موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة إمامية في كلمة هارونية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة إمامية في كلمة هارونية


24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [ البقرة : 124 ] أي خليفة عليهم .
هذ فص الحكمة الهارونية ، ذكره بعد حكمة لقمان عليه السلام لاشتمال حكمة هارون عليه السلام على بيان ظهور العين الواحدة في صور كثيرة ، فناسب ما ذكر من ذلك في حكمة لقمان عليه السلام على طريق زيادة البيان والإيضاح لذلك .
(فص حكمة إمامية) ، أي منسوبة إلى الإمام وهو المقتدى به ولو في نوع من الكمال (في كلمة هارونية) إنما اختصت حكمة هارون عليه السلام بكونه إمامية ، لأنه عليه السلام كان خليفة عن أخيه موسى عليه السلام في قومه لما ذهب إلى ميقات ربه لقوله سبحانه :وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [ الأعراف : 142 ] ، والخليفة إمام يقتدى به .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أنّ وجود هارون عليه السّلام كان من حضرة الرّحموت بقوله تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا يعني لموسى :أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا[ مريم : 53 ] . فكانت نبوّته من حضرة الرّحموت .
فإنّه أكبر من موسى سنّا ، وكان موسى أكبر منه نبوّة . ولمّا كانت نبوّة هارون من حضرة الرّحمة ، لذلك قال لأخيه موسى - عليهما السلام - :يَا بْنَ أُمَّ، فناداه بأمّه لا بأبيه إذ كانت الرّحمة للأمّ دون الأب أوفر في الحكم .
ولولا تلك الرّحمة ما صبرت على مباشرة التّربية .
ثمّ قال :لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي[ طه : 94 ] ،فَل تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ[ الأعراف : 150 ] فهذا كلّه نفس من أنفاس الرّحمة . وسبب ذلك عدم التّثبّت في النّظر فيما كان في يديه من الألواح الّتي ألقاها من يديه . )
(اعلم )يا أيها السالك (أن وجود هارون عليه السلام) في الدنيا (كان من حضرة الرحموت) ، أي الرحمة العظيمة الإلهية (بقوله تعالى :وَوَهَبْن لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا يعني لموسى) عليه السلام (أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [ مريم : 53 ] فكانت نبوّته) ، أي هارون عليه السلام (من حضرة الرحموت) ، أي الرحمة الإلهية (فإنه) ، أي هارون عليه السلام (أكبر من موسى) عليه السلام (سنا) ، أي عمرا (وكان موسى) عليه السلام (أكبر منه) ، أي من أخيه هارون عليه السلام (نبوّة) ، لأنه المقصود بالإرسال إلى فرعون وبني إسرائيل وأخوه هارون عليه السلام مساعد له في ذلك كما قال تعالى :" سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً " [ القصص: 35] ، أي في الأرض .
(ولم كانت نبوّة هارون) عليه السلام (من حضرة الرحمة) الإلهية بموسى عليه السلام ، لأنه موهوب له من قبل اللّه تعالى بدليل الآية السابقة (لذلك) ، أي لأجل ما ذكر (قال) ، أي هارون عليه السلام (لأخيه موسى) عليهما السلام حين أخذ بلحيته وبرأسه يضربه على تمكين بني إسرائيل من عبادة العجل في غيبة موسى عليه السلام في ميقات ربه تعالى : " يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي[ طه : 49 ] ،
وفي آية أخرى :وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "[ الأعراف : 150 ] ،
فناداه ، أي نادى أخاه ، لأنه كان شقيقه بأمه لا بأبيه إذ كانت الرحمة ، والشفقة للأم على الولد دون الأب ، فإن رحمته أقل من رحمة الأم بولدها أوفر ، أي أزيد وأكثر في الحكم الإلهي ولولا زيادة تلك الرحمة في الأم ما صبرت ، أي الأم على مباشرة مشقة التربية ، أي تربية الولد .
ثم قال ، أي هارون عليه السلام لأخيه موسى عليه السلام ("ل تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي") ، أي تقبض عليه ("وَلا بِرَأْسِي") وقال أيضا له (فلا تشمت بي الأعداء )، أي من بني إسرائيل الذين نهاهم عن ذلك فعادوه لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ( 90 ) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) ( 91 ) [ طه : 90 - 91 ] ،
(فهذا) القول من هارون عليه السلام لأخيه موسى عليه السلام (كله نفس) بالفتح ، أي تنفس ما يجده في صدره (من أنفاس الرحمة) ، أي التذكير بالشفقة المقتضية تربيتهما من أمهما اليسرى حكمها بينهما أيضا (وسبب ذلك) ، أي سرعة معاتبة موسى لأخيه هارون عليهما السلام في عبادة بني إسرائيل العجل وضربه له وهذا التعطف والتلطف والتذكير بالرحمة والشفقة من هارون لأخيه موسى عليه السلام (عدم التثبت) ، أي التأني والتأمل في النظر ، أي نظر موسى عليه السلام فيما كان في يده من الألواح ، أي ألواح التوراة التي ألقاها من بين يديه وأخذ برأس أخيه يجره إليه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلو نظر فيها نظر تثبّت لوجد فيها الهدى والرّحمة . فالهدى بيان ما وقع من الأمر الّذي أغضبه ممّا هو هارون بريء منه . والرّحمة بأخيه ، فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره وأنّه أسنّ منه . فكان ذلك من هارون شفقة على موسى لأنّ نبوّة هارون من رحمة اللّه ، فلا يصدر منه إلّا مثل هذ . ثمّ قال هارون لموسى عليهما السّلام :إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ [ طه : 94 ] فتجعلني سببا في تفريقهم فإنّ عبادة العجل فرّقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتّباعا للسّامريّ وتقليدا له ، ومنهم من توقّف عن عبادته حتّى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك . )
فلو نظر موسى عليه السلام فيها ، أي في تلك الألواح نظر التثبت أي التأني والتأمل لوجد أي موسى عليه السلام فيها أي في تلك الألواح الهدى ، أي الدلالة على الحق من اللّه تعالى والرحمة الإلهية من موسى بأخيه عليه السلام فالهدى بيان ما ، أي الذي وقع من الأمر الذي أغضبه ، أي موسى عليه السلام مما هو ، أي ذلك الأمر هارون عليه السلام بريء منه والرحمة من موسى عليه السلام بأخيه هارون عليه السلام كما قال تعالى :" وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ " [ الأعراف : 145 ] .
