موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية


04- فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

هذا نص الحكمة الإدريسية.
ذكره بعد حكمة نوح عليه السلام، لأن أسرار نوح عليه السلام مبنية على الترقي في فلك الشمس كما مر، وإدريس عليه السلام رفعه الله تعالى إلى فلك الشمس، فهو صاحب فلكها فعنده علم الحقيقة النوحية فناسب ذكره بعده .
(فص حكمة قدوسية)، أي منسوبة إلى قدوس بالتشديد كلمة تقديس وتنزيه الله تعالی عی وجه المبالغة (في كلمة إدريسية).
إنما اختصت حكمة إدريس عليه السلام بالقدوسية، لأن الله تعالی رفعه مكانا عليا، وهو مكان التقديس في حضرة روح القدس، فكان على قدم نوح عليه السلام في غاية تنزيه الرب جل وعلا ، ولم يقدر على ذلك بحقيقته، فرفعه الله تعالى المكان العلي، وقدر عليه نوح عليه السلام لكونه أول أولي العزم فلم يرفع .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : : ( العلو نسبتان، علو مكان و علو مكانة.
فعلو المكان «و رفعناه مكانا عليا».
و أعلى الأمكنة المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك و هو فلك الشمس، و فيه مقام روحانية إدريس عليه السلام.
و تحته سبعة أفلاك و فوقه سبعة أفلاك و هو الخامس عشر.
فالذي فوقه فلك الأحمر و فلك المشترى و فلك كيوان و فلك المنازل و الفلك الأطلس فلك البروج و فلك الكرسي و فلك العرش.
والذي دونه فلك الزهرة وفلك الكاتب، و فلك القمر، و كرة الأثير، و كرة الهوى، وكرة الماء، وكرة التراب.
فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان. و أما علو المكانة فهو لنا أعني المحمديين.
قال الله تعالى : «وأنتم الأعلون والله معكم» في هذا العلو، وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة.)
"والله معكم" في هذا العلو؛ وهو يتعالی عن المكان لا عن المكانة .
(العلو) الارتفاع وهو نسبة عدمية لا وجود لها إلا بالنظر إلى ضدها وهو السفل، كباقي النسب كالفوق والقدام واليمين وحقيقة النسبة أمر اعتباري لا يظهر إلا بين شيئين وجوديين (نسبتان).
أي نوعان من النسبة :
الأول : (علو مكان)، أي حیز ومحل ولا توصف به إلا الأجسام
(و) الثاني : (علو مكانة)، أي منزلة ومرتبة ويوصف به كل موجود.
(فعلو المكان) قوله تعالى في حق إدريس عليه السلام ("ورفعناه") يعني من الأرض التي هي مكان الخلافة الآدمية ("مكانا")، أي حيزة أو محل ("عليا") [مريم: 57] .
من العلو المكاني وهو السماء مرتفعة عن الأرض وهي مكان الخلافة الملكية (وأعلى الأمكنة) بالنسبة إلى الأفلاك التي دونه والأفلاك التي فوقه (المكان الذي) هو كقلب الرحى (تدور عليه) بأمر الله تعالى (رحی عالم الأفلاك) كلها من تحته ومن فوقه كالعقل في هذه النشأة الآدمية تدور عليه الأفلاك الحواس الظاهرة وهي السفلية خمسة والدم واللحم وأفلاك الحواس الباطنة وهي العلوية خمسة والطبع والنفس كما سنبين لك ذلك.
(وهو)، أي المكان المذكور (فلك الشمس) وهو أوسط الأفلاك في السماء الرابعة (وفيه مقام روحانية إدريس) عليه السلام وهو المكان العلي الذي رفع إليه بعد موته (وتحته سبعة أفلاك) في ثلاث سماوات وأربع كرات (وفوقه سبعة أفلاك) في ثلاث سماوات وأربع كرات (وهو)، أي فلك الشمس (الخامس عشر) فلك (فالذي فوقه من الأفلاك السبعة الأول منها :
(فلك الأحمر) وهو المريخ وهو بمنزلة الحس المشترك من الحواس الباطنة ، لأن جميع الصور المحسوسة بالحواس الظاهرة تنتهي إليه.
(و) الثاني (فلك المشتري)، وهو بمنزل الخيال، لأنه قوة يحفظ ما یدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة بحيث يشاهدها الحس المشترك كلما التفت إليها .
(و) الثالث (فلك كيوان) وهو زحل، وهو بمنزلة الوهم لأن من شأنه إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات كشجاعة زيد و سخاوته، وهو حاكم على جميع القوى الجسمانية كلها مستخدم لها.
(و) الرابع: (فلك المنازل) وهو فلك الكواكب الثوابت، وهو بمنزلة القوة الحافظة، لأن من شأنها حفظ ما يدرك الوهم من المعاني الجزئية، فهو الوهم كالخيال للحس المشترك .
(و) الخامس (الفلك الأطلس)، أي الخالي من الكواكب الثوابت والسيارات (وهو فلك البروج) والبروج فيه تقديرات منقسمة إلى اثني عشر قسمة.
وهو بمنزلة القوة المتصرفة، لأن من شأنها التصرف في الصور والمعاني والتركيب والتفصيل، فتركب الصور بعضها مع بعض، وهذه القوة يستعملها العقل تارة والوهم أخرى.
وبالاعتبار الأول تسمى مفكرة لتصرفها في المواد الفكرية، وبالاعتبار الثاني متخيلة لتصرفها في الصور الخيالية .
(و) السادس (فلك الكرسي)، وهو بمنزلة عالم الطبيعة، وقد وسع السموات والأرض كما وسعت الطبيعة السموات والأرض.
(و) السابع (فلك العرش) المحيط بالكل وهو بمنزلة عالم النفس المحيطة بالطبيعة وما حوته (والذي دونه)، أي فلك الشمس من الأفلاك السبعة منها.
(فلك الزهرة) وهو بمنزلة السمع من الحواس الظاهرة.
(و) الثاني: (فلك الكاتب) وهو عطارد وهو بمنزلة البصر .
(و) الثالث: (فلك القمر) وهو بمنزلة الشم
(و) الرابع : (كرة الأثير) وهو فلك النار وهو بمنزلة الذوق .
(و) الخامس: (كرة الهواء) وهو فلك الهواء وهو بمنزلة اللمس .
(و) السادس: (كرة الماء) وهو فلك الماء وهو بمنزلة الدم .
(و) السابع : (كرة التراب) وهو فلك التراب وهو بمنزلة اللحم.
(فمن حيث هو)، أي فلك الشمس (قطب)، أي مركز دوائر (الأفلاك) الأربعة عشر من حيث إنها كلها دائرة فيها هي مسخرة له من الآثار المولدات عن أمره وإذنه ، لأنه قلبها .
هو رفيع المكان بالنسبة إليها كلها بمنزلة العقل الذي تدور عليه جميع الأفلاك الإنسانية الأربعة عشر المذكورة، لأنه يزنها بميزانه ويصرف كل فلك منها في شأنه.
(وأما علو المكانة) المرتبة والمنزلة (فهو لنا) خاصة (أعني) الورثة المحمديين التابعين بمحمد صلى الله عليه وسلم (كما قال الله تعالی) في حقن ("وأنتم الأعلون") على غيركم مرتبة ومنزلة ("والله" ) سبحانه وتعالى من حيث جمعيته لجميع الأسماء ("معكم") بذاته من حيث أنها ذاتكم وراء ما أطلعكم عليه أنه ذاتكم.
وبصفاته من حيث إنها صفاتكم وراء ما أطلعكم عليه أنه صفاتكم .
وبأسمائه من حيث إنها أسماؤكم وراء ما أطلعكم عليه أنه أسماؤكم.
وبأفعاله من حيث أنها أفعالكم وراء ما أطلعكم عليه أنه أفعالكم.
وبأحكامه من حيث إنها أحكامكم وراء ما أطلعكم أنه أحكامكم.
فأنتم هو من حيث ما يعلم هو لا من حيث ما تعلمون أنتم.
فإنه أزاغ أبصاركم وأطغاها فأشهدكم إياه أنتم لا هو.
فلو أقامكم في مقام "ما زاغ البصر وما طغى " [النجم: 17] . لرأيتموه وغبتم عن أنفسكم التي لا وجود لها من قبل غيبتكم عنها أيضا.
وهذه هي المعية الأزلية الأبدية (في هذا العلو) عنكم الذي له تعالى في المرتبة والمنزلة (وهو) سبحانه (يتعالی)، أي يتنزه ويتباعد (عن) علو (المكان)، لأنه من صفات الأجسام وهو تعالی ليس بجسم (لا عن) علو (المكانة) بمعنى المرتبة والمنزلة، لأنه تعالى يوصف بذلك إذ رتبته ومنزلته فوق كل رتبة ممكنة ومنزلة ممكنة.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(و لما خافت نفوس العمال منا أتبع المعية بقوله «و لن يتركم أعمالكم»: فالعمل يطلب المكان و العلم يطلب المكانة، فجمع لنا بين الرفعتين علو المكان بالعمل و علو المكانة بالعلم.
ثم قال تنزيها للاشتراك بالمعية «سبح اسم ربك الأعلى» عن هذا الاشتراك المعنوي.
و من أعجب الأمور كون الإنسان أعلى الموجودات، أعني الإنسان الكامل، و ما نسب إليه العلو إلا بالتبعية، إما إلى المكان و إما إلى المكانة و هي المنزلة. فما كان علوه لذاته.
فهو العلي بعلو المكان وبعلو المكانة. فالعلو لهما. فعلو المكان.
كـ « الرحمن على العرش استوى» 5 سورة طه , وهو أعلى الأماكن.
وعلو المكانة «كل شيء هالك إلا وجهه» 88 سورة القصص ، و «إليه يرجع الأمر كله » 123 سورة هود، «أإله مع الله» 60 سورة النمل .)
(ولما خافت نفوس العمال منا) معشر المحمديين على عملها المطلوب منها أن يفوتها باشتغالها بمعيته تعالى التي تستغرق يقظتنا وعملنا بأنفسنا وبغيرن (أتبع) سبحانه (المعية) المذكورة (بقوله) تعالى: ("ولن يتركم")، أي ينقصكم
("أعمالكم") [محمد: 35]، بسبب استغراقكم في معيته (فالعمل) الصالح منكم (يطلب المكان) لكثافته.
