موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة فردية في كلمة محمدية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة فردية في كلمة محمدية


27 - فص حكمة فردية في كلمة محمدية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
هذا فص الحكمة المحمدية ، ذكره بعد حكمة خالد بن سنان عليه السلام ، لأنه كان قريب من زمانه ، ولأنه صلى اللّه عليه وسلم آخر الأنبياء وخاتم المرسلين ، فناسب أن يختم الكتاب كما بدىء بآدم عليه السلام ، ولأنه عليه السلام جامع لمشارب النبيين والمرسلين كلهم عليهم السلام ، فكان ذكره بعد تمام ذكرهم كالإجمال بعد التفصيل ، وكالفذلكة في الحساب الطويل .
قال رضي الله عنه : (فص حكمة فردية) ، أي منسوبة إلى الفرد وهو الواحد الذي لا نظير له في كماله (في كلمة محمدية . )
إنما اختصت حكمة محمد صلى اللّه عليه وسلم بكونها فردية لانفراده صلى اللّه عليه وسلم بالفضيلة التامة والكرامة العامة والمرتبة السامية على الجميع ، والمزية التي من انتسب إليها بالمتابعة لا يضيع ، والشرف العالي في الدارين ، والقدر الرفيع الذي نصبت أعلامه في الخافقين ، ولقول المصنف قدس اللّه سره ولم يعلل حكمة غيرها إفراد لها بالاعتناء والاهتمام بشأنه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إنّما كانت حكمته فرديّة لأنّه أكمل موجود في هذا النّوع الإنسانيّ ، ولهذا بدئ به الأمر وختم ، فكان نبيّا وآدم بين الماء والطّين ، ثمّ كان بنشأته العنصريّة خاتم النبيّين .
وأوّل الأفراد الثّلاثة ، وما زاد على هذه الأوّليّة من الأفراد فإنّها عنه .
فكان صلى اللّه عليه وسلم أدلّ دليل على ربّه ، فإنّه أوتي جوامع الكلم الّتي هي مسمّيات أسماء آدم . فأشبه الدّليل في تثليثه . والدّليل دليل لنفسه . )
إنما كانت حكمته ، أي محمد صلى اللّه عليه وسلم فردية لأنه عليه السلام أكمل موجود على الإطلاق في هذا النوع الإنساني بالاتفاق ولهذا بدىء ، أي بد اللّه به صلى اللّه عليه وسلم الأمر الإلهي فهو أوّل مخلوق من حيث كونه نورا كما ورد في حديث جابر الذي أخرجه عبد الرزاق في مسنده : يا رسول اللّه أخبرني عن أوّل شيء خلقه اللّه تعالى قبل الأشياء ، قال : « يا جابر إن اللّه خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره » إلى آخر الحديث الطويل (وختم) ، أي به الأمر أيضا صلى اللّه عليه وسلم فلا نبي بعده ولا رسول بعده إلى يوم القيامة (فكان) صلى اللّه عليه وسلم (نبيا وآدم بين الماء والطين) كما ورد في الحديث وفي رواية : " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد " . رواه الترمذي والطبراني عن ابن عباس .
وفي رواية : « كنت أوّل الناس في الخلق وآخرهم في البعث » رواه ابن سعد عن قتادة مرسل و رواه الحاكم في المستدرك و روى نحوه ابن أبي شيبة.
وفي رواية : « كنت أوّل النبيين في الخلق وآخرهم في البعث » رواه الحاكم في مستدركه ، يعني أنه صلى اللّه عليه وسلم كامل الخلقة شريف المقام والمرتبة من حين خلقه اللّه تعالى نورا إلى أن فصل مجمله ظهور ، فخلق له القالب الآدمي ، واستعمله في ظهور صورته العظيمة ، ثم صفاه في مصافي قوالب الكاملين من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، حتى أخرجه في هذ الوجود ، وأفاض به إناء المكارم والجود ، فكان في الآخر كما كان في الأوّل ، فهو الفرد الكامل الذي عليه المعول .
ثم كان صلى اللّه عليه وسلم بنشأته ، أي خلقته العنصرية ، أي المركبة من العناصر الأربعة : الماء والنار والتراب والهواء التي هي آخر الأصول المادية لخلق المولدات الأربعة الجمادية والنباتية والحيوانية والإنسانية .
قال رضي الله عنه : (خاتم) بكسر التاء المثناة الفوقية وفتحها (النبيين) عليهم السلام كما قال تعالى :"ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ" [ الأحزاب:40 ].
(و) لأنه (أوّلالأفراد) جمع فرد (الثلاثة) التي قام بها كل شيء من محسوس أو معقول أو موهوم ، فإن كل شيء مما ذكر له عندنا روح نورانية ونفس برزخية وصورة ظلمانية ، فروح كل شيء في الملأ الأعلى العرش ، ونفسه في الحضرات الفلكية السماوية ، وصورته في العالم السفلي الأرضي ،
وهي أفراد ثلاثة على هذا الترتيب :
روح وجسم ونفس ، قلم ولوح وكتابة ، آخرة وبرزخ ودنيا ، جنة وأعراف ونار ، ذات وصفات أو أسماء وأفعال ، فهو صلى اللّه عليه وسلم أوّل هذه الأفراد الثلاثة .
(وم زاد على هذه الأوّلية من الأفراد) وهما الفردان الباقيان (فإنه) ، أي ذلك الزائد ناشيء (عنها) ، أي عن تلك الأولية من الثلاثة :
فالجسم من النفس ، والنفس من الروح ، والكتابة من اللوح ، واللوح من القلم ، والدنيا من البرزخ ، والبرزخ من الآخرة ، والنار من الأعراف ، والأعراف من الجنة ، والأفعال من الصفات أو الأسماء ، والصفات أو الأسماء من الذات ، فرجعت الأفراد إلى الفرد الواحد ، ثم رجعت الآخرة إلى الجنة ، والجنة إلى القلم ، والقلم إلى الروح ، والروح إلى الذات ، فهو الذات الجامعة ، والحضرة النورانية اللامعة .
وهذا الفصل يطول بيانه ويتفرع على أصله أغصانه ، وصاحب الذوق تكفيه الإشارة ، والمحجوب الغافل لا يفهم ولا بألف عبارة (فكان) ، أي النبي عليه السلام أول دليل على معرفة ربه سبحانه بأقواله وأحواله فإنه عليه السلام أوتي ،
أي آتاه اللّه تعالى جوامع الكلم ، أي الكلمات الجوامع التي هي مسميات أسماء آدم عليه السلام ، فقد علم اللّه تعالى آدم الأسماء كلها ، يعني أسماء كل شيء ، وعلم محمد صلى اللّه عليه وسلم مسميات تلك الأسماء ،
فكان آدم عليه السلام مظهر الأسماء ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم مظهر الذوات ، والأسماء داخلة في الذوات ، فآدم عليه السلام حافظ الأسماء على الذوات ،
ومحمد صلى اللّه عليه وسلم حافظ الذوات مع الأسماء واسم آدم من جملة الأسماء ، وذاته من جملة الذوات كما أن اسم محمد من جملة الأسماء ، وذاته من جملة الذوات ، فآدم عليه السلام أبو الأسماء ومحمد صلى اللّه عليه وسلم أبو الذوات ، والأسماء صور الكلمات والذوات معانيها ، والأسماء عالم الأجسام ، والذوات عالم الأرواح ، والأجسام من الأرواح ، والأرواح من نور محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهو من نور اللّه تعالى .
قال تعالى :"اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"، وهذا هو الأصل مثل نوره ، أي الذي خلق اللّه تعالى منه كل شيء كما ورد في الحديث السابق ذكره وهو نور محمد صلى اللّه عليه وسلمكَمِشْكاةٍهي آدم عليه السلامفِيها مِصْباحٌهو روحانية محمد صلى اللّه عليه وسلم "الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ" [ النور : 35 ] هي روح العبد المؤمن .
قال اللّه تعالى :"إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً"[ مريم : 93 ] ، وفي الحديث القدسي : " ما وسعتني سماواتي ول أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ".
قال اللّه تعالى :" إِنَّ أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ" [ الكوثر : 1 ] ، وهو نهر في الجنة ، وهو الكثرة في الوحدة ، وهي جوامع الكلم التي قال تعالى عنها : " قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً" [ الكهف : 109 ] ، وقال تعالى : " وَلَوْ أَنَّ م فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ[ لقمان : 27 ] وإن كان الأمر منقسما إلى قسمين .
كما قال تعالى :"مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ" [ إبراهيم : 24 ] ، ثم قال سبحانه : " وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ" [ إبراهيم : 26 ] وشبههما بالشجرة للتشاجر وكثرة التفريع واختلاف الجهات .
وقد قال تعالى :"وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ"[ هود118 - 119 ]
، أي للاختلاف أو للرحمة ، والاختلاف رحمة كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
" اختلاف أمتي رحمة " . رواه نصر المقدسي في كتاب الحجة .
وفي رواية : « اختلاف أصحابي رحمة » .أخرجه الديلمي في مسند الفردوس
فهم أصحابه بالنور الذي خلقوا منه .
قال رضي الله عنه : (فأشبه) صلى اللّه عليه وسلم (الدليل) العقلي (في تثليثه) حيث هو مركب من أمرين وثالث مكرر بينهما محمول في الأوّل ، موضوع في الثاني
كما نقول : العالم متغير فالعالم أمر ومتغير أمر آخر حمل على الأوّل ثم تقول وكل متغير حادث ، فتكرر متغير وتجعله موضوعا وتحمل عليه قولك حادث وهو أمر آخر ، فتصدق النتيجة من هذا الدليل العقلي التام ، وهو الموضوع في الأوّل المحمول في الثاني ،
وذلك قولك : العالم حادث .
قال رضي الله عنه : (والدليل دليل لنفسه) يدل عليه ويوضحها عند المستدل به كما أنه دليل لغيره .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولمّا كانت حقيقته تعطي الفرديّة الأولى بما هو مثلّث النشأة لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الوجود : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» بما فيه من التّثليث . ثمّ ذكر النّساء والطّيب وجعلت قرّة عينه في الصّلاة .
فابتد بذكر النّساء وأخّر الصّلاة ، وذلك لأنّ المرأة جزء من الرّجل في أصل ظهور عينه .
ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه ، فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه لذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : " من عرف نفسه فقد عرف ربّه ") .
قال رضي الله عنه : (ولما كانت حقيقته) صلى اللّه عليه وسلم (تعطي الفردية الأولى) الروحية (بما) ، أي بسبب المظهر الواحد الذي (هو مثلث النشأة) ، أي الخلقة يعني خلقته قائمة على ثلاثة أصول هي أفراد في العالم ، وهي الأطباق الثلاث التي قال اللّه تعالى: "لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ" [ الانشقاق : 19 ] وهو الهيكل الشريف الذي ظاهره جسماني ، وباطنه روحاني ، وبرزخه نفساني ، وكل واحد من الثلاثة التي فيه عين الآخر من وجه ، وغيره من وجه وهي النقطة التي تركبت منها الحروف فكانت الكلمات .
قال رضي الله عنه : (لذلك) ، أي لكونه عليه السلام مثلث النشء (قال الشيخ رضي الله عنه : ) النبي صلى اللّه عليه وسلم (في المحبة) الإلهية السارية بالتوجه الرباني من المقام الصمداني في جميع الكلمات والمعاني (التي هي أصل هذا الوجود) وداعية للمعاينة والشهود حبّب بالبناء للمفعول للعلم بالفاعل وهو اللّه تعالى المتجلي بكل شيء إليّ ولم يقل : أحببت لأنه عليه السلام محبوب اللّه تعالى ، والمحبوب محب باطنا ومحبوب ظاهرا ، والمحب محبوب باطنا ومحب ظاهر .
قال تعالى :"يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"[ المائدة : 54 ] فمن زادت معرفته باللّه تعالى عرف أن اللّه تعالى يحبه فهو محبوب اللّه تعالى ، ومن نقصت معرفته عن الأول وجد فيه المحبة المتوجهة من اللّه تعالى عليه .
وفي التحقيق توجهها منه تعالى على نفسه ، فظن أنها محبته هو للّه تعالى فادعاها باطنا ، فكان محبا للّه تعالى من عدم تحقيقه في ذلك وكل مدّع ممتحن .
وبهذا السبب ابتلى اللّه تعالى المحبين وامتحنهم ، وباعتبار كونهم في التحقيق محبوبين له سبحانه أكرمهم ونعمهم وحفظهم وحرسهم .
قال رضي الله عنه : (من دنياكم) معشر الأغيار المحجوبين بالحظوظ النفسانية تحت الأستار عن لوامع الأنوار واستجلاء وجوه الأسرار ، وقد تبرأ صلى اللّه عليه وسلم من الدنيا ونسبها إليهم لزيادة معرفته النافية للجهالة والماحية للتوهم والتخيل والضلالة .
قال صلى اللّه عليه وسلم الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالشن البالي ، تنادي ربها تعالى منذ يوم خلقها : « يا رب لم تبغضني فيقول اللّه : اسكتي يا لا شيء اسكتي يا لا شيء » . رواه عبد اللّه بن الإمام أحمد بن حنبل في فوائد الزهد لأبيه عن أبي هريرة مرفوع (ثلاث) « 1 » من الخصال وفى كتاب الزهد لابي دني .
وقال القسطلاني في مواهبه : إنه وقع في الإحياء للغزالي ، وتفسير آل عمران من الكشاف ، وكثير من كتب الفقهاء : « حبب إليّ من دنياكم ثلاث ، وقالوا أنه عليه السلام قال : ثلاث ولم يقل اثنتين : الطيب والنساء .
وذكرها ابن فورك في جزء مفرد ووجهها وأطنب في ذلك ، وهذا يسمى عندهم طي ، وهو أن يذكر جمع ثم يؤتى ببعضه ويسكت عن ذكر باقيه لغرض المتكلم ، وأنشد الزمخشري عليه قول الشاعر :كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم * من العبيد وثلث من مواليها وفائدة هذا الطي عندهم تكثير ذلك الشيء .
وقال ابن القيم وغيره : من رواه : حبب إليّ من دنياكم ثلاث فقد وهم ، ولم يقل صلى اللّه عليه وسلم : ثلاث ، والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليه .
وقال الحافظ ابن حجر في مخاريج الكشاف : إن لفظ ثلاث لم يقع في شيء من طرقه ، وزيادته تفسد المعنى . وقال العراقي في أماليه : ليست هذه اللفظة وهي ثلاث في شيء من كتب الحديث ، وهي مفسدة المعنى ، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا ، وكذا صرح به الزركشي وغيره . انتهى .
وأقول : أم كون الصلاة ليست من أمور الدنيا ، لأنها عبادة مقصودة فظاهر ، وذكرها مع الطيب والنساء والإطلاق على الثلاثة أنها من أمور الدنيا بطريق التغليب في الكلام ليس بممنوع ، كما غلب من لا يعقل على من يعقل في قوله تعالى :سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ[ الحديد : 1 ] وبالعكس في قوله تعالى :وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً[ الرعد : 5 ] والكل مسبح للّه تعالى بدليل قوله :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ الإسراء : 44 ] والكل ساجد بدليل قوله تعالى :"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ"[ الحج : 18 ] .
وإذا كان الحديث مخرجا من باب التغليب في الكلام ، فلا إشكال فيه بشيء ، وأيضا لم يقل النبي عليه السلام في الثلاث إنه :
الطيب والنساء والصلاة حتى يلزم ما ذكروا ، وإنما قال : « وجعلت قرة عيني في الصلاة » كما يأتي في الثالث قرة عينه في الصلاة لا الصلاة نفسها ، وقرة عينه فرحه بالصلاة ، وذلك الفرح من أمور الدنيا وإذا لم تثبت لفظة ثلاث في الرواية عند من نفاها ، فهي ثابتة عند من أثبتها كالغزالي والزمخشري وكثير من الفقهاء ،
والمصنف قدس اللّه سره ومن حفظ حجة على من لم يحفظ بما ، أي بسبب فيه ، أي في خلقته من التثليث المذكور .
ثم ذكر صلى اللّه عليه وسلم في بيان الثلاث الواقعة في كلامه النساء والطيب وجعلت قرة ، أي برد عينيه عليه السلام من حرارة دمع حزنهما كناية عن وجود الفرح في الصلاة ؛ ولهذ كان يقول عليه السلام لبلال : « أرحنا بها يا بلال ». رواه أبو داود في سننه والطبراني في الكبير ورواه غيرهم في الراحة بالصلاة والفرح فيها فابتدأ صلى اللّه عليه وسلم بذكر النساء وأخّر ذكر الصلاة وذلك ، أي تقديم النساء لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ، أي ذاتها ،
لأن المرأة مخلوقة من الرجل وهي حوّاء خلقت من آدم عليه السلام ومعرفة الإنسان بجزئه مقدمة على معرفته بنفسه كلها ومعرفته بنفسه مقدمة على معرفته ،
أي الإنسان بربه تعالى فإن معرفته بربه سبحانه نتيجة عن معرفته ، أي الإنسان بنفسه والنتيجة مؤخرة عن مقدمتها لذلك ،
أي لكون الأمر كذلك قال النبي عليه السلام « من عرف نفسه بالفناء والاضمحلال عرف ربه » بالبقاء والوجود المحقق في كل حال ، أو من عرفها بالقيود والحدود عرفه بالإطلاق الحقيقي وكمال الوجود ، ومن عرفها بالتغير والتبدل بالأمثال عرفه بالدوام والثبوت من غير زوال ، ومن عرفه بالافتقار والاحتياج عرفه بالغنى المطلق وكمال الابتهاج ، أو من عرفها بالعجز عن معرفتها لأنها سر اللّه تعالى الظاهر عرفه بعجزه عنه بالأولى وإن ظهر في المظاهر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن شئت قلت بمنع المعرفة في الخبر والعجز عن الوصول فإنّه سائغ فيه ، وإن شئت قلت بثبوت المعرفة . فالأوّل أن تعرف أنّ نفسك لا تعرفها فل تعرف ربّك ؛ والثّاني أن تعرفها فتعرف ربّك .
فكان محمّد صلى اللّه عليه وسلم أوضح دليل على ربّه ، فإنّ كلّ جزء من العالم دليل على أصله الّذي هو ربّه فافهم . )
قال رضي الله عنه : (فإن شئت) يا أيه السالك (قلت بمنع المعرفة) للّه تعالى مطلقا (في هذا الخبر) الوارد (و) بحصول (العجز) من كل مؤمن (عن الوصول إلى جنابه) تعالى كما قال الصديق الأكبر رضي اللّه عنه « العجز عن درك الإدراك إدراك » .
وورد قول الملائكة عليهم السلام : « سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف » ، أي المعرفة اللائقة بك لعجزنا عن ذلك فإنه ، أي هذا المعنى سائغ ، أي مستقيم صحيح فيه ، أي في هذا الخبر المذكور وإن شئت يا أيها السالك قلت بثبوت المعرفة للّه تعالى في هذا الخبر .
فالأوّل وهو منع المعرفة معناه أن تعرف يا أيها السالك أن نفسك لا تعرفها لامتناع معرفتها عنك بكثرة تنوّع أحوالها الباطنية والظاهرية وسرعة تغيرها وانتقالها في الأطوار على التوالي كما قال تعالى :وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [ نوح : 14].
فلا تعرف ربك المتجلي عليك بنفسك ، فإنك إذا لم تعرف آثار التجلي لا تعرف المتجلي بالطريق الأولى .
