موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة مهيمنية في كلمة إبراهيمية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة مهيمنية في كلمة إبراهيمية


05 - فص حكمة مهيمية في كلمة إبراهيمية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

هذا نص الحكمة الإبراهيمية.
ذكره بعد حكمة إدريس عليه السلام، لأن حكمة إبراهيم عليه السلام التي ذكرها له هنا تحقیق معنى العلو الحقيقي المذكور في حكمة إدريس عليه السلام، فناسب ذكرها بعدها على معنى أن حكمة إبراهيم عليه السلام تحقق معنی حكمة إدريس فكأنها شرح لها .
(فص حكمة مهيمية) بصيغة اسم المفعول من الهيام وهو الدهشة في المحبة (في كلمة إبراهيمية).
إنما اختصت حكمة إبراهيم بالمهيمية، لأن حقيقته عليه السلام هامت في محبة الله تعالى، فوصلت من مقام المحبة إلى مقام الخلة بحيث صار عليه السلام يجد الحق تعالى الممسك له متخللا في كل جزء منه من حيث ما يجد هو لكمال الاستيلاء الرحماني على العالم الروحاني والجسماني لا من حيث ما هو عليه بالنسبة إلى نفسه العلية.
فإنه على ما هو عليه في أزله، وإبراهيم عليه السلام مخلوق حادث والمخلوق الحادث إذا شعر بالخالق القديم مستوليا عليه لا يشعر به إلا على حسب ظهوره له لا على ما هو في نفسه.
فإذا هام فيه كان هيامه من جهة ذلك الظهور المخصوص، والإيمان بالغيب المطلق يصحبه في جميع المواطن.
ولهذا قال عليه السلام لربه تعالی: "رب أرني كيف تحيي الموتى" طلبا لمعرفته تعالى من حيث استيلائه بالأفعال على خلقه.
فقال الله تعالى له في الجواب : "أولم تؤمن قال" يعني بالغيب المطلق الذي لا مناسبة بينك وبينه حتى تدركه فقال عليه السلام :" بلى ولكن ليطمئن قلبي"[البقرة : 260].
يعني بشهود ذلك على حسب ما يليق بي وإن لم يكن على حسب ما الأمر عليه في نفسه، فدله الله تعالى على ذلك بأخذ الأربعة من الطير إلى آخر الآية .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(إنما سمي الخليل خليلا لتخلله و حصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية.
قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني .... وبه سمي الخليل خليل
كما يتخلل اللون المتلون، فيكون العرض بحيث جوهره ما هو كالمكان والمتمكن، أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم عليه السلام.
(و كل حكم يصح من ذلك، فإن لكل حكم موطنا يظهر به لا يتعداه.
ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟
ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها و كلها حق له كما هي صفات المحدثات حق للحق. )
(إنما سمي الخليل) إبراهيم عليه السلام (خليلا) كما قال الله تعالى : "واتخذ الله إبراهيم خليلا" [النساء: 125]، فهو خليل الله، والله خليله، لأنه من أسماء الإضافة، ولهذا نقول بأن محمدا صلى الله عليه حبيب الله وخليل الله أيضا.
لأنه عليه السلام قال: «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر».رواه مسلم وابن حبان.
وإذا اتخذ ربه خليلا اتخذه ربه خليلا أيضا، إذ لا يمكن أن يكون أحدهما خليلا للآخر ولا يكون الآخر خليلا له.
ومن كمال ظهور الله تعالى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان الاتخاذ من طرفه دون إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى في إبراهيم: "واتخذ الله إبراهيم خليلا".
وقال صلى الله عليه وسلم عليه السلام عن نفسه: «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر»، الحديث.
فقد تفاوت المظهران واختلفت الخلتان (لتخلله)، أي الخليل( وحصره)، أي جمعه في ظاهره وباطنه (جميع ما اتصفت به الذات الإلهية) من الصفات العلية والأسماء السنية والأفعال الكمالية والأحكام الجلالية والجمالية .
وهذا التخلل والحصر من إبراهيم عليه السلام لما ذكر كناية عن استيلاء الحق تعالی على إبراهيم عليه السلام بجميع ما ذكر .
وقبول إبراهيم لذلك الاستيلاء في ظاهره وباطنه لا بطريق الحلول أو الاتحاد لأنهما لا يتصوران إلا بين موجودين .""بين معينين والله ليس بمعين فليس كمثله شيء"".
والمخلوق الحادث لا وجود له بالنسبة إلى الخالق القديم أصلا، وإنما وجوده بالخالق القديم لا معه إذ لا وجود له من نفسه حتى يكون له وجود معه، فلا التفات لما يقع في أفهام المحجوبين من أهل العلم الظاهر عند إطلاق نحو ما ذكرنا من العبارات، لأن ذلك الوهم مبني على القصور في الأفهام فلا اعتبار به .
(قال الشاعر) من العرب في إثبات ذكر معنى الخليل (قد تخللت)، أي استوليت مستقصية جميع (مسلك)، أي موضع سلوك (الروح) في الجسد (مني) ظاهرا وباطنا .
(وبذا) المعنى المذكور (سمي الخليل) المشتق من الخلة وهي زيادة المحبة (خليلا) فهو فعيل بمعنى مفعول (كما يتخلل اللون) الأسود والأحمر ونحو ذلك (في) الشيء (المتلون) بذلك اللون فإنه يستولي عليه.
بحيث لا يبقى منه جزء إلا وينصبغ به (فيكون العرض) الذي هو اللون مثل (بحيث) يكون (جوهره) يعني على طبق حيثية جوهره من الكبر والصغر والطول والقصر (ما هو كالمكان) الذي يستقر عليه الشيء.
(والمتمكن) فيه فإنه لا يعم أعلاه وجوانبه بل أسفله فقط (أو) سمي الخليل خلية (لتخلل)، أي سريانه بطريق الاستيلاء (الحق) تعالى (في وجود صورة إبراهيم عليه السلام) في ظاهرها وباطنها، لأنه ممسكها ومكونها وهي طبق علمه وإرادته ولا وجود لها إلا به لا بنفسها فهو وجودها الذي هي موجودة به وهي في نفسها معدومة .
قال تعالى: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" [الرعد: 33]، وقيامه تعالى على كل نفس بما كسبت قیومیته تعالى للنفوس وإمساكه لها بوجوده الحق.
فإنه تعالى كما أخبر خلق السموات والأرض بالحق، والحق هو وجوده تعالى.
فقد خلق الأشياء بوجوده، فهو وجود الأشياء الذي هي موجودة به، والأشياء على ما هي عليه في نفسها من غير وجود آخر لها.
وليس هذا الكلام طعنا في وجود الحق تعالى أو نقصانا فيه، لأن المعلومات لا تحل في الموجود ولا يحل فيها، ولا تنقص من كماله إذ لا وجود لها من غيره حتى يغير من وجوده تعالی.
(وكل حكم) حكمنا به في سبب تسمية إبراهيم عليه السلام خليلا. (يصح من ذلك) الحكمين المذكورين (فإن لكل حكم) من الحكمين المذكورين (موطنا يظهر) ذلك الحكم (به لا يتعداه) إلى غيره.
فالحكم الأول بأن سبب تسميته خليلا لتخلله جميع أوصاف الذات الإلهية وجمعه لذلك بجملته صحيح على معنى ظهور أوصاف الحق تعالی كلها القديمة بالأوصاف العرضية الحادثة ظهورة تضمحل فيه الأوصاف الحادثة لعدم وجودها في نفسها.
وتظهر الأوصاف القديمة لوجودها في نفسها من حيث إنها عين الذات وإن كانت غير الذات أيضا بوجه آخر.
والحكم الثاني بأن سبب التسمية لتخلل الحق تعالی بنفسه في وجود صورة إبراهيم عليه السلام صحيح أيضا لا على معنى الحلول أو الاتحاد، فإن ذلك لا يتصور عند من يؤمن بأن الله
تعالى له الوجود الحق وأن كل ما سواه من المخلوقات لا وجود لها من نفسها وإنما وجودها به تعالی.
فلست معه في رتبته موجود آخر، وإن كانت غيره باعتبار صورها ومقاديرها، فهي عينه باعتبار وجودها وثبوتها.
فلا يتصور أن يحل موجود في معدوم ولا يتحد به ولا يحل معدوم في موجود ولا يتحد به ولا يختلط أحدهما بالآخر هذا معلوم في بداهة العقل.
فلذلك لا يهتم بذكره العارفون، وإنما ذكرناه نحن لرد ما عساه يتوهم عند المحجوبين من أهل العلم الظاهر.
كما طعن به الشيخ رضي الله عنه بعض أهل الجهل المركب من المغرورين.
(ألا ترى) أيها المنصف (أن الحق) تعالى (يظهر بصفات المحدثات) كالفرح والضحك والتعجب ونحو ذلك مما ورد في الشرع .
(وأخبر) تعالی (بذلك عن نفسه) في قوله في الحديث القدسي:" جعت فلم تطعمني ومرضت فلم تعدني" إلى آخره وغير ذلك.
""عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة :
يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.
قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟
قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده .
يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني؟
قال : يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟
قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.
يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني؟
قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين.
قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي". رواه مسلم و ابن حبان في صحيحه .
(و) يظهر أيض (بصفات النقص وبصفات الذم) كالمكر والاستهزاء والسخرية والكيد .
قال تعالى: "ومكرو ومكر الله والله خير الماكرين" [آل عمران : 54].
"الله يستهزئ بهم" [البقرة: 15]،" وسخر الله منهم" [التوبة: 79]، "وأكيد كيدا" [الطارق : 16].
وعندنا في هذه الصفات الحادثات التي يظهر بها الحق تعالى لعباده وجهان :
الوجه الأول : نقرره للمبتدئين بأنه كلها صفات قديمة وردت عنه تعالى في الكتاب والسنة، نصفه بها على حد ما هو موصوف به في نفسه مما هو غیب عنا.
لأجل أن ندرب المبتديء على الإيمان بالغيب في جميع شؤونه، فإذا رسخ على ذلك وكمل في مقام المحبة نقرر له.
الوجه الثاني: وهو أن هذه الصفات الحادثات التي يظهر بها الحق تعالی لعباده هي صفات العباد الحادثات، وظهور الحق تعالی بهم لهم من قبيل الحكم الثاني.
في سبب تسمية إبراهيم عليه السلام خليلا لتخلل الحق تعالى في وجود صورته كما ذكرناه من غير حلول ولا اتحاد.
وأشار إلى حكم الأول في سبب التسمية بقوله (ألا ترى) أيها المنصف العبد (المخلوق يظهر) في مقام كماله (بصفات الحق) تعالى (من أولها إلى آخرها) فيسمع به ويبصر به ويتكلم به إلى غير ذلك.
من قبيل قولهم لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإن الحول والقوة شاملان لجميع الصفات (وكلها)، أي صفات الحق تعالی (حق له)، أي للمخلوق لظهوره بها من وراء سمعه وبصره وكلامه وباقي صفاته العرضية الحادثة، لأنها تضمحل عند ظهور تلك الصفات القديمة الحقيقية له.