ولهذا كانت الجنة "عند سدرة المنتهى " والسدرة فوق السموات.
قال تعالى: "عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى " [النجم: 14 - 15] .
والجنة جزاء الأعمال بل هي الأعمال تجسدت في الدار الآخرة (والعلم) اللدني منكم (يطلب المكانة)، أي المرتبة العالية للطافته، وهو علم الله بكم، وهو كلمات الله لكم كما قال في عیسى علیه السلام : "وكلمته ألقاها إلى مريم" [النساء: 171]، وقال الله تعالى : "إليه يصعد الله الطيب" [فاطر: 10] . وهو العلم يطلب المكانة، أي المرتبة التي له تعالى، والعمل الصالح يرفعه إلى المكان العالي عن عالم العناصر وهو الجنة فوق السموات السبع.
(فجمع) سبحانه (لنا) معشر الورثة المحمديين (بين الرفعتين) الأولى (علو المكان بالعمل) الصالح (و) الثانية : (علو المكانة بالعلم) اللدني.
(ثم قال) سبحانه (تنزيها) له تعالى عن مشابهتن (للاشتراك)، أي لأجل ما يفهم من الاشتراك بيننا وبينه (بالمعية) المذكورة في هذه الآية، فإن قوله: "والله معكم" [محمد: 35]. يقتضي اشتراكه معنا فيما نحن فيه من الوجود والاتصاف بالأوصاف ولو من بعض الوجوه.
وهو ممتنع لقدمه وحدوثنا واستغنائه وافتقارنا، فنزه تعالى نفسه بقوله في آية أخرى ("سبح")، أي نزه وقدس ("اسم") فكيف صفة فكيف ذات ( "ربك ")، أي مالكك وهو الله تعالى من حيث تجليه عليك حتى ظهرت بتأثير أسمائه وصفاته ، فكيف من حيث ما هو عليه في ذاته ("الأعلى") [الأعلى: 1] .
نعت للاسم أو الرب أي المنزه عن هذا الاشتراك)، أي المفهوم من آية المعية (المعنوي)، أي من حيث معنى العبادة لا حقيقة الأمر.
(ومن أعجب الأمور) الإلهية المتضمنة للحكم الربانية (كون الإنسان) سبب خلقه على الصورة الإلهية من قوله عليه السلام إن الله خلق آدم على صورته .
وفي رواية أخرى: على صورة الرحمن، لأنه مجموع آثار مختلفة صادرة عن جميع الصفات الإلهية التي هي صورة الحق تعالى، فإن صورة كل شيء صفاته (أعلى الموجودات) كلها على الإطلاق العلوية الروحانية والسفلية الجسمانية والبرزخية النفسانية (أعني الإنسان الكامل) في مرتبة الظهور والبطون.
وأما غيره من الناقصين فقد تفرق كماله فيهم، فهم أنفاسه، فليسوا على الصورة الإلهية بل على بعضها.
فهم من جملة كمال نسخة الوجود (و) مع ذلك (ما نسب)، أي نسب الله تعالى (إليه العلو) كما تقدم في قوله تعالى: "وأنتم الأعلون والله معكم " [محمد: 35].
(إلا بالتبعية إما إلى المكان) وهو قوله: "وأنتم الأعلون" يعني من جهة عملكم وهو جهادكم في سبيل الله فلما علا عملكم علوتم تبعا له .
(وإما إلى المكانة وهي المنزلة) وهو قوله تعالى : "والله معكم " فنزلتكم أعلى المنازل بالتبعية لمن هو معكم وهو الله تعالی.
(فمن كان علوه لذاته)، أي لا تبعا لغيره وهو على الله تعالى (فهو العلي بعلو المكان)، لأن الأماكن كلها منه فعلوها من علوه (وبعلو المكانة) أيضا هي المنزلة لأن المنازل والمراتب كلها منه فعلوها من علوه (والعلو) عندنا في حضرة الإمكان لهما) فقط أي للمكان والمكانة، لأنه العلو المخلوق .
وأما العلم الذاتي فليس له فينا وجود، لأنه العلو القديم فنعلمه إيمانا لا تصورا.
(فعلو المكان) نسب إلى الله تعالى في الشرع ك (" الرحمن على العرش استوى" ) [طه: 5]، فيما أخبر تعالی عن نفسه .
(وهو)، أي العرش (أعلى الأماكن)، لأنه أول عالم الأجسام والأماكن إنما هي عالم الأجسام (وعلو المكانة)، أي المنزلة والمرتبة نسب إلى الله تعالی أيضا في الشرع كقوله تعالى: ("كل شيء") معقول أو محسوس "هالك" ، أي زائل ومضمحل ("إلا وجهه") [القصص: 88]، أي ذاته سبحانه وتعالی .
وقوله عز وجل: ("وإليه ") من حيث ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه "يرجع الأمر" الإلهي الواحد .
وأكده بقوله : "كله" [هود: 123]، لظهوره عندنا في صور الخلق من حيث ذواتهم وصفاتهم واسمائهم و أفعالهم وأحكامهم.
وقوله تعالى: ("أإله")، أي معبود يعبده أي يذل له شيء مطلقا ولا تجد شيئا يذل إلا لشيء مثله من حيث إن الله تعالی رتب الأسباب في الوجود فالمعنى هل شيء ("مع الله" ) والتقدير لا شيء مع الله سبحانه نظيره.
قوله عليه السلام أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد «ألا كل شيء ما خلا الله باطل». فهذه الآيات الثلاث تفيد على المنزلة لله تعالی.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( و لما قال الله تعالى «و رفعناه مكانا عليا» فجعل «عليا» نعتا للمكان، «و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»، فهذا علو المكانة.
و قال في الملائكة «أستكبرت أم كنت من العالين» فجعل العلو للملائكة.
فلو كان لكونهم ملائكة لدخل الملائكة كلهم في هذا العلو.
فلما لم يعم، مع اشتراكهم في حد الملائكة، عرفنا أن هذا علو المكانة عند الله.
و كذلك الخلفاء من الناس لو كان علوهم بالخلافة علوا ذاتيا لكان لكل إنسان.
فلما لم يعم عرفنا أن ذلك العلو للمكانة.)
ولما قال تعالى في حق إدريس عليه السلام: "ورفعناه مكانا عليا" (فجعل علية نعتا للمكان) [مريم: 57].
فلزم علو إدريس عليه السلام بالتبعية وقال تعالى : ("وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة") [البقرة: 30]، يعني يخلفنی في القيام مقامي بأن أشتق له ذاتا من ذاتي وصفات من صفاتي وأسماء من أسمائي وأفعالا من أفعالي وأحكاما من أحكامي اشتقاق محاكاة معدوم الموجود (فهذا هو علو المكانة)، أي المنزلة إذ الخليفة في مقام المستخلف فعلوه بالتبعية لعلوه.
(وقال) تعالى (في حق الملائكة) عليهم السلام خطابا لإبليس لما أبى عن السجود لآدم عليه السلام ("أستكبرت أم كنت من العالين") [ص: 75] .
جمع عالي وهم نوع من الملائكة مهيمون في الله تعالى لا يعرفون غيره ولا يعرف بعضهم بعضا فكل واحد لا يعرف إلا الله تعالى (فجعل) سبحانه (العلو) في هذه الآية (للملائكة).
وهو علو لهم بالتبعية لمن هم مهيمون فيه وهو الله تعالى فإن من أسمائه العالي.
لا علو ذاتي لهم فلو كان هذا العلو لهم (لكونهم ملائكة) حتى يكون علوا ذاتية (لدخل الملائكة كلهم) المهيمون منهم وغيرهم (في هذا العلو) المذكور.
(فلما لم يعم) هذا العلو المذكور لجميع الملائكة (مع اشتراكهم) كلهم (في حد).
أي تعريف (الملائكة عرفنا) يقين (أن هذا) العلو المذكور (علو المكانة)، أي المنزلة لا المكان عند الله تعالى.
لأنهم مهيمون فيه كل واحد منهم لا يعرف غيره تعالى وهو تعالی موصوف بعلو المكانة، فوصفوهم أيضا بذلك بطريق التبعية له تعالی.
(وكذلك الخلفاء) عن الله تعالى (من الناس) وهم الكاملون منهم (لو كان علوهم بالخلافة) عنه تعالى التي هي وصفهم (علوا ذاتيا لكان) ذلك العلو (لكل إنسان) إذ كل إنسان خليفة في الأرض .
كما قال تعالى: ("وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" ) [الأنعام: 165]. ويستخلف ربي قوما غيركم.
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه (فلما لم يعم) العلو لكل إنسان إذ من الخلفاء من جار فيما استخلف فيه ومنهم من عدل في ذلك .
(عرفنا أن ذلك العلو) الذي للخلفاء الكاملين في مرتبة العلم والعمل إنما هو (للمكانة)، أي المنزلة باعتبار الإقبال عليه والاشتغال به لا باعتبار كونهم خلفاء منه تعالى .
إذ الكل خلفاء مثلهم، ولكنهم أعرضوا عنه تعالى، واشتغلوا في زمان خلافتهم بتنفيذ حظوظهم النفسانية و شهواتهم البهيمية فأخذهم إليه.
وقد أخذ لهم كتبا أحصى عليهم فيها جميع ما فعلوه فحاسبهم، ووزن أعمالهم ثم حبس من خفت موازينه في جهنم وعفا عمن أراد .
وأطلق من ثقلت موازينه ولا حساب إلا على الأعمال إذا عز لهم سلطانهم.
قال تعالى: "إن إلينا إيابهم " ثم إن علينا حسابهم " [الغاشية : 25 - 26].
فتخلص لنا من جميع ما تقدم :
أن العلو لغيره تعالى، سواء كان علو مكان أو علو مكانة لا يكون إلا بالتبعية وليس العلو الذاتي إلا الله تعالى وحده.
ثم شرع في بيانه فقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( و من أسمائه الحسنى العلي. على من و ما ثم إلا هو؟ فهو العلي لذاته.