والثاني، أي ثبوت المعرفة باللّه تعالى أن (تعرفها) ، أي نفسك بوجه من وجوهها في كل حال تكون فيه ولا تغفل عنها وتضبط الطور التي هي فيه قبل أن تنتقل إلى غيره وهكذا بالذوق والوجدان (فتعرف) بسبب ذلك (ربك) من وجه تجليه عليك في حال بعد حال وشأن بعد شأن ، كما قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29 ]
وقال :وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ[ يونس : 61 ] .
)فكان محمد صلى اللّه عليه وسلم أوضح دليل على ربه( تعالى لجمعيته الكلية للأفراد الثلاثة الأصلية جمعية كشف وشهود في جميع ذوات الوجود ، وإن كان كل شيء أيضا جامعا لكل شيء باعتبار وجود الأصول الثلاثة فيه كما ذكرناه ، ولكن لا يلزم منه تحققه بذلك في نفسه وخروجه عن توهمه وحسه .
قال تعالى :لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( 4 ) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ( 5 ) إِلَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ( 6 ) [ التين : 4 - 6 ] .
ودخل في الإنسان المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ؛ ولهذا صح الاستثناء بعده ، فليس في كل من خلق في أحسن تقويم يكشف له أنه مخلوق في أحسن تقويم بل يعرف ما معنى أحسن تقويم ؛ ولهذا قال تعالى باعتبار أهل الخصوص :وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ[ الإسراء : 105 ] .
وهو اللّه تعالى الذي قال سبحانه :مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ( 21 ) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ( 22 ) [ البروج: 20 - 22 ] .
وهي الأمثال التي قال تعالى :وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُه لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ( 43 )
قال رضي الله عنه : )فإن كل جزء من( أجزاء )العالم(المحسوس والمعقول والموهوم )دليل( واضح عند أهله )على( ثبوت )أصله الذي هو ربه(تعالى والجامع لجميع الأجزاء عن حس ووجدان وشهود وعيان دليل لا أوضح منه على ثبوت الأصل لتضمنه كل الأدلة )فافهم( يا أيها السالك معنى الحقيقة المحمدية السارية في كل شيء عند من تحقق بها بمعونة القدير المالك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإنّما حبّب إليه النّساء فحنّ إليهنّ لأنّه من باب حنين الكلّ إلى جزئه ، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحقّ في قوله في هذه النّشأة الإنسانيّة العنصريّة وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي[ الحجر : 29 ] .
ثمّ وصف نفسه بشدّة الشّوق إلى لقائه فقال للمشتاقين : « يا داود إنّي أشدّ شوقا إليهم » يعني للمشتاقين إليه . وهو لقاء خاصّ .
فإنّه صلى اللّه عليه وسلم قال في حديث الدّجّال إنّ أحدكم لن يرى ربّه حتّى يموت ؛ فل بدّ من الشّوق لمن هذه صفته . (
) قال رضي الله عنه : وإنما حبب إليه صلى اللّه عليه وسلم النساء فحنّ( ، أي شفق واشتاق إليهنّ لأنه ، أي ذلك الحنين )من باب حنين الكل إلى جزئه( ، كحنين النفس إلى نفسه فأبان ، أي أوضح وكشف صلى اللّه عليه وسلم بذلك الحنين المذكور )عن الأمر( الإلهي )في نفسه من جانب الحق( تعالى )في قوله( سبحانه )في( حق )هذه النشأة( ، أي الخلقة )الإنسانية العنصرية(، أي المركبة من العناصر الأربعة ("فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي")[ الحجر : 29 ] فالروح مظهر معلوميته تعالى من نفسه لأنه تعالى عالم ومعلوم ، فمعلومه منه ظهر له بظهور ما يميزه عنه تعالى وهو الروح المنسوب إليه سبحانه كحوّاء عن آدم عليه السلام من قبل آدم ، وحوّاء عليها السلام كالروح الكلي والنفس الكلية والقلم الأعلى واللوح المحفوظ والعرش العظيم والكرسي والطبيعة الكلية والعناصر الأربعة والأركان والمواليد الأربعة .
قال تعالى :"وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"[ الروم : 27 ] فهو تعالى علم نفسه فعلم العالم ، فهو العالم والمعلوم والشاهد والمشهود ، وكل ما عداه تعالى فهو مراتب عدمية تميز بين حضراته سبحانه والأمر في نفسه على ما هو عليه لم يتغير أصلا ، والكلام كله بحسب المراتب لا غير .
قال رضي الله عنه : (ثم وصف) تعالى (نفسه بشدة الشوق إلى لقائه) ، أي لقاء هذا الإنسان المنفوخ فيه من روحه تعالى (فقال) تعالى (للمشتاقين) إليه من عباده الصالحين فيما أوحى إلى داود عليه السلام كما ورد في الخبر عن نبينا صلى اللّه عليه وسلم : " يا داود إني أشد" ، أي أكثر ("شوق إليهم ") .
""أضاف المحقق :
لفظه عند الديلمي : « يقول اللّه عز وجل طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إليهم أشد شوقا » عن أبي الدرداء ""
قال رضي الله عنه : ( يعني للمشتاقين إليه) تعالى من عباده وهو ، أي الشوق المذكور (لقاء) إلهي (خاص) غير اللقاء العام في حصول كل شيء عنده تعالى من غير غيبة أصلا وإن غاب بعض الأشياء عن حضوره مع اللّه تعالى (فإنه) سبحانه لا يغيب عنه شيء فإنه ، أي الشأن أو نبين صلى اللّه عليه وسلم .
(قال في حديث) خروج (الدجال) المشتمل على قصته (إن أحدكم) يا عباد اللّه المؤمنين (لن يرى ربه) تعالى (حتى يموت) بالموت الاضطراري أو الموت الاختياري .
وفي رواية : إنكم ترو ربكم عز وجل حتى تموتوا . أخرجه الطبراني عن أبي أمامة (فلا بد من الشوق) الشديد أيضا من العبد المؤمن (لمن هذه) ، أي صفته الشوق الجديد (صفته) لعبده المؤمن .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فشوق الحقّ لهؤلاء المقرّبين مع كونه يراهم فيحبّ أن يروه ويأبى المقام ذلك . فأشبه قوله :حَتَّى نَعْلَمَ [ محمد : 31 ] مع كونه عالما فهو سبحانه وتعالى يشتاق لهذه الصّفة الخاصّة الّتي لا وجود لها إلّا عند الموت .
فيبلّ بها شوقهم إليه كما قال تعالى في حديث التّردّد وهو من هذا الباب :
« ما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بدّ له من لقائي » فبشّره بلقائه .
وم قال له ولا بدّ له من الموت لئلا يغمّه بذكر الموت . )
قال رضي الله عنه : (فشوق الحق) تعالى أي محبته العظيمة (لهؤلاء المقربين) إلى جنابه الشريف (مع كونه) تعالى (يراهم كما يرى غيرهم) ، من كل شيء واللّه بكل شيء بصير (فيحب) سبحانه (أن يروه) هم أيضا كما يراهم هو (ويأبى) ، أي يمتنع (المقام) في الحياة الدنيا على مقتضى التقدير الإلهي الأزلي (ذلك) ، أي أن يروه فإنهم لا يرونه إلا بعد موتهم اضطرارا واختيارا كما ذكر فأشبه ، أي هذا الشوق منه تعالى لمن يراهم قوله تعالى :"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ" [ محمد : 31 ] (مع كونه تعالى عالما) بذلك .
قال رضي الله عنه : (فهو سبحانه وتعالىيشتاق) إليهم (لهذه الصفة) له تعالى (الخاصة التي) هي محبته سبحانه أن يروه (لا وجود لها) ، أي لهذه الصفة (إلا عند الموت) ، أي موتهم الاضطراري أو الاختياري (فيبلّ) ، أي يبرد من البلل وهو الرطوبة (بها) ، أي بالصفة المذكورة (شوقهم) ، أي العباد (إليه تعالىكما قال) النبي صلى اللّه عليه وسلم (في حديث التردد وهو من هذا الباب) ، أي باب شوقه تعالى إلى عباده المؤمنين (ما ترددت) ، أي فعلت فعل المتردد من التأني في الأمر وعدم الإقدام عليه من كمال اللطف والعناية (في شيء) من الأشياء (أن فاعله) ، أي فاعل ذلك الشيء (مثل ترددي) ، أي لطفي وعنايتي (في قبض) روح (عبدي المؤمن يكره الموت) بنفسه البشرية لأنه يوحشها ويبطل ما هي مستأنسة به من أحوال الدنيا ، ويقطع عليها شهواتها وإن قلبه يحن إلى الموت ، لأنه تحفته كما ورد في الحديث (وأكره) من كمال اللطف والمحبة
قال رضي الله عنه : (مساءته) ، أي حال السوء على العبد المؤمن كما قال سبحانه :اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ[ الشورى : 19 ] ، وهم عباد الاختصاص المضافون إليه تعالى ليخرج عبيد الهوى والدنيا وعبد الدرهم وعبد الدينار وعبد الخميصة وعبد الزوجة ، كما قال تعالى :إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا[ الحج : 38 ] ، أي الكاملين في الإيمان .
قال رضي الله عنه : (ولا بد له) ، أي لذلك العبد المؤمن ("من لقائي" ) . رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه الكبرى.
أي بذلك اللقاء الخاص (بشره بلقائه) ، أي بشر اللّه تعالى عبده المؤمن باللقاء الذي هو مطلوب المحب على كل حال . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من أحب لقاء اللّه لقاءه ومن كره لقاء اللّه كره اللّه تعالى لقاءه ». أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة وعن عبادة بن الصامت ورواه غيرهما .
قال رضي الله عنه : (وما قال) تعالى في الحديث المذكور(له) ، أي لعبده المؤمن (ولا بد له) ، أي لذلك العبد (من الموت لئلا يغمّه) ، أي يدخل عليه الغم (بذكر الموت) ، لأن ذكره مم يغم الإنسان باعتبار طبعه البشري .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولمّا كان لا يلقى الحقّ إلّا بعد الموت كما قال عليه السّلام : « إنّ أحدكم لا يرى ربّه حتّى يموت » لذلك قال تعالى : « ولا بدّ له من لقائي » .
فاشتياق الحقّ لوجود هذه النّسبة .
يحنّ الحبيب إلى رؤيتي .... وإني إليه أشدّ حنينا
وتهفو النّفوس ويأبى القض .... فأشكو الأنين ويشكو الأنين
فلمّ أبان أنّه نفخ فيه من روحه ، فما اشتاق إلّا لنفسه .
أل تراه خلقه على صورته لأنّه من روحه ؟ ).
قال رضي الله عنه : (ولما كان) ، أي العبد المؤمن (لا يلقى الحق) تعالى باللقاء المذكور (إلا بعد) ذوقه (الموت) الاضطراري أو الاختياري (كما قال عليه السلام) في الحديث المذكور ("إن أحدكم") ، أي الواحد منكم ي عباد اللّه المؤمنين (لا يرى ربه حتى يموت) كما ذكرنا .
(لذلك) ، أي لأجل ذلك (قال تعالى ولا بد له) ، أي للعبد المؤمن ("من لقائي ") ، أي رؤيتي وشهودي ومعاينتي على التنزيه العام والتقديس التام (فاشتياق الحق) تعالى لعبده المؤمن قال رضي الله عنه : (لوجود هذه النسبة) التي هي محبة أن يراه عبده المؤمن كما أنه هو يرى عبده المؤمن ومن نظم المصنف قدس اللّه سره في ترجمان أشواقه قوله من أبيات .
قال رضي الله عنه : (يحن) ، أي يشتاق (الحبيب) ، أي المحبوب لي وهو اللّه تعالى من قوله تعالى :"يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"[ المائدة : 54 ] (إلى رؤيتي له) ، أي كوني أراه أو رؤيته لي بي التي هي رؤيته لنفسه (وإني إليه) سبحانه (أشد) ، أي أكثر (حنينا) ، أي شوقا قبل انكشاف الأمر ، لأنه حال المحب من خلق حجاب المحبة فإذا انكشف الأمر وجد العبد المحب شوقه إلى ربه عين شوق الرب إليه فكانت الأشديّة في شوق الرب لا في شوق العبد كما مر في خبر داود عليه السلام يا داود إني أشد شوقا إليهم .
قال رضي الله عنه : (وتهفو) ، أي تميل وتطلب تعجيل اللقاء من شدة الشوق وكثرة المحبة النفوس ، أي نفس المحبوب الحق ونفوس المحبين الذين هم عباده المؤمنون أو بالعكس ، لأنهم حضراته الكمالية ومظاهر تجلياته الجمالية (ويأبى) ، أي يمتنع من ذلك الأمر (القضاء) الأزلي والتقدير الإلهي لأنه تعالى لا تبديل لكلماته (فأشكو الأنين) ، أي كثرة الشوق إلى المحبوب (ويشكو) ، أي المحبوب أيضا (الأنينا) ، أي كثرة الشوق كذلك .
قال رضي الله عنه : (فلما أبان) ، أي أوضح سبحانه (أنه نفخ فيه) ، أي في ذلك الإنسان الذي سوّاه (من روحه) وقد اشتاق إليه أيضا ، (فما اشتاق) تعالى (إلا لنفسه) الظاهرة له في مقدار ما تجلى بفاعليته بصورة عبده المؤمن (ألا تراه) سبحانه كما ورد في الحديث أنه تعالى (خلقه) ، أي خلق آدم الذي هو أوّل هذه النشأة الإنسانية (على صورته) سبحانه (لأنه) ، أي الإنسان منفوخ فيه (من روحه) تعالى فهو معلومه من نفسه ، فهو صورة نفسه في نفسه ، من غير اعتبار الجمود الوهمي ، المقتضي للالتباس في الخلق الجديد .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولمّا كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسمّاة في جسده أخلاطا ، حدث عن نفخه اشتعال بما في جسده من الرّطوبة ، فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته ، ولهذا ما كلّم اللّه موسى إلّ في صورة النّار وجعل حاجته فيها ،
فلو كانت نشأته طبيعيّة لكان روحه نور .
وكنّى عنه بالنّفخ يشير إلى أنّه من نفس الرّحمن ، فإنّه بهذا النّفس الّذي هو النّفخة ظهر عينه ، وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نورا ، فبطن نفس الحقّ فيما كان به الإنسان إنسان .
ثمّ اشتقّ له شخصا على صورته سمّاه امرأة ، فظهرت بصورته فحنّ إليها حنين الشّيء إلى نفسه وحنّت إليه حنين الشّيء إلى وطنه . )
قال رضي الله عنه : (ولما كانت نشأته) ، أي الإنسان من حيث جسمانيته (من هذه الأركان الأربعة) المتولدة في الجسد من مادة الغذاء وهي الدم والصفراء والسوداء والبلغم (المسماة في جسده) ، أي الإنسان (أخلاطا) جمع خلط بكسر الخاء المعجمة (حدث عن نفخه) ، أي الروح فيه (اشتعال بما) ، أي بسبب ما (في جسده) ، أي الإنسان (من الرطوبة) القابلة للتحلل بالحرارة التي فيه .
قال رضي الله عنه : (فكان روح الإنسان) المنفوخ فيه (نارا) باعتبار ذلك وإلا فإن الروح منزهة عن أحكام الطبائع والعناصر لعلوه عن قيود الكيفيات الطبيعية وإن لبست صورة ذلك في نزولها لتدبير الجسد بمقتضياته (لأجل نشأته) ، أي خلقة الجسد (ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك (ما كلم اللّه) تعالى (موسى) عليه السلام إلا بعد ظهوره له (في صورة النار) من حيث تجليه عليه بها ، وهو تعالى على ما هو عليه ، ليعلمه بتجليه في روحه .
كذلك (وجعل) تعالى (حاجته) ، أي موسى عليه السلام (فيها) ، أي في النار لتتوفر دواعيه إلى طلبها ويرغب في تحصيلها فيجد مطلوبه ويواصل محبوبه (فلو كانت نشأته) ، أي الإنسان (طبيعية) كالملائكة عليهم السلام (لكان روحه) المنفوخ فيه نورا مناسبة للطافة نشأته لا نارا مناسبة لكثافته .
قال رضي الله عنه : (وكنى) تعالى (عنه) أي عن الإنسان (بالنفخ) الروحي (يشير) تعالى بذلك (إلى أنه) ، أي الإنسان مخلوق (من نفس) بفتح الفاء (الرحمن) المستوي على العرش أي المتجلي به ، فإنه أي الإنسان (بهذا النفس) بفتح الفاء (الذي هو النفخة ظهر عينه) ، أي الإنسان (وباستعداد) ، أي تهيؤ (المنفوخ فيه) ، وهو الجسد باشتماله على الأخلاط الأربعة كما سبق كان ذلك الاشتعال الحاصل بالنفخ (نارا لا نورافبطن نفس) بفتح الفاء الحق تعالى أي أمره تعالى وظهر خلقه (فيما كان الإنسان به إنسانا) وهو النشأة العنصرية الممتدة من الأخلاط الأربعة المذكورة .
قال رضي الله عنه : (ثم اشتق) تعالى ، أي استخرج (له) ، أي للإنسان منه (شخصا) إنسانيا (على صورته سماه) ، أي ذلك الشخص (امرأة فظهرت) ، أي الامرأة له منه (بصورته) ، أي الإنسان (فحنّ) ذلك الإنسان (إليها) مثل (حنين الشيء إلى نفسه وحنت) هي أيضا (إليه) مثل (حنين الشيء إلى وطنه) الذي تولد فيه وخرج منه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فحبّب إليه النّساء ، فإنّ اللّه أحبّ من خلقه على صورته وأسجد له ملائكته النّوريّين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلوّ نشأتهم الطّبيعيّة. فمن هناك وقعت المناسبة.
والصّورة أعظم مناسبة وأجلّها وأكملها : فإنّها زوج أي شفعت وجود الحقّ ، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرّجل فصيّرته زوج .
فظهرت الثّلاثة : حقّ ورجل وامرأة ؛ فحنّ الرّجل إلى ربّه الّذي هو أصله حنين المرأة إليه . فحبّب إليه ربّه النّساء كما أحبّ اللّه من هو على صورته . )
قال رضي الله عنه : (فحبّب إليه) صلى اللّه عليه وسلم (النساء) لهذا الأمر تخلقا بالصفة الإلهية (فإن اللّه) تعالى (أحب من خلقه على صورته) ، وهو آدم عليه السلام (وأسجد له ملائكته) عليهم السلام (النورانيين) وإن أبى عن السجود له الناري وهو إبليس حرمان له من نيل الكمال بمعرفته المتجلي بأشرف المظاهر بين الجلال والجمال (على عظم قدرهم) ، أي الملائكة المذكورين ورفعة منزلتهم عند اللّه تعالى وعلو نشأتهم ، أي خلقتهم (الطبيعية فمن هناك)
، أي من هذا الشرف الذي جعله اللّه تعالى للإنسان (وقعت المناسبة) بينه تعالى وبين الإنسان مناسبة جعلية ، هي مقتضى الحكم الإلهي ، لا حقيقة المناسبة ، لأنه محال مطلقا (والصورة) الإلهية التي هي مجموع الذات والصفات والأسماء والأفعال والأحكام المخلوق عليها الإنسان بالقضاء والتقدير (أعظم مناسبة) بينهما (وأجلها) ، أي المناسبة (وأكملها) ،
أي أتمها إذ لا فرق بين صورة الرجل وصورة المرأة إلا بالفعل والانفعال ، وآلتهما المعدة لذلك ، كالصورة الآدمية في الإنسان الكامل المخلوق على طبق الحضرات الإلهية والمراتب الربانية قال رضي الله عنه : (فإنها) ، أي تلك الصورة (زوج أي شفعت وجود الحق) تعالى المطلق حيث هي تقديره العدمي الظاهر بجميع حضراته ومراتبه (كما كانت المرأة شفعت بوجودها) وجود (الرجل فصيرته) ، أي الرجل بها (زوجا فظهرت)بسبب ذلك (الثلاثة) :
(حق ورجل وامرأة) أصلهما آدم وحواء عليهما السلام (فحن) ، أي اشتاق (الرجل) ، أي الإنسان الكامل في مرتبتي العلم والعمل
قال رضي الله عنه : (إلى ربه) تعالى (الذي هو أصله) ، لأنه الظاهر عن أمره الكشف والشهود ، لا عن خلقه المحجوب بأستار الحدود مثل (حنين المرأة إليه) ، أي الرجل لظهورها منه وصدورها عنه (فحبب إليه) ، أي إلى ذلك الرجل الذي هو الإنسان الكامل ربه تعالى (النساء كم أحب اللّه) تعالى (من هو على صورته) الذي هو ذلك الإنسان الكامل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما وقع الحبّ إلّا لمن تكوّن عنه ، وقد كان حبه لمن تكوّن منه وهو الحقّ .