وقال تعالى : "وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ( 154 ) [ الأعراف : 154 ] ،
فكان ، أي موسى عليه السلام لا يأخذ بلحيته ، أي لحية أخيه عليه السلام بمرأى من قومه ، أي بحيث يراه قومه مع كبره ، أي كونه أكبر وأنه ، أي هارون عليه السلام أسنّ منه ، أي من موسى عليه السلام كما مر فكان ذلك القول الحاصل من هارون عليه السلام شفقة على أخيه موسى عليه السلام لأنّ نبوّة هارون عليه السلام كانت من رحمة اللّه تعالى كم سبق فلا يصدر منه ، أي من هارون عليه السلام إلا مثل هذا القول المذكور .
(ثم قال هارون لموسى عليه السلام :إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ)[ طه : 94 ] ، أي أوقعت الفرقة بينهم فتجعلني سببا في تفريقهم إلى فرق كثيرة فإن عبادة العجل فرقت بينهم حتى كانو فرقا فكان منهم ، أي من بني إسرائيل من عبده ، أي العجل اتباعا ، أي على وجه الاتباع للسامري الذي دعاهم إلى ذلك في غيبة موسى عليه السلام وتقليد له ، لأنهم أحسنوا ظنهم فتبعوه ومنهم ، أي من بني إسرائيل من توقف عن عبادته ، أي العجل حتى يرجع موسى عليه السلام إليهم فيسألونه في ذلك هل هو صواب أم لا ؟
ثم قيل : إن الذين عكفوا على عبادة العجل منهم ثمانية ألف رجل وقيل : كلهم عبدوه إل هارون مع اثني عشر ألف رجل ، وهذا أصح .
وقال الحسن : كلهم عبدوه إلا هارون وحده .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ، فكان موسى أعلم من هارون لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأنّ اللّه قد قضى أن لا يعبد إلّا إيّاه : وما حكم اللّه بشيء إلّا وقع . فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه ، فإنّ العارف من يرى الحقّ في كلّ شيء ، بل يراه عين كلّ شيء . فكان موسى يربّي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السّنّ . ولذلك لمّا قال له هارون ما قال ، رجع إلى السّامريّ فقال له :فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ [ طه : 95 ] ؟
يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص ، وصنعك هذ الشّبح من حليّ القوم حتّى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم . فإنّ عيسى يقول لبني إسرائيل : « يا بني إسرائيل قلب كلّ إنسان حيث ماله ، فاجعلوا أموالكم في السّماء تكن قلوبكم في السّماء ) .
فخشي هارون عليه السلام أن ينسب عند أخيه موسى عليه السلام ذلك الفرقان ، أي التفرق الذي وقع بينهم إليه ، أي إلى هارون عليه السلام فكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر الإلهي على ما هو عليه في نفسه من أخيه هارون عليه السلام لأنه ، أي موسى عليه السلام علم ما عبده في نفس الأمر أصحاب العجل وكانوا هم لا يعلمون فكفروا بعبادتهم لغير اللّه تعالى في نظرهم وإن قالوا :هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى[ طه : 88 ] .
كم حكاه تعالى من قول السامري وهم تبعوه في ذلك ، فإنه عجل عندهم من حيث ما هم ناظرون وعارفون حتى لو سألتهم عنه لقالوا : هو عجل ، واللّه تعالى ليس بعجل تعالى عن ذلك علوا كبيرا لعلمه ، أي علم موسى عليه السلام بأن اللّه تعالى قد قضى ، أي حكم وألزم أن لا يعبد ، أي يعبد أحد إلا إياه سبحانه وم حكم اللّه تعالى بشيء وألزم به إلا وقع ، أي ذلك الشيء وقد نزل هذا العلم قرآنا على نبينا صلى اللّه عليه وسلم .