(كما هي)، يعني (صفات المحدثات) العرضية الحادثة (حق للحق) سبحانه وتعالى باعتبار أنها آثاره، فهي منتهى ظهوره، ولا ظهر بها غيره كما لا باطن عنها غيره، فهو الظاهر والباطن لا غير وقال الله تعالى:
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : («الحمد لله»: فرجعت إليه عواقب الثناء من كل حامد و محمود. «و إليه يرجع الأمر كله» فعم ما ذم و حمد، و ما ثم إلا محمود و مذموم. اعلم أنه ما تخلل شي ء شيئا إلا كان محمولا فيه. فالمتخلل - اسم فاعل- محجوب بالمتخلل- اسم مفعول. فاسم المفعول هو الظاهر، واسم الفاعل هو الباطن المستور. )
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (وهو غذاء له كالماء يتخلل الصوفة فتربو به وتتسع.
فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق سمعه و بصره و جميع نسبه و إدراكاته.
وإن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، فالحق سمع الخلق و بصره و يده و رجله و جميع قواه كما ورد في الخبر الصحيح. ).
("الحمد")، أي كل فرد من أفراده الصادرة من كل شيء لكل شيء محمود أو مذموم .
على أنه المحمود عند القائلين بحمد المذموم مذموم والمذموم عند القائلين بذم المحمود محمود، فالكل محمود عند الكل، فحمد الكل للكل ("لله") تعالی.
أي مستحق له تعالی فرجعت إليه سبحانه (عواقب الثناء)، أي الحمد (من كل
حامد ومحمود) على الإطلاق، لأنه الخالق على كل حال فصفات المحدثات حق له وصفاته حق لهم، لأنه حمدهم نفسه له وحمده نفسه لهم.
وقال تعالى : "وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود: 11] الواحد الظاهر بصور الخلق الكثير، ولهذا أكده بقوله ("كله" فعم) بذلك جميع (ما ذم ) من الصفات (و) جميع (ما حمد) منها .
(وما ) في الوجود (إلا محمود) من الصفات (ومذموم) منها فالكل محمود من حيث هو كل و البعض بالنسبة إلى البعض الآخر مذموم فالذم في العوالم نسبي، والحمد حقيقي.
(اعلم أنه ما تخلل شيء شيئا)، أي سرى فيه وشمله باطنا وظاهر (إلا كان) الشيء الأول الساري (محمولا فيه).
أي في الشيء الثاني والسريان هنا في حق الله تعالی بمعنى الاستيلاء (فالمتخلل) بصيغة (اسم فاعل محجوب)، أي مستور عن المتخلل بصيغة اسم مفعول وعن غيره أيضا .
هو متخلل اسم مفعول مثله (فالمتخلل) الذي هو (اسم مفعول) فقد انحجب عما فيه بنفسه فنفسه حجابه.
(فالمتخلل) بصيغة (اسم مفعول هو الظاهر) لنفسه ولغيره مما هو مثله (و) المتخلل بصيغة (اسم الفاعل هو الباطن) عن المتخلل بصيغة اسم المفعول وأمثاله (المستور) عنهم بهم.
(وهو)، أي المتخلل بصيغة اسم الفاعل (غذاء له) للمتخلل بصيغة اسم المفعول من حيث إن قوامه به في جميع أحواله.
(كالماء يتخلل)، أي يدخل في خلال (الصوفة فتربو)، أي تزداد وتثقل تلك الصوفة (به وتتسع)، أي تمتد جوانبها بعد الإكناز .
(فإن كان الحق) سبحانه وتعالى (هو الظاهر) وحده لا يشاركه في الظهور غيره، لأنه قال تعالى بطريق الحصر لتعريف الطرفين : "هو الأول والأخر والظاهر والباطن" [الحديد: 3] .
(فالخلق) حينئذ (مستور فيه) تعالى هكذا تشهده العارفون من غير أن يشهد. وللخلق وجود آخر غير وجوده تعالى حتى يلزم أن يكون الخلق حالا في الحق سبحانه وتعالى بل علم الحق تعالى وإرادته وقدرته.
وتضمنت هذه الثلاث صفات ظهور صور العالم كلها بطريق الحكم والتوجه على الاختراع للأشياء العلمية.
فالحكم بمراده يظهر مراده لمراده قائما به لا ثبوت له في عينه .
(فیكون الخلق) على هذ (جميع أسماء الحق) تعالی من (سمعه وبصره) فيسمع الحق تعالی بالخلق ويبصر بهم . قال تعالى: "والله بصير بالعباد" [آل عمران: 15].
(و) كذلك الخلق (جميع نسبه) تعالي أسماء الأفعال من تخليقه و ترزیقه وإحيائه وإماتته وضره ونفعه، فيخلق بهم ويرزق بهم ويحيي بهم ويميت بهم ويضر بهم وينفع بهم. قال تعالى: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم" [التوبة: 14].
(و) كذلك جميع (إدراكاته) تعالی من علمه وخبرته ابتلائه وامتحانه (وإن كان الخلق هو الظاهر) لا غير (فالحق) سبحانه وتعالى (مستور) ورائه لا من جهة بل من وراء الجهات أيضا فإنها من جملة الخلق.قال الله تعالى : "والله من اهم محيط "[البروج: 20].
(باطن فيه)، أي في الخلق لا على معنى الحلول إذ لا يحل موجود في معدوم أبد . وهذا مشهد أهل القرب إليه تعالى من السالكين (فالحق) سبحانه حينئذ (سمع الخلق) الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به (ويده) التي يبطش بها ورجله التي يمشي به (وجميع قواه من) النطق والفهم ونحو ذلك (كما ورد) عن النبي عليه السلام في الخبر الصحيح في حق المتقرب بالنوافل .
""قال رسول الله : «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته». رواه البخاري وابن حبان في صحيحه""
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم إن الذات لو تعرت عن هذه النسب لم تكن إلها. وهذه النسب أحدثتها أعياننا: فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها، فلا يعرف حتى نعرف.
قال عليه السلام: «من عرف نفسه عرف ربه» وهو أعلم الخلق بالله.
فإن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أنه يعرف الله من غير نظر في العالم وهذا غلط. نعم تعرف ذات قديمة أزلية لا يعرف أنها إله حتى يعرف المألوه. فهو الدليل عليه. ثم بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه و على ألوهيته).
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثم إن الذات) الإلهية (لو تعرت عن هذه النسب) التي هي الأوصاف والأسماء والأفعال والأحكام (لم تكن إلها ).
(وهذه النسب) المذكورة (أحدثتها) عندنا له أي أظهرتها من قوله تعالى: "وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث" [الشعراء: 5]، أي عندهم (أعياننا) إذ لا يتصف الله تعالى بالقدرة ويسمى بالقدير ويفعل ويحكم إلا بعد إمكان تصور مقدور ومفعول ومحكوم عليه.
فالمقدورات الممكنة كشف عنها علمه من الأزل، فأرادها فقدر عليها، فهو بها عالم مرید قادر .
(فنحن) لأننا عين تلك المقدورات الممكنة العدمية (جعلناه) من حيث ظهوره لن (بمألوهيتنا)، أي بسبب أننا مألوهون له تعالى وهو إلهن (إلها) فإن الإله هو الذي عنده جميع حوائج عباده إيجادا وإمدادا.
فالألوهية هي مجموع الصفات والأسماء والأفعال والأحكام، وهي وصف إضافي بالنسبة إلى المألوهين وهم عباده.
وهو الاههم وليس هو إلها لنفسه، لأن نفسه ليست مألوهة له، فهو غني بنفسه عن العالمين، لا بصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه.
إذ لولا العالمين ما تميزت من ذاته صفاته ولا أسماؤه ولا أفعاله ولا أحكامه، والصفات للتميز.
ولو لم يكن في العدم ممكنات توجد فتحدث فيتميز سبحانه وتعالى عنها بصفاته التي هي غير ذاته باعتبار هذا التميز فقط لكانت الصفات عين الذات، والأسماء للتعيين. ولولا تلك الممكنات العدمية لما احتاج عندها للتعيين إذ هو متعين عند نفسه، والأفعال لا تكون من غیر منفعلات.
وكذلك الأحكام من غير محكوم عليهم، فهذه الحضرات الأربع لذات الله تعالى باعتبار العالمين دون قید وجودهم، لأنه منه سبحانه .
والمراد باعتبار الممكنات العدمية التي إمكانها بلا جعل جاعل.
والحاصل أن هذا الكلام من الشيخ رضي الله عنه مبني على أن صفات الله تعالی عین ذاته كما صرح به في كتابه «الفتوحات المكية» وغيرها.
ومعنى كونها عين الذات أنها ليست زائدة على الذات المقدسة زیادة حقيقية كزيادة العرض على الجرم حين يتصف الجرم به.
ولا ينكر الشيخ رضي الله عنه زيادتها على الذات باعتبار مفهومها، ولكنه
لا يعتبر المفهوم، لأنه معنی عقلي تنزهت عنه صفات الله تعالى أن ينسب إليها، فكانت الصفات عين الذات عنده وهو معترف بالصفات لا يجحدها.
حتى يكون قوله كقول الحكماء بأن الصفات عين الذات، وأنه لا صفة لله تعالی عندهم.
وإذا كانت الصفات عين الذات الإلهية على معنى أنه تعالى إذا اتصف بالقدرة مثلا لم يكن ثمة إلا ذاته متوجة إلى إيجاد الممكنات على وجه لا يعلم به إلا هو فتسمى ذاته قدرة وإذا اتصف بالعلم كذلك فتسمى ذاته علما .
وهكذا إلى آخر الصفات فلولا الممكنات العدمية لما اتصف بالصفات، وهو متصف بها من الأزل لأنها عين ذاته.
ولكن معنى اتصف ظهر أنه متصف، فإنه تعالی لولا الممكنات العدمية كان مجملا واحدة صفاته في ذاته ، وأسماؤه في صفاته، وأفعاله في أسمائه ، وأحكامه في أفعاله.
والممكنات العدمية فصلته وميزت بين حضراته، وهو على ما هو عليه في إجماله وإنما تفصيله بالنسبة إلينا.
ونحن من جملة التفصيل، فكل واحدة في عالمها لم تتغير، وهذا معنى قوله : فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها، أي فصلنا مجمله عندنا بإمكاننا وهو على ما هو عليه عند نفسه ، والله غني عن العالمين.
وإذا كنا نحن الذين بإمكاننا فصلنا إجمال ذاته تعالی و میزن بين ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه حتى أظهرنا بذواتنا وحقائقنا الممكنة العدمية ألوهية وربوبية بسبب أننا قبلنا تقديره لنا وتخصيصه أحوالنا كلها بما أراد.
(فلا يعرف) هو سبحانه وتعالى يعني لا يمكن أن يعرفه أحد غيره تعالى، ولا غير إلا نحن، ونحن به تعالی لا بأنفسنا.
لأننا نفس تلك الذوات الممكنة العدمية التي بها اتصف وتسمى وفعل وحكم كما ذكرن (حتى نعرف) نحن حيث إننا أصل عظيم في تفصيل إجماله تعالى، وهو تعالى لا يعرف إلا في التفصيل لا في الإجمال.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من عرف نفسه" من حيث إمكانها وقيامها بصفات الله تعالی وأسمائه وأفعاله وأحكامه المنفصلة من مجمل ذاته تعالى.