فلهذ قال : « حبّب » ولم يقل أحببت من نفسه لتعلّق حبّه بربّه الّذي هو على صورته حتّى في محبّته لامرأته ؛ فإنّه أحبّها بحبّ اللّه إيّاه تخلّقا إلهي .
ولمّ أحبّ الرّجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة الّتي تكون في المحبّة فلم يكن في صورة النّشأة العنصريّة أعظم وصلة من النّكاح ، ولهذا تعمّ الشّهوة أجزاءه كلّها ، ولذلك أمر بالاغتسال منه ، فعمّت الطّهارة كما عمّ الفناء فيها عند حصول الشّهوة . )
قال رضي الله عنه : (فما وقع الحب) من الحق تعالى من الإنسان الكامل (إلا لمن تكوّن) بالتشديد ، أي خلق (عنه) ، فالإنسان الكامل خلق من الحق تعالى والمرأة من الإنسان الكامل فأحب الحق الإنسان الكامل وأحب الإنسان الكامل المرأة .
قال رضي الله عنه : (وقد كان حبه) ، أي الإنسان الكامل (لمن تكوّن) ، أي خلق (منه وهو) ، أي ذلك المتكون منه ، أي من أمره سبحانه (الحق) تعالى (فلهذا) ، أي لما ذكر (قال) صلى اللّه عليه وسلم (حبّب) بالبناء للمفعول (ولم يقل أحببت من نفسه) ، أي بحب ناشىء منها لغرض من أغراضها وهذا هو الفارق بين الحب النفساني والحب الروحاني فإن الأوّل بقصد من النفس والثاني بوضع من الرب ، فيمكن الامتناع من الأوّل في ابتدائه دون الثاني (لتعلق حبه) ، أي محبته صلى اللّه عليه وسلم (بربه الذي هو) صلى اللّه عليه وسلم (على صورته) ، أي الرب سبحانه في كل شيء يحبه (حتى في محبته) عليه السلام (لامرأته فإنه) عليه السلام (أحبها) أي امرأته (بحب) ، أي بسبب محبته (اللّه) تعالى (إياه تخلق إلهيا) في محبته تعالى لمن خلق على صورته كما ذكرنا (ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة) بينه وبينها ،
قال رضي الله عنه : (أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة فلم تكن في صورة النشأة )، أي الخلقة (العنصرية) الجسمانية (أعظم وصلة من النكاح) ، أي الجماع الحاصل بين الرجل والمرأة ؛ (ولهذا) ، أي لكونه أعظم وصلة (تعم الشهوة) في حال النكاح (أجزاءه) ،
أي الرجل وكذا المرأة (كلها) ، أي الأجزاء (ولذلك) ، أي لكون الأمر كما ذكر (أمر) بالبناء للمفعول أي الرجل (بالاغتسال منه) ، أي من النكاح الذي هو غاية الوصلة في المحبة (فعمت الطهارة) من ذلك جميع البدن بالماء الطهور الذي هو أصل الخلقة الآدمية وغيرها (كما عم) جميع البدن أيضا (الفناء) ، أي استغراق الرجل (فيها) ، أي في المرأة (عند حصول الشهوة) حال الجماع .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإنّ الحقّ غيور على عبده أن يعتقد أنّه يلتذّ بغيره . فطهّره بالغسل ليرجع بالنّظر إليه فيمن فني فيه ، إذ لا يكون إلّا ذلك .
فإذ شاهد الرّجل الحقّ في المرأة كان شهودا في منفعل ، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل .
وإذ شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكوّن عنه كان شهوده في منفعل عن الحقّ بل واسطة .
فشهوده للحقّ في المرأة أتمّ وأكمل ، لأنّه يشاهد الحقّ من حيث هو فاعل منفعل ؛ ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصّة . )
قال رضي الله عنه : (فإن الحق) تعالى (غيور) ، أي كثير الغيرة (على عبده) المؤمن أن (يعتقد) في نفسه ذلك العبد المؤمن (أنه يلتذ بغيره) تعالى وإن كان في الواقع لم يلتذ بغيره تعالى (فطهره) ، أي حكم تعالى بما أمره به من الطهارة أنه طاهر (بالغسل) بالماء المطلق وعند فقده بالصعيد الطيب ، لأنه مخلوق من الماء والإنسان مخلوق منهما ففي استعمالهما رجوع إلى أصله وتذكير من نسيانه وجهله (ليرجع) ، أي ذلك العبد (بالنظر إليه) تعالى
قال رضي الله عنه : (فيمن) ، أي في الشخص الذي (فني) ذلك العبد (فيه) فيتحقق به ويكشف عن التباسه عليه بالصورة الظاهرة (إذ لا يكون) في ظهور الحق تعالى للحس (إلا ذلك) الأمر المجهول للعامة المكشوف للخاصة (فإذا شاهد الرجل الحق) تعالى ظاهر متجليا (في) صورة (المرأة) ، لأنه القيوم عليها ، أي الممسك بقدرته لها من غير حلول ولا اتحاد ولا أمر من الأمور الباطلة التي يتوهمها القاصرون الناقصون عن معارف الكاملين المحققين (كان شهوده) ، أي ذلك الرجل للحق تعالى (في) مظهر للحق تعالى (منفعل) عن ذلك الرجل لأن المرأة مخلوقة من الرجل (وإذا شاهده) ، أي ذلك الرجل الحق تعالى (في نفسه) ، أي نفس ذلك الرجل (من حيث ظهور المرأة عنه) ، أي عن ذلك الرجل ، لأنها مخلوقة منه (شاهده) ، أي شاهد الحق تعالى (في) مظهر الحق تعالى (فاعل) لتلك المرأة لخلقها منه .
قال رضي الله عنه : (وإذا شاهده) ، أي ذلك الرجل للحق تعالى (من نفسه) ، أي نفس ذلك الرجل (من غير استحضار صورة ما) ، أي الشخص الذي (تكوّن) بالتشديد ، أي خلق (عنه) ، أي عن ذلك الرجل وهي المرأة (كان شهوده) ، أي شهود ذلك الرجل للحق تعالى (في) مظهر (منفعل عن الحق) تعالى (بلا واسطة) ، وهي نفسه (فشهوده) ، أي الرجل (للحق) تعالى (في المرأة) المنفعلة عنه (أتم وأكمل) من الشهودين الآخرين.
قال رضي الله عنه : (لأنه) ، أي الرجل حينئذ (يشاهد الحق) تعالى (من حيث هو) تعالى (فاعل) بصورة نفس ذلك الرجل لصورة المرأة (منفعل) بصورة المرأة فيكون هذا الشهود جامعا لشهود كونه فاعلا فقط في الأول ومنفعلا فقط في الثالث فهو نظير شهود الحق تعالى للإنسان الكامل المنفعل عنه سبحانه ، فإنه يشهد تعالى فيه نفسه من حيث هو فاعل منفعل (و) شهوده للحق تعالى (من نفسه) بلا امرأة فشهوده (من حيث هو منفعل) عنه تعالى (خاصة) كما أن شهوده للحق تعالى من حيث صدور المرأة عنه شهوده من حيث هو فاعل فقط كما سبق وفيهما القصور في الشهود .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلهذ أحبّ صلى اللّه عليه وسلم النّساء لكمال شهود الحقّ فيهنّ ، إذ لا يشاهد الحقّ مجرّدا عن الموادّ أبدا . فإنّ اللّه بالذّات غنيّ عن العالمين .
فإذ كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ، ولم تكن الشّهادة إلّا في مادّة ، فشهود الحقّ في النّساء أعظم الشّهود وأكمله . )
قال رضي الله عنه : (فلهذا) السبب (أحبّ صلى اللّه عليه وسلم النساء لكمال شهوده) عليه السلام (الحق) تعالى (فيهنّ) ، أي في النساء (إذ لا يشاهد) بالبناء للمفعول (الحق) تعالى (مجرد عن المواد) ، أي المظاهر الحسية أو المعنوية (أبدا) فإنه تعالى لكمال إطلاقه الحقيقي لا ينضبط في العقل والحس منه شيء أصلا فإذا انضبط كان ذلك مادة عقلية أو حسية فهي مظهر لتجليه تعالى ، غير ذلك لا يكون أصلا في الدنيا والآخرة . ولهذا ورد في حديث مسلم : « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر » . رواه الترمذي في سننه ، ورواه الدارقطني ورواه غيرهم .
وفي رواية : « كما ترون الشمس ». رواية الدارقطني .
وهو تشبيه للمادة التي يكون بها التجلي ، وكذلك حديث التحول في الصور لأهل المحشر .
فهو ظهور في مادة ، أرأيت بأن هذه الرؤية الأخروية الواردة ثبوتها في الكتاب والسنة مقرونة باسم الرب تعالى دون غيره من الأسماء .
قال تعالى :" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ( 22 ) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ( 23 )" [ القيامة : 22 - 23 ] ،
وقال موسى عليه السلام في الدني : " رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ"[ الأعراف : 143 ] ،
وقال تعالى في الكافرين : " كَلَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ"( 15 ) [ المطفّفين : 15].
وقال عليه السلام : « إنكم سترون ربكم » . واسم الرب من أسماء الإضافة فلا بد فيه من مربوب .
ففي حالة الرؤية يكون الحق تعالى ظاهرا بصفة ربوبيته شيء فذلك الشيء هو مادة ظهوره تعالى وأثر تجليه فتقع رؤية الحق تعالى فيه غير أن المظاهر مختلفة ولا أتم وأكمل مما ورد عن الشارع صلى اللّه عليه وسلم فإنه ورد عنه حديث : " حبب إليّ من دنياكم ثلاث " المذكور هنا وحديث : « رأيت ربي في صورة شاب أمرد » .
وكان يأتي إليه جبريل عليه السلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي وهو من أحسن أهل زمانه ، فمظاهر الحسن أكمل في الشهود من جميع المواد .
قال رضي الله عنه : (فإن اللّه) تعالى (بالذات) ، أي من حيث هو بلا مظهر يكون أثرا من آثار أسمائه تعالى يتجلى به لعباده العارفين (غني عن العالمين) فلا ظهور له من هذا الوجه الذاتي من حيث ما هو عليه في نفسه للعالمين أصلا ولا يعرفه أحد من هذا الوجه لإفنائه كل شيء فلا عارف ولا معروف ، وهذا الكشف أوّل مقامات السالكين وهو آخرها وفيه قال صلى اللّه عليه وسلم : " كان اللّه ولا شيء معه وهو الآن على ما هو عليه ".
فإذا كان ظهور الأمر الإلهي من هذا الوجه الذاتي من غير مادة تكون مظهرا للحق تعالى عند العبد العارف به تعالى ممتنعا بحيث لا مطمع في ذلك أصلا لاقتضائه مساواة الرتب العدمية الاعتبارية للذات الوجودية .
قال تعالى :قُلْ جاءَ الْحَقُّ[ سبأ : 49 ] ، أي اتصف الصرف المطلق بتحققه لذاته من غير حدوث اتصاف له وزهق الباطل ، وهو مراتبه العدمية الاعتبارية الأزلية الأسمائية والإمكانية ، وهو الفناء في الوجود والاضمحلال في الشهود أن الباطل المذكور كان زهوقا ، وهذا معنى كونه زهق ، أي ظهر أنه زهوق من قبل ولا قبل ولا ظهور ولا بطون بل "هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ"[ ص:67] هم فيه مختلفون "كَلَّ سَيَعْلَمُونَ ( 4 ) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ( 5 )"[ النبأ : 4 - 5 ] .
قال رضي الله عنه : (ولم تكن الشهادة) والكشف عن الحق تعالى (إلافي مادة) كونية يتجلى بها للسالك (فشهود الحق) تعالى (في) مادة (النساء) وخصوص صورهنّ الجميلة (أعظم الشهود وأكمله) عند العارف المحقق .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأعظم الوصلة النّكاح وهو نظير التّوجّه الإلهيّ على من خلقه على صورته ليخلفه فيرى فيه صورته بل نفسه فسوّاه وعدله ونفخ فيه من روحه الّذي هو نفسه ، فظاهره خلق وباطنه حقّ .
ولهذ وصفه بالتّدبير لهذا الهيكل ، فإنّه تعالى :يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِوهو العلوّ ،إِلَى الْأَرْضِ[ السجدة : 5 ] وهو أسفل السّافلين ، لأنّها أسفل الأركان كلّها )
.
قال رضي الله عنه : (وأعظم الوصلة) في هذ الشهود المقتضي للمحبة (النكاح ).
قال تعالى : " فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ" [ النساء :3]. أي ما أوجب لكم الكشف الإلهي ، لأن اللذة حينئذ روحانية جسمانية ، ثم قال تعالى :"مَثْنى" وهو الظهور الغيب في الشهادة والعالم الروحاني في الجسماني ("وَثُلاثَ") وهو توسط العالم البرزخي النفساني" وَرُباعَ"[ النساء : 2 ] ، وهو استجلاء برق الوجود الذاتي بالمحو والإثبات .
قال رضي الله عنه : (وهو) ، أي النكاح في عالم الكون (نظير التوجه) الإلهي (الإرادي) في عالم العين الأزلية الإلهية (على) إيجاد (من خلقه) تعالى (على صورته) ، وهو الإنسان الكامل (ليخلفه) ، أي يخلف الحق تعالى في الأرض النفسانية (فيرى) الحق تعالى (فيه) ، أي في ذلك الخليفة (نفسه) سبحانه في مادة كونية (فسوّاه) ، أي جعله خلقا سويا وضعيفا قويا (وعدله) ، أي جعله معتدلا لتساوي أوصافه بجمعه بين الأضداد ، فهو موجود معدوم قديم حادث قادر عاجز حي ميت مريد مقهور سميع بصير أعمى متكلم أخرس .
وهكذا في إحصائه لجميع الأسماء الحسنى الإلهية (ونفخ فيه من روحه) تعالى (الذي هو) ، أي ذلك الروح (نفسه) ، بفتح الفاء أي نفس الحق تعالى . والنفخ هو اقتران صفاته تعالى القديمة الكاملة بصفات العبد الحادثة الناقصة (فظاهره) ، أي الإنسان الكامل (خلق) ، أي عدم وحدوث وعجز وموت وقهر وصمم وعمى وخرس ونحو ذلك (وباطنه) ، أي الإنسان الكامل (حق) ، أي وجود وقدم وقدرة وحياة وإرادة وسمع وبصر وكلام وغير ذلك .
قال رضي الله عنه : (ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك (وصفه) ، أي وصف اللّه تعالى الإنسان الكامل على حسب الظاهر (بالتدبير لهذا الهيكل) ، أي جسده في أمر معاشه ومعاده فقال تعالى :"وَكُلُوا وَاشْرَبُوا" [ الأعراف : 31 ] ،
وقال :" وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" [ البقرة : 195 ] ، وقال :" وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ م قَدَّمَتْ لِغَدٍ"[ الحشر : 18 ] ، إلى غير ذلك مما هو مطلوب من هذ الإنسان على وجه تدبيره لنفسه في أمور الدنيا وأمور الآخرة فإنه تعالى يدبر الأمر ،
كما قال سبحانه من السماء وهو العلو مما غاب عن الإنسان ولم يدخل تحت تصريفه كأحوال التقدير الأزلي الجاري عليه بمراد اللّه تعالى في كل حال من أحواله إلى الأرض وهو أسفل سافلين موضع النفوس ودواعيها والغفلة والحجاب لأنها ، أي الأرض أسفل الأركان الأربعة النار والهواء والماء والأرض كلها فلا أسفل من الأرض ، فلهذ ذكرت هنا ، فالمدبر في الكل هو اللّه تعالى بصور الأسباب السماوية والأرضية ،"فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً( 5 ) "[ النّازعات : 5 ] هي الأسباب السماوية والأرضية باللّه تعالى أيضا ، وهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ثم لما تمّم مقام الجمع في هذه الآية أشار إلى مقام الفرق بقوله : وهو أي اللّه تعالى "بِكُلِّ شَيْءٍ" وهو العالم "عَلِيمٌ"[ البقرة : 29 ] وهو عالم صفاته وأسمائه ، فالقضية جمع وفرق ، لا بد من ذلك للمريد السالك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وسمّاهنّ بالنّساء وهو جمع لا واحد له من لفظه ، ولذلك قال عليه السّلام : "حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النّساء " ولم يقل المرأة .
فراعى تأخّرهنّ في الوجود عنه ، فإنّ النّسأة هي التّأخير قال تعالى :إِنَّمَ النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ[ التوبة : 37 ] والبيع بنسيئة يقول بتأخير . فلذلك ذكر النّساء .
فم أحبّهنّ إلّا بالمرتبة وأنّهنّ محلّ الانفعال . فهنّ له كالطّبيعة للحقّ الّتي فتح فيها صور العالم بالتّوجه الإرادي والأمر الإلهيّ الّذي هو نكاح في عالم الصّور العنصريّة ، وهمّة في عالم الأرواح النّوريّة ، وترتيب مقدّمات في المعاني للإنتاج . وكلّ ذلك نكاح الفرديّة الأولى في كلّ وجه من هذه الوجوه . )
قال رضي الله عنه : (وسماهنّ) تعالى (بالنساء وهو) ، أي لفظ النساء (جمع لا واحد له من لفظه) إشارة إلى عدم اختلافهن في المظهرية الانفعالية وإلى تساويهن في نقصان الدرجة عن لفظ الرجال ، الذي هو جمع وله واحد من لفظه ، فيقال رجل (ولذلك) ، أي لعدم الواحد من لفظ النساء (قال النبي) عليه السلام (حبب إليّ من دنياكم ثلاث :النساء) .
(ولم يقل) عليه السلام (المرأةلأنه ) ليس واحد من لفظ النساء فيفوت ما يفهم من لفظ النساء .
قال رضي الله عنه : (فراعى) صلى اللّه عليه وسلم بذكر النساء (تأخرهنّ في الوجود عنه) ، أي عن الرجل ، كما ورد : « أخروهن من حيث أخرهنّ اللّه » . رواه عبد الرزاق في المصنف والطبراني في المعجم الكبير ، عن عبد اللّه بن مسعود .
قال رضي الله عنه : (فإن النساء) في اللغة (هي التأخير قال اللّه تعالى إنما النسيء ) فعيل والنساء بالفتح والمد .