أو عن ما ذا و ما هو إلا هو؟ فعلوه لنفسه.
و هو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو.
فهو العلي لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الموجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات.
و العين واحدة من المجموع في المجموع . فوجود الكثرة في الأسماء، و هي النسب، و هي أمور عدمية. و ليس إلا العين الذي هو الذات.)
(ومن أسمائه) تعالى (الحسنى) التي هي تسعة وتسعون اسما على ما ورد في الأحاديث الصحيحة الاسم (العلي)، أي المرتفع فلو كان عليا بالتبعية لغيره كعلو غيره كان علية (على من و) الحال أنه (ما ثم) موجود (إلا هو) وحده سبحانه وتعالى إذ كل ما سواه تقادیر عدمية ممسكها هو تعالى.
وهو موجود فظهر وجوده بها، فنسب الوجود إليها عند أهل الغفلة والحجاب، مع أنها على ما هي عليه من العدم الأصلي.
وهو على ما هو عليه من الوجود الحق الذي له لا انتقل إليها ولا حل فيها ولا اتحد بها.
(فهو) سبحانه (العلي) على كل شيء إذ لا شيء في الوجود غيره تعالی حقيقة .
كما قال تعالى : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88] .
(لذاته)، أي علوا منسوبا إلى مجرد ذاته سبحانه لا باعتبار غيره مطلق (أو) العلي المنزه (عماذا)، أي عن أي شيء ولا شيء في الوجود مطلقة مع وجوده تعالى (وما هو)، أي الموجود في هذا الوجود الظاهر للعقل والحس (إلا هو) سبحانه وتعالى لا غير، ولكن لا كما هو عليه في ذاته بل كما تقتضيه مراتب الإمكان، وتقبله المقادير العدمية المقيدة بالزمان والمكان.
(فعلوه) سبحانه وتعالى حينئذ (لنفسه) لا لغيره كغيره من تلك المقادير العدمية اللابسة خلعة وجوده تعالی بطريق العارية أو الغصب في السعيد والشقي (وهو)، أي الحق سبحانه (من حيث الوجود) فقط دون الصورة والمقادير (عين) هذه
الموجودات الحسية والعقلية والعلوية والسفلية.
وأما من حيث الصورة الخلقية والمقادير الكونية فليس هو تعالى عين هذه الموجودات ولا يصح بوجه من الوجوه , لأنها كلها أمور عدمية من هذه الحيثية المذكورة.
وهو تعالی موجود حق، فمحال أن يكون عينها من هذه الحيثية، بخلاف حيثية الوجود .
فإن الوجود له تعالى لا لغيره، فهو تعالى عين الموجودات كلها بالنظر إلى وجودها لا بالنظر إلى ما هي عليه في مراتب إمكانه، لأنها من هذا الوجه أمور عدمية.
فالمسمى بالمحدثات من جميع الموجودات حيث كانت عين الحق تعالی من وجودها فقط لا من جهة مقاديرها وصورها .
كما قال الله تعالى : "الله نور السموات والأرض" [النور: 35]، أي منورهما يعني موجدهما بوجوده، فالوجود له تعالى وهو غير السموات والأرض من حيث هي سموات وأرض وهو عين السموات والأرض من حيث وجودها فقط لأن وجودها هو الحق تعالى،
وكذلك كل موجود، والحق تعالى هو العلي لذاته فيلزم أن تكون جميع المحدثات (هي العلية لذاتها) من حيث وجودها الذي هو الحق تعالی سبحانه (وليست هي) من هذه الحيثية (إلا هو سبحانه وتعالی.
(فهو) جل وعل (العلي) وحده علوة حقيقية (لا علو إضافة) إلى مكان أو مكانة. (لأن الأعيان) الكونية (التي لها العدم) المحض (الثابتة)، أي المفروضة من غیر وجود (فيه)، أي في العدم (ما شمت رائحة من الوجود) لا فيما مضى ولا في الحال ولا في المستقبل ولا يمكن ذلك لأنها ممكنة.
والممكن لا يتغير عن إمكانه ولا تقبل حقيقة الانقلاب إلى الوجوب (فهی)، أي الأعيان المذكورة باقية (على حالها) من العدم الصرف لم تتغير كما أن الوجود الحق الصرف باق أيضا على حاله لم يتغير.
لكنه أراد لها اختلاف الأحوال في الأزل. ومن جملة أحوالها رؤية وجوده مقترنا بها بحيث يضاف وجوده إليها فيقال موجودة.
ثم رؤية عدمها من غير ذلك الاقتران فيقال : معدومة وهو على حاله وهي على حالها.
فإن حقيقة الواجب محض الوجود لا يقبل الانقلاب.
وحقيقة المستحيل خالص العدم لا يقبل الانقلاب.
وحقيقة الممكن فرض الوجود من قبل الواجب في مادة العدم من قبل المستحيل، فوجوبه وجوب الواجب وذاته ذات المستحيل، ولا يقبل الانقلاب عن حقيقته أبدا إن وجد وإن عدم .
مع تعدد الصور المختلفة (في) جميع الموجودات التي هي مجرد فروض وتقادیر عدمية لا وجود له (والعين) الموجودة التي وجدت بها جميع تلك
الموجودات (واحدة) وهي حقيقة الوجود المحض (من المجموع) الكوني كله (في المجموع) الكوني بأسره من غير حلول فيه ولا اتحاد به. لأن الوجود لا يحل في العدم ولا يمكن أن يتحد به .
(فوجود الكثرة) عند الحس والعقل لتلك العين الواحدة إنما هي في الأسماء التي لتلك العين الواحدة لا في ذاتها .
(وهي)، أي الأسماء مجرد (النسب) جمع نسبة (وهي)، أي النسب (أمور عدمية) لا وجود لها إلا بالاعتبار والإضافة (وليس) في الوجود (إلا) مجرد تلك (العين) الواحدة (الذي) نعت للعين ذكرها، لأن تأنيثها ليس حقيقية (هو الذات) الأحدية .
فقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
فهو العلي لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الموجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات.
و العين واحدة من المجموع في المجموع . فوجود الكثرة في الأسماء، وهي النسب، وهي أمور عدمية.
و ليس إلا العين الذي هو الذات. فهو العلي لنفسه لا بالإضافة. فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة، لكن الوجوه الوجودية متفاضلة.
فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجود الكثيرة. لذلك نقول فيه هو لا هو، أنت لا أنت.
قال الخراز رحمه الله تعالى، وهو وجه من وجوه الحق و لسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها. فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره.
و ما ثم من يراه غيره، و ما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه.
و هو المسمى أبا سعيد الخراز و غير ذلك من أسماء المحدثات.)
(فهو) أى العين الذي هو الذات (العلي بنفسه) لكونه كناية عن هذه العين الواحدة من حيث الوجود ( لا بالإضافة) إلى مكان أو مكانة ( فما في العالم من هذه الحيثية) المذكورة (علو إضافة) لشيء مطلق (لكن الوجوه) أى الإعتبارات (الوجودية ).
أي المنسوبة إلى الوجود الواحد الذي هو كناية عن تلك العين المذكورة (متفاضلة) في ظهوره (فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه).
أي الاعتبارات الكثيرة التي لتلك العين الواحدة لظهور العين الواحدة بكثرة جامعة (لذلك نقول فيه)، أي في علو الإضافة بالاعتبار المذكور وهو حيث كان في شيء من جزئيات العالم كإنسان أو حيوان أو نبات أو جماد بعينه (هو).
أي ذلك الجزء المخصوص عین الحق الموجود من غير زيادة ولا نقصان.
ثم نقول أيض (لا هو)، أي ليس هو عین الحق لكونه هو باعتبار الوجود، وكونه ليس هو باعتبار الصورة الحسية والعقلية.
وكذلك نقول عنك : يا أيها المخاطب (أنت) الحق تعالی باعتبار مجرد الوجود (لا أنت) باعتبار صورتك الحسية والعقلية .
(قال) الإمام أبو سعيد (الخراز) رضي الله عنه (وهو)، أي الخراز (وجه)، أي اعتبار واحد ظاهر (من) جملة (وجوه)، أي اعتبارات (الحق) سبحانه وتعالى (ولسان) مخلوق (من) جملة (ألسنته).
أي الحق جل وعلا التي خلقها له (ينطق) به (عن) أحوال (نفسه) مثل سائر العارفين عليهم رضوان الله أجمعين.
وقوله هو (بأن الله) تعالى (لا يعرف)، أي لا يعرفه أحد (إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها) وتلك الأضداد إما خاصة أو عامة.
فالخاصة كما يقال : إنه هو السواد وهو البياض وهو الكبير وهو الصغير ونحو ذلك.
والعامة كقوله : (فهو الأول)، أي كل أول، وهو كل شيء موجود بالنسبة إلى ما بعده (و) هو (الآخر). أي كل شيء موجود بالنسبة إلى ما قبله.
(و) هو (الظاهر)، أي كل شيء ظاهر بالنسبة إلى كل شيء كان وزال أو لم يكن بعد.
(و) هو (الباطن)، أي ما يدرك بالنسبة إلى كل شيء موجود أو كان وزال أو لم يكن بعد.
والحاصل أنه كل شيء موجود وكل أمر معدوم، فهو الجامع للأضداد الخاصة والعامة، وكونه كذلك تشبيه له وهو أيضا تنزيه له، فالتشبيه عين التنزيه .
وبيانه أنك إذا قلت أنه عين السواد مثلا أوهمت العبارة أنك تريد بالسواد اللون المخصوص الذي تراه.
فإذا قلت: إنه عين البياض أيضا ظهر أن مرادك بكونه عين السواد ما وراء ذلك اللون المخصوص الذي تراه العين والذي وراءه هو الممسك له وهو الحق تعالی بلا شبهة.
فقد تنزه الحق تعالی عن مفهوم قولك: إنه عين السواد .
بقولك: إنه عين البياض، وكذلك بالعكس.
وهكذا في كل ما قلنا عنه إنه هو، فهو عين كل شيء، ومع ذلك غير كل شيء، وهو المعدوم لا بقيد الصورة الموصوفة بالعدم، وهو الموجود لا بقيد الصورة الموصوفة بالوجود.