قال تعالى :وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّ إِيَّاهُ [ الإسراء : 23 ] ،
(فكان عتب موسى أخاه هارون) عليه السلام (لما) ، أي لأجل الذي (وقع الأمر في إنكاره ) من عبادة العجل وعدم اتساعه ، أي هارون عليه السلام له فإن العارف باللّه تعالى هو من يرى ، أي يشهد الحق تعالى ظاهرا في كل شيء محسوس أو معقول أو
جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص ، ج ٢« ٣٢٩ »الشيخ عبد الغني النابلسي
موهوم بل يراه تعالى عين كل شيء كذلك باعتبار الوجود القيوم لما عداه من الصور الفانية المعدومة بالعدم الأصلي وهو قوله تعالى :كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[ القصص : 88 ] ،
فكان موسى عليه السلام يربي ، أي يرشد ويعلم أخاه هارون عليه السلام تربية علم ، أي ذوق وتحقيق وإن كان ، أي موسى عليه السلام أصغر منه ، أي من أخيه هارون عليه السلام في السن ، أي العمر ، وإن كان هارون عليه السلام أيضا ليس خاليا من ذلك ، لأن له طور الولاية وهو نبي ، فطوره فوق ذلك الطور ، ولكنه لما عبر عنه إلى طور النبوّة غلب عليه مقتضى شهود الكثرة خصوصا ، وهو رسول إلى بني إسرائيل مع أخيه موسى عليه السلام ، واقتضت مخالطة قومه التكلم بكلامهم والسلوك في أطوارهم ومشاركتهم في مشاربهم العامية ، فكان إرشاد موسى له عليه السلام تذكيرا وتنبيها ، أو حثا على تلك الملاحظة التي أصلها بمقتضى نظره في أمور قومه ،
كم أن موسى عليه السلام ، كان يعلم في ضمن طور نبوته ما كان في طور ولاية الخضر عليه السلام لأن الأنبياء عليهم السلام أولياء قبل كونهم أنبياء ، ولكن إذا خوطبوا من مقام النبوّة كان عملهم مثل أعمال قومهم لإرسالهم إليهم ، وأما الأنبياء عليهم السلام الذين هم ليسوا بمرسلين كالخضر عليه السلام فإنهم مخاطبون بالعبادة من مقام ولايتهم ، فشرعهم الحقيقة ومن هنا قول الخضر لموسى عليه السلام :إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً( 68 ) [ الكهف : 67 - 68 ] ،
والحضرة التي لم يخاطب منها الكامل لا اعتناء له بها ولا اشتغال لقلبه بمكابدتها وإن كانت عنده في ضمن مقامه ، ومن هنا قال : من قال خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله ، ومراده المرسلون منهم لعدم خوضهم في بحر الولاية المندرجة في ضمن مقامهم لخطابهم بما خوطب به قومهم من قوم نبواتهم ، فاعلم ذلك فإنه نفس من فتوح لوقت ، وهو محتاج إلى زيادة بيان بما لا يسعه هذا المكان ، وربما يمر في غير موضع من كلامنا فنبسط الكلام فيه ؛
ولذلك ، أي لأجل ما ذكر من التربية المذكورة لما قال له ، أي لموسى هارون عليه السلام ما قال من اعتذاره بخشية التفريق بينهم رجع ، أي موسى عليه السلام إلى السامري فقال له ("فَما خَطْبُكَ") الخطب سبب الأمر نقول ما خطبك ، أي ما سبب أمرك ("يا سامِرِيُّ" يعني فيم صنعت) ، أي في صنعك (من عدولك) عن الحق المطلق إلى صورة العجل الذي هو وجه من وجوه التجلي الإلهي على الاختصاص بالتقييد المخصوص و من صنعك هذا الشّبح ، أي الشخص من حليّ القوم ، أي قوم موسى عليه السلام وهو ما كانوا يتحلون به من الذهب الذي استعاروه من القبط .
وروي أنه تعالى لما أراد غرق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم اللّه تعالى أنه ل يؤمن منهم أحد ، أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ،
وذلك لغرضين :
أحدهم أن يخرجوا خلفهم لأجل المال ،
والثاني أن تبقى أموالهم في أيديهم ،
ثم نزل جبريل عليه السلام بالعشي فقال لموسى : أخرج قومك ليلا حتى أخذت مخاطب للسامري بقلوبهم ، أي قوم موسى عليه السلام من أجل أموالهم التي جعلها لهم عجلا ، ووضعت فيه القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام فخار ذلك العجل فإن عيسى عليه السلام يقول لبني إسرائيل : "يا بَنِي إِسْرائِيلَ" وهم أولاد يعقوب عليه السلام قلب كل إنسان حيث ماله ، أي ما يملك من النقود وغيرها فاجعلو أموالكم في السماء ، أي تصدقوا بها على الفقراء حتى ترفع لكم فتكون في صحائف الملائكة الحفظة عليهم السلام فيصعدون بها إلى السماء التي هي مسكنهم تكن قلوبكم في السماء حيث كانت أموالكم تبعا له .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما سمّي المال مالا إلّا لكونه بالذّات تميل القلوب إليه بالعبادة . فهو المقصود الأعظم المعظّم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه .
وليس للصّور بقاء ، فلا بدّ من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه . فغلبت عليه الغيرة فحرّقه ثمّ نسف رماد تلك الصّورة في اليمّ نسفا وقال له :وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَوسمّاه إلها بطريق التّنبيه للتّعليم ، لما علم أنّه بعض المجالي الإلهيّة .