والنّسء بفتح وسكون ، والنّسأ بفتحتين مصدر نسأه إذا أخره ، وكان الجاهلية يؤخرون حرمة الشهر إلى شهر آخر ، حتى كانوا إذا جاء شهر حرام وهم يتحاربون أحلوه وحرموا مكانه شهر آخر ، حتى رفضوا خصوص الشهر واعتبروا مجرد العدد زيادة في الكفر ، لأنه تحريم ما أحله اللّه تعالى وتحليل ما حرمه اللّه تعالى ، فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم والبيع بنسيئة يقول قائل ذلك في بيانه أي بتأخير وتأجيل لثمنه .
فلذلك أي لأجله ذكر صلى اللّه عليه وسلم النساء في حديثه فما أحبهنّ ، أي النساء إل بالمرتبة ، أي بسببها وهي كونهن تحت الرجال ، وللرجال عليهن درجة وأنهن ، أي النساء محل الانفعال ، أي قبول الفعل أو التأثر فهن ، أي النساء له ،
أي للنبي صلى اللّه عليه وسلم وكذلك لكل إنسان كامل (كالطبيعة) الكلية (للحق) تعالى ، أي لنزول أمره التي نعت للطبيعة (فتح) ، أي الحق تعالى (فيها) ، أي في الطبيعة (صور العالم) ،
أي المخلوقات كلها عاليها وسافلها محسوسها ومعقولها وموهومها (بالتوجه الإرادي) من الأزل
قال رضي الله عنه : (والأمر الإلهي) الواحد (الذي هو نكاح في عالم الصور العنصرية) الحيوانية والإنسانية إن علم وإن لم يعلم (وهمة في عالم الأرواح النورية) منبعثة على التدبير أو التسخير في الملائكة والكاملين من البشر (وترتيب مقدمات) عقلية وقياسات يقينية (في) عالم (المعاني للإنتاج) ، أي استنباط العلوم الفكرية عند أهلها وكل ذلك المذكور بأنواعه الثلاثة (نكاح) الحضرة (الفردية الأولى) من مقام الروح الأعظم الكلي وهو روح اللّه تعالى الذي ملأ الوجود بأنواع الجود بل بنفسه في أشكال مختلفة كما ورد في الحديث :" إن للّه ملكا يملأ ثلث الكون ، وملكا يملأ ثلثيه وملكا يملأ الكون كله ". أورده المناوي في فيض القدير
(في كل وجه من هذه الوجوه) المذكورة كلياتها وجزئياته .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن أحبّ النّساء على هذا الحدّ فهو حبّ إلهيّ ، ومن أحبّهنّ على جهة الشّهوة الطّبيعيّة خاصّة نقصه علم هذه الشّهوة ، فكان صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصّورة في نفس الأمر ذات روح ولكنّها غير مشهودة .
لمن جاء امرأته أو أنثى حيث كانت لمجرّد الإلتذاذ ولكن لا يدري لمن فجهل من نفسه م يجهل الغير منه ما لم يسمّه هو بلسانه حتّى يعلم كما قال بعضهم :
صحّ عند النّاس أنّي عاشق .... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن
كذلك هذا أحبّ الالتذاذ فأحبّ المحلّ الّذي يكون فيه وهو المرأة ولكن غاب عنه روح المسألة ، فلو علمها لعلم بمن التذّ ومن التذّ . وكان كامل . )
فمن أحب النساء على هذا الحد المذكور فهو إنسان كامل وحبه حب إلهي ظاهر فيه له ومنه للنساء ، (ومن أحبهنّ) ، أي النساء (على جهة الشوق الطبيعية خاصة) ، أي من غير انضمام معرفة إلهية كشفية إلى ذلك (نقصه) في نفسه (علم هذه الشهوة) التي يجدها فكان منه صورة نكاح (بل روح )، أي أمر إلهي (عنده) ، أي في وجدانه وإن كانت تلك الصورة النكاحية في نفس الأمر من حيث لا يشعر هو بها (ذات روح )، أي أمر إلهي ، وكذلك عند كل ما في الوجود من محسوس ومعقول وموهوم ولكنها ، أي تلك الصور النكاحية (غير مشهودة) ذوقا وكشفا لمن جاء ، أي جامع امرأته أو أنثى غيرها كأمته حيث كانت ، أي تلك الأنثى مرادة عنده لمجرد الالتذاذ بنكاحها (ولكن لا يدري) ، أي ذلك المجامع للمرأة لمن كان ميله وحبه في ذلك الحال
قال رضي الله عنه : (فجهل من نفسه) ، قبل أن يجهل من المرأة حيث لم يعرف نفسه ليعرف المتجلى عليه بها ، فيعرف المتجلي بالمرأة (ما) ، أي الأمر الذي (يجهل) ، أي يجهله (الغير منه) ، إذا رآه ولم يكن من العارفين ، فإن العارف يعرف من الجاهل ما لا يعرفه الجاهل من نفسه ، والجاهل يجهل من العارف ما يجهله الجاهل من نفسه (ما لم يسمه) ، أي ذلك الأمر (هو) ، أي الجاهل (بلسانه حتى يعلم) ذلك الغير منه م جهله كما (قال بعضهم) ، أي بعض الشعراء من هذا المعنى المذكور .
قال رضي الله عنه : (صح) ، أي ثبت وتحقق (عند الناس أني عاشق) لمحبوب لما وجدوا من المحبة والتولع (غير أنهم لم يعرفوا) ، أي الناس (عشقي لمن) ، أي لأي محبوب هو (كذلك هذا) ، أي المجامع للمرأة (أحب) مجرد (الالتذاذ) بالمرأة (فأحب المحل الذي يكون فيه) ذلك الالتذاذ
قال رضي الله عنه : (وهو المرأة ولكن غاب عنه) فجهل (روح المسألة) النكاحية الصادرة منه لغلبة حيوانيته على إنسانيته ، فشارك البهائم في انهماكه في الشهوات وحرمانه علوم الأسرار الإلهية والمعارف الربانية (فلو علمها) ، أي روح المسألة لعلم في نفسه ذوقا إلهيا وكشفا ربانيا بمن التذ وكانت المرأة مظهرا للسر المكتوم (و) العالم المعلوم وعلم أيضا (من التذ) بذلك منه .
قال تعالى :" أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ" [ الرعد : 33 ]. وكان إنسان كاملا لا حيوانا حامل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكما نزلت المرأة عن درجة الرّجل بقوله :وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [ البقرة : 228 ] نزل المخلوق على الصّورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته .
فبتلك الدّرجة الّتي تميّز بها عنه ، بها كان غنيّا عن العالمين وفاعلا أوّلا ، فإنّ الصّورة فاعل ثان .
فم له الأوّليّة الّتي للحقّ . فتميّزت الأعيان بالمراتب : فأعطى كلّ ذي حقّ حقّه كلّ عارف .
فلهذ كان حبّ النّساء لمحمّد صلى اللّه عليه وسلم عن تحبّب إلهيّ وأنّ اللّه تعالى :أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [ طه : 50 ] وهو عين حقّه .
فم أعطاه إلّا باستحقاق استحقّه بمسمّاه ؛ أي بذات ذلك المستحقّ . )
قال رضي الله عنه : (وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل) في أصل الخلقة بقوله تعالى ":وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ" [ البقرة : 228 ] ، أي على النساء (درجة) ، وهي رتبة الذكورة الفاعلة في رتبة الأنوثة المنفعلة له (نزل) الإنسان الكامل (المخلوق على الصورة) الإلهية (عن درجة) ، أي رتبة (من أنشأه على صورته) وهو الحق تعالى لأن له رتبة الفاعلية وللإنسان رتبة المفعولية (مع كونه) ، أي الإنسان (على صورته) تعالى كما ورد في الحديث السابق ذكره .
قال رضي الله عنه : (فتلك الدرجة التي تميز) ، أي الحق تعالى (بها) ، أي بتلك الدرجة (عنه) ، أي عن الإنسان الكامل بها ، أي بسببها كان ، أي الحق تعالى (غنيا عن) جميع (العالمين) من حيث ذاته ، فلا افتقار فيه إلى شيء أصلا (و) كان الحق تعالى أيضا (فاعل أولا) ، أي في الرتبة الفاعلية الأولى الحقيقة من حيث أسماؤه (فإن الصورة) الإنسانية الكاملة فاعل ثان بالنظر إلى المراتب فما له ، أي للإنسان الكامل رتبة الفاعلية (الأوّلية التي) هي (للحق) تعالى وإن كان له رتبة الفاعلية الثانية المجازية.
قال رضي الله عنه : (فتميزت الأعيان) كله الكونية مع العين الإلهية (بالمراتب) الاعتبارية التقديرية ، والعين المطلقة الوجودية السارية في الكل قام بها الكل واتصفت بالكل وهي واحدة غنية عن العالمين (فأعطى كل ذي حق) من رب أو عبد (حقه) الواجب له (كل عارف) ، أي إنسان كامل لانفعاله عما هو فوقه في الدرجة وفعله لما هو تحته في الدرجة .
قال تعالى :"أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ" وهو أعم" ثُمَّ هَدى"[ طه: 50 ] وهو أخص فهو الإنسان الكامل والعالم المتحقق العامل (فلهذا كان حب النساء لمحمد صلى اللّه عليه وسلم) حاصلا فيه
قال رضي الله عنه : (عن تحبّب إلهي) لا غرض نفساني، وكذلك الحال في كل وارث محمدي كامل إلى يوم القيامة .
قال تعالى :"قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَم أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"( 108 ) [ يوسف : 108 ] .
تقديره : ومن اتبعني أيضا ليس من المشركين . ولم يصرح به لوجود الاتحاد في البصيرة الواحدة التي هم عليها بواسطة الاتباع ، فإنها مقتضية لذلك أيضا ، ولهذا نقل عن الإمام الشافعي رحمه اللّه تعالى : أنه كان يختار في الإيمان أن يقول : آمنت باللّه وبما جاء عن اللّه على مراد اللّه ، وآمنت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على مراد رسول اللّه ، ليلتحق باتحاد البصيرة واستكمال البريرة (وأن اللّه) تعالى: ("أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ")[ طه : 50 ] .
كما ورد في الآية المذكورة قريبا في كلامنا (وهو) ، أي الخلق الذي أعطاه تعالى كل شيء (عين حقه) ، أي حق ذلك الشيء ، ولكن لا يقال فيه تعالى أن الشيء عليه حقا ويقال خلق وفي غيره تعالى يقال ذلك (فما أعطاه) ، أي اللّه تعالى للشيء (إل باستحقاق استحقه) ذلك الشيء (بمسمّاه أي بذات ذلك المستحق) ، يعني بم اقتضته ذاته من الاستحقاق للوجود من حيث افتقاره إليه أزل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإنم قدّم النساء لأنّهنّ محلّ الانفعال ، كما تقدّمت الطبيعة على من وجد منها بالصّورة .
وليست الطّبيعة على الحقيقة إلّا النّفس الرّحمانيّ ، فإنّه فيه انفتحت صور العالم أعلاه وأسفله لسريان النّفخة في الجوهر الهيولانيّ في عالم الأجرام خاصّة .
وأمّ سريانها لوجود الأرواح النّوريّة والأعراض فذلك سريان آخر . )
قال رضي الله عنه : (وإنما قدم) صلى اللّه عليه وسلم (النساء) على بقية الثلاث التي حببت إليه (لأنهن) ، أي النساء
قال رضي الله عنه : (محل الانفعال) عن الرجال (كم تقدمت الطبيعة) الكلية التي هي محل الانفعال عن الأمر الإلهي (على من وجد منها) ، أي من الطبيعة (بالصورة) الزائدة عليها في كل ما وجد (وليست الطبيعة) المذكورة (على الحقيقة إلا النّفس) بفتح الفاء (الرحماني) ، أي المنسوب إلى الرحمن كما ورد به الحديث المذكور فيما سبق (فإنه) ، أي النفس الرحماني (فيه انفتحت) من طي عدمها صور العالم كله أعلاه وأسفله لسريان النفخة الروحية الإلهية في الجوهر الهيولاني العنصري المنقسم إلى أربعة أقسام وهي الأركان الأربعة التي هي مادة في عالم الأجرام كلها خاصة فيسمى ذلك السريان روحا جماديا ونباتيا وحيوانيا وإنساني .
قال رضي الله عنه : (وأما سريانها) ، أي النفخة المذكورة في عالم الطبيعة (لوجود الأرواح النورية الملكيةو) لوجود (الأعراض) بالعين المهملة والضاد المعجمة جمع عرض بفتحتين ، وهي الصفات المتنقلة بالحوادث كالألوان والطعوم والروائح والأضواء والظلم ، ونحو ذلك مما هو من تدبيرات الأرواح النورية العلوية في العوالم السفلية .
(فذلك) السريان المذكور (سريان آخر) مرتب على الأوّل ومنفتح معه من النفس الرحماني وبه تم التدبير وكمل التسخير .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ إنّه صلى اللّه عليه وسلم غلّب في هذا الخبر التّأنيث على التّذكير لأنّه قصد التّهمّم بالنّساء فقال : « ثلاث » ولم يقل « ثلاثة » بالهاء الّذي هو لعدد الذّكران ، إذ همّه فيه .
ذكر الطّيب وهو مذكّر . وعادة العرب أن تغلّب التّذكير على التأنيث فتقول « الفواطم وزيد خرجوا » ولا تقول خرجن . فغلّبوا التّذكير - وإن كان واحدا - على التّأنيث وإن كنّ جماعة ؛ وهو عربيّ صلى اللّه عليه وسلم فراعى المعنى الّذي قصد به في التّحبّب ما لم يكن يؤثر حبّه.)
قال رضي الله عنه : (ثم إنه) ، أي النبي (عليه السلام غلّب) بالتشديد (في هذا الخبر) ، أي الحديث المذكور (التأنيث على التذكير) في إشارة العدد (لأنه) عليه السلام (قصد التهمّم) ، أي الاعتناء (بالنساء فقال) في التغليب المذكور (ثلاث) من غير هاء لإرادة المعدود المؤنث (ولم يقل ثلاثة بالهاء الذي هو لعدد الذكران) بعكس القاعدة (وفيها) ، أي الثلاث (ذكر الطيب وهو مذكر وعادة العرب أن تغلب التذكير على التأنيث) في الكلام (فتقول الفواطم) جمع فاطمة اسم امرأة (وزيد خرجوا) بتغليب المذكر وإن كان واحدا وهو زيد فتأتي بواو جماعة المذكر كما تقول الرجال خرجو
) قال رضي الله عنه : ولا تقول( الفواطم وزيد )خرجن( بتغليب المؤنث على المذكر كما تقول النسوة خرجن فغلبوا ، أي العرب التذكير وإن كان واحدا على التأنيث وإن كن جماعة وهو ، أي هذا القول عربي فصيح فراعى ، أي اعتبر (صلى اللّه عليه وسلم المعنى الذي قصد) بالبناء للمفعول ، أي قصده للّه تعالى يعني أراده عليه السلام )به( ، أي بذلك المعنى )في(ذكر )التحبيب( ، أي تحبيب اللّه تعالى إليه صلى اللّه عليه وسلم في قوله : حبب إلي ما ، أي الأمر الذي لم يكن صلى اللّه عليه وسلم يؤثر ، أي يقدم ويختار حبّه على غيره من قبل نفسه باعتبار غرضها أصلا وذلك المعنى هو ما تقدم من شهود الحق تعالى في المرأة من حيث هو فاعل منفعل مما هو أكمل ما يكون .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فعلّمه اللّه م لم يكن يعلم وكان فضل اللّه عليه عظيم . فغلّب التّأنيث على التّذكير بقوله : « ثلاث » بغير هاء فما أعلمه صلى اللّه عليه وسلم بالحقائق ، وما أشدّ رعايته للحقوق !
ثمّ إنّه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التّأنيث وأدرج بينهما التّذكير ، فبدأ بالنّساء وختم بالصّلاة وكلتاهما تأنيث ، والطّيب بينهما كهو في وجوده ، فإنّ الرّجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه ، فهو بين مؤنّثين : تأنيث ذات ، وتأنيث حقيقيّ .
كذلك النّساء تأنيث حقيقيّ والصّلاة تأنيث غير حقيقيّ والطّيب مذكّر بينهما كآدم بين الذّات الموجود هو عنها وبين حواء الموجودة عنه ، وإن شئت قلت الصّفة فمؤنثة أيض ، وإن شئت قلت القدرة فمؤنّثة أيضا ، فكن على أيّ مذهب شئت ، فإنك لا تجد إلّ التّأنيث يتقدّم حتّى عند أصحاب العلّة الّذين جعلوا الحقّ علّة في وجود العالم والعلّة مؤنّثة . )
قال رضي الله عنه : (فعلمه) صلى (اللّه) عليه وسلم اللّه تعالى (ما لم يكن يعلم) من الأسرار والعلوم (وكان فضل اللّه) ، أي إكرامه وإنعامه وإحسانه عليه صلى اللّه (عليه) وسلم (عظيما) كما قال له تعالى في القرآن وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً[ النساء : 113 ] قال رضي الله عنه : (فغلّب) إشارة (التأنيث) في العدد (على) إشارة (التذكير فيه بقوله : ثلاث بغير هاء) لما علمه اللّه تعالى من السر العظيم والنبأ الجسيم (فم أعلمه) ، أي أكثر علمه (صلى اللّه عليه وسلم بالحقائق الإلهية وم أشد رعايته للحقوق) الربانية ثم إنه صلى اللّه عليه وسلم (جعل الخاتمة )، أي آخر الثلاث في الذكر وهي الصلاة (نظيرة الأولى) ، أي النساء (في التأنيث وأدرج بينهما) ، أي بين الأولى والأخيرة التذكير بذكر الطيب (فبدأ) صلى اللّه عليه وسلم (بالنساء وختم بالصلاة وكلتاهم تأنيث) ، كما هو الظاهر (والطيب بينهما) ، أي بين النساء والصلاة
قال رضي الله عنه : (كهو) ، أي كالنبي صلى اللّه عليه وسلم من حيث هو إنسان كامل (في وجوده) وأما بيانه .
قال رضي الله عنه : (فإن الرجل مندرج) ، أي واقع في الوسط بين ذات الإلهية (ظهر هو) ، أي ذلك الرجل (عنها) ، أي عن تلك الذات باعتبار أوصافها وأسمائها (وبين امرأة ظهرت) تلك المرأة (عنه) أي عن ذلك الرجل يعني عن سببية وبواسطة (فهو) ، أي الرجل مدرج بين مؤنثين تأنيث لفظ ذات وهو مجازي (وتأنيث حقيقي كذلك النساء) الواقع في الحديث (تأنيث حقيقي) لأنهنّ ذوات فروج والصلاة تأنيث غير حقيقي) .
وإن كان بالتاء فإن التأنيث الحقيقي ما له فرج كالأنثى (والطيب مذكر بينهما ، أي بين المؤنثين.
قال رضي الله عنه : (كآدم) عليه السلام (بين الذات) الإلهية (الموجود هو) ، أي آدم عليه السلام (عنه وبينحوّاء الموجودة) هي (عنه وإن شئت قلت) عوض الذات الموجود آدم عليه السلام عنها (الصفة) الإلهية التي توجهت على إيجاده (فمؤنثه أيضا) بالتاء (وإن شئت قلت القدرة) أيضا (فمؤنثة أيضافكن ).