"فقد عرف ربه". أى أنه الموصوف بالصفات القديمة التي لا تدرك، والمسمى بالأسماء الأزلية التي لا يحاط بها، والفاعل بالفعل القديم والحاكم بالحكم العظيم. (وهو)، أي قائل هذا الكلام وهو النبي عليه السلام (أعلم الخلق بالله تعالی)، فلولا أن معرفته تعالى لا تمكن لأحد إلا بمعرفة صفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، ومعرفة هذه الحضرات الأربع لا تمكن إلا بمعرفة مفصلها من إجمال الذات العلية، إذ هي بالنسبة إليه تعالی عین الذات ومفصلها من إجمال الذات هي نفس كل أحد. كما قال صلى الله عليه وسلم : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» فمعرفة الله تعالى التي تمكن لكل أحد معرفة ذات غيبية مجملة تفصل منها نفس العارف بها صفات غيبية أيضا وأسماء وأفعالا وأحكاما غير هذا لا يمكن، فمن لم يعرف نفسه لا يعرف ربه.
(فإن بعض الحكماء) من الفلاسفة (وأبا حامد) الغزالي رحمه الله ، فإنه كان في ابتدائه فیلسوفا، ثم تخلص من الفلسفة بالتصوف (ادعوا أنه) يمكن أن يعرف الله تعالى (من غیر نظر في العالم) وهو مبني عندهم على كون الله علة للعالم.
والعالم معلول بعضه عن بعض ثم عنه تعالى، والعلة لا يتوقف معرفتها على معرفة المعلول إلا من حيث كونها علة لهذا المعلول.
وأما معلول معلولها فهو أجنبي عنها (وهذا غلط) منهم.
(نعم تعرف) من غير النظر في العالم (ذات قديمة أزلية) أبدية مجملة (لا يعرف أنها إله)، أي موصوفة بالصفات مسماة بالأسماء لها أفعال وأحكام.
(حتى يعرف المألوه) وهو العالم (فهو)، أي المألوه الذي هو العالم (الدليل عليه) أي على الله تعالى من حيث إن العالم كله صادر عن الله تعالی بمقتضى إرادته واختياره.
فهو مقتضی صفاته سبحانه وأسمائه وأفعاله وأحكامه وكيف يعرف المقتضي بصيغة الفاعل ما لم يعرف المقتضی بصيغة المفعول (ثم بعد) معرفتك في ابتداء الأمر (هذا) يعني أنه تعالى لا يعرف إلا بالعالم الدليل عليه.
(في ثاني الحال) بعد تدربك على السلوك (يعطيك الكشف) الصحيح (أن الحق) تعالی (نفسه كانت عين الدليل على نفسه) إذ كل دليل في الكون يدل عليه تعالى. هو ظهور من ظهوراته تعالى، وما في الكون إلا دليل يدل عليه تعالى، فما في الكون إلا ظهوراته تعالی.
فهو الظاهر بصورة الدليل العقلي والحسي، وهو الظاهر بصورة المدلول عليه عقلا وحسا.
(و) عين الدليل على ألوهيته بل لو دل شيء على شيء كالدخان يدل على النار في الحس، وانقسام العدد بمتساويين يدل على الزوجية في العقل كان هو تعالی عين الدليل والمدلول والمستدل.
وما ثم في الكون إلا هو ظاهر بصورة كل ممكن عدمي بسبب إمساكه للصور العدمية بقدرته التي هي عين ذاته مما يليه . كما قال تعالى : "إنا كل شيء خلقته بقدر " [القمر: 49] في قراءة من قرأ برفع كل على أنه خبر إن.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و أن العالم ليس إلا تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه ، وأنه يتنوع و يتصور بحسب حقائق هذه الأعيان و أحوالها، و هذا بعد العلم به منا أنه إله لنا.
ثم يأتي الكشف الآخر فيظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فيعرف بعضنا بعضا، و يتميز بعضنا عن بعض. )
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فمنا من يعرف أن في الحق وقعت هذه المعرفة لنا بنا، و منا من يجهل الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة بنا: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
و بالكشفين معا ما يحكم علينا إلا بنا، لا، بل نحن نحكم علينا بنا و لكن فيه، و لذلك قال «فلله الحجة البالغة»: يعني على المحجوبين إذ قالوا للحق لم فعلت بنا كذا و كذا مما لا يوافق أغراضهم، «فيكشف لهم عن ساق»).
قال الشيخ رضي الله عنه : (و) يعطيك الكشف أيضا (أن العالم) كله معقوله ومحسوسه (ليس إلا تجليه)، أي انكشافه وظهوره (في صور أعيانهم)، أي العالم يعني مقاديرهم وصورهم الظاهرة والباطنة (الثابتة)، أي المفروضة في الإمكان المعدومة الأعيان الكاشفة عنها علم الله تعالى.
الحاكم عليها بما هي عليه من التخصيصات إرادة الله (التي يستحيل) عقلا وشرع (وجودها)، أي ظهورها منصبغة بصبغة وجود الله تعالی.
(بدونه) سبحانه وتعالى، أي بدون قدرته التي هي عين ذاته مما يليه سبحانه ، فهو تعالى المظهر لها بل هو الظاهر بها في عين إظهاره لها .
(و) يعطيك الكشف أيضا أنه تعالى (يتنوع) بأنواع كثيرة في ظهوره (ويتصور) في صورة مختلفة في تجليه (بحسب) ما هي عليه في فرضها وتقديره (حقائق هذه الأعيان) المفروضة المقدرة العدمية (و) بحسب (أحوالها) التي تعتريها من خير وشر وغير ذلك.
(وهذا) الذي يعطيه الكشف كائن (بعد العلم به) تعالی علما ناشئ (ما)، أي من نظرنا في أنفسن (أن لنا إلها) نحن قائمون به في ظواهرنا وبواطننا على سبيل القطع بذلك.
ولكن يغيب عنا في هذا الكشف شهود نفوسنا وغيرنا لاستغراقنا في شهود الله تعالى في الكل وهو مقام الجمع بعد الفرق الأول الذي فيه عامة الناس، وهو شهود أنفسهم وغيرهم فقط والغيبة عن شهود الله تعالی .
فالكل بل يشهدونه في مظهر خاص جزئي أو عقلي أو حسي فيعبدونه فيه وقد حجر عليهم الشرع عبارة مظهر حسي كصنم وكوكب ونحو ذلك.
ولم يحجر عبادة مظهر عقلي وإن ذلك كفرا في الآخرة فإنه ليس كفرا في الدنيا بحسب ظاهر الشرع. .
(ثم يأتي) بعد ذلك (الكشف الآخر) الصحيح وهو مقام الفرق الثاني للتحقيق بالحق والخلق (فيظهر لك) هذا الكشف الآخر (صورنا) معشر الممكنات المفروضة المعدومة (فيه)، أي في وجود ذات الحق تعالی ولا تقل هذا حلول.
لأن الممكنات المعدومة لا وجود لها غير وجود ذات الحق تعالى حتى تحل في وجود الحق تعالی والحلول لا يكون إلا بين شيئين موجودين بوجودين .
وهنا ما ثم إلا وجود واحد، والوجود الواحد لا يحل في نفسه فاحذر من تلبيس الشيطان عليك في كلام أهل المعرفة الإلهية تنجو من الوقيعة في حقهم بما هم بريئون منه شهادة علام الغيوب.
(فيظهر) عند ذلك (بعضا لبعض في) وجود (الحق تعالی) حقائق ممكنات معدومة العين مفروضة في الكيف والأين .
(فيعرف) حينئذ (بعضنا بعضا) معرفة تامة (ويتميز بعضنا عن بعض) في الحس والعقل وتنفصل الأحكام الإلهية علينا بنا فللحق الإظهار ولنا الماهيات وأحوالها والتمييز بينها .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فمنا معشر أهل الكشف من يعرف أن في الحق) سبحانه (وقعت هذه المعرفة لنا) متعلق بوقعت، أي لبعضنا بعض (بنا) .
ولهذا كلنا حيث كان منه الإظهار فقط والباقي كله منا في مراتب إمكاننا العدمية وإليه يشير قوله تعالى : "الله نور السموات والأرض" [النور: 35]، أي منورهما يعني مظهرهما بنوره الذي هو وجوده الحق، فالكل منا إمكان واستعدادا وقبولا، والكل منه إيجادا وإظهارا.
قال تعالى: "قل كل من عند الله" [النساء: 78]، ولم يقل من الله ، لأن عندية الله حضور مراتب الإمكان العدمية في علمه سبحانه.
فصاحب الكشف الأول يقول : نحن كلنا به سبحانه .
وصاحب الكشف الثاني وهو أرقى يقول: نحن كلنا بنا لا به سبحانه ولكن فيه لا فينا.
فعند الأول هو الظاهر بنا العامل بنا، وعند الثاني نحن الظاهرون به العاملون بنا فيه، لا به فينا.
(ومنا من يجهل) لغلبة أحكام الوحدة عنده على الكثرة وهو صاحب الكشف الأول (الحضرة) الإلهية (التي وقعت فيها هذه المعرفة) من بعضنا لبعض (بنا)، لأنه سبحانه ("أعوذ")، أي احتمى واحتفظ ("بالله") تعالى ("أن أكون") في معرفة الحضرة التي وقعت فيها هذه المعرفة ("من") جملة ("من الجاهلين") [البقرة : 67] بذلك.
(و بالكشفين) المذكورين اللذين هما تنوع الحق تعالی وتصوره بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها، والثاني تصورنا فيه بصور ظاهرة بعضها لبعض (معا) تأكيد للكشفين.
(ما يحكم) الحق تعالی (علينا) بما يحكم به في ظاهرنا وباطنن (إلا بنا)، أي بما فيه منا وهو قوله تعالى: "يعذبهم الله بأيديكم" [التوبة: 14].
وهذا إشارة إلى الكشف الأول (لا، بل نحن نحكم علينا بنا) في جميع أحوالن (ولكن فيه) حيث علمنا منا فحكمنا نحن علينا بما علمه منافيه فنحن به حاکمون علينا وهو قوله تعالى : " كم ممن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" [البقرة: 249]. وهذا إشارة إلى الكشف الثاني.
(ولذلك)، أي لكون الأمر كما ذكر (قال) الله تعالى: ("فلله")، أي فليس لغيره ("الحجة البالغة") [الأنعام: 149]، أي القوية (يعني على جميع المحجوبين) بنفوسهم عن حقيقة ربهم القائم على كل نفس بما كسبت وهم الكافرون والعصاة.
(إذ قالوا) يوم القيامة (للحق) تعالى وقد ظهر لهم أنه هو الذي فعل جميع ما فعلوه بهم وهذا مقدار ما يظهر لهم يوم القيامة من الله تعالى أولا وهو الكشف الأول .
(لم)، أي لأي سبب (فعلت) أنت (بنا كذا وكذا) من كل فعل لا ترضى به فنستحق عليه الجزاء السوء منك (مما لا يوافق أغراضهم) الدنيوية والأخروية .
(فيكشف)، أي الحق تعالی (لهم)، أي للمحجوبين (عن ساق)، أي شدة التباس كما يقال : قامت الحرب عن ساقها . قال تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى الجود فلا يستطيعون " [القلم: 42].
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و هو الأمر الذي كشفه العارفون هنا، فيرون أن الحق ما فعل بهم ما ادعوه أنه فعله و أن ذلك منهم، فإنه ما علمهم إلا على ما هم عليه، فتدحض حجتهم و تبقى الحجة لله تعالى البالغة.