فالوجود والعدم من أوصاف الصور، والحق حق على ما هو عليه لا يوصف بالوجود الذي توصف به، الصور ولا بالعدم الذي توصف به وإنما هو تعالى على ما هو عليه مما لا يعلمه إلا هو.
ووصفنا له بالوجود حكم من أحكامه نعبده به من غير معرفة لكنهه كباقي أوصافه، وهذا هو الحق عندي أن الوجود صفة من أوصاف الذات لا هو عين الذات ولا هو غيرها.
(فهو) سبحانه (عين ما ظهر) من كل شيء محسوس أو معقول (وهو مع ذلك عين ما بطن) من حقيقة ذلك الشيء (في حال ظهوره)، أي ظهور ذلك الشيء (وما ثم)، أي هناك (من يراه) من أحد أبد (غيره) سبحانه وتعالى.
إذ هو القائم على جميع أنفاس ذوات العيون، فهو الناظر بجميع تلك العيون فجميع العيون، مظاهر أحوال عينه الواحدة .
(وما ثم)، أي هناك (من يبطن) سوی سبحانه وتعالى (عنه) من أحد أبدا، إذ لا وجود غیر وجوده فهو الوجود وحده، والجميع أحوال وجوده باعتبار ظهوراته التي هي من جملة أحوال وجوده .
(فهو) عز وعلا حينئذ (ظاهر لنفسه) إذ لا وجود لغيره حتى يظهر لغيره (وهو) مع ذلك (باطن عنه).
أي عن نفسه سبحانه وتعالى من حيث إنه مطلق حقيقي لا يدركه مدرك ولا يحيط به محیط.
فلو أدرك هو نفسه وأحاط بها لدخلت نفسه تحت الإدراك والإحاطة فكانت مدركة محاطة بها، وكل مدرك محاط به محصور مقید والإطلاق الحقيقي يمنع جميع القيود.
ولا نقص في علمه تعالی إذ علمه حضرة من حضراته، فلا يحكم على ذاته العلية ولا يحصرها، وإنما علمه سبحانه بنفسه علمه بحضراته من حيث ما يمكن سبحانه أن يظهر به من مراتب أسمائه وصفاته مما لا يتناهى في الظهور والإمكان وهو علمه تعالى بالعالم.
ولهذا قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في كتابه «عقلة المستوفز» :
"أما بعد فإن الله علم نفسه فعلم العالم؛ فلذلك خرج العالم على الصورة" انتهى كلامه .
يعني بالصورة ظهوراته تعالى في مراتب الإمكان على مقتضى أسمائه وصفاته ، إذ لا صورة له من حيث هو في ذاته عز وجل.
وهي الصورة الواردة في الشرع في قول النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله خلق آدم على صورته" بإرجاع الضمير إلى الله بدليل الرواية الأخرى خلق آدم على صورة الرحمن.
(وهو)، أي الحق تعالی (المسمى) عند الخلق (أبا سعيد الخراز) من حيث إنه رتبة من مراتب تجلياته عز وجل ومظهرا من مظاهر أسمائه وصفاته متعين في قيود الإمكان لأجل حصر المطلق وإدراكه والإحاطة به.
(و) كذلك هو (غير ذلك من) جميع حقائق (أسماء المحدثات) العلوية والسفلية العقلية والحسية، إذ ليس شيء غيره سبحانه وتعالى.
ولكن ليس هو الأشياء كلها من حيث هي أشياء فإنه لا يمكن ذلك أبدا لأنه تعالى أخبر أن: "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88].
أي إلا ذاته، والهالك هو الفاني الزائل وليس تعالی فانيا ولا زائلا .
فليس هو الأشياء كلها من حيث هي أشياء بل من حيث هي موجودات.
فإنه تعالى هو وجودها الممسك لها وهي الأمور العدمية القائمة به تعالی.
فقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( فيقول الباطن لا إذا قال الظاهر أنا، و يقول الظاهر لا إذا قال الباطن أنا.
و هذا في كل ضد، و المتكلم واحد و هو عين السامع.
يقول النبي صلى الله عليه و سلم: «و ما حدثت به أنفسها» فهي المحدثة السامعة حديثها، العالمة بما حدثت به أنفسها ، و العين واحدة و اختلفت الأحكام.
و لا سبيل إلى جهل مثل هذا فإنه يعلمه كل إنسان من نفسه و هو صورة الحق.
فاختلطت الأمور و ظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة.
فأوجد الواحد العدد، و فصل العدد الواحد،)
(فيقول) الاسم الإلهي (الباطن) من حيث الغيب المطلق الذي لا يدخل تحت الإحاطة الحادثة ولا القديمة (لا).
أي لست أنا هذا الشيء الحادث (إذا قال) الاسم الإلهي (الظاهر) من حيث التجلي والظهور في مراتب الإمكان باعتبار حضرات الأسماء والصفات (أنا) هذا الشيء الحادث والحدوث ظهور لا تجدد والتخليق التقدير لا الإثبات .
ويقول الاسم (الظاهر) من حيث التجلي (لا)، أي لست أنا هذا الشيء الكوني ضد هذا الشيء كالسواد مثلا ضد البياض ولست ضد هذا الشيء أيضا لكوني ذلك الشيء , فلست: الشيء ولا ضده .
(إذا قال) الاسم (الباطن) من حيث الغيب (أنا) هذا الشيء، لأنه نفس الوجود ظهر لنفسه في مرتبة من مراتب الإمكان باعتبار حضرات أسمائه وصفاته .
وهذا الأمر المذكور جار (في كل ضد) من أسماء الحضرات الإلهية كالأول والآخر، والمعطي، والمانع، والضار، والنافع، والخافض، والرافع، والمعز، والمذل، والهادي، والمضل.
(والمتكلم) من كل ذي كلام جميع أفراد ذلك كلهم متكلم (واحد) تجلی كلامه له من حيث هو عین ذاته، كما ظهر ذاته في مراتب الإمكان، فتنوع كلام الواحد كما تنوعت ذاته الواحدة باعتبار الإطلاق الحقيقي في الذات وفي صفة الكلام كما هو في صفة كل اسم له تعالى.
وكذلك كل فعل وحكم (وهو)، أي ذلك والمتكلم الواحد (عين السامع) من كون كل ذي سمع وقد تجلی سمعه له من حيث هو عين الذات .
وظهر كما ظهرت ذاته فتنوع كتنوع الذات في مراتب الإمكان فكل كلام كلامه وليس كل كلام كلامه وكل سمع سمعه وليس كل سمع سمعه كما أن كل ذات ذاته وليس كل ذات ذاته.
وهذا معنى جمعه بین الأضداد لكمال إطلاقه الحقيقي (بقول)، أي بدليل قول (النبي صلى الله عليه وسلم) في حديثه الوارد عنه (وما حدثت)، أي كلمت (أنفسها) والضمير للأمة.
وفي رواية أخرجها السيوطي في الجامع الصغير عن أبي هريرة رضي الله عنه:
" إن الله تعالی تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به". رواه البخاري .
(فهي)، أي النفس (المحدثة)، أي المتكلمة ومع ذلك هي (السامعة حديثها) لكن اختلفت مراتب ظهوراتها فكانت محدثة في مرتبة وكانت سامعة لحديثها في مرتبة أخرى (العالمة بما حدث به نفسها) في مرتبة أخرى.
(والعين) التي هي النفس الظاهرة لنفسها المتجلية على نفسه (واحدة) لا تعدد له (وإن اختلفت الأحكام) الصادرة منها عليها في مراتب صفاتها وإمكان ظهوراتها اله (ولا سبيل) لأحد من الناس، أي لا طريق يجده (إلى جهل مثل هذا الأمر المذكور أبدا.
(فإنه يعلمه) بالضرورة علما واضح (كل إنسان من نفسه) إذ النفس واحدة في كل جسد إنساني بلا شبهة.
وقد اتصفت بالحديث لنفسها فهي محدثة لنفسها وبالسماع لحديثها ، فهي سامعة لحديثها وبالعلم لما سمعته من حديثها، فهي العالمة بحديثها ومع ذلك هي واحدة لا تعدد فيها أبدا .
(وهو)، أي هذا الأمر المذكور في النفس (صورة الحق) الذي خلق الله آدم عليه كما ورد في الحديث، فالله متكلم وهو سامع لكلامه وهو عالم بمعاني ما تكلم به وقد ظهر لكل واحدة من هذه الحالات الثلاث صورة مخصوصة وربما تكررت الحالة الواحدة منها، بصورة مخصوصة لأمر اقتضاه الإطلاق الإلهي.
(فاختلطت الأمور)، أي التبست ولم تتميز، فإن المتكلم قد يصير سامعا والسامع متكلما وكل منهما قد يصير عالما بالكلام وبالعكس.
وكل واحدة من هذه الحضرات لها شخص يظهر بها ثم يظهر غيره بها ويظهر هو بما ظهر به غيره، وهذا هو اختلاط الأمور بسبب عدم لزوم الشخص الواحد لحالة واحدة .
وهذه الحضرات الثلاث مثال في العبارة وإلا فالحضرات لا تحصى كثرة.
فإن الحليم واللطيف، والجبار والمنتقم، والمحيي والمميت، ونحو ذلك لها أشخاص تظهر بها أيضا، ثم تتحول منها إلى غيرها.
وهكذا والعين واحدة كما ذكر (فظهرت) جميع الأعداد التي هي الاثنان والثلاثة والأربعة نحو ذلك (بالواحد) الذي هو قیوم على كل عدد بذاته بل هو عين تلك الأعداد كلها.
وإنما تكثر واختلف وتنوع بصفاته دون ذاته (في المراتب) العددية (المعلومة) من الإثنينية وما فوقها.
(فأوجد الواحد) الذي هو أول الأعداد (العدد) الكثير المتركب منه إيجادا منسوبا إلى ذاته الموصوفة بالواحدية بسبب كثرة وجوده وإمكاناته في ظهوره له متنوعا في تجليات صفاته .
(وفصل)، أي شرح وبين (العدد) الذي هو نفس المراتب الإمكانية المختلفة
(الواحد) الذي هو عين ذلك العدد.
فالواحد أوجد العدد فأوجد نفسه في مراتب غيره ولا غير معه.