يا أيه السالك فيما وجد عنه آدم عليه السلام (على أي مذهب شئت) من مذاهب الناس ، أي اعتبر ذلك (فإنك لا تجد إلا التأنيث) في ذلك (يتقدم) لك (حتى عند أصحاب العلة) وهم حكماء الفلاسفة (الذين جعلوا الحق) تعالى (علة في وجود العالم) ، أي صدور المخلوقات عنه ، وسموه عندهم علة العلل والعلة مؤنثة في اللفظ أيض .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا حكمة الطّيب وجعله بعد النّساء فلما في النّساء من روائح التّكوين ، فإنّه أطيب الطّيب عناق الحبيب . كذا قالوا في المثل السائر .
ولمّ خلق عبدا بالأصالة لم يرفع رأسه قطّ إلى السّيادة ، بل لم يزل ساجدا واقفا مع كونه منفعلا حتّى كوّن اللّه عنه ما كوّن . فأعطاه رتبة الفاعليّة في عالم الأنفاس الّتي هي الأعراف الطّيّبة . فحبّب إليه الطّيب : فلذلك جعله بعد النّساء . )
قال رضي الله عنه : (وأما حكمة) ذكر (الطيب وجعله بعد) ذكر (النساء فلما في النساء من روائح التكوين) ، أي الإيجاد الإلهي للمخلوقات (فإنه) ، أي الشأن (أطيب الطيب) ، أي ما يكون منه (عناق) ، أي التزام (الحبيب) خصوصا الحبيب الحقيقي (كذا قالوا في المثل) بفتحتين (السائر) بين الناس لمعنى العام (ولما خلق) نبيا صلى اللّه عليه وسلم (عبدا) خالصا للّه تعالى (بالأصالة) ، أي الاستقلال دون التبعية لشيء من الدنيا والآخرة أي لاعتبار احتياجه إلى اللّه تعالى في أمر من الأمور مطلق .
قال تعالى : وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) سورة الجن .
فسماه عبدا للاسم الذاتي الجامع (لم يرفع رأسه) صلى اللّه عليه وسلم (قط) ، أي لم يلتفت ولم يرغب (إلى) شائبة من (السيادة) فعبوديته للّه تعالى محضة (بل لم يزل) عليه السلام (ساجدا) بين يدي اللّه تعالى كما قال تعالى :وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ( 219 ) [ الشعراء : 219 ] .
قال رضي الله عنه : (واقفا) في خدمة مولاه كما قام من الليل حتى تورمت قدماه فأنزل اللّه تعالى عليه :" طه ( 1 ) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ( 2 ) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى( 3 )"[ طه : 1 - 3 ] ،
أي إلا أن تذكر بالقرآن تذكرة لكل من يخشى اللّه تعالى من الناس (من كونه) صلى اللّه عليه وسلم (منفعلا) أي مخلوقا عن قدرة اللّه تعالى (حتى كوّن) بالتشديد أي خلق (اللّه) تعالى (عنه) صلى اللّه عليه وسلم ما كوّن ، أي خلق من نسائه عليه السلام كما أشار إليه صلى اللّه عليه وسلم بقوله : « استوصو بالنساء خيرا ، فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا » . رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة .
(فأعطاه) اللّه تعالى لنبينا عليه السلام (رتبة الفاعلية في عالم الأنفاس) ، وهو الخلق الجديد المتكرر مع اللمحات من غير التباس ، كما أعطى تعالى ذلك لمن هو دونه عليه السلام آصف بن برخيا وزير سليمان عليه السلام ، فقال :أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ[ النمل:40 ].
وأتى به كما قال بأمر اللّه تعالى الذي هو "كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ"[ القمر : 50 ] .
بأنه كان من أولي الأمر التي هي ، أي الأنفاس الأعراف جمع عرف بالفتح وهو الرائحة الطيبة الفائحة من حضرة الحق تعالى .
(فحبب إليه) صلى اللّه عليه وسلم (الطيب) ، لأنه يذكر ذلك في الجملة ، ويشبهه عنده على قرب منه وعدم غفلة عنه (فلذلك جعله) ، أي الطيب في الذكر (بعد النساء) .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فراعى الدّرجات الّتي للحقّ في قوله :رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ[ غافر :15]. لاستوائه عليه باسمه الرّحمن .
فل يبقى فيمن حوى عليه العرش من لا تصيبه الرّحمة الإلهيّة : وهو قوله تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[ الأعراف : 156 ] ، والعرش وسع كلّ شيء .
والمستوي الرّحمن فبحقيقته يكون سريان الرّحمة في العالم كما قد بيّناه في غير موضع من هذ الكتاب ومن الفتوح المكّي . )
قال رضي الله عنه : (فراعى) صلى اللّه عليه وسلم (الدرجات التي للحق) تعالى فإن عالم الأمر الذي كني عنه بالأنفاس لا يتبين وتفوح به روائح الإيجاد الإلهي إلا بعد عالم الخلق لأنها درجات بعضها فوق بعض وإن كان الأعلى مقدما على الأسفل (في قوله) تعالى (رفيع الدرجات ذو) ، أي صاحب (العرش) وهو غاية الدرجات في الرفعة (لاستوائه تعالى عليه) ، أي على العرش (باسمه الرحمن) الجامع لجميع الأسماء الحسنى كما قال تعالى :الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى( 5 ) [ طه : 5 ] .
وقال تعالى :"قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى"[الإسراء:110].
(فل يبقى فيما حواه العرش) الحاوي لكل مخلوق من ، أي شيء (ل تصيبه الرحمة الإلهية) المتجلي بها الرحمن تعالى (وهو) ، أي هذا المعنى هو معنى (قوله تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[ الأعراف : 156 ] والعرش وسع كل شيء )، إذ لا شيء خارج عنه أصلا (والمستوي) ، أي المستولي والمتجلي عليه هو (الرحمن) سبحانه كما في الآية .
قال رضي الله عنه : (فبحقيقته) ، أي الاسم الرحمن (يكون سريان) ، أي شمول (الرحمة) الإلهية (في العالم) جميعه (كما قدمنا في غير موضع) واحد بل في مواضع متعددة (في هذا الكتاب) الذي هو فصوص الحكم (ومن) كتاب (الفتوح المكية) ، أي الفتوحات المكية أيض .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقد جعل الطّيب في هذا الالتحام النّكاحي في براءة عائشة فقال :الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ[ النور : 26 ] . فجعل روائحهم طيّبة وأقوالهم صادقة لأنّ القول نفس ، وهو عين الرّائحة فيخرج بالطّيّب والخبيث على حسب ما يظهر في صورة النّطق .
فمن حيث إنه إلهيّ بالأصالة كلّه طيّب : فهو طيّب ؛ ومن حيث ما يحمد ويذمّ فهو طيّب وخبيث . )
وقد جعل الطيب اللّه تعالى في هذا الالتحام ، أي الانضمام والاتحاد النكاحي ، فإن النكاح معناه الضم والجمع والالتحام بين الأشياء .
قال الشاعر :إن القبور تنكح الأيامى .... النسوة الأرامل اليتامى
أي تجمعهن ، وتضمهن ، وتسترهن بالتحامها عليهن ، حيث ذكر تعالى الطيب (في) بيان (براءة عائشة) أم المؤمنين زوجة النبي صلى اللّه عليه وسلم مما رماها به المنافقون مما هي مطهرة منه (رضي اللّه عنها) فقال تعالى : ("الْخَبِيثاتُ") من النساء ("لِلْخَبِيثِينَ") من الرجال أي كائن ذلك في تقدير اللّه تعالى وخلقه على طبق تقديره سبحانه ولا بد من المناسبة في ذلك لأنها العدل الإلهي والوزن المستقيم كما قال تعالى : ("وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ") [الحجر : 19 ] فالمناسبة كائنة من النساء للرجال وبالعكس أيضا .
كما قال الشيخ رضي الله عنه : ("وَالْخَبِيثُونَ") من الرجال ("لِلْخَبِيثاتِ") من النساء ("وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ") كذلك ("أُولئِكَ")، أي الطيبات من النساء والطيبون من الرجال (" مُبَرَّؤُنَ") بتغليب الرجال لشرفهم ("مِمَّا يَقُولُونَ") [ النور : 26 ] ، أي المنافقون .
(فجعل) اللّه تعالى (روائحهم) ، أي الطيبات والطيبين المبرئين (طيبة) ، أي زكية حسنة ل خبث فيها ولا قبح (لأن القول نفس) المتكلم بفتح الفاء ، أي الهواء الخارج من فمه (وهو) ، أي النفس (عين الرائحة فيخرج) ، أي النفس من التنفس به (بالطيب) من القول (وبالخبيث) منه (على حسب ما يظهر) ، أي ذلك القول متصفا (به في صورة النطق فمن حيث هو) ، أي ذلك النطق إلهي كما قال تعالى الذي أنطق كل شيء بالأصالة ، أي من دون شائبة دعوى نفسانية إذ الأصل نسبة الأمور إلى خالقها كله ، أي القول (طيب) لأنه صادر عن الحق تعالى (فهو) ، أي القول (طيب) فقط ولا خبيث منه أصلا (ومن حيث ما يحمد) من ذلك النطق باعتبار معناه وما يذم منه بذلك الاعتبار (فهو) ، أي القول قسمان (طيب) لطيب معناه (وخبيث) لخبث معناه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال في خبث الثّوم هي شجرة أكره ريحها ولم يقل أكرهه . فالعين لا تكره ، وإنّما يكره ما يظهر منها . والكراهة لذلك إمّا عرفا أو بعدم ملاءمة طبع أو غرض أو شرع ، أو شرع ، أو نقص عن كمال مطلوب وما ثمّ غير ما ذكرناه .
ولمّ انقسم الأمر إلى خبيث وطيّب كما قرّرناه ، حبّب إليه الطّيّب دون الخبيث ووصف الملائكة بأنّها تتأذّى بالرّوائح الخبيثة لما في هذه النّشأة العنصريّة من التّعفين فإنّه مخلوق من صلصال من حمأ مسنون أي متغيّر الرّيح ، فتكرهه الملائكة بالذّات .)
قال رضي الله عنه : (فقال) النبي صلى اللّه عليه وسلم (في خبث الثوم هي) ، أي شجرة الثوم باعتبار ما يبقى من ساقها بعد أخذ ثمرته (شجرة أكره ريحها) . رواه مسلم و البيهقي في سننه الكبرى ورواه غيرهما.
أي ما ينبعث عنها من الرائحة ، فهي خبيثة ، كالقول المنبعث عن المتكلم يطيب ويخبث (ولم يقل) صلى اللّه عليه وسلم (أكرهها) ، أي شجرة الثوم (فالعين لا تكره) لطيبها مطلقا لأنها منسوبة إلى من هي صادرة عنه ، وهو الحق تعالى ، وهو طيب فهي طيبة (وإنما يكره ما ظهر عنها) ، أي من العين من الأوصاف ، لأن ذلك منسوب إلى العين لصدوره عنها بالحكم الإلهي ونسبة السببية .
قال رضي الله عنه : (والكراهة لذلك) الظاهر من العين المذكورة (إما عرفا) ، أي بحسب العرف ، أي الاصطلاح كما لو اصطلح قوم على كراهة شيء أو أمر من الأمور بينهم (أو بملائمة طبع) لأمر فيكره ذلك الطبع مفارقة ما يلائمه أو ضد ما يلائمه أو ما يلائمه غرض ، أي حظ نفساني كذلك أو شرع ، أي بيان إلهي اقتضى ذلك (أو نقص عن كمال مطلوب) فإنه يقتضي الكراهة أيضا وما ثم بالفتح ، أي هناك من أوجه الكراهة (غير ما ذكرناه) في ذلك. " وفي نسخة أخرى : أو بعدم ملائمة طبع".
قال رضي الله عنه : (ولما انقسم الأمر) الإلهي وهو القول الحق والكلام المفصل باعتبار معناه المفهوم منه (إلى خبيث) لقبح دلالته ونسبته (وطيب) لحسن دلالته ونسبته (كما قررناه) قريبا (حبب إليه) صلى اللّه عليه وسلم (الطيب) من كل شيء (دون الخبيث) من ذلك (ووصف) صلى اللّه عليه وسلم (الملائكة) عليهم السلام (بأنها) ، أي الملائكة (تتأذى) ، أي تتضرر لطيب نشأتها النورانية (بالروائح الخبيثة) مثل تضرر الضد بضده ثم (لما في هذه النشأة) ، أي الخلقة الإنسانية (العنصرية من التعفين) ، أي تغيير خلقة العناصر بمزجها (فإنه) ، أي صاحب هذه النشأة وهو الإنسان (مخلوق) كما قال تعالى :" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ")[ الحجر : 26 ] طين أسود (متغير الريح) ، أي الرائحة (فتكرهه) ، أي هذ الإنسان باعتبار خلقته الملائكة عليهم السلام (بالذات) ، أي بمقتضى ذاتها وذاته هو أيضا ، وإن أحبته بسبب ما اتصف به من الإيمان والانقياد لأمر اللّه تعالى وطاعته وما اتصف هو به أيضا من ذلك ، فإن خلقته الذاتية تقتضي النفرة عن خلقته الذاتية وكراهته .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( كما أنّ مزاج الجعل يتضرّر برائحة الورد وهي الرّوائح الطّيبة . فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيبة . ومن كان على مثل هذا المزاج معنى وصورة أضرّ بالحقّ إذا سمعه وسرّ بالباطل : وهو قوله :وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ؛ ووصفهم بالخسران فقال :أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [ العنكبوت : 52 ] الَّذِينَ خَسِرُو أَنْفُسَهُمْ [ الأنعام : 12 ] فإنّه من لم يدرك الطّيّب من الخبيث فل إدراك له .
فم حبّب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلّا الطّيّب من كلّ شيء وما ثمّة إلّ هو . وهل يتصوّر أن يكون في العالم مزاج لا يجد إلّا الطيّب من كلّ شيء ولا يعرف الخبيث أم لا ؟ قلنا هذا لا يكون : فإنّا ما وجدناه في الأصل الّذي ظهر العالم منه وهو الحقّ ، فوجدناه يكره ويحبّ ؛ وليس الخبيث إلّا ما يكره ولا الطّيب إلّا م يحبّ . )
قال رضي الله عنه : (كما أن مزاج الجعل) بضم الجيم وفتح العين المهملة دابة مولدة من الزبل والنجاسة يتضرر برائحة الورد ، فإذا وضع في الورد يكاد يموت من ريح ذلك وهي ، أي رائحة الورد من الروائح الطيبة دون الخبيثة (فليس ريح الورد عند الجعل بريح طيبة) لعدم ملاءمتها لمزاجه .
قال رضي الله عنه : (ومن كان) من الناس (على مثل هذا المزاج) ، أي مزاج الجعل (معنى) من حيث تولده في المخالفات وإنشاؤه في قبائح الأحوال حتى انطبع على المآثم والفواحش والضلال والغي.
قال رضي الله عنه : (وصورة) من حيث إنه صار يتضرر بضد ذلك الذي انتشى عليه وانطبع فيه (أضرّ به) ، أي بخلقته (الحق) من الأقوال والأعمال والأحوال (إذا سمعه) من أحد وسر ، أي دخل عليه السرور (بالباطل) من ذلك (وهو) ، أي ما ذكر معنى (قوله) تعالى (والذين آمنوا) ، أي صدقوا وأذعنوا واعترفوا (بالباطل) من الأديان والآلهة (وكفروا باللّه تعالى الحق وما فعلوا ذلك مع وجود عقولهم إلا للمناسبة التي عليها فيما انطبعوا فيه من الغي والضلال وظنوه رشدا وهداية بل قطعوا بأنه كذلك .
قال رضي الله عنه : (ووصفهم) اللّه تعالى (بالخسران) فيما فعلوا (فقال) تعالى ("أُولئِكَ")، أي الذين فعلوا ما ذكر (هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم) حيث لم يقدروا من ضعف بصائرهم وأبصارهم بما هم فيه من الضلال أن يفرقوا بين الحق والباطل ، فكأنهم لا نفوس لهم لعدم إمكانهم الانتفاع بها في الفرق المذكور فقد خسروها.
قال رضي الله عنه : (فإنه) ، أي الشأن من (لم يدرك) بنفسه (الطيب من الخبيث فلا إدراك له) أصلا (فما حبب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا الطيب من كل شيء) لصحة مزاجه صلى اللّه عليه وسلم وكمال نشأته (وما ثم) ، أي هناك في العالم (إلا هو) ، أي الطيب كما سبق في القول إنه من حيث هو إلهي بالأصالة كله طيب .
قال رضي الله عنه : (وهل يتصوّر) ، أي يجوز أن يكون في هذا العالم مزاج لأحد من المخلوقين (لا يجد إلا الطيب من كل شيء لا يعرف) ، أي ذلك المزاج الأمر (الخبيث ، أم لا) يكون ذلك قلن في الجواب عن ذلك هذا الأمر المذكور لا يكون أبدا فإنا م وجدناه ، أي المذكور معشر المحققين في معرفة اللّه تعالى (في الأصل الذي ظهر) جميع هذا العالم منه وهو ، أي ذلك الأصل الحق تعالى فكيف نجده في غيره سبحانه فوجدناه تعالى كما ورد في النصوص يكره أشياء ويحب أشياء .
قال تعالى :"وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ"[ التوبة : 46 ] . وقال :" فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ"[ المائدة : 54 ] .
وفي الحديث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يكره من الرجال الرفيع الصوت ويحب الخفيض من الصوت » . رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي أمامة .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يكره فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض » . رواه الطبراني في الكبير ومسند الشاميين عن معاذ .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يحب العطاس ويكره التشاؤب » . رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة .
وليس الخبيث من الأشياء إلا ما يكره سبحانه ولا الطيب منها إلا ما يحبه تعالى.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والعالم على صورة الحقّ والإنسان على الصّورتين فلا يكون ثمّة مزاج لا يدرك إلّا الأمر الواحد من كلّ شيء ، بل ثمّة مزاج يدرك الطّيّب من الخبيث ،
مع علمه بأنّه خبيث بالذّوق طيّب بغير الذّوق، فيشغله إدراك الطّيّب منه عن الإحساس بخبثه.
هذ قد يكون . وأمّا رفع الخبيث من العالم - أي من الكون - فإنّه لا يصحّ .
ورحمة اللّه في الخبيث والطّيب . والخبيث عند نفسه طيّب والطيّب عنده خبيث . فما ثمّة شيء طيّب إلّا وهو من وجه في حقّ مزاج ما خبيث : وكذلك بالعكس . )
قال رضي الله عنه : (والعالم) جميعه ما عد الإنسان الكامل مخلوق (على صورة الحق) تعالى من حيث ظهور محسوسات العالم ومعنوياته كلها كلياتها وجزئياتها عنه تعالى ، فهي آثار أسمائه الحسنى المختلفة التي هي صورته سبحانه ، وقد ظهرت في العالم مسميات تلك الأسماء كلها (والإنسان) الكامل وحده مخلوق (على الصورتين) ، أي صورة الحق تعالى التي هي مجموع أسمائه الحسنى في باطنه وصورة العالم التي هي آثار تلك الأسماء الحسنى في ظاهره .