فإن قلت فما فائدة قوله تعالى: «فلو شاء لهداكم أجمعين» [الأنعام: 149] قلنا «لو شاء» لو حرف امتناع لامتناع: فما شاء إلا ما هو الأمر عليه. )
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و لكن عين الممكن قابل للشيء و نقيضه في حكم دليل العقل، و أي الحكمين المعقولين وقع، ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته.
و معنى «لهداكم لبين لكم: و ما كل ممكن من العالم فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمر في نفسه على ما هو عليه: فمنهم العالم و الجاهل. فما شاء ، فما هداهم أجمعين، و لا يشاء، و كذلك «إن يشأ»: فهل يشاء؟ هذا ما لا يكون.)
(وهو)، أي الساق المذكور الأمر العظيم الذي كشفه العارفون بالله تعالی (هنا) يعني في الحياة الدنيا قبل الآخرة وذلك هو الكشف الثاني.
(فيرون) أي المحجوبون حينئذ (أن الحق تعالی ما فعل بهم ما) أي ذلك الفعل الذي (ادعوه أنه فعله بهم) .
(كما هو مقتضى الكشف الأول) و (یرون) أن ذلك الفعل المذكور حاصل (منهم) به (فإنه) سبحانه (ما علمهم) في حضرة أزله (إلا على ما)، أي الوصف الذي (هم عليه) في حضرات وجودهم الأبدية .
وما فعل بهم إلا ما علمه منهم فالإيجاد منه لا غير وجميع أحوالهم علمها منهم فأوجدها لهم على طبق ما علمها وحيث ظهر لهم ذلك وانكشف عندهم.
(فتندحض)، أي تبطل في نظرهم أيضا كما هي باطلة في نفس الأمر (حجتهم) التي هي أن الحق تعالی فعل بهم جميع ما فعلوه على حسب الكشف الأول.
(وتبقى الحجة) ("البالغة") عليهم التي هي أن الحق تعالى ما فعل بهم ما فعلوه هم وإنما هم الفاعلون به جميع ما فعلوه، لأنه علمهم كذلك فأوجدهم على طبق ما علمهم.
إذا تقرر هذ (فإن قلت): يا أيها الإنسان (فما فائدة قوله تعالی) في آخر الآية المذكورة ("فلو شاء لهداكم")، أي أوصلكم إلى معرفته المطابقة لمقتضی شرعه
("أجمعين") [الأنعام: 149].
ولم يزغ قلب أحد منكم عن ذلك، فإن هذا يقتضي أن جميع ما أنتم فيه مقتضي مشيئته وحكمه، لا مقتضى ما أنتم عليه في حضرة علمه بكم.
فيكون علمكم كما شاء وحكم لا شاء وحكم على مقتضی علمكم عليه (قلنا) في الجواب عن ذلك في الآية ("لو شاء") ومن المعلوم أن كلمة (لو حرف امتناع) في الثاني (لامتناع) في الأول .
فامتنعت هدايتكم أجمعين لامتناع مشيئته لذلك، وإذا امتنعت هدايتكم أجمعين ثبتت هداية البعض منكم دون البعض كما هو الواقع .
وامتناع مشيئته لذلك إنما كان الامتناع ذلك منكم على حسب ما علمكم عليه في نفس الأمر.
(فما شاء) سبحانه لكم من هداية البعض دون البعض (إلا ما هو الأمر عليه) في حقائق ذواتكم وأحوالكم المنكشفة له بعلمه القديم على طبق ما هي عليه .
فإن قلت هذا الكلام يقتضي وجود العالم بذواته وجميع أحواله في الأزل حتى ينكشف للعلم القديم، وإذا كان موجودا فلا حاجة له إلى تعلق الإرادة والقدرة به وإيجادهما له إذ يثبت له الاستغناء حينئذ عن الصانع.
قلنا : هذا الإشكال غير وارد على قاعدة أهل السنة والجماعة من أن الله تعالی غیر زماني ولا يمر عليه الزمان، فالماضي والآتي كله حال بالنسبة إليه سبحانه ولا ترتیب بین تعلقات صفاته سبحانه، لأنها أزلية والأزلي لا يتقدم ولا يتأخر.
فعلمه سبحانه کاشف عن جميع الكائنات من الأزل موجودات بقدرته تعالى في أوقاتها وأزمانها في جميع أحوالها على ما هي مترتبة فيه، كل شيء في وقته على حسب إرادته ومشيئته سبحانه وتعالى.
ولا وجود لشيء في الأزل أصلا بل لا وجود لشيء في غير وقته الذي أراد سبحانه وجوده فيه، فجميع ما كان وما يكون من العوالم كلها كانت معدومة عدم صرفا فكشف عنها الحق تعالى من الأزل بعلمه القديم.3
وليست هي في العدم بجعل جاعل، لأن الجاعل إنما هو الإيجاد لا غير فالممکنات كلها أزلية العدم المحض.
وليس عدمها الأصلي من طرف الحق تعالی بل هو مقتضاها في نفسها، بل جميع أحوالها المترتبة لها وهي معدومة مثلها مقتضى ذواتها على النظام الأكمل والحق تعالى قد كشف عنها بعلمه من الأزل.
فوجد كل شيء موجودة به سبحانه في وقت وجود ذلك الشيء، وسمع من الأزل كل شيء موجود في وقت وجوده .
وأبصر من الأزل كذلك كل شيء موجود في وقت وجوده ، وأراد كل شيء وقدر عليه والشيء لا يوجد إلا في وقت وجوده الذي هو مقتضى ذاته حيث كان معدومة، وقد أراده على حسب ما علمه وقدر عليه.
كذلك، فكلما جاء وقت الشيء وجد ذلك الشيء بالقدرة الإلهية مخصوصا بالإرادة الإلهية مكشوفا عنه بالعلم الإلهي إلى أن يتم ذلك الشيء من أوله إلى آخره.
فالوجود الذي للكائنات من الله تعالى لا غير، والجميع أحوال الكائنات وترتيبها وخصوصياتها، علمها الحق تعالی منها، فأرادها وقدر عليها، فأوجدها لها، فله عليها هذه الحجة البالغة.
ولو كانت على خلاف ذلك لشاءها كذلك ولو شاءها كذلك لأوجدها كما شاءها، فما شاء إل ما هو الأمر عليه في نفسه .
(ولكن عين)، أي ذات (الممكن) من الكائنات (قابل للشيء) الذي هو عليه من كل حال هو له (ونقيضه) من حال شيء آخر غيره (في حكم الدليل العقلي) فقط، لأنه يفرض الكبير صغيرا، وبالعكس.
فيجد ذلك الفرض معه من غير مانع یدركه العقل، فيسمى كل واحد منهما ممكن وهو خط عند العارف في حكم معرفته.
فإن الشيء إذا كان على وصف وقد علمه الله تعالی موصوفا به في حال عدمه أزلا محال أن يكون قابلا لغير ذلك الوصف وإلا لأمكن أن ينقلب علم الله جهلا.
وإرادة الله تعالی كذلك موصوفة بذلك الوصف، وسمعه كذلك وبصره كذلك كما هو في حال عدمه الأزلي كذلك.
فلو كان قابلا لغير ذلك الوصف لبطلت صفات الحق تعالی وهو محال فلا إمكان لشيء أصلا في حكم المعرفة بل كل شيء واجب بذاته قبل أن يصير شيئا، وهو محال بذاته قبل أن تتعلق به صفات الحق تعالی، وواجب الوجود بغيره بعد أن تعلقت به صفات الحق تعالی.
وقابليته لصفة غيره محال ذاتي، وليس هذا مذهب الحكماء القائلين بالإيجاب الذاتي لأنهم ينفون الصفات، وقد انتسبناها، ويزعمون قدم العالم في وجوده، وقد نفينا القدم لوجود كل شيء في وقته.
(وأي الحكمين المعقولين)، أي الذين يقبلهما الممكن في حكم العقل لا في حكم المعرفة (وقع)، أي أوقعه الله تعالی كذلك.
(فإن ذلك هو الذي كان)، أي وجد (علیه) ذلك (الممكن في حال ثبوته) في العدم المحض كما ذكرنا.
والحكم الآخر القابل له ذلك الممكن أمر موهوم يتصوره العقل وينفيه العرفان ويسميه العاقل ممكن كما يسمى بسببه ذلك الحكم الأول الذي هو عليه ذلك الشيء في نفسه ممكنا.
والعارف يسمي ما عليه الشيء في نفسه واجبا، وما ليس عليه في نفسه محالا .
"قد علم كل أناس مشربهم" [البقرة: 60] .
(ومعنى لهداكم)، أي أوصلكم إلى معرفته وهو معنى (لبين لكم)، أي أزال اللبس عن حسكم وعقلكم (وما كل ممكن) عند العقل وواجب عند المعرفة .
ولما كان الشيخ رضي الله عنه في مقام التعليم جرى على قانون العقل من العالم الإنساني وغيره (فتح الله) تعالی (عين بصيرته) القلبية (لإدراك الأمر) الإلهي في نفسه مع من قام به، والأمر هو الخلق المتفصل بالصور الحسية والعقلية (على ما هو عليه) ذلك الأمر.
بل البعض يدركه على ما هو عليه في نفسه والبعض يلتبس عليه بالصور المذكورة فلا يدرك إلا الصور المذكورة .
(فمنهم)، أي من المخلوقين المخلوق (العالم) بما هو الأمر عليه في نفسه من ملك أو إنسان أو جني أو غيرهم من بقية الخلق (و) منهم (الجاهل) بذلك ممن ذكر .
وتقدير معنى الآية (فما شاء) أن يهديهم أجمعين (فما هداكم أجمعین) بل هدى البعض وأضل البعض. كما قال تعالى : "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا" [البقرة : 26].
وذلك على طبق ما سبق به علمه القديم الكاشف عن المعلومات على طبق ما هي عليه في عدمها الأصلي (ولا يشاء) أصلا أن يهديهم أجمعين، لأن لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما المعلومات عليه في عدمها الأصلي .
(وكذلك)، أي مثل هذا التقرير يتقرر معنى الآية الأخرى التي هي قوله تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ " [الشوری : 32] . وكذلك قوله تعالى: "إن يشأ يذهبكم" [الأنعام: 133].
ويأت بآخرين ونحو ذلك من الآيات وتقديره: فما شاء، فما أسكن الريح، ولا أذهبكم لأنه علمكم كذلك.
ولا يشاؤكم إلا كما علمكم (فهل يشاء هذا) أي الذي هو خلاف ما أنتم عليه في عدمكم الأصلي حيث علمكم كذلك (ما)، أي شيء (لا یكون)، أي لا يوجد أصلا، لأنه خلاف ما عليه المعلوم في نفسه فلو وجد لانقلب العلم جهلا وهو باطل.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فمشيئته أحدية التعلق و هي نسبة تابعة للعلم و العلم نسبة تابعة للمعلوم و المعلوم أنت و أحوالك. فليس للعلم أثر في المعلوم، بل للمعلوم أثر في العلم فيعطيه من نفسه ما هو عليه في عينه.
و إنما ورد الخطاب الإلهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون و ما أعطاه النظر العقلي، ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف.
و لذلك كثر المؤمنون و قل العارفون أصحاب الكشوف.
«و ما منا إلا له مقام معلوم»: و هو ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، هذا إن ثبت أن لك وجودا.)