« لأحرقناه » فإنّ حيوانيّة الإنسان لها التّصرّف في حيوانيّة الحيوان لكون اللّه سخّرها للإنسان ، ولا سيّما وأصله ليس من حيوان ، فكان أعظم في التّسخير لأنّ غير الحيوان ما له إرادة بل هو بحكم من يتصرّف فيه من غير إباءة . )
وم سمي في لغة العرب المال مالا إلا لكونه ، أي المال بالذات من غير تكلف تميل القلوب ، أي قلوب الناس إليه بالعبادة وهي غاية الذل لأجله من الغافلين كما ورد في الحديث : « تعس عبد الدرهم وتعس عبد الدينار وتعس عبد الخميصة »
فهو ، أي المال المقصود الأعظم للنفوس المعظم في القلوب المحجوبة لم فيها ، أي القلوب من الافتقار، أي الاحتياج إليه ، أي إلى المال في جميع الأمور.
وليس للصور ، أي صور الأشياء بقاء أصلا لأنها أعراض زائلة فلا بدّ من ذهاب صورة العجل في كل حين من جملة الأعراض الذاهبة لو لم يستعجل موسى عليه السلام بحرقه ، أي العجل فغلبت عليه ، أي على موسى عليه السلام الغيرة في انتهاك حرمة اللّه تعالى فحرقه ، أي العجل ثم نسف بالتفريق رماد تلك الصورة التي هي صورة العجل من الذهب في اليم ، أي البحر نسف تأكيد للفعل وقال ، أي موسى عليه السلام له ، أي للسامري (" وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ") [طه : 97 ] الذي عبدته وهو العجل فسماه ، أي موسى عليه السلام إلها بطريق التنبيه ،
أي إيقاظ الغافلين للتعليم ، أي تعليمهم لما علم ، أي موسى عليه السلام أنه ، أي ذلك العجل بعض المجالي جمع مجلى ، أي المظاهر الإلهية فقد علم ما علم السامري من ذلك فأداه إلى عبادته من كثرة قصوره عن كمال علم موسى عليه السلام (لأحرقنه) ، أي العجل وقيل إنه برده بالمبرد فذراه في البحر .
فإن حيوانية الإنسان لها التصرف بطريق القهر والغلبة في حيوانية الحيوان الذي ذلك العجل من جملته لكون اللّه تعالى سخرها ، أي حيوانية الحيوان للإنسان تنقاد إليه في كل ما يريد ولا سيما ، أي خصوصا وأصله ، أي ذلك العجل ليس متولدا من حيوان بل سرت فيه الحياة ابتداء من إلقاء القبضة التي هي من أثر فرس جبريل عليه السلام فكان ، أي ذلك العجل أعظم في التسخير من جميع الحيوانات للإنسان (لأن غير الحيوان) من الجمادات كالعجل من الذهب ، فإن الذي خار وتحرك هو القبضة الملقاة فيه بحكم صورته وهو العجل ، وقد بقي فيه حكم الجمادية ، فكان حيوانا بالصوت والحركة فقط ، لا بالأكل والشرب والنكاح والنوم والموت ونحو ذلك ، ولهذا حرقه موسى عليه السلام ، ولو كان حيوانا حقيقة ما حرقه ، لأنه تعذيب له ولم يرد أنه ذبحه قبل الحرق إذ هو جماد لا يقبل الذبح ما له إرادة يأبى ويمتنع بها ممن يريده أحيانا وينقاد بها أحيانا كالحيوان المطلق (بل هو) ، أي غير الحيوان من ذلك العجل (بحكم من يتصرف فيه) من الناس كالجمادات والنباتات (من غير إباءة) ، أي امتناعه من ذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا الحيوان فهو ذو إرادة وغرض فقد يقع منه الإباءة في بعض التّصريف .
فإن كان فيه قوّة إظهار ذلك ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان . وإن لم تكن له هذه القوّة ، أو يصادف غرض الحيوان انقاد مذلّلا لما يريده منه ، كما ينقاد الإنسان مثله لأمر فيما رفعه اللّه به - من أجل المال الّذي يرجوه منه - المعبّر عنه في بعض الأحوال بالأجرة في قوله :وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا فما يسخّر له من هو مثله إلّ من حيوانيّته لا من إنسانيّته .
فإنّ المثلين ضدّان ، فيسخّره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيّته ويتسخّر له ذلك الآخر - إمّا خوفا أو طمعا - من حيوانيّته لا من إنسانيّته .
فما يسخّر له من هو مثله ألا ترى ما بين البهائم من التّحريش لأنّها أمثال ؟
فالمثلان ضدّان ولذلك قال :وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) [ الزخرف : 32].
فم هو معه في درجته ، فوقع التّسخير من أجل الدّرجات .