قال رضي الله عنه : (فلا يكون ثمة) ، أي هناك (مزاج) في العالم . وفي الإنسان الكامل (لا يدرك إلا الأمر الواحد) الذي هو الطيب (من كل شيء) ولا يدرك الخبيث ، ولا بالعكس أيضا لما تقرر (بل ثم) بالفتح ، أي هناك (مزاج يدرك الطيبمن) الأمر (الخبيث مع علمه بأنه) ، أي ذلك الخبيث (خبيث بالذوق) ، أي بالحس والوجدان والمعاناة له (طيب) ، أي ذلك الأمر الخبيث (بغير الذوق) له بل بالمعرفة الإلهية (فيشغله) ، أي الإنسان (إدراك الطيب منه) ، أي من ذلك الأمر الخبيث (عن الإحساس بخبثه) ، أي إدراكه (ذلك) هذا الشيء (قد يكون) في الصالحين (وأم رفع) ، أي إزالة (الخبيث) مطلقا (من العالم أي من الكون) كله بحيث لا يبقى له فيه وجود (فإنه) ، أي هذا الأمر (لا يصح) أصل .
قال رضي الله عنه : (ورحمة اللّه) تعالى التي وسعت كل شيء (ظاهرة في الخبيث والطيب) أوجدتهما حتى لا يخلو عنها شيء وسعته (والخبيث عند نفسه) ليس بخبيث وإنما هو (طيب والطيب عنده) ، أي عند الخبيث (خبيث فما ثم) ، أي هناك (شيء طيب إلا وهو) ، أي ذلك الطيب (من وجه) آخر في حق مزاج ما ، أي بعض الأمزجة خبيث ، وكذلك بالعكس ، أي ليس شيء خبيث إلا وهو طيب في حق مزاج آخر كما مر آنفا ، أي قريبا في تضررها بالوجود للجعل ، وإن على هذا المزاج من يحصل له السرور بالباطل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّ الثالث الّذي به كملت الفرديّة فالصّلاة.
فقال : « وجعلت قرّة عيني في الصّلاة » لأنّها مشاهدة : وذلك لأنّها مناجاة بين اللّه وبين عبده كما قال :فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.
وهي عبادة مقسومة بين اللّه وبين عبده بنصفين : فنصفها للّه ونصفها للعبد كما ورد في الخبر الصّحيح عن اللّه تعالى أنّه قال : « قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين : فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل.
يقول العبد :بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 1 ) يقول اللّه : ذكرني عبدي . يقول العبد :الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ( 2 ) يقول اللّه حمدني عبدي . يقول العبد :الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 3 ) يقول اللّه : أثنى عليّ عبدي . يقول العبد :مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( 4 ) يقول اللّه : مجّدني عبدي ، فوّض إليّ عبدي . فهذ النّصف كلّه للّه تعالى خالص . ثمّ يقول العبد :إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( 5 ) يقول اللّه : هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . فأوقع الاشتراك في هذه الآية . يقول العبد :اهْدِنَ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ( 7 ) [ الفاتحة : 1 - 7 ] يقول اللّه : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل .
فخلص هؤلاء لعبده كما خلص الأوّل له تعالى . فعلم من هذا وجوب قراءةالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ( 2 ) . فمن لم يقرأها فما صلّى الصّلاة المقسومة بين اللّه وبين عبده " ).
قال رضي الله عنه : (وأما) الشيء (الثالث الذي به كملت الفردية) في الشيئين المذكورين : النساء والطيب ، فإنه موجودة في كل واحد بانفراده ، وعند انضمامهما تختفي بالزوجية ، فإذا ضم إليها هذ الشيء الثالث ظهرت تلك الفردية وتقررت (فالصلاة ، فقال) صلى اللّه عليه وسلم في الحديث المذكور
قال رضي الله عنه : (وجعلت) بالبناء للمفعول (قرة عيني في الصلاة لأنها) ، أي الصلاة (مشاهدة) للحق تعالى فيها وبيان (ذلك لأنها) ، أي الصلاة (مناجاة )، أي مخاطبة في السر (بين اللّه) تعالى (وبين عبده) المؤمن كما قال تعالى في حصول معنى المفاعلة (فاذكروني) بالحضور (أذكركم) بالتجلي والظهور ، واذكروني بالوصول أذكركم بالقبول ، واذكروني بإزالة القيود أذكركم بكشف الوجود ، واذكروني بمراعاة حقوقي أذكركم بالحفظ في غروبي وشروقي ، واذكروني بالقلب واللسان أذكركم بإفاضة أنواع الإحسان .
قال رضي الله عنه : (وهي) ، أي الصلاة (عبادة مقسومة بين اللّه) تعالى (وبين عبده) المؤمن (بنصفين فنصفها) الأوّل (للّه) تعالى باعتبار اشتمالها على الثناء والمجد للّه تعالى
قال رضي الله عنه : (ونصفها) الثاني (للعبد) باعتبار اشتمالها على الدعاء والسؤال منه تعالى كما ورد هذا (في الخبر الصحيح) الذي تكلم به النبي صلى اللّه عليه وسلم (عن اللّه تعالى) أنه سبحانه (قال قسمت الصلاة ذات الركوع والسجود باعتبار قراءة الفاتحة فيها بيني وبين عبدي المصلي نصفين فنصفها الأوّل من كل ركعة منها لي ونصفها الثاني كذلك لعبدي ومع ذلك لعبدي ما سأل ، أي أجيبه في كل ما دعاني به فيه .
وبيان ذلك أنه (يقول العبد) في الصلاة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقول اللّه") تعالى عند ذلك (ذكرني عبدي) فكل من غاب عن قوله ذلك بنفسه في الصلاة وشهد قيومية الحق تعالى عليه في جميع شؤونه تلك ،
سمع بأذن قلبه قول الحق تعالى : ذكرني عبدي ، فكشف له أن قوله هو عين قوله تعالى ، بزوال النسبة وانقلاب الشؤون كما قال سبحانه :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن :29].
ثم خاطب عقل العبد وإيمانه بقوله تعالى :فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ( 13 ) [ الرحمن : 13 ] من التباس الحس عليكم وبعد الحقيقة عنكم .
وهكذا بقية أحوال الصلاة وقد أخبرني بعض من اجتمعت به أنه كان إذا صلى سمع الحق تعالى يقول ذلك من أوّله إلى آخره على طبق هذا الحديث . وكان رجلا من ضعف الحال رحمه اللّه تعالى .
قال رضي الله عنه : (يقول العبد : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقول اللّه) تعالى بعين قول عبده لذلك عند من يسمعه اللّه تعالى كما قال سبحانه:"واللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَم أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ"[ فاطر : 22 ] (حمدني عبدي) ، أي شكرني
قال رضي الله عنه : (يقول العبد الرَّحْمنِ الرَّحِيم ) ِتعالى كذلك (أثنى علي عبدي) ، أي مدحني بالرحمة العامة والخاصة
قال رضي الله عنه : (يقول العبد :مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ") ، أي يوم القيامة (يقول اللّه) تعالى بذلك (مجدني) ، أي ذكر مجدي وفخري وجاهي (عبدي) أو يقول : (فوّض إلي عبدي) ، أي اتكل في جميع أموره على قدرتي وإرادتي (فهذا النصف) من الصلاة باعتبار قراءتها كما ذكرنا (كله للّه تعالى خالص) ليس فيه ذكر العبد أصل .
قال رضي الله عنه : (ثم يقول العبد) في النصف الثاني ("إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" يقول اللّه) تعالى (هذه) ، أي المقالة (بيني وبين عبدي) ، لأن فيها ذكر اللّه تعالى بالخطاب وذكر العبد بالعبادة والاستعانة (ولعبدي ما سأل) ، أي من قبول عبادته والإعانة له (فأوقع) تعالى (الاشتراك في هذه الآية) بينه وبين عبده .

قال رضي الله عنه : (يقول العبد :اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ( 7 ) يقول اللّه) تعالى (هؤلاء) الكلمات كلهن (لعبدي) لأن فيهن طلب الهداية والوقاية من أحوال أهل الغواية (ولعبدي ما سأل) باستجابة دعائه فيما ذكر (فخلص) اللّه تعالى (هؤلاء) الكلمات المذكورات (لعبده) المصلي (كما خلص) الكلمات (الأولى له تعالى .)
والحديث في صحيح مسلم وموطأ مالك ومسند أبي داود والترمذي والنسائي بإسنادهم إلى أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : قال اللّه عز وجل : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل " . وفي رواية : « فنصفها لي ونصفه لعبدي » ،
فإذا قال العبد : "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"( 2 ) قال اللّه عز وجل : حمدني عبدي .
وإذا قال :الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 3 ) قال اللّه عز وجل : أثنى علي عبدي
وإذا قال :مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( 4 ) قال : مجدني عبدي وقال مرة : فوّض إليّ عبدي ،
وإذا قال :إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( 5 ) قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل
فإذا قال :اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ( 7 ) [ الفاتحة ] ،
قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل » . أخرج هذه الرواية مسلم ومالك والترمذي والنسائي .
وفي رواية لأبي داود والترمذي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام » . قال أبو السائب مولى هشام بن زهرة قلت : يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام قال : فغمز ذراعي .
ثم قال : اقرأها في نفسك يا فارسي وساق الحديث نحو ما تقدم .
وقال في آخره : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل . انتهى .
أقول : وهذه الزيادة محمولة عند الحنفية على وجوب الفاتحة في الصلاة لا الفرضية ، فترك الواجب يقتضي النقصان لا البطلان ، وهو معنى الخداج ومعنى قوله غير تمام ،
وقوله : اقرأها في نفسك يا فارسي زيادة من فقه الراوي ، فإن مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى منع المقتدي عن القراءة بأحاديث أخرى صريحة في ذلك لا تحتمل التأويل ذكرناها في كتابن في فقه الفروع المذهبية .
فعلم من هذ المذكور في هذا الحديث وجوب قراءة "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ"( 2 ) إلى آخر الفاتحة في الصلاة فمن لم يقرأها في صلاته فما صلى الصلاة المقسومة ، كما ورد في هذا الحديث بين اللّه تعالى وبين عبده فهي صلاة ناقصة وليست بتامة ولا كاملة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولمّا كانت مناجاة فهي ذكر ، ومن ذكر الحقّ فقد جالس الحقّ وجالسه الحقّ . فإنّه صحّ في الخبر الإلهيّ أنّه تعالى قال : « أنا جليس من ذكرني » . ومن جالس من ذكره وهو ذو بصر حديد رأى جليسه .
فهذه مشاهدة ورؤية . فإن لم يكن ذا بصر لم يره . فمن ههنا يعلم المصلّي رتبته هل يرى الحقّ هذه الرّؤية في هذه الصّلاة ، أم لا ؟ فإن لم يره فليعبده بالإيمان كأنّه يراه فيخيّله في قبلته عند مناجاته ، ويلقي السّمع لما يرد به عليه من الحقّ .
فإن كان إماما لعالمه الخاصّ به وللملائكة المصلّين معه - فإنّ كلّ مصلّ فهو إمام بل شكّ ، فإنّ الملائكة تصلّي خلف العبد ؛ إذا صلّى وحده كما ورد في الخبر - فقد حصل له رتبة الرّسول في الصّلاة .
وهي النّيابة عن اللّه . وإذا قال سمع اللّه لمن حمده. فيخبر نفسه ومن خلفه بإنّ اللّه قد سمعه .
فتقول الملائكة والحاضرون ربّنا ولك الحمد. فإنّ اللّه قال على لسان عبده: سمع اللّه لمن حمده.)
قال رضي الله عنه : (ولما كانت) الصلاة (مناجاة) بين اللّه تعالى وبين عبده (فهي ذكر للّه) تعالى بجميع الأعضاء على كيفيات مختلفة .
(و) كل (من ذكر الحق) تعالى (فقد جالس الحق) تعالى (وجالسه الحق) تعالى والمعنى حضر مع الحق تعالى كما أن الحق تعالى حاضر معه والحضور ضد الغيبة وهي الغفلة يعني زالت عنه الغفلة واشتغال الخاطر بغير اللّه تعالى فوجد اللّه تعالى ظاهرا بكل شيء حاضرا عند كل شيء غير غائب عن شيء (فإنه صح) ، أي ثبت وتحقق (في الخبر الإلهي) ،
أي الحديث القدسي (أنه تعالى قال : أنا جليس) ، أي مجالس كل (من ذكرني) ، لأنه تعالى حاضر لا يغيب أصلا وإنما العبد يغيب عنه لغفلته ويحضر بين يديه ليقظته فإذ ذكره ، أي تذكره وجده حاضرا ، فيكون اللّه تعالى جليسه .
قال رضي الله عنه : (و) كل (من جالس من) ، أي أحدا (ذكره وهو) ، أي الذي يجالس (ذو) ، أي صاحب (بصر) بأن كان يرى وليس بأعمى (رأى جليسه) من غير شبهة أصلا والذي لا يرى فهو أعمى .
قال رضي الله عنه : (فهذه) الحالة التي هي حالة الذكر (مشاهدة) للحق تعالى (ورؤية) له (فإن لم يكن) ذلك الذي جالس من ذكره (ذا بصر) فإنه (لم يره) ، أي لا يرى من يجالسه لكونه أعمى .
قال رضي الله عنه : (فمن هنا يعلم المصلي رتبته) في الدين والمعرفة (هل يرى الحق) تعالى (هذه الرؤية) ، أي رؤية الجليس من يجالسه (في هذه الصلاة) التي صلاها (أم لا فإن لم يره) ، أي الحق تعالى وهو في صلاته (فليعبده) ، أي الحق تعالى (بالإيمان) له بالغيب في تلك الصلاة (كأنه) ، أي مثل الذي (يراه فيخيله) بعقله ، أي يتصوّر الحق تعالى (في قبلته عند مناجاته) كما ورد : « أن اللّه في قبلة أحدكم » .
وهذا التصوّر لا يضره في اعتقاده إذا كان عارف بقصوره وعجزه عنه تعالى ،
قال سبحانه :لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّ وُسْعَه[ البقرة : 286 ] (ويلقي) ، أي يهيىء (السمع) منه (لم يرد به عليه الحق) تعالى في نفسه من الإلهام (فإن كان إماما لعالمه) بفتح اللام (الخاص به) وهي أعضاؤه وجوارحه (وللملائكة) الحفظة وغيرهم (المصلين معه) ، (فإن كل مصل) وحده (فهو إمام بلا شك) لغيره (فإن الملائكة) عليهم السلام (تصلي) بالاقتداء (خلف العبد) المؤمن (إذ صلى وحده كما ورد في الخبر) ، أي الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم .
وذكر السبكي من الشافعية : أن الجماعة تحصل بالملائكة ، وفرّع على ذلك :
لو صلى في قضاء بأذان وإقامة منفردا ، ثم حلف أنه صلى بالجماعة لم يحنث . وقد ورد في حديث أحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الجن وفيه : فلما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي أدركه شخصان منهم فقالا : يا رسول اللّه إنا نحب أن تؤمنا في صلاتنا . قال : فصفهما خلفه ثم صلى بهما ثم انصرف . ذكره في الأشباه والنظائر (فقد حصل له) ، أي للذي يصلي وحده (رتبة الرسول) صلى اللّه عليه وسلم (في الصلاة) ، فإنه كان الإمام المقدم فيها (وهي) ، أي تلك الرتبة (النيابة عن اللّه) تعالى في وجوب متابعته على المقتدين به ممن خلفه .
قال رضي الله عنه : (وإذا قال) ذلك المصلي (سمع اللّه لمن حمده فيخبر نفسه ومن خلفه بأن اللّه ) تعالى (قد سمعه) في كل ما قال من سورة الحمد وغيرها من الثناء عليه تعالى (فتقول الملائكة) عليهم السلام عند ذلك (و) كذلك (الحاضرون) من المقتدين إن كانوا (ربنا) أي يا ربنا (ولك الحمد) وكان هذا القول عقيب سماعهم من الإمام قوله : سمع اللّه لمن حمده فحمدهم امتثال لما حثهم عليه من الحمد ( فإن اللّه قال على لسان عبده) المصلي (سمع اللّه لمن حمده) كما ورد في الحديث : " المصلي مظهر إلهي" .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فانظر علوّ رتبة الصّلاة وإلى أين تنتهي بصاحبها . فمن لم يحصّل درجة الرّؤية في الصّلاة فما بلغ غايتها ولا كان له قرّة عين ، لأنّه لم ير من يناجيه .
فإن لم يسمع ما يرد من الحقّ عليه فيها فما هو ممّن ألقى السّمع . ولا سمعه . ومن لم يحضر فيها مع ربّه مع كونه لم يسمع ولم ير ، فليس بمصلّ أصلا ، ولا هو ممّن ألقى السّمع وهو شهيد .
وم ثمّة عبادة تمنع من التّصرّف في غيرها - ما دامت - سوى الصّلاة . وذكر اللّه فيه أكبر ما فيها لما تشتمل عليه من أقوال وأفعال . وقد ذكرنا صفة الرّجل الكامل في الصّلاة في الفتوحات المكيّة كيف تكون لأنّ اللّه تعالى يقول :إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، لأنّه شرع للمصلّي أن لا يتصرّف في غير هذه العبادة ما دام فيها ويقال له مصلّ .وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُيعني فيها : أي الذّكر الّذي يكون من اللّه لعبده حين يجيبه في سؤاله . والثّناء عليه أكبر من ذكر العبد ربّه فيها ، لأنّ الكبرياء للّه تعالى . ولذلك قال :وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ[ العنكبوت : 45 ] .
وقال :أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق : 37 ] فإلقاؤه السّمع هو لما يكون من ذكر اللّه إيّاه فيها .)
قال رضي الله عنه : (فانظر) يا أيه السالك (علو رتبة الصلاة) عند اللّه تعالى (وإلى أين تنتهي) ، أي تصل (بصاحبها) من مقامات القرب إلى اللّه تعالى .
قال رضي الله عنه : (فمن لم يحصل) بتوفيق اللّه تعالى له (درجة الرؤية) الإلهية (في الصلاة فما بلغ غايتها) ، أي الصلاة (ولا كان له) ، أي لذلك المصلي (فيها) ، أي في الصلاة (قرة عين) برؤية المحبوب الحق لأنه لم ير من يناجيه لما في قلبه من العمى عنه .
قال تعالى :فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[ الحج : 46 ] .
وهذه فروع الإيمان الأربعة لكل واحد منها رتبة خاصة إلهية ، فالصلاة الرؤية الإلهية بقوله عليه السلام : « وجعلت قرة عيني في الصلاة » .
وللصوم لقاء اللّه تعالى لقوله عليه السلام : « للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه » . رواه مسلم و الترمذي في سننه ورواه غيرهما.
وللزكاة طيب النفس ، لقوله عليه السلام في حديث : « صلوا خمسكم » إلى أن قال : « وأدو
زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم » . رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة الباهلي ورواه أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء ، ترجمة يزيد بن مرثد .
وللحج الزيارة إلى بيت اللّه تعالى ومصافحته سبحانه لقوله عليه السلام : " الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض " . رواه عبد الرزاق في المصنف ورواه الديلمي في الفردوس .
، والشهادتان إخبار عن المعاينة والشهود والرؤية ، فهذه أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها ، فالإسلام أحوال قلبية له في الظاهر الإشارة الفعلية ، وأصل هذا كله التصديق بالقلب ، وهو الإيمان ، فمن لم يتيقن الإيمان ويتحقق بالإيقان لم يتوصل إلى مقام الإسلام .