(فمشيته) سبحانه وتعالى الأزلية المتعلقة بكل شيء (أحدية التعلق)، أي تعلقها أحدي لا تنوع له أصلا بل التنوع من قبل الأشياء على ما هي عليه في عدمها الأصلي.
فقد شاء سبحانه من الأزل كل شيء مكشوف عنه بعلمه القديم بمشيئة واحدة متعلقة بكل شيء تعلقا واحدا.
والأشياء مختلفة في نفسها اختلافا كثيرا، فشاءها مختلفة كذلك، فأوجدها كما شاءه (وهی)، أي مشيئته سبحانه (نسبة) لترجيح الوجود بين الأشياء المتفصلة في عدمها الأصلي وبينه تعالى .
(تابعة للعلم) الإلهي إذ لا يشاء إلا ما علم (والعلم) الإلهي (نسبة لحصول الكشف عنده تعالی بين تلك الأشياء المتفصلة في عدمها الأصلي وبينه سبحانه (تابعة للمعلوم) إذ لا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه
(والمعلوم أنت) مثلا يا أيها الإنسان (وأحوالك) في ظاهر و باطنك (فليس للعلم) الإلهي (أثر) من إيجاد أو تخصيص (في المعلوم) أصلا.
لأنه كاشف عنه على ما هو عليه، فلو كشف عنه بزيادة أو نقصان حتى يكون له أثر فيه ما كان علما بل كان جهلا.
(بل للمعلوم) من حيث أنه معلوم (أثر في العلم)، لأنه يطلعه منه على ما لولا المعلوم ما اطلع عليه من نفسه.
(فیعطیه)، أي المعلوم يعطي العالم (من نفسه) المكشوف عنه بعلم العالم (ما)، أي الوصف الذي (هو)، أي المعلوم (عليه في عينه) المتميزة عدمها الأصلي عما يشابهها.
فإن قال قائل حيث كان الأمر كذلك في أن المشيئة الإلهية تابعة للعلم الإلهي والعلم تابع للمعلوم، والمعلوم هو الذي أعطى العلم الإلهي خصوص ما يوجد فيه من جميع أحواله.
والعلم الإلهي أعطى المشيئة الإلهية ما اقتضته من ذلك الخصوص، فكيف وردت النصوص بتعليق الأمور بالمشيئة الإلهية في كثير من الآيات والأخبار نحو: ما تشاؤون إلا أن يشاء الله وأمثال ذلك.
فأجاب عنه بقوله :
(وإنما ورد الخطاب الإلهي) من الله تعالى للعباد (بحسب ما)، أي على مقتضى الاصطلاح الذي (تواطأ)، أي اصطلح (عليه المخاطبون) في نسبتهم كل شيء إلا الصانع القديم.
لأنه هو الذي يوجد الأشياء على حسب ما يشاء، ويشاؤها على حسب ما يعلم، ويعلمها على حسب ما هي عليه في نفسها.
فهي أعطته أحوالها، وهو أعطى تلك الأحوال وجودا، فاستنادها إليه باعتبار إعطائه لها الوجود منه، والأحوال منها إليها صحيح، وعليه وقع الاصطلاح المذكور (و) بحسب (ما أعطاه النظر العقلي) أيضا.
فإن كل شيء موصوف بما هو موصوف به، إذا لم يستند في وجوده إلى الفاعل له العالم به المشيء له لزم أن يستند في وجوده إلى نفسه ونفسه عدمية.
فكيف المعدوم ينتج وجودا؟ فإنه لا يفيض الوجود إلا الموجود، ولا موجود في الأزل إلا الحق تعالی.
فاستناد جميع الأشياء في وجودها إليه تعالی ضروري، وكذلك في جميع أحوالها، لكن جميع أحوالها أخذها منها ثم ردها عليها.
وأما الوجود فقد أعطاه لها منه تعالی فضلا ورحمة ولم يأخذه منها إذ لا وجود لها في حضرة عدمها الأصلي بل لها الاستعداد للوجود منه تعالی فقط فأخذ منها صحة قبولها لفيضان وجوده تعالى عليها وأعطاها صحة ذلك القبول.
(مما ورد الخطاب) الإلهي من الله تعالى لعباده (على) حسب (ما يعطيه الكشف) الإلهامي والفتح الرباني.
فإن الشرائع هي الخطاب على العموم لا الخصوص، وآلة العمومي في الإدراك هي العقل، وللخصوص آلة أخرى غيرها هي البصيرة المنورة بنور الحق سبحانه.
وهي لا تغاير العقل إلا في الإقبال على الحق تعالی والإدبار عنه. وكل عقل له إقبال وإدبار، فخلقت البصائر من إقباله والعقول القاصرة من إدباره.
ولسان الشرائع لسان العقول القاصرة كما قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، ليبين لهم" [إبراهيم: 4]. وقوم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هم الجاهلية أهل العقول القاصرة.
فأرسل بلسانهم ليبين لهم وأهل البصائر المنورة تفهم ما أرسل به منه بالطريق الأولى، وإن لم يكن بيانه صلى الله عليه وسلم في الأكثر بلسانهم.
(ولذلك)، أي لورود الخطاب الإلهي بحسب اصطلاح المخاطبين والنظر العقلي وعدم وروده في الغالب على اصطلاح أهل الكشف . " أرسل بلسان أهل الإسلام ولم يرسل بلسان أهل الإحسان "
(كثر المؤمنون) بالله تعالی إيمانا بالغيب بلا معرفة به سبحانه في كل زمان وهم العامة (وقل العارفون) بالله تعالى (أصحاب الكشف) عن حضراته سبحانه، وإن كانوا موجودين في كل زمان إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى، وهم الخاصة وخاصة الخاصة.
وقال الله تعالى حكاية عن الملائكة وجميع الخلق كذلك ("وما منا") من أحد مطلق ("إلا له مقام") في حضرة علم الله ("معلوم") [الصافات: 164] في الأزل، وهو الكشف عن ذوات الأشياء وأحوالها.
ولهذا قال: (وهو)، أي ذلك المقام المعلوم (ما)، أي الحال الذي (كنت)، أي وجدت يا أيها الإنسان ملتبسة (به في ثبوتك) الأصلي في العدم حيث لم تكن شيئا مذكورا.
(ثم ظهرت) الآن متلبسة (في وجودك) العارض لك الطاريء على عدمك.
وإنما يقال: (هذا المقام إن ثبت) عندك (أن لك وجودا) مع وجود الله تعالى هو فائض عليك من وجود الله تعالی.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فإن ثبت أن الوجود للحق لا لك، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق. و إن ثبت أنك الموجود فالحكم لك بلا شك. و إن كان الحاكم الحق، فليس له إلا إفاضة الوجود عليك و الحكم لك عليك. فلا تحمد إلا نفسك و لا تذم إلا نفسك و ما يبقى للحق إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلك له لا لك. )
(فإن ثبت) عندك (أن الوجود) الذي تزعم أنك فيه وأن كل شيء فيه أيضا هو بعينه منسوب عندك (للحق تعالی) بعد غسله من جميع أدناس الكيفيات والكميات والأماكن والأزمان وتقديسه وتطهيره من سائر الأحوال الكونية.
(لا) أنه منسوب عندك (لك) بحيث شهدت أنك وأن كل شيء من الكائنات أمور عدمية مقدرات بالمقادير الحسية والعقلية والزمانية والمكانية من غير وجود لها.
ثم كل شيء جاء وقته وسبق ما هو مرتب عليه انصبغ بصبغة الوجود الحق، على أنه ظهر في نور الوجود وهو على ما هو عليه من عدمه الأصلي.
(فالحكم لك) حينئذ أيضا يا أيها الإنسان عليك (بلا شك) ولكن (في وجود الحق) تعالی فقد أخذ الحق تعالی منك علمه بك، وحكم عليك بما علمه منك ، فأنت الحاكم على نفسك به سبحانه .
(وإن ثبت) عندك (أنك الموجود) بالوجود الفائض عليك من وجود الحق سبحانه المتجلي عليك.
وكان عندك الوجود وجودین : قديم هو المفيض وحادث وهو المفاض.
وإن كان أحدهما بالنظر إلى الآخر معدوم كما قال الجنيد رضي الله عنه : الحادث إذا قرن بالقديم لا يبقى له وجود، بإرجاع الضمير إلى الحادث أو إلى القديم.
فالوجود القديم هو الأصلي الخالص المطلق من القيود، والوجود الحادث هو ذلك الوجود القديم أيض لكن ممزوج بالصور وأحوالها التي لا وجود لها إلا به ، ومقيد بجميع القيود العدمية التي هو وجودها لا وجود لها غيره.
فالوجود القديم عام والوجود الحادث خاص، مثل الحيوان والإنسان ففي الحادث ما في القديم وزیادة ، وليس في القديم ما في الحادث من الزيادة .
. (فالحكم) حينئذ أيض (لك) على نفسك (بلا شك) لا حد في ذلك (وإن كان الحاكم) عندك الحق سبحانه باعتبار أنه علمك، فحكم عليك بما علمه منك.
فالحكم إنما ظهر منك عليك، فهو الحاكم عليك وحده (فليس له) سبحانه منك ابتداء أمر من أمورك مطلقا (إلا إفاضة الوجود) منه تعالى (عليك).
فإن إفاضة الوجود ليست مأخوذة منك ومفاضة عليك إذ لا وجود لك أصلا والوجود له سبحانه وحده.
بخلاف سائر أمورك التي أنت ظاهر بها، فإنها مأخوذة منك ومفاضة عليك، إذ لا كيفية له تعالى ولا كمية ولا جهة ولا مكان ولا زمان.
والحكم بالكيفية والكمية والجهة والمكان والزمان (لك) إذ كل ذلك مقتضی أمورك وأحوالك المنكشفة له سبحانه بعلمه القديم (عليك) فإنه وجدك كذلك، فأراد لك ما وجد وقدره عليك وقضاه كما قال سبحانه : "وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " [الأعراف: 102] وقال سبحانه: "فما وجدنا فيها غير بيت بين المسلمين" [الذاريات: 36] وقال سبحانه: "ووجدك ضالا فهدى" [الضحى: 7] فلله حينئذ عليك المنة بالوجود وبالحكم عليك بجميع ما حكمت به أنت على نفسك وأنت معدوم فكشف بعلمه القديم عنك فوجدك.
كذلك وأنت لست شيئا مذكورا فجعلك شيئا مذكورا بإيجاده لك وبحكمه عليك على طبق ما علمه منك من حكمك على نفسك .فجميع أحوالك منك له أولا عدما.
ومنه لك ثانية وجودا (فلا تحمد) حينئذ على جميع أحوالك الحسنة من جهة خصوصها العدمي الأصلي الرتبي ( إلا نفسك).
لأنها هي التي أعطته ذلك بانكشافها بعلم القديم وأما من جهة إيجاد ذلك لك والحكم به عليك طبق ما حكمت به أنت على نفسك و باختياره وبإرادته فله سبحانه المنة عليك بكل ذلك.
كما قال تعالى: "ألم نخلقكم من ماء مهين " [المرسلات: 20]، وقال تعالى :"بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان" [الحجرات: 17] ونحو ذلك.
(ولا تذم) أيضا على جميع أحوالك القبيحة (إلا نفسك)، لأنها هي التي أعطته ذلك فأوجده لها.
