لما خيروا وأمروا بم هو خير ،فرأوا التخيير ابتلاء وعلموا أن الخيرة في الأدب والوقوف مع مقتضى الحقائق والذاتيات.
قال الشيخ رضي الله عنه : (قال أبو السعود لأصحابه المؤمنين به : إن الله أعطانا التصرف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرفا ، هذا لسان إدلال . وأما نحن فما تركناه تظرفا وهو تركه إيثار ، وإنما تركناه لكمال المعرفة ، فإن المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار .
فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم فعن أمر إلهي وجبر لا باختيار .
ولا شك أن مقام الرسالة يطلب التصرف لقبول الرسالة التي جاء به فيظهر عليه ما يصدق عند أمته وقومه ليظهر دين الله والولي ليس كذلك .
ومع هذا فلا يطلبه الرسول في الظاهر لأن للرسول الشفقة على قومه فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة عليهم ، لأن في ذلك هلاكهم فيبقى عليهم .
وقد علم الرسول أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة فمنهم من يؤمن عند ذلك ومنهم من يعرفه ويجحده ، ولا يظهر التصديق به ظلما وعلوا وحسدا ، ومنهم من يلحق ذلك بالسحر والإيهام .
فلما رأت الرسل ذلك وأنه لا يؤمن إلا من أنار الله قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا فلا ينفع في حقه الأمر المعجز ، فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعم أثرها للناظرين ولا في قلوبهم .
كما قال في حق أكمل الرسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحال « إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ ولكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ » .
ولو كان للهمة أثر ولا بد لم يكن أحد أكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلى ولا أقوى همة منه .
وما أثرت همته في إسلام أبى طالب عمه وفيه نزلت الآية التي ذكرناه .
وكذلك قال في الرسول ما عليه إلا البلاغ ، وقال: " لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ولكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ " ، وزاد في سورة القصص : " وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " .
أي بالذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة فأثبت أن العلم تابع للمعلوم ، فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصورة في حال وجوده ، وقد علم الله ذلك منه أنه هكذا يكون .
فلذلك قال : " وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " فلما قال مثل هذا ، قال أيض : " ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ " لأن قولي على حد علمي في خلقي : " وما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ " أي ما قدرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ، ثم طلبتهم بما ليس في وسعهمأن يأتوا به بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إل بما أعطونا من نفوسهم مما هم عليه ، فإن كان ظلم فهم الظالمون .
""أضافة بالي زادة : ولما كان إيضاح هذه المسألة موقوفا على بيان سر القدر بينه بقوله : ( وزاد )الحق تعالى نفى ؟ أثر الهمة ( في صورة القصص ) اهـ بالى.
( ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم ) حتى أكون ظالما ، فكان أمر الحق بهم بما ليس في وسعهم من أحوال عينهم الثابتة ، وهذا هو الكلام الذي قطع عرق الجبر عن كليته ، فل ظلم أصلا فلا جبر
قطع لا صرفا ولا متوسطا إذ مآل الجبر الظلم اهـ .
( كذلك ما قلنا لهم ) المراد من القول التكاليف الشرعية ، فلما أعطى الحق لهم ما طلبت ذواتهم من الكفر والإيمان ، كذلك أعطى الحق لذاته تعالى ما اقتضت ذاته من القول كذا وعدم القول كذا اهـ بالى . ""


لذلك قال : " ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " فما ظلمهم الله ، كذلك ما قلنا لهمإلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم .
وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ولا نقول كذا ، فم قلنا إلا بما علمنا أن نقول ، قلنا القول منا ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السماع منهم ) هذا كلام ظاهر اللفظ ، والمعنى.
حاصلة أن كمال المعرفة والعلم بحقائق الأمور يقتضي حفظ الأدب مع الله تعالى وعدم الظهور بالتصرف وإرسال الهمة على شيء ، فإن العارف المحقق يعلم أنه لا يظهر في الوجود إل ما كان في العلم الأزلي .
وم كان في العلم أن يقع لا بد أن يقع ، وما كان فيه أن لا يقع فمحال أن يقع .
فالأمر بين فاعل عالم بما في قوة القابل .
والقابل لا يقبل إلا ما في استعداده الذاتي الغير المجعول ، فعلى أي شيء يرسل الهمة .
وأي فائدة في إرسالها ؟
فإن المعلوم وقوعه أو لا وقوعه لا يتغير بهمته ، ولا يتأخر عن وقته المقدر فيه ول يتقدم عليه ، والقابل لا يقبل إلا ما علم الفاعل أن يقبله ، والفاعل لا يفعل إل ما يقتضي قبوله .
فإن الأعيان مقتضية بما تجرى عليها حالة الوجود من الأزل إلى الأبد والفاعل العالم ل يعلم منها إلا ذلك. والنسب الأسمائية مؤثرة فيها بمقتضى العلم والقبول .
فلذلك قال : ما قلنا لهم إلا ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم ، فإن الأعيان عين الذات الأحدية المتجلية بصورها وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ولا نقول كذا .
لأن علمه بذاته علمه بالأعيان كلها .
فقوله للأعيان بالكون على ما هي عليه مقتضى علمه ، والامتثال وعدم الامتثال مع سماع القول منهم مبنى على ما فيها وعلم منها أزلا :
( فالكل منا ومنهم ... والأخذ عنا وعنهم )
من من حيث حضرتنا الأسمائية ، ومنهم من حيث الأعيان الظاهرة بالوجود الحق المظهرة لحقائق الأسماء على قابلياتها واستعداداتها الذاتية ، وأخذ العلم الحقيقي عنا ، فإنا نعطى من فضلنا ما نشاء من نشاء ، كما قال : " ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيه من يَشاءُ " .
وعنهم : أي العلم مأخوذ من الأعيان المعلومة وهي نحن ، فإن العلم منه أولا بذاته ثم بالأعيان التي هي مظهر حقائق ذاته .
""أضافة بالي زادة : ( والكل من ومنهم ) أي القول والامتثال وعدم الامتثال من الحق من وجه ، ومن العبد من وجه ( والأخذ ) أي التعذيب لمن لم يمتثل الأمر التكليفي عن الحق وعن العبيد ، فهم كانو منا اهـ بالي زادة ""