قال رضي الله عنه : (وإن لم يسمع) هذا المصلي (م يرد به الحق) تعالى (عليه) من المخاطبات الأنسية والمناجاة القدسية (فيها) ، أي في الصلاة (فما هو) ، أي ذلك المصلي (ممن ألقى) ، أي هي (السمع) لما يرد به الحق تعالى (ولا سمعه) ، أي ما يرد به الحق تعالى (ومن لم يحضر فيها) ، أي في الصلاة (مع ربه) تعالى باليقظة وزوال الغفلة عن قلبه (مع كونه) أيضا (لم يسمع) ما يرد به عليه ربه تعالى في صلاته كما مر (فليس بمصل أصلا) بل هو مشبه بالمصلي في أداء الأركان وقلبه فيما هو فيه من أحوال الدنيا كما كان (ولا هو) ، أي ذلك المصلي ممنأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق :37]. لصممه وعماه عمن يناجيه ويتجلى عليه بحسب ما يريد .
قال رضي الله عنه : (وما ثم) ، أي هناك (عبادة) للّه تعالى (تمنع من التصرف في غيرها) من العبادات أو العادات (ما دامت) قائمة تلك العبادة (سوى الصلاة) فإنها خلوة شرعية وحظوة إلهية (وذكر اللّه) تعالى (فيها) ، أي في الصلاة (أكبر ما فيها) ، أي الصلاة من الأعمال .
قال تعالى :وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[العنكبوت :45] ، والذكر شامل لقراءة القرآن وغيرها (لم تشتمل) ، أي الصلاة (عليه من أقوال وأفعال) وتجليات وأحوال ، وعلوم إلهية ، وإلهامات ربانية ، وإشارات لائحة ، وحقائق معارف فائحة (وقد ذكرنا صفة الرجل الكامل في الصلاة) على أتمّ الوجوه (في) كتاب (الفتوحات المكيةكيف يكون) في ظاهره وباطنه (لأن اللّه) تعالى يقول عن هذه الصلاة المذكورة إِنَّ الصَّلاةَ[ النّساء : 103 ] ،
أي الكاملة وهي لا تكون إلا من الكامل (" تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ")[ العنكبوت : 45 ] فتحفظ صاحبها مدة عمره من مهالك الدنيا والآخرة .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إذا أراد اللّه بقوم عاهة نظر إلى أهل المساجد فصرف عنهم » . رواه ابن عدي والديلمي في مسند الفردوس وأهل المساجد هم المصلون (لأنه) ، أي الشأن (شرع) بالبناء للمفعول (للمصلي أن لا يتصرف في غير هذه العبادة) التي هي الصلاة (ما دام) ذلك المصلي فيها ، أي في الصلاة (ويقال له) في الشرع (مصل) لإتيانه بأفعال الصلاة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[ العنكبوت : 45 ] .
كما قال تعالى (يعني فيها) أي في الصلاة وهو (الذكر الذي يكون من اللّه) تعالى (لعبده حين يجيبه) ، أي يجيب اللّه تعالى عبده (في سؤاله) ، أي دعائه وطلبه منه والثناء عليه كما سبق في الحديث (أكبر من ذكر العبدربه) تعالى (فيها) ، أي في الصلاة (لأن) أكبر مشتق من الكبرياء ، أي العظمة وذلك (للّه تعالى) لا لغيره فهي لذكره لا لذكر غيره (ولذلك قال) تعالى ("يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ") [ العنكبوت : 45 ] .
أي لا يخفى عليه صنعكم ومنه ذكركم فهو دون ذكره (وقال) تعالى (" أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" [ ق :37] فإلقاؤه السمع هو لما يكون من ذكر اللّه) تعالى (إياه) ، أي العبد (فيها) ، أي في الصلاة لعظمة الذكر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن ذلك أنّ الوجود لمّا كان عن حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود عمّت الصّلاة جميع الحركات وهي ثلاث : حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلّي ، وحركة أفقيّة وهي حال ركوع المصلّي ، وحركة منكوسة ؛ وهي حال سجوده فحركة الإنسان مستقيمة وحركة الحيوان أفقيّة وحركة النّبات منكوسة ؛ وليس للجماد حركة من ذاته : فإذا تحرّك حجر فإنّما يتحرّك بغيره .
وأمّ قوله : « وجعلت قرّة عيني في الصّلاة » - ولم ينسب الجعل إلى نفسه - فإنّ تجلّي الحقّ للمصلّي إنّما هو راجع إليه تعالى لا إلى المصلّي .
فإنّه لو لم يذكر هذه الصّفة عن نفسه لأمره بالصّلاة على غير تجلّ منه له . )
قال رضي الله عنه : (ومن ذلك) ، أي عظمة ذكره تعالى (أن) هذا (الوجودلما كان) صادرا (عن حركة) فلكية ملكية (معقولة) من المدبرات أمرا (نقلت العالم) كله (من العدم) الذي هو ثابت فيه غير منفي (إلى الوجود) في كل لمحة (عمت الصلاة) لكونها جامعة أنواع العبادات كجمعية الوجود أنواع المخلوقات جميع أقسام الحركات وهي ، أي الحركات ثلاث الأولى حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلي واقفا على قدميه في الصلاة (و) الثانية (حركة أفقيه) ، أي في الأفق بين السماء والأرض (وهي) حركة في
قال رضي الله عنه : (حال ركوع المصلي) في الصلاة (و) الثالثة (حركة منكوسة وهي) الحركة في (حال سجوده) ، أي المصلي (فحركة الإنسان مستقيمة) ، لأنه يمشي على قدميه مستقيم القامة (وحركة الحيوان أفقية) لأنها بين السماء والأرض (وحركة النبات منكوسة) ، أي في الأرض أي كل ما ينبت من الأرض فيتحرك نابتا فيها (وليس للجماد حركةمن ذاته) أصلا لأنه ساكن خلقة ( فإذا تحرك حجر فإنما يتحرك بغيره) كإنسان يحركه أو ريح أو نحو ذلك .
قال رضي الله عنه : (وأما قوله) صلى اللّه عليه وسلم (وجعلت) بالبناء للمفعول (قرة عيني في الصلاة ولم ينسب الجعل) المذكور (إلى نفسه) صلى اللّه عليه وسلم فيقول : حبب إلى من دنياكم ثلاث النساء والطيب و "جعلت قرة عينى فى الصلاة " . مسند أحمد، والنسائى، وابن سعد، وأبو يعلى، والحاكم ووافقه الذهبى والألباني، والبيهقى، وسمويه الإصفهاني، والضياء في المختارة عن أنس.
قال رضي الله عنه : (فإنّ تجلي) ، أي انكشاف (الحق) تعالى (للمصلي) في صلاته بحيث يراه يتمتع برؤيته (إنما هو راجع إليه تعالى) فهو الذي يتجلى إذا أراد (لا إلى المصلي) إذ ليس للمصلي شيء من أمره فإنه صلى اللّه عليه وسلم لو لم يذكر هذه الصفة وهي جعل الصلاة قرة عينه (عن نفسه) عليه السلام .
قال رضي الله عنه : (لأمره) ، أي اللّه تعالى (بالصلاة على غير تجل) ، أي انكشاف وظهور (منه) تعالى (له) عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلمّ كان منه ذلك بطريق الامتنان ، كانت المشاهدة بطريق الامتنان . فقال : وجعلت قرّة عيني في الصّلاة .
وليست قرّة عينه إلّا مشاهدة المحبوب الّتي تقرّ بها عين المحبّ ، من الاستقرار فتستقرّ العين عند رؤيته فلا تنظر معه إلى شيء غيره في شيء وفي غير شيء .
ولذلك نهي عن الالتفات في الصّلاة ، فإن الالتفات شيء يختلسه الشّيطان من صلاة العبد فيحرمه مشاهدة محبوبه . بل لو كان محبوب هذا الملتفت ، ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه .
والإنسان يعلم حاله في نفسه هل هو بهذه المثابة في هذه العبادة الخاصّة أم لا ، فإنّ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ( 15 )[ القيامة : 14 - 15 ] فهو يعرف كذبه من صدقه في نفسه ، لأنّ الشّيء لا يجهل حاله فإنّ حاله له ذوقيّ . )
(فلم كان منه) تعالى (ذلك) ، أي التجلي في الصلاة (بطريق الامتنان) على النبي صلى اللّه عليه وسلم كما قال تعالى :وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً[ النساء : 113 ] . (كانت المشاهدة بطريق الامتنان فقال) صلى اللّه عليه وسلم عند ذلك : (« وجعلت قرة عيني في الصلاة ») من باب التحدث بالنعمة شكرا لها . قال تعالى :وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ( 11 ) [ الضحى : 11].
(وليست) قرة العين في الصلاة (إلا مشاهدة المحبوب) الحق سبحانه في الصلاة بحضور القلب (التي) نعت للمشاهدة (تقرّ بها) ، أي بالمشاهدة (عين المحبوب) له مشتق ذلك (من الاستقرار فتستقرّ العين) ، أي عين المحب (عند رؤيته) ، أي المحبوب (فل ينظر) ، أي المحب بعينه أو بقلبه (معه) ، أي مع المحبوب (إلى شيء) آخر (غيره في) سبب (شيء) ، أي أمر ضروري داع إلى ذلك النظر (وفي غير شيء) أيضا ، أي من غير حاجة ولا غرض صحيح (ولذلك) ، أي لأجل ما ذكر (نهي) بالبناء للمفعول (عن الالتفات) بعينه أو بقلبه (في الصلاة) إلى شيء مطلقا (فإن الالتفات شيء يختلسه) ، أي يسرقه (الشيطان) بخفية من حيث لا يشعر به المصلي (من صلاة العبد) فتنقص صلاته .
والحديث في صحيح البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال : " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد " .
وفي رواية الطبراني : « لا تلتفتوا في صلاتكم فإنه لا صلاة للملتفت » .
(فيحرمه) ، أي الشيطان يحرم العبد لذلك (مشاهدة محبوبه) الحق سبحانه (بل لو كان) الحق تعالى (محبوب هذا الملتفت ما التفت في صلاته إلى غير قبلته بوجهه) ، أي وجه صورته في الظاهر ووجه قلبه في الباطن ، فإن الكعبة قبلة الظاهر والحضرة الإلهية قبلة الباطن (والإنسان يعلم حاله) الذي هو عليه (في نفسه هل هو بهذه المثابة) ، أي المرتبة المذكورة في الحضور في صلاته وزوال الغفلة عن قلبه (في هذه العبادة الخاصة أم لا) ، أي ليس هو كذلك .
(فإن الإنسان على نفسه بصيرة) ، أي يعرف نفسه أكثر من معرفة غيره به (ولو ألقى) ، أي هيأ وأعد للغير (معاذيره) ، أي أعذاره في كل حال من أحواله ، فإنه لا يغتر بما يظهر له من غيره في حقه فإن الغير لا يتكلم إلا بمقدار ما يعلم (فهو) ، أي الإنسان (يعرف كذبه) ، أي كذب نفسه في الصلاة وغيره (من صدقه في نفسه) بذلك (لأن الشيء لا يجهل حاله) الذي هو فيه (فإن حاله) ، أي حال الشيء (له) ، أي للشيء (ذوقي) ، أي مكشوف له ذوقا فهو يحس بما هو فيه ما لا يحس منه غيره وقد يستولي عليه الجهل والغباوة فلا يعرف نفسه فيغتر بمدح الناس له فيهلك من حيث لا يشعر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ إنّ مسمّى الصّلاة له قسمة أخرى ؛ فإنّه تعالى أمرنا أن نصلّي له وأخبرنا أنّه يصلّي علينا . فالصّلاة منّا ومنه .
فإذ كان هو المصلّي فأنّما يصلّي باسمه الآخر ، فيتأخّر عن وجود العبد :
وهو عين الحقّ الّذي يخلقه العبد في قلبه ، بنظره الفكريّ أو بتقليده وهو الإله المعتقد .
ويتنوّع بحسب ما قام بذلك المحلّ من الاستعداد كما قال الجنيد حين سئل عن المعرفة باللّه والمعارف .
فقال لون الماء لون إنائه . . وهو جواب سادّ أخبر عن الأمر بما هو عليه . )
قال رضي الله عنه : (ثم إن مسمى الصلاة) ، أي م يسمى صلاة من الفعل المخصوص (له قسمة أخرى) غير قسمته بين اللّه تعالى وعبده كما مر في الحديث (فإنه تعالى أمرنا) معشر المكلفين أن نصلي له بقوله تعالى :وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ[ البقرة :110] ، وقوله :وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [ البقرة : 238 ] .
قال رضي الله عنه : (وأخبرنا) سبحانه (أنه يصلي علينا) بقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ[ الأحزاب : 43 ] .
(فالصلاة) حاصلة (من ومنه) تعالى أيضا (فإذا كان تعالى هو المصلي فإنما يصلي) متجليا (باسمه) تعالى (الآخر فيتأخر) ظهوره تعالى (عن وجود العبد) ، لأن العبد مظهره ، والظاهر بالمظهر متأخر الظهور عن وجود المظهر (وهو) ، أي ذلك المتجلي باسمه الآخر (عين الحق الذي يخلقه) ، أي يقدر صورته (العبد في قبلته) ، كما ورد أن اللّه في قبلة أحدكم (بنظره الفكري) وخياله العقلي (أو بتقليده) لغيره من أصحاب العقائد (وهو) ، أي الحق المذكور (إله) ، أي معبود (المعتقد) بصيغة اسم المفعول ، أي الاعتقاد .
قال رضي الله عنه : (ويتنوّع) إلى أنواع كثيرة (بحسب ما قام بذلك المحل) ، أي اعتقاد الإنسان (من الاستعداد) ، أي القوّة النورانية الكشفية وضعفها .
وهذا أمر لازم في اعتقاد كل معتقد من الناس في الكاملين والقاصرين ، وما بينهما من المراتب في طبقات العقلاء ، وصاحب هذا الإله المذكور إن عرف إطلاق الإله الحق عن جميع القيود والصور في حال تجليه بتلك القيود كلها والصور فهو من العارفين ، وإن جهل الإطلاق وحصر الحق تعالى في إله المعتقد المذكور ونفى ما عداه ، خصوصا إذا ظن أن ذلك التحديد والتقييد الذي في خياله وعقله إطلاق للحق تعالى ، فهو جاهل به تعالى ، وليس بعارف .
قال رضي الله عنه : (كما قال) أبو القاسم (الجنيد) رضي اللّه عنه (حين سئل) ، أي سأله سائل (عن المعرفة باللّه) تعالى ما هي (و) عن (العارف) باللّه تعالى ما هو (فقال) :أي الجنيد رحمه اللّه تعالى في الجواب (لون الماء لون إنائه) يعني أن
المعرفة باللّه تعالى :هي أن تعرف أنه تعالى مطلق لا صورة له في الحس ولا في العقل والخيال أصلا ، ولكن العارف به هو الذي يكشف عما في حسه وعقله وخياله ، فيرى الحق تعالى المطلق ظاهرا له بحسب استعداده في الحس والعقل والخيال في جميع تلك الصور ظهورا باعتبار الرائي والمرئي ، لأن المرئي على ما هو عليه لم يتغير ، والرائي يتغير بالأطوار والأحوال ، فتتنوع عليه المعرفة ، ويختلف عليه تجلي المعروف الحق سبحانه على الأبد في الدنيا والآخرة .
فالماء من حيث هو ماء مطلقا لا لون له أصلا ولا صورة له ، ومن حيث هو في الأواني المختلفة فلونه لون الإناء وصورته صورة الإناء ، ولا تفهم الحلول في هذا المثال ، فإن الأواني لها وجود في نفسها مع الماء المتلون بألوانها ، وليس وجود الأواني تابع لوجود الماء بحيث يكون صادرا عنه ، بل كل واحد من الماء والأواني موجود بوجود آخر مستقل ، واللّه تعالى الموجود الحق بوجود مستقل يستحيل عقلا وشرعا أن يكون معه شيء آخر غيره من محسوس أو معقول أو موهوم ، موجود أيضا مثله بوجود آخر مستقل غير تابع له تعالى في الإيجاد حتى يلزم ما يفهم القاصر من الحلول في هذا المثال ، فإن الماء حل في الإناء ، لأن الإناء له وجود مستقل ليس صادرا عن توجه قدرة الماء ، ولأجل هذا ثبت الحلول في كون الماء في الإناء .
وأما جميع المخلوقات الصادرة عن قدرة اللّه تعالى وتوجه أمره القديم الواحد سبحانه ، فإنه لا وجود لها من نفسها أصلا ، وإلا لاستغنت عن اللّه تعالى وقامت بنفسها وبطل وصف القيومية للّه تعالى ، وذلك ممتنع لثبوت القيومية له تعالى في الشرع ،
فكما أنه تعالى خالق لكل شيء ، فهو قيوم على كل شيء ، فكل شيء لولا توجه أمر اللّه تعالى عليه في كل طرفة عين بالإيجاد لما وجد ، فكل شيء موجود بإيجاد اللّه تعالى على الدوام في الكليات والجزئيات ، والأشياء كلها في أنفسها مع قطع النظر عن إيجاد اللّه تعالى لها معدومة بالعدم الأصلي ، لا وجود لها ولا شمت رائحة الوجود أصلا ،
ثم إنك إذ اعتبرتها كذلك معدومة بالعدم الأصلي ، وأردت أن تعرف كيف أوجدها اللّه تعالى ، فاعتبر أنها أواني مقدرة مختلفة ، وأن وجود الحق تعالى الواحد المطلق بإطلاقه الحقيقي ظهر في تلك الأواني المعدومة المقدرة ،
فكان لونه لونها وصورته صورتها من غير أن يحل هو فيها ، لأن الوجود لا يحل في العدم من غير أن يتحد معها أيضا ، فأين الحادث ممن له وصف القدم بل هو في تلك الحالة غيرها وهي غيره ،
ولكن شدة القرب بينهما أوجبت الالتباس على عقول الناس ، فهلك بالجهل منهم كثيرون ، وحار كثيرون فتوقفوا ولم يهتدوا ، وتحقق كثيرون ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور ( وهو ) ، أي قول الجنيد قدس اللّه سره (جواب ساد) ، أي قوي (أخبر عن الأمر) الإلهي المسؤول عنه (بما هو) ، أي ذلك الأمر (عليه) في نفسه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهذ هو اللّه الّذي يصلّي علين .
وإذ صلّينا نحن كان لنا الاسم الآخر فكنّا فيه كما ذكرناه في حال من له هذا الاسم ، فنكون عنده بحسب حالنا ، فلا ينظر إلينا إلّا بصورة ما جئناه بها فإنّ المصلّي هو المتأخّر عن السّابق في الحلبة .
وقوله تعالى :كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [ النور : 41 ] أي رتبته في التّأخّر في عبادته ربّه ، وتسبيحه الّذي يعطيه من التّنزيه استعداده .
فم من شيء إلّا وهو يسبّح بحمد ربّه الحليم الغفور . ولذلك لا نفقه تسبيح العالم على التّفصيل واحدا واحد . )
قال رضي الله عنه : (فهذا)، أي إله المعتقدات المختلفة الظاهر لنا بصورنا ، وهو على ما هو عليه ، ونحن على ما نحن عليه (هو اللّه) تعالى (الذي يصلي علينا) كما أخبر في الآية المذكورة سابق (وإذ صلينا نحن كان لنا الاسم الآخر) أيضا الذي كان له تعالى لما صلى علينا كما مر (فكنا) نحن حينئذ (فيه) ، أي في باطن هذا الاسم بحيث يظهر هذا الاسم بنا (كم ذكرناه) قريبا (في حال من له هذا الاسم) الآخر وهو الحق تعالى ، فإن هذا الاسم له سبحانه ، وحاله إذا كان هو المصلي تعالى أن يظهر بهذا الاسم فيتأخر عن وجود العبد ليتحقق له الاسم الآخر ، وإن كان لنا هذا الاسم نتأخر نحن في الظهور عنه تعالى كذلك ليتحقق لنا اسم الآخر .