قال تعالى : "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" [النحل: 118]، (وما يبقى للحق) سبحانه عليك (إلا حمد إفاضة الوجود) منه تعالی على جميع أحوالك الحسنة والقبيحة، فتصل بسبب فيض ذلك الوجود إلى جميع أغراضك في الدنيا والآخرة ، الأغراض الحسنة والأغراض القبيحة، فيرحمك بذلك الفيض على حسب ما تقتضيه ذاتك، فله المنة عليك في الخير والشر (لأن ذلك) يعني إفاضة الوجود (له) سبحانه فقط على كل شيء لأنه الوجود الحق، ولا شيء من أحوال .
كل شيء له سبحانه لتنزهه عن جميع ذلك (لا لك)، لأنك معدوم الأصل، فلا وجود لك ليأخذه منك بعلمه القديم ويعطيك إياه كفعله بباقي أحوالك وإذا كان الأمر كذلك.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (فأنت غذاؤه بالأحكام، ... وهو غذاؤك بالوجود. فتعين عليه ما تعين عليك. فالأمر منه إليك ومنك إليه. غير أنك تسمى مكلفا وما كلفك إلا بما قلت له كلفني بحالك و بما أنت عليه. و لا يسمى مكلفا: اسم مفعول.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(فيحمدني و أحمده ... و يعبدني و أعبده
ففي حال أقر به ... و في الأعيان أجحده
فيعرفني و أنكره ... و أعرفه فأشهده
فأنى بالغنى و أنا ... أساعده فأسعده؟
لذاك الحق أوجدني ... فأعلمه فأوجده
بذا جاء الحديث لنا ... و حقق في مقصده)
(فأنت) يا أيها الإنسان (غذاؤه)، أي غذاء الحق سبحانه (بالأحكام) التي أخذها منك بعلمه القديم فعلمك بها، وذلك من حيث مرتبة ألوهيته التي منها كونه عالما بك مريدا لك قادرة عليك، فإنه من هذه الحيثية إنما تغذى بك وبأحوالك حتى ترتبت له مرتبة الألوهية التي هي من جملة الحضرات المتنزلة بها إليك في مثابة الجسد الذي يحتاج إلى الغذاء.
وأما من حيث مرتبة ذاته العلية فهو غني عنك وعن غيرك من العالمين كما قال سبحانه :" فإن الله غني عن العلمين" .
وهذه المرتبة للمرتبة الأولى بمنزلة الروح المنزهة عن الغذاء بالأشياء (وهو) سبحانه وتعالی (غذاؤك) يا أيها الإنسان (بالوجود) الذي هو فائض منه عليك، ولا إفاضة ولا غذاء، ولكن ذلك أداة توصيل باصطلاح خاص لإيصال المعنى المراد إلى السالك في طريق العارفين.
واعلم أن ما ثم إلا حق وخلق , والحق هو وجود صرف مطلقا عن الكم والكيف والزمان والمكان وغير ذلك حتى عن مفهوم الإطلاق.
والخلق هو التقادیر العدمية المشتملة على الكم والكيف والزمان والمكان وغير ذلك لا وجود لها أصلا.
ثم أن الحق سبحانه الذي هو الوجود الصرف كما ذكرنا هو الذي قدر جميع الإمكانات العدمية المسماة خلقا وتجلى عليها بحسب ترتيبها في التقدير.
فظهر كل شيء مصبوغة بصبغه الوجود إلى تمام مدة تقديره كذلك.
والحق على ما هو عليه ما انتقل ولا تحول، وتلك التقادير على ما هي عليه أيضا لا انتقلت ولا تحولت، وانتقالها وتحولها من جملة تقديرها ، فالانتقال والتحول لا انتقال ولا تحول.
فيصح القول بإضافة الوجود باعتبار ولا يصح باعتبار آخر.
وحيث قلنا بانصباغ الإمكانات العدمية بالوجود، نقول أيضا بانصباغ الوجود بالإمكانات العدمية أيضا.
فيصح كون الوجود غذاء للإمكانات العدمية، لأنها لم توجد إلا به وهي في نفسها عدم صرف.
ويصح أيضا كون الإمكانات العدمية غذاء الوجود، لأنها بها تصور وتشكل، فظهر في الصور والأشكال للحس والعقل وهو في نفسه وجود صرف منزه عن جميع
ذلك، ولا شك أن الغذاء هو ما به قوام الشيء و بقاؤه.
والمثال هنا مفهوم، فإن الإمكانات العدمية لا قوام لها ولا بقاء إلا بالوجود، وكذلك الوجود من حيث ظهوره متصورة بها لا قوام ولا بقاء كذلك إلا بها.
وأما ما هو من حيث هو في نفسه فلا كلام عنه أصلا إذا علمت هذ (فتعين)، أي لزم بمقتضى الحكمة (عليه)، أي على الحق سبحانه أن يظهرك في كل وقت موصوفة بالوجود مدة إمكانك كذلك.
وهذا الإظهار كذلك هو عين (ما تعين)، أي لزم بمقتضی استعدادك الغير المجعول
(عليك) من إعطائه الأحكام التي يظهر فيها، فعليك إعطاؤه أحكام ظهورك ممكنة مفروضة مقدرة، وعليه إعطاؤك جميع ذلك موجودا محققا.
فالأمر الذي هو عين أحكامك الظاهرة منك في مدة ظهورك (منه) سبحانه وأصل ذلك (إليك) بصفة الوجود (و) ذلك الأمر أيض (منك) وأصل إليه سبحانه بصفة الإمكان والتقدير لا الوجود.
(غير أنك) يا أيها الإنسان (تسمى) في الشريعة (مكلفة) بصيغة اسم المفعول، لأن الحق كلفك، أي أوقعك في الكلفة وهو المشقة بما أمرك به ونهاك عنه من الأفعال والأقوال والأحوال على ألسنة التراجم المعصومين من الملائكة والأنبياء عليهم السلام .
مع أنك لا تظهر في الوجود إلا بما أعطيت الوجود أن يظهرك به من إمكانك العدمي، فإن وافق ذلك عين ما كلفك به سعدت وإلا شقيت.
(و) الحق سبحانه (ما كلفك) بما كلفك به (إلا بما)، أي بسبب م (قلت)، أي قولك (له) سبحانه (كلفني) قولا صادرة منك له (بحالك) الذي أنت عليه في إمكانك العدمي وهو استعدادك الغير المجعول.
(وبما)، أي وأيضا بسبب الذي (أنت عليه) في إمكانك العدمي من حالك المقتضي لذلك التكليف.
وهذه حكمة تكليفك يا أيها الإنسان بالشرائع والأحكام دون ما عداك من بقية المخلوقات، والجن معك في هذه الحالة.
وإذا عممنا التكليف في كل نوع من أنواع المخلوقات لوجود العقل عند الكل كما هو مذهب بعض العارفين، فالحالة كذلك فيهم أيضا.
وكلام الشيخ قدس الله سره عام يصح الذهاب به كل مذهب (ولا يسمى) هو سبحانه (مكلفا) بصيغة (اسم المفعول)، وإن كنت أنت كلفته أي أمرته بأن يأمرك بعين ما أمرك به، وأعطيته بإمكانك العدمي من الأحكام عين ما أعطاك منها موصوفة بالوجود.
ولكن ذلك لم يرد فلا يصح القول.
(فيحمدني)، أي الحق سبحانه والحمد هو الشكر ومن أسمائه الشكور، وحمده لي باعتبار أني أعطيته بإمكاني العدمي من جميع ما أعطاني هو بتقديره الوجودي.
(وأحمده)، أي أشكره سبحانه على جميع ما أعطاني إياه من الأحوال الوجودية، وذلك هو عين إظهار النعمة، فيظهر هو سبحانه
بما أعطيته من أحكام الإمكان، وأظهر أنا بما أعطاني من ذلك بعد الاتصاف بالوجود.
(ويعبدني) "هي عبارة مستعارة لإيصال معنى حقیقي إلى فهم العارف بالاصطلاح".باعتبار أنه يأخذ مني عين ما يعطيني، وقد أعطاني عبادته بعدما أخذها مني، فاتصف بها هو قبل أن يعطيني إياها، ثم لما أعطاني إياها اتصفت أنا بها.
ولهذا أتي بالفاء فقال : (فاعبده)، أي بما وصفني به من حكم العبادة .
ثم لما كان ظهوره لي وظهوري له في مظهر واحد هو عين صوري بحسب الظاهر والباطن، فهي ظهوره بأحكام شؤونه ومقتضی صفاته وأسمائه ، وهي ظهوري بمقتضى ذاتي وصفاتي.
قال مفرعا ذلك على ما قبله بالفاء (ففي حال) من أحوال وهو حال ظهوره لي المعبر عنه بحال فنائي عني.
(أقر)، أي اعترف (به)، أي بظهوره في مظهري لي حيث لا أن (وفي حال) آخر من أحوالي وهو حال غيبته عني في ظهوري لعيني في الأعيان الظاهرة لي مني ومن غير (اجحده)، أي أنكر ظهوره في شيء منها الغلبة الغيرية على العينية.
(فيعرفني) هو حينئذ في هذه الحالة (وأنكره) أنا فيها، وذلك لأنه إذا عرفني فرقني عني وفصلني عن إجماله، وبسبب ذلك تحصل لي هذه الحالة الثانية فأقع أنا في الفرق فأجحده في صورتي وأنكره فيها .
وأما إذا عرف نفسه فإنه يجمعني عليه ويجملني في تفصيله فتحصل لي الحالة الأولى فأقع في عين الجمع، فأقر واعترف به وأجد نفسي وأنكرها في وقت ظهوره، ولهذا قال : (وأعرفه) في الحالة الأولى (فأشهده) فيها.
والحاصل أنه إذا شهد نفسه في صورتي أشهده أنا فيها وأنكر ما عداه، وإن شهدني في صورتي ولم يشهد نفسه شهدت أنا صورتي وأنكرته فيها حيث لم أشهده فيها.
وذلك لأنه سبحانه خلق صورتي وقدرها في الأزل في علمه ليكون لها جهتان :
جهة كونها له سبحانه يظهر بها لنفسه بنفسه فيرى نفسه فيها حيث هو ممسك لها وهي قائمة به مثل قيام العرض بالجسم في المثال المعروف عند العقلاء .
وقيام الصورة بالجسم قيام العرض بالجسم، لأن الصورة عرض، ولا شك أن كل صورة تنسب إلى ما قامت به من الجسم .
فيقال : صورة الحجر كذا وصورة الشجر كذا.
وفي الحقيقة الممسك للصور كلها هو الحق تعالى لا الحجر ولا الشجر، بل الحجر والشجر من جملة الصور الممسوكة بالحق تعالى.
والعالم كله صور أجسامه وأعراضه محسوساته ومعقولاته، وهي كلها لله تعالى كما قال سبحانه : "لله ما في السماوات وما في الأرض" [البقرة: 284]، وهي كلها فانية في نفسها ظاهرة بالوجود الذي له، لأنه ممسكها فلا يتخلى عنها طرفة عين.
قال تعالى : "إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا" [فاطر: 41] الآية .
فهذا الإمساك إمساك إيجاد "وامداد" لا إمساك ظرفية واستقرار، كما تمسك أنت حجر بيدك .
ولهذا قال تعالى:" أن تزولا "و قید الإمساك بذلك ولم يطلق، ثم قال سبحانه : "ولئن زالتا " أي بعدم إمساكه "إن أمسكهما من أحد بين بعده" [فاطر: 41] وذلك لأنه لا خالق سواه تعالى ولا موجود إلا هو، وجهة أخرى هي جهة اعتبار كون صورتي صورة تامة مستقلة.