والعلم بالأعيان ليس إلا علمه بذاته إذ لا معلوم إلا هو:
( وإن لم يكونوا من ... فنحن لا شك منهم )
كان مع اسمها مقدرة بعد إن ، كما في قولهم : إن خيرا فخير ، والاسم ضمير الشأن أو ضمير الأعيان : أي إن كان الأمر والشأن لا تكون الأعيان منا سر الأسماء بأن ظهرت من ولمقتضانا فنحن لا شك منهم ومن حقائقهم ، فإن الأسماء بسبب الذات أي حقائق الأعيان فلا يتحقق إلا بها ، وإن كان الأعيان لا يكونون في الوجود منا وعلى صورنا وبحسبن ، فنحن لا شك منهم ومن حقائقهم وبحسبهم ، فإن الأعيان يسمون بأسماء الحق كان مع اسمها مقدرة بعد إن ، كما في قولهم : إن خيرا فخير
""أضافة بالي زادة : ( إن لم يكونو منا فنحن لا شك منهم ) تحقيقا للعبودية والربوبية ، فإنه إذا لم يكن الحق منهم على تقدير عدم كونهم من الحق لم تتحقق الربوبية والعبودية ، فكون الحق منهم محال بالضرورة فكانوا من الحق والحق ليس منهم أو معناه فالكل أي إعطاء الكلّ منا ومنهم : والأخذ أي أخذ الكل عنا وعنهم ، فكان الحق معطيا وآخذا والعبد كذلك ، فهذه هي المعاملة بين الرب والعبد إن لم يكونوا يأخذون منا ما لم يعطونا قبله فنحن لا شك نأخذ عنهم ما أعطاه لهم قبله وهو العلم ، فإن علمه بهم يأخذ عنهم ولم يعط قبل ذلك العلم لهم ، لأن علمه تعالى تابع لمعلومه ، بخلاف العبد فإنه لا يمكن له أن يأخذ عن الحق ما لم يعطه الحق قبله إلا الوجود ، بل الوجود عليهم من الحق على حسب طلبهم اه بالى زادة . ""
والاسم ضمير الشأن أو ضمير الأعيان : أي إن كان الأمر والشأن لا تكون الأعيان منا سر الأسماء بأن ظهرت منا ولمقتضانا فنحن لا شك منهم ومن حقائقهم .
فإن الأسماء بسبب الذات أي حقائق الأعيان فلا يتحقق إلا بها .
وإن كان الأعيان لا يكونون في الوجود منا وعلى صورنا وبحسبنا .
فنحن لا شك منهم ومن حقائقهم وبحسبهم ، فإن الأعيان يسمون بأسماء الحق .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فتحقق يا وليي هذه الحكمة الملكية من الكلمة اللوطية فإنها لباب المعرفة ).
أي خلاصة المعرفة والعلم الحقيقي بسر القدر الموجب لإقامة أعذار الخلائق كلهم
( فقد بان لك السر ، وقد اتضح الأمر
وقد أدرج في الشفع الذي قيل هو الوتر )
أي ظهر لك سر القدر واتضح الأمر لوجود الحق أنه بحسب ذلك السر .
وأن الداخل الحق الذي هو الوجود المطلق الوتر بذاته مندرج في الشفع الذي هو الخلق القابل .
وإنم كان شفعا لظهوره في ثاني مرتبة الوتر.
وإنم كان وترا لعدم الثاني الشافع .
فالوتر بتحقق الثاني به شفع وبلا هو وتر ، والله أعلم .
.
....

19A4wQC5k0E

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!