وأم الحيوان المطلق فهو ذو ، أي صاحب إرادة وغرض بالغين المعجمة ، أي حظ فقد يقع منه ، أي من الحيوان الإباءة ، أي الامتناع من صاحبه في بعض التصريف به فإن كان فيه ، أي في ذلك الحيوان قوّة إظهار ذلك الإباء والامتناع ظهر منه ، أي من ذلك الحيوان الجموح ، أي الحران والامتناع لما يريده منه الإنسان وإن لم تكن له ، أي ذلك الحيوان هذه القوّة ، أي قوّة إظهار الإباء والامتناع أو كانت ولكن صادف ، أي وافق ذلك الإنسان بإرادته غرض ، أي حظ الحيوان انقاد ،
أي أطاع ذلك الحيوان له مذللا بصيغة اسم المفعول لما يريده ، أي الإنسان منه ، أي من ذلك الحيوان كما ينقاد ، أي يطيع مثله ، أي مثل ذلك الحيوان وهو الحيوانية بين الإنسان لأمر ، أي لأجل أمر من الأمور فيما ، أي في حق الأمر الذي رفعه اللّه تعالى على جميع الحيوان به ، أي بذلك الأمر وهو الإنسانية من أجل المال الذي يرجوه ذلك الإنسان منه ، أي من فعل ذلك الأمر المعبر عنه ، أي عن ذلك المال في بعض الأحوال ، إذا توفرت الشروط في الشرع بالأجرة في قوله تعالى متعلق برفعه اللّه تعالى وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ[ الزخرف : 32 ] ، أي الناس فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ متفاوتة لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ، أي الناس بَعْضاً سُخْرِيًّا، أي متسخر .
(فم يسخّر له) ، أي للإنسان (من هو مثله) في الإنسانية (إلا من) جهة (حيوانيته) ، أي المتسخر (لا من) جهة (إنسانية) المتماثلين فيها (فإن المثلين) من كل شيء (ضدان) باعتبار أن المحل كما لا يقبل الضدين كالسواد والبياض مثلا فيكون في وقت واحد أسود وأبيض معا ، كذلك لا يقبل المثلين فيكون فيه أبيضان أو أسودان في وقت واحد معا بل هو بياض واحد وسواد واحد وإن زاد على ما كان إذ لو كان بياضان أو سوادان في محل واحد لصح زوال أحدهما ويخلفه ضده فيجتمع ضدان ،
فالشيء لا يسخر مثله من حيث ما هو مثله ولا يتسخر لمثله من حيث ما هو مثله فيسخّره ، أي الإنسان من حيث ما هو السفل الأرفع منه ، أي الإنسان من حيث ما هو أرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه والمنصب بإنسانيته ، أي بوجه كونه إنسانا ويتسخر له ، أي يقبل التسخر منه له ذلك الإنسان الآخر إم خوفا منه باعتبار الجاه أو طمعا فيه باعتبار المال من جهة حيوانيته ، أي كونه حيوانا لا من جهة (إنسانيته فما يسخر).
، أي قبل التسخير له ، أي للإنسان من هو مثله ، أي الإنسان الآخر الذي يماثله وإنما تسخر له من دونه ولو من وجه كما ذكر ألا ترى ، يا أيها السالك ما بين البهائم من السباع والوحوش وغيرها من التحريش ، أي اعتداء بعضها على بعض من غير انقياد لأنها ، أي البهائم أمثال ، أي بعضه مثل لبعض في الحيوانية من غير تفاوت بوصف فاضل فيها ذاتي لها فالمثلان من الإنسانين والحيوانين ضدان فلا يفضل أحدهما على الآخر حتى يسخر ولذلك ، أي لأجل ما ذكر قال اللّه تعالى ("وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ") [ الزّخرف : 32 ] .
باعتبار أن التفاوت في النوع فما هو ، أي من تسخر معه ، أي مع من تسخر له في درجته التي هو فيها فوقع التسخير في نوع الإنسان من أجل الدرجات المختلفة التي رفعه اللّه تعالى به .
قال الشيخ رضي الله عنه : (والتّسخير على قسمين :
تسخير مراد للمسخّر ، اسم فاعل قاهر في تسخيره لهذا الشّخص المسخّر كتسخير السّيّد لعبده ، وإن كان مثله في الإنسانيّة ، وكتسخير السّلطان لرعاياه ، وإن كانو أمثالا له في الإنسانيّة فيسخّرهم بالدّرجة .
والقسم الآخر تسخير بالحال كتسخير الرّعايا للملك القائم بأمرهم في الذّبّ عنهم وحمايتهم وقتال من عاداهم وحفظه أموالهم وأنفسهم عليهم . )
والتسخير الواقع بين الناس من بعضهم لبعض على قسمين:
القسم الأولتسخير مراد أي مقصود للمسخّر بصيغة اسم فاعل قاهر ذلك المسخر في تسخيره لهذا الشخص المسخر له كتسخير السيد لعبده وإن كان ذلك العبد مثله ، أي السيد في الإنسانية وكتسخير السلطان والحاكم لرعاياه وإن كانوا ، أي الرعايا أمثالا له ، أي للسلطان والحاكم في صفة الإنسانية مع الحيوانية أيضا فيسخرهم ، أي السلطان الرعية بالدرجة التي له عليهم وهي رتبة السلطنة والحكم .
والقسم الآخر تسخير بالحال الظاهر من المسخر كتسخير الرعايا للملك ، أي السلطان القائم بأمرهم في الذب ، أي الطرد والمنع لشر الأعداء عنهم ، أي عن الرعاي وحمايتهم ،
أي حفظهم وحراستهم ممن يريدهم بسوء وقتال من عاداهم من أهل الحرب والبغي وحفظ أموالهم عن السراق والغاصبين والناهبين في المدن والقرى وقطاع الطريق في الصحراء وحفظ أنفسهم عليهم من كل معتد داعر أو ظالم مكابر .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذا كلّه تسخير بالحال من الرّعايا يسخّرون بذلك ملكهم ، ويسمّى على الحقيقة تسخير المرتبة .