وكذلك جميع الصور ولكن الكلام الآن من حيث التكليف فهو خاص بالإنسان عندنا فيما يظهر.
وهاتان الجهتان في علم الحق سبحانه بكل شيء؛ فلهذا كان للعبد باعتبار ذلك حالتان:
حالة جمع بالنظر إلى الجهة الأولى
وحالة فرق بالنظر إلى الجهة الثانية.
ولا يجتمع شهود الحق نفسه مع شهود الخلق نفسه أصلا ، كما لا يجتمع شهود الحق خلقه مع شهود الخلق للحق أصلا.
وسبب ذلك اتحاد الحقيقة في الحقيقة، والحق دائما شاهد نفسه وخلقه ولا غفلة له عن أحدهما أصلا.
وإنما إذا تجلى الحق بشهود نفسه في صورة خلقه شهد الخلق الحق سبحانه في صور الخلق.
وإذا تجلى الحق بشهود خلقه شهد الخلق أنفسهم لا غير.
والحق حق على ما هو عليه، والخلق خلق على ما هم عليه ، فالكمال لله ، والنقصان لكل ما سواه .
(فإني) من حيث أنا خلق مقدر مفروض في علم الله الحق تعالی (بالفني) ، أي ملتبس بالزوال والاضمحلال والعدم الصرف، إلا أني ممكن بالنظر إلى المستحيل الممتنع.
ولهذا قال: (وأنا أساعده)، أي الحق تعالى على ظهوره بصورتي وتجليه في كل ما يريد لمن يريد، إذ لولا الإمكان ما ظهر الواجب للعيان ولا توهمته العقول بالدليل والبرهان، وليس الإمكان بجعل جاعل.
وكذلك الواجب والمستحيل، بل هي الاعتبارات الثلاث التي ينقسم إليها الإدراك العقلي من حيث نورانیته المنبعثة من حضرة أمر الله تعالى.
ولا يقدر العقل أن يفصلها بإدراك ماهية تلك الأقسام، لأن ذلك مقدار ما عنده من العلم القديم.
وهو ما أخذه العصفور بفمه من ماء البحر في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وما نقص بذلك من ماء البحر شيء ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض .
وهذه مسألة أرضية لا سماوية، فهي من علوم العقل وهو قوله سبحانه فيمن أقام كتابه : "لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" [المائدة : 66] فهي من تحت أرجلهم، لأن البحر في الأرض والعصفور من الأرض باعتبار أنه جسم ومن السماء باعتبار أنه طير ، فصح تشبيه العقل به .
وقوله بالفني إشارة إلى أنها ليست مساعدة حقيقية، لأنه تعالى غني عن العالمين ولا يساعده إلا الموجود ولا موجود سواه سبحانه.
ولكنها عبارة مستعارة لإيصال معنى حقیقي إلى فهم العارف بالاصطلاح.
(وأسعده)، أي أنصره بالظهور على الخفاء، وبالتجلي على الاستتار من حيث إني مظهره وموضع تجليه ونفوذ أحكامه وتصرفاته. قال تعالى : "إن تنصروا الله ينصركم» [محمد: 7] .
فهو وعد بالفرق على الجمع فنصره ظهوره حيث لا نحن، ونصرنا ظهورنا حيث لا هو، فله الحكم في الجمع، ولنا الحكم في الفرق.
وقد دعا بعض المعصومين بقوله: "رب هب لي حكما" [الشعراء: 83]، فطلب الفرق، ثم قال: واجعلني من الصالحين، أي صاحب جمع، لأن الفرق وحده ضلال وغفلة وطغيان، ومع الجمع ويسمى جمع الجمع والفرق الثاني، نور وهداية وكمال لاستغناء الجهتين اللتين للحق تعالى في حضرة علمه كما قدمنا .
(كذلك)، أي كما أني أساعده وأسعده (الحق) سبحانه (أوجدني)، أي تجلی علي وأنا في إمكاني معدوم أزل، فعلمني فقدرني وخلقني، ثم لما جاء ابتداء تقدير ظهوري أظهرني بنور وجوده لي ولغيري.
فكان إيجاده لي بوجوده مدة إمكاني فتقدیری كذلك، ومثلي كل شيء، وأنا حكمة وجود كل شيء وحكمة وجودي إنما هي معرفتي به التي هي عين ظهوره في صورتي وصورة كل شيء عندي كما ورد : «یا ابن آدم خلقتك من أجلي، وخلقت الأشياء كلها من أجلك، فلا تشتغل بما خلق من أجلك عما خلقت من أجله».
وأشار إلى ذلك بقوله (فأعلمه)، أي بعد أن أوجدنی لذلك وعلمي به لا من حيث هو على ما هو عليه في حضرة إطلاقه، لأن ذلك لا يكون إلا للقديم، وإنما علمي به من حيث ظهوره في أحكام الإمكان.
وهذه الحيثية له من حيث نحن حدثت بحدوثن وهي تنزله لنا بنا، وهو الغني بالذات عن العالمين، والعالم ما سواه تعالى، وهي جهة الإمكان في نفسه لا من حيث الجهة الأولى كما مر.
ولهذا قال: (فأوجده)، أي أوجده بإمكاني ظاهرة عندي في حضرة تجليه بصورتي وصورة كل شيء، حيث لا أنا ولا غيري.ثم أيد ما قال تعالى بقوله (بذا)، أي بهذا الأمر المذكور والمشروح في ضمن هذه الأبيات
(جاء الحديث) عن النبي صلى الله عليه وسلم (لنا) معشر المكلفين الورثة المحمديين من أمته، إذ لا يفهم ذلك من الحديث إلا الوارث الكامل صاحب الولاية الجامعة دون العلماء المحجوبين، فإن حظهم من ذلك الإنكار والجحود في الغالب، وهو رزقهم المعنوي . كما قال تعالى في حق من كذب النبيين

"وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" [الواقعة: 82] وتكذيب الولي في فهمه تکذیب النبي في قوله عند العارفين دون القاصرين .
والحديث هو قوله عليه السلام: «إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة، فألقي عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضل». رواه أحمد في مسنده والترمذي وسنن البيهقي والحاكم في مستدرکه عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وذكره السيوطي في الجامع الصغير.
فإن قوله عليه السلام: خلق ، أي قدر جميع المخلوقات في ظلمة وهي العدم الصرف، وهم تقديراته ومفروضاته، وحقيقتهم حضرة الإمكان العدمية.
وقوله : فألقى عليهم من نوره، أي توجه على إيجادهم بوجوده القديم المطلق، وهو إشارة إلى وحدة الوجود على الوجه الصحيح، إذ لا وجود سواه تعالى على كل حال، وهذا ما أشار إليه قوله : كذلك الحق أوجدني ..
وقوله : فمن أصابه من ذلك النور، أي ظهر له ذلك الوجود المطلق الذي هو به موجود والكل به موجود مثله.
وهو معنى الإصابة لا مجرد الوجود به والظهور به لأن الكل كذلك ولكن من حيث لا يعلمون، فلا يكونوا كذلك عند أنفسهم فما هي إصابة .
وقوله : يومئذ، إشارة إلى أن هذا إصابة ذلك في العالم قبل هذا العلم وما لم يكن في التقدير لا يكون في التصوير.
وهذا ما أشار إليه بقوله : فاعلمه فأوجده، إذ لولا علمه ما كان موجودا عنده، والحق في نفسه موجود على كل حال، لأنه غني عن العالمين.
وقوله : ومن أخطأه ضل، أي من لم يصبه في ذلك العالم، ولم يعلم به هناك لم يصبه في هذا العالم، ولم يعلم به هنا فهو الضلال المبين .
(وحقق)، أي الحق تعالی يعني أظهر وأنفذ في هذا العالم العيني (في)، أي في ظاهري وباطني, (مقصده)، أي الذي قصده في ذلك العالم من جميع ما أراده وقدره وفرضه من جميع أحوالي ومثلي كل شيء كذلك .

قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : (و لما كان للخليل هذه المرتبة التي بها سمي خليلا لذلك سن القرى ، و جعله ابن مسرة مع ميكائيل للأرزاق ، و بالأرزاق يكون تغذي المرزوقين.
فإذا تخلل الرزق ذات المرزوق بحيث لا يبقى فيه شيء إلا تخلله، فإن الغذاء يسري في جميع أجزاء المغتذي كلها وما هنالك أجزاء فلا بد أن يتخلل جميع المقامات الإلهية المعبر عنها بالأسماء فتظهر بها ذاته جل وعلا)
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(فنحن له كما ثبتت ... أدلتنا ونحن لن
وليس له سوى كوني ... فنحن له كنحن بن
فلي وجهان هو وأنا ... و ليس له أنا بأن
ولكن في مظهره ... فنحن له كمثل إن
و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل.)
(ولما كان)، أي وجد (للخليل) إبراهيم عليه السلام (هذه المرتبة) المذكورة التي هي الغذاء من الطرفين في ظهور العين.
كالصبغ المركب من لونين فأحدهما يغذي الآخر في ظهور ذلك اللون، وهو ما ذكرنا من جمع وفرق.
باعتبار علم الحق سبحانه بنفسه ظاهرة لنفسه في شؤونه الإمكانية العدمية، واعتبار علم الحق تعالی أيضا لتلك الشؤون الإمكانية العدمية بنفسها.
ولا شك أن الخليل عليه السلام من جملة تلك الشؤون، ولكنه افترق عنها بما في إمكانه وتقديره من الاطلاع، والكشف عما هو في نفس الأمر من ذلك.
ولهذا السبب اختص بهذه المرتبة (التي بها)، أي بسببه (سمي إبراهيم) عليه السلام (خليلا) للحق تعالی .
(لذلك)، أي لما ذكر (سن )، أي جعل سنة إلى يوم القيامة (القرى) بالكسر أي الضيافة، وهي إطعام الغير جمعة وفرادی، فإن ذلك من جملة حقيقته التي هو قائم بها في الوجود.
وهو الإمداد الحسي ظهر عليه من التخليق باسمه تعالى المقيت في اعتبار الحضرة الأسمائية (وجعله)، أي الخليل عليه السلام (ابن مسرة) من العارفين يعني حكم بأنه قائم (مع میکائیل) عليه السلام (ملك الأرزاق) كلها الحسية والمعنوية في حضرة القدس لا يفارقه حيث إن الروحين صادرتان من عين أمرية واحدة في شأن إلهي واحد.
ثم بين وجه ذلك بقوله (و بالأرزاق) الحسية والمعنوية (يكون تغذي)، أي نمو وبقاء (المرزوقين) من المحسوسات والمعقولات، فالجسم يتغذى فينمو ويبقى بالمأكل والمشرب.
والروح تتغذى بالقوى الأمرية فتنمو وتبقى والعقل يتغذى بالكشف والعلم الذوقي فينمو ويبقى.
ولا بد في كل غذاء من دخوله في أجزاء المتغذي به کدخول المأكل والمشرب في الجسم، واتصال القوى الأمرية الإلهية بالروح، وإحساس العقل بالعلم الذوقي الكشفي النوراني، وإلا فلا يكون ذلك غذاء .