والعدد فصل الواحد الذي هو مجمله فأظهر منه ما لم يكن ظاهرة، وليس العدد غير الواحد، بل هو صفة من صفات الواحد كالقيومية على كل حضرة من حضراته .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( و ما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود و المعدود منه عدم و منه وجود، فقد يعدم الشيء من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل. فلا بد من عدد و معدود، و لا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه.
فإن كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا و العشرة إلى أدنى وإلى أكثر إلى غير نهاية، ماهي مجموع، و لا ينفك عنها اسم جمع الآحاد.
فإن الاثنين حقيقة واحدة و الثلاثة حقيقة واحدة ، بالغا ما بلغت هذه المراتب،و إن كانت واحدة. فما عين واحدة منهن عين ما بقي. فالجمع يأخذها فنقول بها منها، و نحكم بها عليها.)
(وما ظهر حكم العدد)، أي لزومه وتحققه في الوجود (إلا بالمعدود)، وهو المحكوم عليه بالعدد بحيث يقال : هذه خمسة مثلا أو ثلاثة تشير بذلك إلى دراهم ونحوها. فهذه ثلاثة أشياء واحد وعدد ومعدود، فالواحد كذات الحق والعدد بمنزلة صفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه والمعدود بمنزلة مخلوقاته .
أما كون الواحد كذات الحق، فلأنه أصل لكل شيء، وكل شيء إمكان من إمكانات ظهوره .
كما قال تعالى : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88]، أي إلا ذاته.
وقال تعالى: "أينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة : 115]، أي ذاته .
والواحد ذات كل معدود من حيث حقيقة المعدود، والمعدود من حيث زيادته على حقيقة الواحد هالك.
وأما كون العدد بمنزلة الصفات الحق تعالى وأسمائه وأفعاله وأحكامه، فلأن للعدد أربع اعتبارات بحسب مراتبه.
الاعتبار الأول من حيث المعنى المصدري الذي هو الاثنينية والثلاثية وما فوق ذلك، فبهذا الاعتبار هو بمنزلة الصفات للحق تعالی.
والاعتبار الثاني من حيث معنى الاتصاف به بجهة اسم الفاعل الذي هو ثاني وثالث وما فوق ذلك، فبهذا الاعتبار هو بمنزلة الأسماء للحق تعالی.
والاعتبار الثالث من حيث ثبوت المعدود به في ذهن العاد حتى يدوم استحضاره ولا ينساه فكأنه بنفس عده وإحصائه يوجده في علمه أو في الخارج بالنظر إلى علمه فبهذا الاعتبار هو بمنزلة الأفعال للحق تعالی.
والاعتبار الرابع من حيث الحكم به على المعدود فيقال : هذا اثنان وهذا ثلاثة ونحو ذلك. فبهذا الاعتبار هو بمنزلة الأحكام للحق تعالی.
وأما كون المعدود بمنزلة مخلوقاته تعالى، فلأنه مراتب خارجة عن حقيقة الواحد لم تتغير عما كانت عليه من قبل توجه الواحد عليها.
وكذلك جميع مخلوقات الله تعالى بالنسبة إليه تعالى على ما هي عليه من عدمها الأصلي، ولولا دخولها في موازين صفاته تعالى وأسمائه وأفعاله وأحكامه ما تبينت هذا البيان، والمبين هو تعالى في موازينها وهو على ما هو عليه وهي على ما هي عليه، نقول بهذا ونقول بهذا ، وهي الحيرة في الله، ثم ننفي القولين ونقول : هو الله تعالى كما قال تعالى : "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" [الأنعام: 91] .
(و) الشيء (المعدود) من حيث هو معدود، أي محكوم عليه بالعدد (منه عدم)، أي نوع معدوم في الخارج (ومنه وجود).
أي نوع وجود في الخارج (فقد بعدم الشيء) المعدوم (من حيث الحس)، فلا يبقى له وجود في الخارج.
(و) مع ذلك (هو موجود) في الذهن (من حيث العقل) فقد انتقل من وجود خارجي إلى وجود ذهني، وقد يكون الشيء معدومة في الخارج وهو موجود في الذهن. فيوجد في الخارج فينتقل من الوجود الخارجي، فيصح أن يقال في الأول عدم الشيء بعد وجوده.
ويقال في الثاني: ووجد الشيء بعد عدمه، وهو إنما انتقل في الحالتين من وجود إلى وجود ولا عدم هناك، فكذلك العالم ينتقل من الوجود العلمي والوجود القولي إلى الوجود الرقمي والوجود العيني، وبالعكس.
فيقال: وجد من عدم. ويقال : عدم من وجد.
وهو في الحقيقة إنما انتقل من وجود إلى وجود ولا عدم أصلا.
(فلا بد) للواحد حتى يظهر في أسمائه المتنوعة (من) وجود (عدد) هو وصف له (ومعدود) هو موضع ظهور ذلك الوصف الذي له .
(ولا بد) للعدد والمعدود حتى يكونا ثابتين (من واحد) يوصف بالأول ويقوم به على الثاني (ينشی) بظهوره بحكمه (ذلك)، أي العدد والمعدود فيوصف بالأول ذات وبالثاني فعلا .
(فينشأ) ذلك العدد والمعدود (بسببه) أي سبب الواحد (فإن كان كل مرتبة من) مراتب (العدد) العشرين الآتي بيانها قريبة (حقيقة واحدة مستقلة متميزة عن غيره (كالتسعة مثلا والعشرة إلى أدنى) كالثمانية والسبعة إلى الاثنين (وإلى أكثر) كالعشرين والثلاثين إلى الألف إلى غير النهاية من المراتب المركبة بالزيادة على المرتبة العشرين.
(فما هي)، أي كل مرتبة باعتبار استقلالها وامتیازها عن غيره (مجموع الآحاد)، أي يلاحظ فيها ذلك (ولا ينفك عنها) باعتبار نفسه (اسم جميع الأحاد) ولكن من غير ملاحظة.
(فإن الاثنين) من حيث تكرار الواحد مرتين وانضمام أحدهما إلى الآخر حتى يشتملهما اعتبار واحد (حقيقة واحدة) مركبة من الواحد الظاهر في مظهرین. (والثلاثة) كذلك من التكرار والانضمام (حقيقة واحدة) أيضا مركبة من الواحد الظاهر في ثلاث مظاهر.
(بالغا ما بلغت هذه المراتب) العددية، فإنها كذلك كل مرتبة منها حقيقة على حدة. (وإن كانت) هذه المراتب كلها باعتبار أنها مركبة من ظهور الواحد في مظاهر مختلفة مثل كل مرتبة منها هي (حقيقة واحدة فما عين واحدة منها).
أي من هذه المراتب هي (عين ما بقي) من المراتب بل كل مرتبة عين مستقلة غير الأخرى.
(فالجمع)، أي جمع الآحاد (يأخذها)، أي يأخذ هذه المراتب كلها.
(فيقول)، أي الجمع (بها)، أي بهذه المراتب قولا ناشئة (منها)، أي من هذه المراتب ويحكم)، أي الجمع (بها)، أي بهذه المراتب (عليها)، أي على هذه المراتب.
كما أن حضرة الصفات للحق تعالی تقول بالحق تعالی قولا ناشئا من الحق تعالی وتحكم بالحق تعالى، وما هي إلا عين ذاته تعالى في حضرات تفصيلها.
كما أن مراتب العدد كلها إنما هي عين الواحد في حضرة تفصيله باعتبار كثرة مظاهره.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(قد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة، فقد دخلها التركيب فما تنفك تثبت عين ما هو منفي عندك لذاته.
و من عرف ما قررناه في الأعداد، و أن نفيها عين إثباتها ، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، و إن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق.)
(وقد ظهر في هذا القول) الذي هو التمثيل بمراتب العدد (عشرون مرتبة) للعدد الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة والستة والسبعة والثمانية والتسعة والعشرة والعشرون والثلاثون والأربعون والخمسون والستون والسبعون والثمانون والتسعون والمائة والألف.
وهي أصول المراتب ويتركب منها مراتب أخرى كثيرة لا تحصي (فقد دخلها)، أي دخل مراتب العدد من حيث إنها كلها حقيقة واحدة
(التركيب) أيضا كما دخل كل مرتبة منها ما عدا مرتبة الواحد، وإنما كان الواحد مرتبة، لأنه محكوم عليه بأنه واحد ?مرتبة الاثنين فيها الحكم بالاثنين. :
وأما الواحد الذي هو نفس العدد، فإنه ليس من المراتب سريانه في جميع المراتب، ولا يحكم عليه بشيء منها.
فهو بمنزلة الذات المحض (فما تنفك دائما تثبت) في حكمك على الواحد المجمل لأجل تفصيله (عين ما هو منفي عندك) بلا شبهة (لذاته) من تلك المراتب التي هي مجرد أحكام ناشئة من ذلك الواحد المطلق المجمل الذي هو نفس العدد واقعة عليه في حضرة تفصيله (ومن عرف ما قررناه) هن
(في الأعداد) من أن لها عشرين مرتبة، وكل مرتبة حقيقة متحدة مع أنها كلها مركبة من الواحد المطلق، بل هي عين ذلك الواحد المطلق لا زائد عليه غير أنه تفصيل بعد إجماله، فظهرت هذه المراتب كلها له من تفصيله .
(و) عرف (أن نفيها)، أي الأعداد من حيث معرفة قيومها الذي لا قيام لها إلا به وهو الواحد المطلق، فإنها عينه لا زيادة لها عليه، فهي منتفية حينئذ (عین ثبتها)، أي ثبوتها فوجود تلك الأعداد هو حقيقة معرفتها التي هي نفيها بعدم زيادتها على الواحد المطلق.
فمن نفاها بأن حكم بعدم زيادتها على الواحد المطلق فقد أثبتها بأنها مراتب ذلك الواحد المطلق في حضرة تفصيله، والواحد المطلق باق على إطلاقه لا يرجع له حكم منها من حيث هو مطلق، وإنما هي تفاصيله من حيث هو ظاهر في مظاهره المختلفة .
فالمراتب كلها في نفسها معدومة و الوجود لذلك الواحد المطلق فقط ولكنها ظاهرة به، وهي على ما هي عليه من عدمها الأصلي .