قال رضي الله عنه : (فنكون) نحن (عنده) تعالى (بحسب حالنا) الذي نحن عليه في حضرة علمه القديم وتقديره الأزلي (فل ينظر) سبحانه حين اتصافنا بالاسم الآخر (إلينا إلا بصورة ما جئناه) تعالى في عدمنا إلى الوجود (بها) ، أي بتلك الصورة لأن لنا الاسم الآخر عنه سبحانه به (فإن المصلي) منا ومنه (هو المتأخر) على كل حال (عن السابقفي الحلبة) بالفتح ، أي الميدان ،
لأن من أسماء الخيل في السابق:
المجلّي وهو السابق في الحلبة ثم يليه المصلي ، لأن رأسه عند صلوي المجلّي تثنية صلى وهو ما من يمين الذنب وشماله من الظهر ثم يليه المسلي ثم التالي ثم المرتاح ثم الخطى ، ثم العاطف ، ثم المؤمل ثم اللطيم ثم السكيت ويقال له : الفسكل والناشور
، فهذه عشرة أنواع من الخيل كانت العرب تعتد بها ولا يعتدون بالجائي بعد ذلك .
قال رضي الله عنه : (وقوله تعالى) :أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)[ النور : 41 ] ، واللّه عليم بما يفعلون فصلاته (أي رتبته في التأخر عن عبادة ربه) تعالى يعني قصوره عن السبق فيه بإتيان ما يستطيع فيها ، فإن الإتيان بالمستطاع كشف للتأخر عن غير المستطاع وبيان لمقدار الاستعداد القابل لذلك
قال رضي الله عنه : (وتسبيحه) هو المقدار (الذي يعطيه من التنزيه) للحق تعالى عما لا يليق به (استعداده) فاعل يعطيه (فم من شيء) محسوس أو معقول أو موهوم (إلا وهو) ، أي ذلك الشيء (يسبح بحمد ربه) تعالى (الحليم الغفور) كما قال عز وجل :"وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً"[ الإسراء : 44 ] .
قال رضي الله عنه : (ولذلك) رأى لكونه تعالى حليما يحلم علينا فلا يعجل يتنفيذ مراده فينا ، غفورا أي ستارا يسترنا عن المؤاخذة أو يسترها عنا (لا نفقه) ، أي لا نفهم (تسبيح العالم) كله (على التفصيل واحدا واحدا) فالحلم يقتضي التأني بنا فيورثنا الغباوة وقلة الفهم ، والغفر كذلك ، لأنه ستر لنا وهو الحجاب يحجب بصائرنا عن المعرفة ، وذلك من كمال الرحمة بنا كالمطر الذي ينزل من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها ، فإذا زاد أغرق فكان سببا لموت الأرض وعدم إنباتها النبات المختلف ، وليس ذلك منه تعالى لنا إل على حسب استعدادنا لقبول ذلك ، فهو عدل منه تعالى لأنه أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ[ طه : 50 ] فأعطانا خلقنا ،
فكان ذلك عدم فهم منا لتفصيل ذلك التسبيح العام من كل شيء ، وأخبرنا تعالى أن سبب ذلك تجلي اسمه تعالى الحليم واسمه الغفور علينا ، وهما اسمان جميلان ولكن اقتضيا ظهور الجلال فينا لأجل استعدادنا لظهور ذلك ، فانقلبا في حقنا اسمين جميلين لإظهارهما الجلال فينا نظير قوله تعالى :يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً[ البقرة : 26 ] ، أي بالقرآن العظيم مع أنه حق كله وهو واحد ، وكمن ظهر عند كل أحد بمقتضى استعداده ، فكان أساطير الأولين وإفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون عند طائفة من الناس ، وكان قرآنا عظيما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد عند طائفة أخرى من الناس .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وثمّة مرتبة يعود الضّمير على العبد المسبّح فيها في قوله :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِأي بحمد ذلك الشّيء . فالضّمير الّذي في قوله"بِحَمْدِهِ"[الإسراء:44]
يعود على الشّيء أي بالثّناء الّذي يكون عليه .
كم قلنا في المعتقد إنّه إنّما يثني على الإله الّذي في معتقده وربط به نفسه ، وم كان من عمله فهو راجع إليه ، فما أثنى إلّا على نفسه ، فإنّه من مدح الصّنعة فإنّما مدح الصّانع بلا شكّ ، فإنّ حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها . وإله المعتقد مصنوع للنّاظر فيه ، فهو صنعته فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه . ولهذا يذم معتقد غيره ، ولو أنصف لم يكن له ذلك .
إلّ أنّ صاحب هذا المعبود الخاصّ جاهل بلا شكّ في ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقده في اللّه . )
قال رضي الله عنه : (وثم) بالفتح ، أي هناك (مرتبة) أخرى (يعود الضمير) وهو الهاء في قوله بحمده (على العبد) ، أي الشيء كما قال تعالى أن :إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً[ مريم : 93 ] فالأشياء كلها عبيد اللّه تعالى (المسبّح فيها) ، أي في تلك المرتبة في قوله تعالى : ("وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ")[ الإسراء : 44 ] ، أي يسبح (بحمد ذلك الشيء فالضمير الذي في قوله) تعالى (بحمده يعود على الشيء) المذكور في قوله وإن من شيء (أي) يسبح (بالثناء الذي يكون عليه) ذلك الشيء ، أي مقدار استعداده ، أي ثنائه على اللّه تعالى
قال رضي الله عنه : (كما قلنا) قريبا (في) حق الإنسان (المعتقد) بصيغة اسم الفاعل ، أي الذي يعتقد الألوهية في ربه تعالى وباقي حضراته سبحانه (إنه) ، أي ذلك المعتقد (إنما يثني على الإله الذي في معتقده) بصيغة اسم المفعول ، أي اعتقاده بحسب استعداده في معرفته به (فيربط) ذلك المعتقد (نفسه) في تصويره له على أكمل ما تقدر من أنوع الكمال ، ولا يترك من جهده شيئا في تحسين ذلك (به) ، أي بالذي اعتقد أنه إلهه الحق تعالى .
قال رضي الله عنه : (وما كان من عمله) في الطاعات واجتناب المنهيات (فهو راجع إليه) ، أي إلى ذلك الذي اعتقد أنه إلهه الحق سبحانه (فما أثنى) في حقيقة الأمر (إلا على نفسه) ، إن عرف من نفسه ذلك فإنه ، أي الشأن (من مدح الصنعة فإنما مدح الصانع) لها (بل شك) في ذلك فإنّ حسنها ، أي الصنعة (وعدم حسنها) ، أي الصنعة (راجع) بحسب مقتضى ذلك من المدح أو الذم إلى (صانعها) ، أي تلك الصنعة والإله المعتقد بصيغة اسم المفعول مصنوع للناظر فيه يعتقده في نفسه .
قال رضي الله عنه : (فهو) من حيث الصورة القائمة بخيال المعتقد له (صنعته) ، أي صنعة ذلك المعتقد له ، صنعه بفكره وعقله ليصرف إليه جميع أعماله باعتبار الضرورة اللازمة في ذلك ، لأنه لو نفاه لعطل الإله الحق وأنكره من الوجود وهو كفر ، فلهذا جاء الشرع بقبول هذا الإله المصنوع في الاعتقادات عند الكل ، إذ هو مما لا يمكن الامتناع منه فإثباته في النفس فرض على كل مكلف ، ولكن مع معرفة العجز عن معرفة الحق المطلق بالإطلاق الحقيقي الذي هذا الإله المصنوع في النفس مقدار الاستعداد من معرفته ، فذلك ل يعرف من حيث هو أصلا ،
وإنما يعرف من حيث هذا الإله المصنوع في النفس كيفما كان ، وكل من حصر الحق المطلق بالإطلاق الحقيقي في هذا المصنوع عنده في نفسه فقد جهل وخرج عن المعرفة الإلهية الصحيحة الواردة في الكتاب والسنة ، وكان من المجسمين المشبهين المبتدعة الخارجين عن مذهب أهل السنة والجماعة ولا يكفر لتأويله نصوص الإطلاق الحقيقي بالإطلاق المجازي العقلي كقوله تعالى :لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ الشورى : 11 ] ، أي شيء من هذه المحسوسات ونحو ذلك .
قال رضي الله عنه : (فثناؤه) ، أي ذلك المعتقد (على ما اعتقده) في نفسه أنه إلهه الحق (ثناؤه على نفسه) التي صورت فيها هذا الاعتقاد المذكور (ولهذا) ، أي لكون الأمر كذلك يذمّ ذلك المعتقد بصيغة اسم الفاعل (معتقد) بصيغة اسم المفعول ، أي م يعتقده (غيره) من الناس (ولو انصف) ذلك المعتقد الذام (لم يكن له ذلك) ، أي الذم لمعتقد غيره ، لأن كل المعتقدات سواء من جهة كونها مخلوقة للّه تعالى بواسطة المعتقدين لها ، وكونها غير مطابقة للحق تعالى المطلق بالإطلاق الحقيقي ، فلا معنى لترجيح بعضها على بعض في حسن أو قبح ، وإنما الترجيح بمعرفة أنها مقدار استعداد كل معتقد من الناس ، وأن الإله الحق المطلق بالإطلاق الحقيقي غيب أبدا معجوز عن معرفته للكل من وجه ما هو عليه في نفسه .
قال تعالى :وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ[ المطففين : 26 ] ، وإياك أن تظن أن هذا الكلام يقتضي إثبات إلهين اثنين ، فتكون افتريت علينا وعلى المصنف قدس اللّه سره بما لا تفهمه بعقلك ولا أنت من أهله ، واللّه على ما نقول وكيل (إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص) الذي ضبطه في نفسه بصورة خيالية منسوبة عنده إلى الحق تعالى المطلق بالإطلاق الحقيقي ، محكوم عليه تعالى أنه هكذ كما اعتقده خصوصا مع اعتقاده أنه تعالى لا تتصوّره العقول والأفكار ، حيث جزم بم عنده وحكم بالخطأ فيما عند غيره من ذلك (جاهل بلا شك) أصلا (في ذلك) ، أي في جهله المذكور لاعتراضه على غيره ، أي إنكاره ما يعتقده غيره مما هو مقتضى استعداد ذلك الغير (فيما) ، أي في الاعتقاد الذي (اعتقده في) حق (اللّه) تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إذ لو عرف ما قال الجنيد لون الماء لون إنائه لسلّم لكلّ ذي اعتقاد ما اعتقده ، وعرف اللّه في كلّ صورة وكلّ معتقد .
فهو ظان ليس بعالم ، فلذلك قال : « أنا عند ظنّ عبدي بي » أي لا أظهر له إلّا في صورة معتقده : فإن شاء أطلق وإن شاء قيّد .
فإلّه المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الّذي وسعه قلب عبده ، فإنّ الإله المطلق ل يسعه شيء لأنّه عين الأشياء وعين نفسه : والشّيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا ل يسعها فافهم ،وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ[ الأحزاب : 4 ] .)
قال رضي الله عنه : (إذ) ، أي لأنه (لو عرف) ذلك المعترض على غيره (ما قال) ، أي قول (الجنيد) رضي اللّه عنه السابق ذكره لون الماء لون إنائه كما قدمنا بيانه قريبا لسلّم لكل ذي اعتقاد في اللّه تعالى ما اعتقده ، لأن الكل مخلوق في النفوس فهو سواه ، والاختلاف في ذلك إنما هو بحسب استعداد كل أحد في قوّة بصيرته ، والحق تعالى المطلق بالإطلاق الحقيقي غيب عن الكل ، مطلقا على حسب ما هو عليه في الأزل (وعرف اللّه) تعالى ظاهرا متجليا له في كل صورة حسية أو عقلية أو )و(همية وفي (كل معتقد) بصيغة اسم المفعول أي ما يعتقده كل أحد على حسب ما قررنا سابق .
) قال رضي الله عنه : فهو( ، أي ذلك المعترض على غيره في الاعتقاد ظان ، أي صاحب ظن في اللّه تعالى كما قال سبحانه :وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ[ الأحزاب :10].، وقال تعالى :إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ[ الأنعام : 116 ] وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً[ يونس :36].
، ثم قال تعالى بعد ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِن[ النجم : 29 ] ، أي من حيث الإطلاق الحقيقي ليس ذلك بعالم باللّه تعالى أصلا لعدم عجزه بالذوق والوجدان عن ذلك الغيب المطلق .
قال رضي الله عنه : (فلذلك) ، أي لأجله (قال) تعالى كما ورد في الحديث القدسي (" أنا عند ظن عبدي بي") فليظن بي ما شاء » . رواه الطبراني والحاكم عن واثلة بن الأسقع.
وفي رواية : " أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن خير فله وإن ظن شرا فله " . رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة .
قال رضي الله عنه : (أي لا أظهر له) ، أي لذلك العبد (إلا في صورة معتقده) ، أي ما يعتقده في حق اللّه تعالى (فإن شاء أطلق) في معتقده من حيث ما يدري ذلك العبد من عدم التخصيص بصورة في نفسه ، وهو الإطلاق المجازي العقلي لا الإطلاق الحقيقي ، الذي هو عليه الحق تعالى في نفسه ، لأن ذلك ليس بإطلاق أحد (وإن شاء قيد) في معتقده صورة خاصة ولكنه لا يبقي ما عداها لئلا يفتري على غيره فيفتري الغير عليه ظاهرا أو باطنا أو بلسان الحال (فإله المعتقدات) ،
أي الذي في الاعتقادات المختلفة على حسب استعداد كل استعداد منها تأخذه الحدود ، أي المقادير والصور والهيئات بحسب العقول المختلفة (وهو الإله الذي) ورد في الحديث القدسي أنه قال رضي الله عنه : (وسعه قلب عبده) المؤمن في قول النبي صلى اللّه عليه وسلم عن اللّه تعالى : " وم وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن " . والعبد المؤمن هو كل من في السماوات والأرض .
قال تعالى :إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً[ مريم : 93 ]
لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ( 94 ) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً( 95 ) [ مريم : 94 - 95 ].
قال رضي الله عنه : (فإن الإله) الحق (المطلق) بالإطلاق الحقيقي (لا يسعه شيء) أصلا ، فإن الأشياء كلها بالنسبة إليه عدم صرف وهو الوجود الحق الحقيقي (لأنه) ، أي الإله المطلق (عين الأشياء) كلها المحسوسة المعقولة والموهومة من حيث التجلي والانكشاف بالوجود الحق المطلق ، لا من حيث الصور الممكنة العدمية الظاهرة بذلك التجلي الإلهي والانكشاف الرباني
قال رضي الله عنه : (و) هو أيضا تعالى من تلك الحيثية المذكورة (عين نفسه) ، أي ذاته (والشيء لا يقال فيه) ، أي في حقه أنه (يسع نفسه) إذ لا مغايرة بينه وبين نفسه ولا يقال فيه أيضا (أنه لا يسعها) ، أي نفسه لأن النفي مرتب على الإثبات ، فإذا لم يمكن الإثبات في أمر فلا معنى لاعتبار النفي فيه حينئذ .
قال رضي الله عنه : (فافهم) يا أيه السالك جميع ما ذكرناه لك في هذا الكتاب مفصلا ومجملا (واللّه سبحانه يقول الحق ) بلسان عبده المؤمن (وهو) تعالى الذي ("يَهْدِي السَّبِيلَ")، أي الطريق المستقيم والدين المحمدي القويم لا هادي سواه ولا إله إلا اللّه .
وقال شارحه سامحه اللّه تعالى : وهذا آخر ما يسره اللّه تعالى لنا من الشرح على كتاب فصوص الحكم ، الذي ناوله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي رضي اللّه عنه في منامه المشتمل على رؤيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحق الصدق ،
الذي من رآه في منامه فقد رآه حقا كما ورد عنه صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الشريف .
وقال له : "اخرج به إلى الناس ينتفعون به " .
فخرج به رضي اللّه عنه في بلادنا هذه دمشق الشام المحروسة إن شاء اللّه تعالى من كل سوء على مدى الأيام ، وانتفع الناس به كما قال صلى اللّه عليه وسلم ، "وما تضرر به إلا من غلبت عليه الحيوانية ، وضعفت إنسانيته فليس من الناس إلا في الصورة دون المعنى " .
وقد سبق بيان هذه الرؤيا المبشرة في أوّل هذا الكتاب تلطيف ذلك الكلام المستطاب ، واللّه تعالى قد تفضل الآن بإتمام شرحنا هذا الذي خدمنا به ألفاظ المتن بحسب فتوح الوقت من غير مراجعة شرح من شروحه أصلا من أوّله إلى آخره ، واتكلنا فيه على معونة اللّه تعالى لنا وحسن توفيقه .
وقد كشفن فيه عن العبارات المغلقة وحررنا ما يحتاج إليه في بيان ما أشكل من معانيه التي هي عند كثير من الناس مغلقة ، وكان هذا التحرير من أوّله إلى آخره في بلادنا هذه دمشق الشام ، التي كان تصنيف المتن فيها بمعونة الملك العلام .
وقد فرغن منه بعد صلاة الجمعة بالجامع الأموي نهار الجمعة الخامس والعشرين من شعبان المبارك من شهور سنة ست وتسعين بعد الألف .
قال هذ مصنفه العبد الحقير والعاجز الفقير عبد الغني بن إسماعيل بن النابلسي
عفا اللّه تعالى عنه ولطف به في الدارين ، وختم له بالحسنى وجعله من خير الفريقين .
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والحمد للّه رب العالمين ، ورضوان اللّه تعالى على جميع الصحابة والتابعين إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين .
قال شارحه سامحه اللّه تعالى وقد أحببنا هذا الشرح المبارك بأبيات ثلاثة عشر ، نظمناها بعد فراغنا من تصنيفه بيومين ، تشتمل في آخرها على تاريخ إتمام هذا الشرح إذا حسبت الجملة الواقعة بعد قولي : " أرخت " وهي : « صار شرح الفصوص » .
وذلك قولي :
بعلوم حوى كتاب الفصوص ... تنتهي قلوب أهل الخصوص
نور حي مؤيد هو فين ... من كتاب وسنة بالنصوص
لكن الحق باطل بالتعامي ... عنه ممن في دينهم كاللصوص
ويرى المؤمن الأذى من سواه ... ولو انحاز عنه في أفحوص
""أفحوص : مشتق من فحصت القطاة والدجاجة إذا بحثت في التراب موضعا تبيض فيه ، والأفحوص مبيض القط وعش الطائر ( لسان العرب )""
إن هذا الكتاب للّه باب ... يا هنا أهل بيته المخصوص
فيه دين الإله أحياه محيي ال ... دين بحر الكمال روض الخلوص
كيف لا والرسول ناوله ذ ... وله قال في مساق الشخوص
خذه واخرج به إلى الناس حتى ... يقتفوا نفعه بزجر القلوص
""القلوص : كل أنثى من الإبل ، الشّابة أو الباقية على السير ( القاموس المحيط ) .""
عصبة الحق في معانيه قامو ... كبناء عن الهوى مرصوص
والجهول الذي له حرمان ... من بداه بحظه المنقوص
أذهب العمر منكرا بجناح ... عن نهوض إلى العلى مقصوص
وفق اللّه حيث قمنا بنصر ... للهدى في مراده المنصوص
وعليه لنا تيسر شرح ... فيه أرخت صار شرح الفصوص
* * *
تم الفص المحمدي
.
....

FCtiRnbrThw

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!