فالمرتبة حكمت عليه بذلك . فمن الملوك من سعى لنفسه ، ومنهم من عرف الأمر فعلم أنّه بالمرتبة في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم وحقّهم ، فآجره اللّه على ذلك أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه وأجر مثل هذا يكون على اللّه في كون اللّه في شؤون عباده .
فالعالم كلّه مسخّر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنّه مسخّر . قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ") [ الرحمن : 29 ] .
(وهذا) المذكور (كله تسخير بالحال) الظاهر (من) جميع (الرعايا يسخرون بذلك) المذكور (ملكهم) ، أي سلطانهم الذي عاهدوه وعقدوا معه بيعة السلطنة على كل ذلك (ويسمى) ، أي هذا التسخير (على الحقيقة) ، أي حقيقة الأمر (تسخير المرتبة) فالمرتبة ، التي للواحد من الرعايا (حكمت عليه) ، أي على ذلك الواحد (بذلك) ، أي بتسخيره للملك والحاكم .
(فمن الملوك) غير العارف بأنه مسخر لرعاياه وهو من سعى في خدمة الرعية لنفسه ببلوغ حظها من إظهار الصولة والحمية وحفظ البلاء ليمدح على ذلك ومنهم ، أي الملوك من عرف الأمر وهو كونه مسخرا للرعايا فعلم في نفسه أنه ، أي ذلك الملك متسخر لرعاياه بالمرتبة المقتضية لذلك في تسخير رعاياه ، أي كونهم يسخرونه في جميع أمورهم فعلم من ذلك قدرهم
وعرف حقهم عليه فآجره اللّه ، أي إعطاء اللّه تعالى على ذلك الأمر القائم به مثل أجر العلماء العارفون (بالأمر على ما هو عليه) من الأنبياء وورثتهم وأجر مثل هذا المتسخر للمرتبة يكون أجره ذلك على اللّه تعالى كما قال نوح عليه السلام لقومه : (" فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ") [ يونس : 72 ] ،
وقال أيضا في موضع آخر : (" وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ") [ هود : 29 ] ،
وقال هود عليه السلام : (" يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ ") ( 51 ) [ هود : 51 ] في كون اللّه ظاهرا في شؤون جمع شأن وهو الحال ، أي أحوال عباده المؤمنين به على الكشف منهم عن ذلك .
قال تعالى : ("وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ")[ يونس : 61 ] ،
(فالعالم) يفتح اللام (كله) محسوسه ومعقوله وموهومه (مسخر بالحال) الظاهر منه وهو الافتقار والاحتياج من لا يمكن شرعا (أن يطلق عليه) عندنا (اسم مسخّر) بصيغة اسم المفعول وهو اللّه تعالى لعدم ورود هذا الاسم له في الشرع (قال تعالى) مشيرا إلى ذلك ( " كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ") [ الرحمن : 29 ] ، أي هو قائم بالشؤون كله .
وقال سبحانه : (" سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ") ( 31 ) [ الرحمن : 31 ] ، يعني من القيام بجميع أحوالكم في الدنيا فيفرغ خلقنا لشؤونكم كلها ثم تقوم الساعة فنحاسبكم على جميع ما هو منسوب إليكم عندكم من أعمالكم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان عدم قوّة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتّسليط على العجل كما سلّط موسى عليه ، حكمة من اللّه ظاهرة في الوجود ، ليعبد في كل صورة . وإن ذهبت تلك الصّورة بعد ذلك فما ذهبت إلّا بعدما تلبّست عند عابدها بالألوهيّة .
ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلّا وعبد إمّا عبادة تألّه وإمّ عبادة تسخير فلا بدّ من ذلك لمن عقل).
(فكان عدم قوّة إرداع) ، أي منع وزجر (هارون) عليه السلام لعابدي العجل من قومه (بالفعل) المقتضي للكف عن ذلك أن تنفذ تلك القوة منه (في أصحاب العجل بالتسليط) ، أي التوجه بالقهر والاستيلاء والقدرة والغضبية (على العجل كما سلط موسى) عليه السلام ، أي سلط اللّه تعالى عليه ، أي على العجل فحرقه ونسفه في البحر نسفا حكمة خبر كان من اللّه تعالى ظاهرة لكل من له بصيرة في هذا الوجود ليعبد ،
أي اللّه تعالى متجليا ظاهرا في كل صورة وإن ذهبت ، أي فنيت واضمحلت تلك الصورة التي ظهر بها وعبد فيها بعد ذلك ، أي بعد عبادته فيها فم ذهبت ، أي تلك الصورة إلا بعد ما تلبست ، أي اتصفت عند عابدهابالألوهية ولهذا ، أي لكون الأمر كذلك ما بقي نوع من الأنواع المخلوقة من أنواع الحيوان والنبات والجماد إلا وعبد بالبناء للمفعول ، أي عبده العابدون إم عبادة تأله ، أي كونه إلها من دون اللّه تعالى وإما عبادة تسخير كم سبق في القسمين المذكورين ولا بد من ذلك الأمر الذي وقع لمن عقل باعتبار ظهور اللّه تعالى في كل شيء واستتاره بحكم النفوس ، فالقلب يقول إنه الإله الموجود والتأثير الظاهرين في كل شيء والنفس تقول ليس هو الإله للصورة الحسية والمعنوية ، فإذا غلب القلب عرف فاعترف ومن بحر المعرفة اغترف وإذا غلبت النفس أنكر فكره ووجه الحق عنه استتر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وما عبد شيء من العالم إلّا بعد التّلبّس بالرّفعة عند العابد والظهور بالدّرجة في قلبه . ولذلك يسمّى الحقّ لنا برفيع الدّرجات ، ولم يقل رفيع الدّرجة . فكثّر الدّرجات في عين واحدة . فإنّه قضى أن لا نعبد إلّا إيّاه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كلّ درجة مجلى إليها عبد فيه . وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه « الهوى » كما قال :أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُفهو أعظم معبود ، فإنّه لا يعبد شيء إلّا به ، ولا يعبد هو إلّا بذاته . )

(وما عبد شيء من العالم) بفتح اللام أي المخلوق إلا بعد التلبس أي الاتصاف بالرفعة وعظمة الشأن والشرف عند العابد لذلك الشيء والظهور بالدرجة العالية في قلبه ، أي قلب ذلك العابد ؛ ولذلك ، أي لأجل ما ذكر تسمى الحق تعالى لنا في القرآن برفيع الدرجات .