(علم أن الحق) سبحانه وتعالى (المنزه) عن مشابهة كل معقول أو محسوس (هو) بعينه (الخلق)، أي المخلوق (المشبه) من حيث أن جميع المخلوقات تفاصيل مجمل حضراته تعالى.
فزيادتهم عليه زيادة عدمية كزيادة مراتب العدد على الواحد المطلق، فإنها زيادة عدمية كما ذكر.
وليس معناه أن الحق تعالى هو هذه المخلوقات كما فهم من كلام الشيخ رضي الله عنه بعض من طمس الله تعالی بصیرته بإنكاره على أهل الله تعالی من ذوي الجهل المركب، فإن هذا محال.
كما أن من فهم أن الواحد المطلق هو نفس المراتب العدد من حيث هي مراتب مختلفة فإنه فهم المحال، لأنه يلزم عليه أن تكون العشرون مثلا هي واحد.
وكذلك المائة والألف وهو ممتنع ببداهة العقل، وإنما مراتب العدد لها ثبوت في نفسها غیر ثبوت الواحد المطلق في نفسه، وثبوتها وجوده تعالى وحده. وقد نسبه الغافلون المحجوبون إلى المخلوقات جهلا وعنادا .
ثم ذهبوا يفتشون بعقولهم القاصرة على وجود الحق تعالی، فأثبتوه من جنس وجود المخلوقات بكيف ومكان وزمان ضرورة عقلية.
وتنزيهه عن مشابهة الحوادث في ألسنتهم فقط، وفي حفظهم لا في وجدانهم حكماء عدة من الله تعالى عليهم لعدم اعترافهم بالقصور عن درجة أولياء الله تعالى المعاصرين لهم ولدعواهم الكمال وهم في النقص التام ولجهلهم المركب الذي أعمى أبصارهم عن الصراط المستقيم .
يقولون عن الأولياء المعاصرين لهم كما قال أهل الجهل المركب قبلهم في الأمم الماضية فيما حكى الله عنهم في كلامه القديم :
"إن نحن إلا بشر مثلكم " [إبراهيم: 11] يريد أن يتفضل علیكم.
"إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين" [المؤمنون: 38].
" ومال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" [الفرقان: 7].
"وما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه وتشرب ما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون " [المؤمنون: 33 - 34].
وهو في الأولياء من بقية إرثهم للأنبياء عليهم السلام ليؤذوا كما أوذوا .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحد وهو العيون الكثيرة.
« فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر»، و الولد عين أبيه.
فما رأى يذبح سوى نفسه.
«وفداه بذبح عظيم»، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان.
وظهر بصورة ولد: لا، بل بحكم ولد من هو عين الوالد.
«وخلق منها زوجها»: فما نكح سوى نفسه.
فمنه الصاحبة و الولد و الأمر واحد في العدد. فمن الطبيعة و من الظاهر منها ، و ما رأيناها نقصت بما ظهر منها و لا زادت بعدم ما ظهر؟
و ما الذي ظهر غيرها: و ما هي عين ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم عليها:
فهذا بارد يابس و هذا حار يابس: فجمع باليبس و أبان بغير ذلك.
و الجامع الطبيعة، لا، بل العين الطبيعية.)
(كل ذلك) المذكور الذي هو الأمر الخلق والمخلوق الخالق ناشيء في الظهور (من عين واحدة) غيبية منزهة عن الظهور والبطون لإطلاقها الحقيقي حتى عن الإطلاق لأنه يقيدها وهي عين الذات الأحدية.
فالخالق والمخلوق من جملة تعييناتها، فهما منها كالصفة من الموصوف بها والفعل من الفاعل له (لا بل هو)، أي ذلك الأمر المذكور (العين الواحدة) الذاتية المطلقة لا زائدة عليها إلا بحكم المراتب العدمية التي لا وجود لها معها غيرها.
(وهو)، أي ذلك الأمر (العيون الكثيرة) المختلفة التي لا تتناهى مع قطع النظر عن تلك المراتب العدمية التي ظهر هو بها لأنها عدم محض.
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وابنه الذبيح عليهما السلام: "فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك" [الصافات: 102] (انظر) ببصرك وبصيرتك ("ماذا ترى")، فإن الأمر واحد فهل تراه خالقا أو مخلوقة فإن كنت تراه خالقة، فهو المراد.
وإن كنت تراه مخلوقة فإن سبب ذلك استيلاء جسدك الطبيعي على بصرك وبصيرتك لرؤيتك الأمر على خلاف ما هو عليه.
فلا بد من ذبحك ورفع حكم جسدك الطبيعي عنك حتى ترى الأمر على ما هو عليه، ولهذا لما حصل المقصود بانفصاله عن حكم جسده الطبيعي عنه لم يذبحه، وتكون جسده الطبيعي في صورة كبش، فهبط إليه من جنة المعارف فذبحه ونجا ابنه من ذلك عليهما السلام ("قال يا أبت افعل ما تؤمر") [الصافات: 102].
ولم يقل: اذبحني لعلمه أن المقصود غير ذلك، وأن ذلك المقصود قد يحصل بغيره ففعل إبراهيم عليه السلام ما أمر بفعله وهو اتكاء ابنه وإمرار السكين على رقبته، فتحقق ابنه برفع الأسباب وأن السكين لا تقطع بطبعها.
وإنما هي صورة أمر الله تعالى، فحصل المقصود من المعرفة فارتفع الذبح في الحال والولد) من حيث الروحانية الواحدة الظاهرة في كل صورة من العالم (عين أبيه) بل عين كل شيء، وإن اختلفت النفوس التي هي تدبير ذلك الروح الواحد لكل جسد بما يليق به فالروح واحدة.
قال تعالى: "ويسألونك عن الروح" [الإسراء: 85] ولم يقل عن الأرواح.
وقال تعالى: "يوم يقوم الروح والملائكة صفا " [النبأ: 38].
وقال تعالى: "تنزل الملائكة والروح" [القدر: 4].
وأما قوله عليه الصلاة والسلام : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». رواه البخاري ومسلم
فقد أراد بها النفوس.
والنفوس كثيرة لكل شيء نفس تليق به، فنفس الانسان ليست كنفس الحيوان، لیست كنفس النبات، لیست كنفس الجماد و نحو ذلك .
قال تعالى : " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" [الرعد: 33].
والنفوس هي التي تموت كما قال تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها" [الزمر: 42]، "أخرجوا أنفسكم " [الأنعام: 93]، " كل نفس ذائقة الموت" [آل عمران: 185]، والروح لا يموت لقيامه بالحق تعالى في كل الأمور .
(فما رأى) إبراهيم عليه السلام (في منامه أنه يذبح سوى نفسه) التي هي نفس ابنه والرائي هو الروح الواحد الكلي المسمى إبراهيم عليه السلام باعتبار قید تلك النفوس المخصوصة.
وذلك الجسد المخصوص، فإن توجه المجامع في وقت استفراغ النطفة لم يزل سارية في تلك النطفة حتى يظهر على صورة المستفرغ لها والتوجه يصحبها من حيث روح المتوجه لا من حيث نفسه.
وللروح الواحد الكلي باعتبار كل نفس مخصوصة في جسد مخصوص ظهور خاص، فنفس الابن بسبب ذلك نفس الأب، لأن خصوص الروح توجه فأنتج خصوص روح آخر، فهما نفسان الروحين مخصوصين هما : روح واحدة مخصوصة بمنزلة أطوار الشخص الواحد.
(وفداه)، أي فداء الابن أبوه من حيث كون الأب نفس الأمر الإلهي ظاهرة في مظهر روح مخصوص كلي متوجه على نفس مخصوصة في جسد مخصوص (بذبح)، أي حيوان يذبح (عظيم) وعظمه باعتبار نیابته عن نبي كريم كنيابة الجسد في الدنيا بالموت والفناء عن الروح الأعظم ذات النفس الزكية.
فالجسد فداء للروح فهو عظیم بعظمها فظهر بصورة كبش في عالم الحس (من ظهر) في عالم الخيال (بصورة إنسان).
وفي عالم الحس أيضا وهو الذبيح عليه السلام، فذبح في صورته الحسية الكبشية ولم يذبح في صورته الخيالية الإنسانية.
لأن الصورة الخيالية صورة وحي لإبراهيم عليه السلام، لأن منام الأنبياء عليهم السلام وحي من الله تعالى لهم بخلاف الصورة الحسية.
فإنها من ظواهرهم عليهم السلام وبواطنهم محفوظة من الخطأ ، فرأى في عالم وحيه المنامي ذبح صورة ابنه الإنسانية ، فظهرت له في عالم حسه في صورة كبش فذبحها، وإنما غسل أوساخ الطبيعة من وجه روحانية ابنه.
وظهر بصورة الولد في عالم الحس وعالم الخيال باعتبار تخلق نطفته بتوجه روحانيته في وقت الجماع على طبق صورته الباطنة والظاهرة.
وهذا التوجه الروحاني من كل ذي روح نظير القبضة التي قبضها السامري من أثر الرسول، فنبذها في العجل الذي صاغه من الذهب، فسرت فيه الحياة بإذن الله تعالى (لا بل بحكم الولد) من حيث إن تلك النطفة المختلفة بالتوجه المذكور نطفة الأب انفصلت عنه روحانياتها التي تدبرها روحانية الأب للتوجه عليها.
فما ثم إلا حكم الولد لا حقيقة الولد (من هو) في عالم الخيال وعالم الحس (عين الوالد) إذ كل من رأى في منامه شيئا إنما رأى نفسه في صورة ذلك الشيء.
وكذلك من رأى شيئا في يقظته رآه على قدر استعداده فما رأي إلا نفسه.
والولادة كمال في هذه العينية المذكورة لإنتاجها أصل الصورة المرئية.
فالعينية في الولد أظهر منها في كل أمر مرئي يقظة ومناما .
قال الله تعالى في آدم عليه السلام: هو " الذي خلقكم من نفس واحدة " ، وهي نفس آدم عليه السلام ("وخلق منها ") ، أي من تلك النفس الواحدة ("زوجها") [الأعراف : 189]، يعني حواء عليها السلام بأن تجلی سبحانه وتعالى لتلك النفس الواحدة بحضرة خاصة غير الحضرة التي تجلي بها.