(فإذا تخلل)، أي تداخل (الرزق)، أي الشيء المرزوق (ذات) ذلك (المرزوق) له، وتخلل كل رزق بحسبه على مقتضى ما يليق به، كما يعرفه أهل الأذواق دون علماء الكتب والأوراق .
(بحيث لا يبقى فيه)، أي في ذات ذلك المرزوق (له شيء) من أجزائه أصل (إلا تخلله)، أي تداخله ووصل إليه ذلك الرزق كل جزء بحسبه على مقتضى ما هو مستعد لقبوله .
(فإن الغذاء) حينئذ (يسري) للنمو والبقاء (في جميع أجزاء المتغذي به كلها) ظاهرة وباطنة، وبذلك يسمى غذاء وما لم يكن كذلك فليس بغذاء لعدم سريانه.
فيصير على صورة المتغذي به کما عرفه الأطباء بذلك حيث قالوا بأن الغذاء جسم من شأنه أن يصير جزءا شبيها بالمتغدي، إذا استقر في المعدة وانهضم بصیر کیموسة، أي جوهرة شبيهة بماء الكشك الثخين.
ثم ينجذب لطيفه فيجري في عروق متصلة بالأمعاء فيصل إلى العرق المسمى باب الكبد، وينفذ في أجزاء صغيرة ضيقة بباب الكبد فيلاقيها بكليته، فينطبخ في الكبد فيعلو شيء كالرغوة وهو الصفراء، ويرسب فيه شيء وهو البلغم ويحترق شيء وهو السوداء، والمستصفى منه هو الدم وبه تتغذى الأعضاء ويصير جزء منها.
ويدل على أن الغذاء يصير جزءا من المتغذي قوله صلى الله عليه وسلم : «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» رواه الطبراني. رواه أحمد والدارقطني. وروى البيهقي والحاكم
(و) في جانب الحق تعالی حيث كنت غذاءه بالأحكام (ما هنالك) في حضرته تعالى (أجزاء)، لأنه تعالی ليس بجسم (فلا بد أن يتخلل).
أي يتداخل الغذاء حيث قبل به في جانب الحق تعالى جميع (المقامات الإلهية) التي هو الحق قائم فيها ، أي موجود ثابت من حيث ظهوره عندن (المعبر عنها)، أي عن تلك المقامات (بالأسماء) الإلهية فهي لمرتبة ظهوره سبحانه بمنزلة الأجزاء التي يتخللها الغذاء بحيث يصير جزء منه (فتظهر بها).
أي بتلك المقامات التي تخللها الغذاء على طريقة الاستعارة المجازية لا الحقيقية (ذاته)، أي الحق (جل وعلا).
قال الشيخ رضي الله عنه : (فنحن) معشر الممكنات المقدرة المفروضة في علمه سبحانه (له)، أي للحق سبحانه يظهر وجوده المطلق مقيدة بن (كما ثبتت)، أي صحت بذلك (أدلتنا) جمع دلیل وذلك في الكتاب والسنة.
قال تعالى: "لله ما في السموات وما في الأرض" [النساء: 162]. "وإليه يرجع الأمر كله" [هود: 123]."واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" [البقرة: 281]، "والأمر يومئذ لله" [الانفطار: 19]. وقال تعالى : "وله كل شئ" [النمل: 91].
وروى البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأبو داود بإسنادهم إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: «يسب بنو آدم الدهر، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار». البخاري ومسلم وابن حبان والنسائي في السنن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله هو الدهر". رواه ابن حبان و ابن حجر في الأدب المفرد وسنن ابن أبى عاصم وموطأ مالك ومسند البزار ومسند أحمد
وفي رواية أخرى: «أقلب ليله ونهاره وإذا شئت قبضتهما ». رواه مسلم وابن حبان.
وفي أخرى قال الله تعالى: «يؤذيني ابن آدم يقول : يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني الدهر أقلب ليله ونهاره» .رواه مسلم وابن حبان.
، ولا شك أن المراد كل شيء يوجد في الدهر من محسوسات ومعقولات، لأنها موضع السب أو المدح لا نفس الزمان، وكل الأشياء الله سبحانه، لأنه هو الظاهر بها لكونه المؤثر وحده لا تأثير لشيء معه أصلا.
ونحن في وجه آخر (لنا)، أي ظاهرون لأنفسنا وهو مشهد الغفلة (وليس له)، أي للحق تعالی مني .
حيث قلت : نحن له (سوی) مجرد (كوني)، أي وجودي بمعنى إيجادي به فوجودي به هو وأما تقديري وصورتي الممكنة العدمية في الظاهر والباطن فليست هو.
(فنحن له)، أي معنى كوننا له (كنحن بنا)، أي يكفي كوننا بأنفسنا من جهة الصورة الإمكانية ، فنحن له كذلك من جهة الصورة الإمكانية لا غير.
ولهذا قال ابن الفارض قدس الله سره:
تراه إن غاب عن كل جارحة …. في معنى لطيف رائق بهج
إلى آخر الأبيات، فأثبت له الغيبة من حيث وجوده المطلق وأخبر أنه يراه في كل معنی، وذلك من حيث ظهوره في الصور المعقولة والمحسوسة.
فلو حضر الغيب المطلق لبطل الظهور في الصور، ولهذا شرط لظهوره في الصور ورؤيته فيها غيبته عنه من حيث الوجود المطلق.
ثم اعلم بأن ظهوره تعالى في الصور في غيبة وجوده المطلق يقال له: خلق أيضا من وجه آخر وهما شيء واحد .
ولهذا شبه الشيخ قدس الله سره أحدهما بالآخر في قوله:
فنحن له كنحن بنا، أي ظهور ما في صورنا كظهورنا نحن في صورنا بأنفسنا.
ثم شرع يفرق بينهما فقال: (فلي)، أي من حيث أنا ممكن متصور في الصورة الباطنية والظاهرية (وجهان).أي اعتباران.
الوجه الأول (هو) وذلك ظهور في صورتي حسين وعقلا .
(و) الوجه الثاني : (أنا) وهو العبد المخصوص بالصورة المحسوسة والمعقولة. (وليس له)، أي للحق تعالى (أنا) من حيث صورتي حسا وعقلا المغايرة له.
(بانا) من هذه الحيثية بل له أنا من حيث صورتي عقلا وحسا من دون مغايرة له، فأنا له غير أنا لنفسي وإن كانت الصورة واحدة.
فإنهما اثنان لكل واحد منهما حكم ليس للآخر، فالسر في النفس والقلب، فالنفس لي والقلب له، والنفس هي القلب إلا أنها غيره.
فالجمود للنفس والتقلب للقلب، والجهل للنفس والعلم للقلب، فالنفس تصير قلبا بالتقلب بالله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف شاء» . رواه الحاكم والنسائي
وقال صلى الله عليه وسلم : «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». رواه الترمذي وابن ماجة
وقال صلى الله عليه وسلم : «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن».ذكره الزركشي في " التذكرة" والسخاوي في " المقاصد الحسنة " ، والملا علي القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " ، والعجلوني في " كشف الخفاء ".
والقلب يصير نفسا للمنافسة للحق والجمود على الظواهر.
وفي الأثر: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» .ذكره المناوي في التيسير بإسناد جيد وكذلك فى فتح القدير و ذكره على القاري فى مشكاة المصابيح
""قال الشيخ الأكبر محيي الدين: هذا الحديث «من عرف نفسه فقد عرف ربه» ؛ وإن لم يصح من طريق الرواية؛ فقد صح عندنا من طريق الكشف.
تؤكده صحته الآية :"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" [فصلت : اية41 ] فمن عرف نفسه فقد عرف ربه.""
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي : «عاد نفسك فإنها انتصبت لمعاداتي». أورده الآمدي في الأحكام
""وقال صلى الله عليه وسلم : "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك " اخرجه البيهقي في الزهد و الديلمي""
(ولكن في)، أي في نفسي وصورتي (مظهره)، أي موضع ظهوره، فالظهور له وأنا آلة الظهور، كالحروف المركبة في الكلمة آلة ظهور المعاني من غير حلول ولا اتحاد، فلولا المعاني ما ظهرت الحروف ولا كانت موجودة، إذ ليس الحروف مقصودة لذاتها، ولولا الحروف ما ظهرت المعاني للغير ولا تبينت، فالحروف ظروف المعاني من غير ظرفية.
ولهذا قال: (فنحن) معشر المخلوقات المحسوسة والمعقولة (له)، أي للحق تعالی باعتبار ظهوره في حضرات صفاته وأسمائه لا باعتبار ذاته، لأنه باعتبار الذات غني عن العالمين.
ولهذا أتي باسم الجلالة الذي هو اسم للذات الجامع لجميع الأسماء فقال : "فإن الله غني عن العالمين " [آل عمران: 97] .
(مثل إناء) بكسر الهمزة، أي وعاء ولسنا له إناء ووعاء حقيقة بل نشبه ذلك ""فنحن اقرب الى المرآة لإظهار التجليات الإلهية "".
لأنه وجود مطلق، ونحن إمكان مقيد، وقد ظهرنا موجودين والوجود ليس لنا وليس هو مكررا بل الوجود له تعالی وحده. وهو واحد لا يمكن أن يكون وجودين.
وإلا لشهدناه نوعين أو أكثر وهو نوع واحد حسا وعقلا، والإمكانات المقيدة كثيرة متنوعة إلى أنواع مختلفة، وتارة تنصبغ به بلا انصباغ، وتارة تعري عنه.
وهذا كله قطعی لا شك فيه عند أهل البصائر، فإذا ظهر الممكن المقيد منصبغة بالوجود وهو في نفسه عدم صرف كان ذلك الممكن المقيد بمنزلة الإناء والوعاء للوجود المطلق.
وليس ثم إناء ولا وعاء وإلا لكان الممكن موجودة من جهة نفسه أو من جهة موجود آخر غير الحق تعالى وهو باطل.
فإنه لا موجود لكل شيء إلا الحق تعالى وحده لا شريك له، فلا إناء ولا وعاء في الوجود بل الكل عدم "بالنسبة الى وجود الحق" .
والوجود الواحد المطلق الذي هو الحق تعالی متوجه بتصوير كل ممكن و تقديره، فبالضرورة يظهر ذلك الممكن موجودا بوجود مقید به.
فكأنما الوجود المطلق في ذلك الممكن، وكأنما ذلك الممكن وعاء له وإناء له، جل وعلا الوجود المطلق القديم سبحانه أن يحل أو أن يسكن في الممكنات المعدومة الحادثة المفتقرة إليه سبحانه في كل نفس أن يقدرها ويصورها ويوجدها بأنوار وجوده و يتحفها بأنواع كرمه وجوده .
(والله) سبحانه وتعالى (يقول) في كل ما قلناه (الحق) المبين والصدق المستبين بلساننا الحادث ونفسنا القاصرة وصورتنا الحاضرة على أنه فينا مع تنزهه عنا.
وليس هو فينا مع تعلقنا به . وتقيده بنا مع إطلاقه في ذاته .
وليحذر القاصر المسكين من إنكار دقائق معارف أهل اليقين، فإن دقائق العلوم لا تدركها نفوس الجاهلين ("وهو") سبحانه وتعالى ("يهدي السبيل") [الأحزاب: 4]، أي يدل ويوصل من يشاء من عباده إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم لا رب سواه ولا إله إلا الله .

تم فص الحكمة الإبراهيمية
.


GszkXUr9xtg

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!