قال تعالى : (" فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ( 14 ) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ") [ غافر : 14 -15 ].
ولم يقل تعالى رفيع الدرجة بالإفراد فكثر بالتشديد الدرجات ، أي جعلها كثيرة في عين ، أي ذات واحدة فإنه تعالى قضى ، أي حكم وألزم أن لا يعبد بالبناء للمفعول إلا إياه سبحانه كما قال تعالى : " وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ " [ الإسراء : 23 ] ،
وم قضى به وحكم وألزم واقع لا محالة عبادة واقعة عليه تعالى من جميع العابدين في درجات له كثيرة مختلفة في الحس والعقل والوهم أعطت كل درجة منها أي من تلك الدرجات مجلى ، أي مظهرا إلهيا ، أي منسوبا إلى الإله تعالى عبد ، أي اللّه تعالى فيه ، أي في ذلك المجلى الإلهي وأعظم مجلى ، أي مظهر عبد سبحانه وتعالى فيه لكمال ظهوره به وأعلاه ، أي أعلى مجلى وأرفعه الهوى ، أي الميل النفساني بقصد الحظوظ العاجلة
كما قال تعالى أفرأيت بالخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم تنبيها على ما يعجب منه غاية العجب من اتخذ ، أي جعل في نفسه إلهه ، أي معبوده الذي يعبده أي ينقاد إليه ويطيعه ويذل له غاية الذل هواه ،
أي ميله النفساني إلى أغراضه العاجلة ، فإذا حكم عليه هواه بالميل إلى شيء أطاع هواه ، وانقاد إليه وذل لحكمه غاية الذل ولا يقدر على مخالفته ولا الامتناع منه أصل وهم أهل الغفلة عن شهود اللّه تعالى في كل شيء المحجوبون بحجب الأغيار عن رؤية وجوه الأسرار واستجلاء لوامع الأنوار فهو ، أي الهوى أعظم معبود من دون اللّه تعالى في قلوب أهل الاغترار باللّه تعالى الذين يظنون أنهم يعبدون اللّه تعالى وهم لا يعبدون إلا الهوى فإنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فإنه ، أي الهوى لا يعبد شيء من الأشياء إلا به فكل شيء معبود من دون اللّه تعالى ما عبد إلا بالهوى ولا يعبد هو ، أي الهوى إلا بذاته لا بشيء غيره لأحدية ذاته وعدم تركبها كما سيأتي .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفيه أقول :
وحقّ الهوى إنّ الهوى سبب الهوى .... ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
ألا ترى علم اللّه بالأشياء ما أكمله ، كيف تمّم في حقّ من عبد هواه واتّخذه إلها فقال :" وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ " والضّلالة الحيرة ، وذلك أنّه لمّا رأى هذا العابد ما عبد إلّا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره من عبادة من عبده من الأشخاص .
حتّى أنّ عبادته للّه كانت عن هوى أيضا ، لأنّه لو لم يقع له في ذلك الجانب المقدّس هوى - وهو الإرادة بمحبّته ما عبد اللّه ولا آثره على غيره .
وكذلك كلّ من عبد صورة ما من صور العالم واتّخذها إلها ما اتّخذه إلّا بالهوى فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه . )
(وفيه) ، أي في الهوى (أقول) ، أي يقول المصنف قدس اللّه سره .
(وحق) بواو القسم (الهوى) أقسم به لعظمته في ملك اللّه تعالى حيث جعل اللّه تعالى له هذه السلطنة والقهر والاستيلاء على النفوس البشرية بحيث لا يمكنها التخلف عن أمره في الغالب (إن الهوى) المذكور (سبب) وجود (الهوى) ، أي وجود نفسه إذ لا سبب لوجوده في النفوس البشرية إلا نفسه لأنه لا سبب أعظم منه حتى يكون سببا لوجوده ولولا وجود (الهوى في القلب ما عبد) بالبناء للمفعول الهوى ، أي صار معبودا من دون اللّه تعالى .