فكانت تلك النفس الواحدة، فظهرت تلك النفس الواحدة في مرآة تلك الحضرة المخصوصة صورة مماثلة لصورة تلك النفس الواحدة.
كما تظهر صورة في المرآة، والمرأة بنفسها منزهة عن تلك الصورة الظاهرة فيها، فحواء نفس آدم عليهما السلام ظهرت له في مرآة تلك الحضرة الإلهية المخصوصة، وحين نكحه (فما نكح سوى نفسه).
وفي الحقيقة حضرة إلهية توجهت على حضرة إلهية أخرى من قبيل المغايرة بين الواحد ونفسه إذا كان معلومة (فمنه)، أي من آدم عليه السلام (الصاحبة) وهي حواء (والولد) الذي خلق منها بنكاحه لها .
(والأمر) الإلهي (واحد في العدد) وإن كثر بصورة التجلي، لأنه لا يشغله شأن عن شأن.
(فمن الطبيعة) الكلية المنقسمة إلى الأربع: حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة في ظهورها بصفاتها وأسمائها قبل أفعالها وأحكامها وهي للحق سبحانه بمنزلة النفس للمتنفس.
ولهذا ورد الإشارة إليها بقوله عليه السلام: "نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن" الحديث . وورد بلفظ «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن، أو من جانب اليمن».
(ومن) العالم (الظاهر منها) المشتمل على الصور المختلفة في الحس والعقل.
وما رأيناها نقصت بما ظهر منها من الصور التي لا تعد ولا تحصى مما يسمى مخلوقات علوية وسفلية .
(ولا)رأيناه (زادت بعدم ما ظهر)مما فني وزال من المخلوقات بل هي على ما هي عليه لا تنقص ولا تزيد (وما الذي ظهر) منه
من جميع المخلوقات (غيرها) بل كل ذلك صورها التي تصورت فيه (وما هي عين ما ظهر منها).
.
أي من جميع المخلوقات (لاختلاف الصور) في جميع المخلوقات (بالحكم عليها)، أي على تلك الصور أو على الطبيعة فالحكم على الطبيعة سبب الاختلاف صورها، فإنها لا يحكم عليها بحكم حتى تكون متصورة في صورة هي من جهة نفسها لا صورة لها .
(فهذا) شيء (بارد یابس وهذا) شيء آخر (حار يابس) وهذان الشيئان صورتان للطبيعة وقد حكم على هذين الشيئين بالحكمين المذكورين .
(فجمع) بينهم (باليبس)، لأنه وصفهم (وأبان)، أي فرق وأوضح أحد الشيئين من الآخر (بغير ذلك) وهو البرودة في الأول، والحرارة في الثاني
(والجامع) في ماهيتهم (الطبيعة) الواحدة، لأن الجامع وهو اليبس طبيعة، والفارق وهو البرودة والحرارة طبيعة أيضا. والكل طبيعة واحدة (لا بل العين).
أي الذات في كل شيء جمع مع الآخر أو فارقه (الطبيعة) لا زائد عليها .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة، لا، بل صورة واحدة في مرايا مختلفة. فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر. و من عرف ما قلناه لم يحر. و إن كان في مزيد علم فليس إلا من حكم المحل ، و المحل عين العين الثابتة : فيها يتنوع الحق في المجلى فتتنوع الأحكام عليه، فيقبل كل حكم، و ما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه، و ما ثم إلا هذا:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ... و ليس خلقا بذاك الوجه فادكرو
من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته ... و ليس يدريه إلا من له بصر
جمع و فرق فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر)
(فعالم الطبيعة) مجرد (صور) ولا طبيعة الآن من حيث هي طبيعة بل هي الآن صور مسماة بأسماء مختلفة وتلك الصور ظاهرة للحس والعقل (في مرآة واحدة) هي الطبيعة على أصلها كالمرآة الصافية الخالية من كل صورة.
(لا بل) عالم الطبيعة صورة واحدة ظاهرة (في مرايا مختلفة) وتلك المرايا المختلفة هي حضرة الحق تعالى.
فكل حضرة تقتضي أن تظهر فيها الطبيعة بصورة مخصوصة، فكثرة الصور لكثرة المرايا والطبيعة صورة واحدة لا تعدد لها بذاتها.
(فما ثم) في الوجود (إلا حيرة) تعم العقل والحس (لتفرق النظر) الواحد، فإن كل معقول و محسوس صورة ظاهرة في مرآة الطبيعة من تجلي حضرات الحق تعالی المتوجه بما يريد مما يعلم من كل شيء.
فالمعقول والمحسوس الصور والطبيعة والنظر الواحد واقع على الشيئين معا. والصور حاجبة للطبيعة فالمعقول والمحسوس هو الصور وحدها، والطبيعة في غيبه لصور مخفية.
ويشبه أن يكون كل معقول ومحسوس صور مختلفة ظاهرة في مرايا الخطوات الإلهية من تجلي الحق تعالی علی الطبيعة الواحدة.
فالطبيعة ظاهرة بصورة كل شيء في مرايا التجليات الإلهية.
فالمعقول والمحسوس هي التجليات الإلهية مع الصور الطبيعية القائمة بها، والنظر الواحد واقع على هذين الشيئين.
والصور حاجبة للتجليات و للطبيعة، فالمعقول والمحسوس هو الصور وحدها والتجليات غيب في تلك الصور، و كمال الطبيعة غيب في الصور أيضا.
فتارة يقول الحائر في نفسه هذه طبيعة مصبغة بصبغة كل شيء.
وتارة يقول: كل شيء، وتارة يدقق النظر فيقول تجليات الإلهية بصور طبيعته وتردد في هذا كله.
(ومن عرف ما قلناه) من أن الحق المنزه هو الحق المشبه مع تمييز أحدهما عن الآخر كما سبق بيانه (لم يحر) لتحققه بالأمر على ما هو عليه من جهة انكشافه والتباسه.
(وإن كان) يعني العارف بما قلناه (في مزید علم) مع أن الأنفاس كلما مر عليه نفس زاد علمه بالحق والخلق، فإن زيادة العلم لا تقتضي الحيرة بل هي علوم يقينية بعضها فوق بعض.
(فلیس) ذلك المزيد من العلم داخلا عليه (إلا من حكم المحل) الذي يتوارد به من حيث إطلاقه عليه لا من حيث تقييده .
(والمحل) المذكور (هو عين)، أي ذات (العين)، أي الذات (الثابتة) التي لا تتغير عندنا بتغيير جميع قیودها.
فإن علم المحل يقتضي الانكشاف التام فيما لا نهاية له، فحكمه زيادة العلم مع الأنفاس والعين الثابتة ذات الحق تعالی من حيث معرفتنا بها.
وعين هذه العين ذاته تعالى من حيث ما هو في نفسه غيب عن (فبها)، أي بعين العين المذكور (يتنوع الحق) تعالى للحس والعقل في المجلی)، أي موضع الانجلاء، أي الانكشاف
(فتتنوع الأحكام) منه (عليه) سبحانه إذ لكل نوع من ذلك حكم خاص به.
(فيقبل) سبحانه وتعالى من حيث ظهوره في كل مظهر (كل حكم) يخص ذلك المظهر الذي يظهر فيه (وما يحكم عليه) تعالى من حيث نحن بتلك الأحكام المتنوعة.
(إلا عين ما تجلى فيه) من المراتب الممكنة المقدرة بعلمه تعالى وإرادته تعالى، لأنه يظهر لنا بها فتحكم عليه من ظهوره عندنا، وهو على ما هو عليه في ظهوره لنفسه من إطلاقه الكلي.
(ما ثمة)، أي هناك في حقيقة الأمر (إلا هذا) الذي ذكر من ظهوره تعالی منصبغا بصبغة كل ممكن علمه فأراده فقدر عليه، فقد حكم عليه تعالى ذلك الممكن، فكان محكوم عليه بعين ما حكم هو به.
وقد أشار إليه الشيخ رضي الله عنه من النظم بقوله:
(فالحق) سبحانه (خلق بهذا الوجه)، لأن المخلوقات كلها ممكنات مقدرة لا وجود لها يمسكها الحق تعالی بعلمه وإرادته وقدرته، فيتجلى بها عليها وهو الموجود الصرف، فينصبغ بصبغتها في ظهوره لها لا هو في نفسه.
كذلك منصبغ بها إذ يستحيل على الموجود أن يتغير بالمعلومات القائمة به (فاعتبروا) بذلك يا أولي الأبصار، وافهموا هذه الحكم والأسرار.
(وليس) الحق تعالی (خلقا بذلك الوجه) الذي هو عليه في نفسه من الإطلاق الحقيقي والتنزيه الصرف.
(فاذكروا) بتشديد الذال المعجمة، أي تذكروا ولا تغفلو (من يدر ما)، أي الذي (قلت) من الكلام الحق والمعنى الصدق على حسب ما أردت من غير تحريف ولا تصحيف (لم تخذل).
أي لا يخذل الله تعالى (بصيرته) بل يوفقها لمعرفة الأسرار والحقائق ويوفقها على أقوم الطرائق (وليس بدريه).
أي يدري ما قلته (إلا من له بصر) منور بنور الاتباع مغسول من قذى الابتداع، وأما الأعمى الذي يظن نفسه بصيرة، فإنه بعيد الفهم عن درایته هذا المجال، وما يدري نساء النفوس ما بين عقول الرجال .
(جمع) يا أيها السالك، أي كن في مقام الجمع فانظر الحق في كل شيء، فإنه واحد قائم على كل شيء والأشياء كلها معلومات، لولا إمساكها لها ما وجدت به، فالوجود له لا لها والصور لها لا له.
(وفرق)، أي كن في مقام الفرق فانظر كل شيء موجودة بالحق تعالى قائمة به تعالی (فإن العين) الموجودة (واحدة) من حيث هي في نفسها لا كثرة فيها.
وإن كثرت صورها الممكنة العدمية المسماة خلقة الممسوكة بها وهو راجع إلى قوله جمع.
(وهي)، أي تلك العين الواحدة (الكثيرة) أيضا في نفس وحدتها إذ حضراتها لا تعد ولا تحصى، وهي في كل حضرة غيرها في الحضرة الأخرى وكل صورة كونية ممكن عدمي ممسوك بحضرة إلهية تقتضيه وهو راجع إلى قوله وفرق .
(لا تبقى)، أي لا تترك شيئا تلك العين الواحدة من جزئيات العالم إلا كان ظهورا لها في حضرة من حضراته (ولا تذر)، معنی مطلقا صوابا أو خطأ كذلك.
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
( فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية و النسب العدمية بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا. وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة.
وأما غير مسمى الله مما هو مجلى له أو صورة فيه، فإن كان مجلى له فيقع التفاضل- لا بد من ذلك- بين مجلى و مجلى، و إن كان صورة فيه فتلك «5» الصورة عين الكمال الذاتي لأنها عين ما ظهرت فيه.
فالذي لمسمى الله هو الذي لتلك الصورة. ولا يقال هي هو ولا هي غيره )
(فالعلی لنفسه) بالعلو الحقيقي دون العلو الإضافي (هو الذي يكون له الكمال) المطلق في كل نوع من أنواع الممكنات (الذي يستغرق به).
أي بذلك الكمال (جميع الأمور الوجودية) وهي الصفات الإلهية والأسماء والأفعال والأحكام، وكونها وجودية كونها ليست غيره تعالى وإن لم تكن عينه باعتبار مفهوماته (والنسب العدمية) وهي جميع الممكنات الموجودة والمعدومة (بحيث لا يمكن أن يفوت نعت منها) مطلقا لأنها كلها له .
من قوله تعالى : "له ما في السماوات وما في الأرض" [البقرة : 255]، وقوله تعالى: "وله كل شيء" [النمل: 91].
(وسواء كانت) تلك النسب العدمية (محمودة عرفا) كالكرم والشجاعة والكريم والشجاع (وعقلا) كمقابلة الإحسان بالإحسان .
والمقابل بذلك (وشرعا) كقتل القاتل وجهاد الكافرين وفاعل ذلك (أو) كانت تلك النسب العدمية (مذمومة عرفا) كالبخل والجبن والبخيل والجبان (وعقلا) كجحود الإحسان وجاحد ذلك (وشرعة) كالكفر بالله تعالى والكافر .
(وليس ذلك) الاستغراق المذكور لجميع ما ذكرو (إلا لمسمى الله) سبحانه (خاصة) وهو واجب الوجود الموصوف بصفات الكمال المنزه عن صفات النقصان
وأما غير مسمى الله تعالی خاصة (مما هو مجلی).
أي موضع انجلاء، أي انكشاف حضرة إلهية (له) تعالى (أو) هو (صورة) ممكنة عدمية (فيه).
أي في الله تعالى قائمة به تعالی جامعة لجميع حضراته من قوله عليه السلام: «إن الله خلق آدم على صورته» .
(فإن كان) غير مسمى الله تعالى (مجلی له) تعالى من حيث حضرة من حضراته تعالى (فيقع التفاضل) في ذلك المجلى ولا يكون مستغرقا لما ذكر (لا بد من ذلك).
أي التفاضل (بين مجلى) لحضرة من الحضرات (ومجلی) آخر لحضرة أخرى (وإن كان) غير مسمى الله تعالى (صورة فيه)، أي في الله تعالى من حيث جمعيته لجميع الحضرات (فتلك الصورة) الجامعة (عين الكمال الذاتي) الإلهي
(لأنها)، أي تلك الصورة (عين ما ظهرت) تلك الصورة (فيه) وهو الله تعالى إذ ليس فيه غيره تعالی.
والمراد بالصورة مجموع الشؤون الإلهية المختلفة، والأمور المتنوعة الرحمانية لأغراضها المميزة بين الزائلة الفانية المنتقلة المتكررة بالأمثال مما تسميه صورة عامة الناس.
ويقال له: زيد وعمرو (فالذي لمسمى الله) سبحانه من ذلك الكمال المذكور (هو الذي لتلك الصورة) الجامعة المذكورة (ولا يقال هي).
أي تلك الصورة من حيث أعراضها الظاهرة والباطنة المميزة بين شؤون الله تعالی المختلفة وأموره المتنوعة (هو) سبحانه وتعالى (ولا) يقال أيض (هي) من حيث تلك الشؤون الإلهية والأمور الرحمانية (غيره) تعالی بل هي عينه باعتبار ما ورائها مما هو ممسك لها.
وهي غيره باعتبار ما يظهر منها وما يبطن من الأعراض الزائلة والقول الفانية .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(و قد أشار أبو القاسم بن قسي في خلعه إلى هذا بقوله: إن كل اسم إلهي يتسمى بجميع الأسماء الإلهية و ينعت بها. و ذلك أن كل اسم يدل على الذات و على المعنى الذي سيق له و يطلبه. فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء، و من حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به، يتميز عن غيره كالرب و الخالق و المصور إلى غير ذلك.
فالاسم المسمى من حيث الذات،و الاسم غير المسمى من حيث ما يختص به من المعنى الذي سيق له.)
(وقد أشار الإمام أبو القاسم بن قسي) رضي الله عنه (في خلعه)، أي في كتابه خلع النعلين (إلى هذا) المعنى المذكور (بقوله: إن كل اسم إلهي) من أسماء الله تعالى (يتسمى بجميع الأسماء الإلهية وينعت بها)، أي بالأسماء الإلهية كلها فالتسمية من غير ملاحظة الاشتقاق والنعت بملاحظته، وإنما كان كذلك لأن كل اسم ليس غير الاسم الآخر ولا عينه، كما أنها كلها ليست غير الذات ولا عينه
(وذلك)، أي تسمى كل اسم جميع الأسماء ونعته به (هناك)، أي في الحضرة الإلهية (إن كل اسم) من تلك الأسماء (يدل) من حيث كونه ليس غير الذات الإلهية (على الذات) الإلهية لأنها مرادة به عند ذكره (و) يدل أيضا من حيث كونه ليس عين الذات الإلهية (على المعنى) المفهوم منه (الذي سيق) ذلك الاسم (له)، أي لبيانه (ويطلبه).
أي ذلك الاسم لذلك المعنى (من حيث دلالته)، أي الاسم (على الذات) الإلهية (له)، أي لذلك الاسم الواحد (جميع الأسماء) الإلهية (ومن حيث دلالته).
أي الاسم على المعنى المفهوم منه (الذي ينفرد) ذلك الاسم (به)، أي بذلك المعني بحيث لا يدل عليه اسم آخر غير ذلك الاسم (يتميز) ذلك الاسم (عن غيره) من الأسماء الإلهية (كالرب) فإنه بمعنى المالك يدل على ذات الله تعالی فیكون جامعة لجميع الأسماء الإلهية ويدل على معنى الملك وله تعالى فيتميز عن بقية الأسماء الإلهية .
(و) كذلك الاسم (الخالق) بمعنى المقدر من قولهم: خلقت الأديم، أي قدرته (و) الاسم (المصور)، أي جاعل الصورة لكل شيء (إلى غير ذلك) من الأسماء الإلهية (فالاسم) هو (عين المسمى) بعينه (من حيث) دلالته على (الذات والاسم غير المسمى من حيث ما يختص به).
أي بذلك الاسم (من المعنى الذي سيق) ذلك الاسم (له) لمعنى الملك ومعنى التخليق ومعنى التصوير ونحو ذلك وهذا قول حسن في أن الاسم عين المسمى أو غيره .
و لعلماء الكلام أقوال كثيرة في هذه المسألة تزيد على الثلاثين قولا ذكرناها في كتابنا المطالب الوفية .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه :
(فإذا فهمت أن العلي ما ذكرناه علمت أنه ليس علو المكان و لا علو المكانة، فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر كالسلطان و الحكام و الوزراء و القضاة و كل ذي منصب سواء كانت فيه أهلية لذلك المنصب أو لم تكن، و العلو بالصفات ليس كذلك، فإنه قد يكون أعلم الناس يتحكم فيه من له منصب التحكم و إن كان أجهل الناس. فهذا علي بالمكانة بحكم التبع ما هو علي في نفسه. فإذا عزل زالت رفعته و العالم ليس كذلك.)
(فإذا فهمت) يا أيها السالك (أن العلي) لنفسه هو (ما ذكرناه علمت) يقين (أنه)، أي العلو الذي اشتق منه العلي (ليس على المكان)، لأنه في الأمر المحسوس (ولا علو المكانة)، لأنه في الأمر المعقول (فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر) على الناس (كالسلطان والحكام) وهم القضاة والأمراء (والوزراء وكل ذي منصب) في الدني (سواء كانت فيه أهلية ذلك المنصب أو لم تكن) فيه أهلية لذلك.
فإن ذلك العلو أمر معقول كما أن علو المكان أمر محسوس، والعلي بنفسه منزه عن معاني العقل والحس وهو الله تعالى.
(والعلو بالصفات) الكمالية الجلالية والجمالية كما ذكر (ليس كذلك)، فإنه لا يختص بولاة الأمر سواء كانت فيهم أهلية أم لا، بل هو مختص بصاحب الكمال المطلق الحقيقي، فهو ليس علوا معقولا ولا محسوس بل أصل للعقل والحس .
(فإنه قد يكون)، أي يوجد (أعلم الناس) ومع ذلك (يتحكم فيه من له منصب التحكم) من ولاة الأمر.
(وإن كان) ذلك الذي لمنصب التحكم (أجهل الناس) فإنه ما حكم على من هو أعلم منه إلا من كونه له منصب التحكم عليه فقط فهذا الذي له منصب التحكم (علئ بالمكانة بحكم التبع) للمكانة التي هو فيها .
(ما هو علي في نفسه فإذا عزل) عن منصب التحكم (زالت رفعته) وسفل علوه (والعالم) الذي علوه بالصفات وهو العلي لنفسه (ليس كذلك).
فإنه ليس عليا بحكم التبع حتى يزول علوه بل هو على لنفسه، فعلوه لا يزول ولا يحتمل العزل. والله أعلم وأحكم.
تم فص الحكمة الإدريسية


9hgezHGYm-w

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!