(أل ترى) يا أيها السالك علم اللّه تعالى بالأشياء ما أكمله ، أي ما أكثر كماله كيف تمم ، أي علمه تعالى بقوله سبحانه في حق من عبد هواه من أهل الغفلة والحجاب واتخذه ، أي الهوى إلها ، أي معبود من دون اللّه تعالى فقال سبحانه وأضله اللّه تعالى ، أي جعله ضال على علم منه بذلك والضلالة هي الحيرة ، أي تردد في الأمر من غير جزم به (و) بيان (ذلك أنه) ، أي الشأن لما رأى هذا العابد في نفسه بأنه ما عبد إلا هواه بانقياده ، أي بسبب انقياده لطاعته ، أي طاعة هواه فيما ، أي في كل شيء يأمره ، أي هواه به من عبادة من عبده هذا العابد من الأشخاص الكونية كالصنم ونحوه في الكفر .
(حتى أن عبادته) ، أي العابد الغافل للّه تعالى في الإسلام (كانت عن هوى أيضا) فيمن لم تهذبه الرياضة الشرعية ولم تتطهر مرآة بصيرته من حيث الأكوان (لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس) ، وهو حضرة الحق تعالى (هوى) إلى دخول الجنة التي أمن بها في الدنيا فيتشوق إلى نعيمها والنجاة من النار من أحواله وجحيمها وهو ، أي الهوى الإرادة للشيء (بمحبة) له (ما عبد) ذلك العابد (اللّه) تعالى بامتثال أوامره سبحانه واجتناب نواهيه (ول آثره) ، أي قدمه تعالى (على غيره) في الطاعة وترك المعصية .
ولهذ قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي قدس اللّه سره :
من أقطع القواطع عن اللّه شهوة الوصول إلى اللّه . وذلك لأنه هوى يعتري السالكين في طريق اللّه تعالى فيقطعهم عن سلوكهم (وكذلك كل من عبد صورة مّا) ، يعني ، أي صورة كانت (من صور العالم) بالكفر (واتخذها) ، أي تلك الصورة (إلها) من دون اللّه تعالى (ما اتخذها) كذلك (إلا بالهوى) القائم بنفسه (فالعابد) مسلما كان أو كافرا (لا يزال تحت) قهر (سلطان هواه) له أي لا يستطيع مخالفته بخلاف الشاكر فإنه تحت قهر أمر ربه في تصريف القدرة الإلهية .
قال تعالى : " اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ" [ سبأ : 13 ]
ونبين صلى اللّه عليه وسلم قام الليل حتى تورمت قدماه قيل له في ذلك ، فقال : « أفل أكون عبدا شكورا » . رواه البخاري و مسلم و غيرهما.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ رأى المعبودات تتنوّع في العابدين ، فكلّ عابد أمرا ما يكفّر من يعبد سواه ؛ والّذي عنده أدنى تنبّه يحار لاتّحاد الهوى ، بل لأحديّة الهوى ، فإنّه عين واحدة في كلّ عابد ."وَأَضَلَّهُ اللَّهُ" أي حيّره "عَلى عِلْمٍ" [ الجاثية : 23 ] بأنّ كلّ عابد ما عبد إلّا هواه ولا استعبده إلّ هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف .
والعارف المكمّل من رأى كلّ معبود مجلى للحقّ يعبد فيه .
ولذلك سمّوه كلهم إلها مع اسمه الخاصّ بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك . هذا اسم الشّخصيّة فيه . ).
ثم رأى ذلك العابد المعبودات من دون اللّه تعالى تتنوّع في قلوب العابدين لها فكل قلب لعابد له معبود مخصوص اقتضاه هواه وكل عابد من تلك العابدين أمرا مّا يعني ، أي أمر كان .
والمراد أي معبود كان يكفر بالتشديد ، أي ينسب إلى الكفر من يعبد سواه ، أي غير ذلك الأمر من بقية المعبودين وهو قوله تعالى :"كُلَّم دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها "[ الأعراف : 38 ].
وسماه أختها لمساواتها لها في الهوى الداعي إلى عبادة غير اللّه تعالى من كل ما عبده العابد والعابد الذي عنده أدنى تنبه للحق في ذلك يحار ، أي يقع في الحيرة لاتحاد الهوى الداعي في الكل أي كونه جنسا واحدا ظاهرا في قلب كل عابد بنوع مخصوص تقتضيه طبيعة ذلك العابد بل لأحدية الهوى ، أي وحدته الذاتية كما ذكر فيما مر من قوله ولا يعبد هو يعني الهوى إلا بذاته فإنه ، أي الهوى عين ، أي حقيقة واحدة ولا تنقسم ولا تتبعض موجود بتمامه في قلوب كل عابد يقتضي تحريك كل طبيعة نحو ما يلائمها من أحوال المعبودات من الأشياء .
فأضله ، أي أضل عابد هواه اللّه تعالى ، أي حيره فلم يهده إلى وجه الصواب على علم منه بأن كل عابد من العابدين ما عبد إلا هواه من دون اللّه تعالى ولا استعبده ،
أي جعله له عبدا قهرا عنه إلا هواه سواء صادف ، أي وافق ذلك الهوى الأمر المشروع في حق المسلم الذي عبد ربه تعالى بهوى نفسه ، وهو من نفس الأمر ما عبد إلا هوى نفسه لكن صادف هواه أمرا مشروعا وهو صورة طاعة ربه تعالى أو لم يصادف ، أي يوافق هواه الأمر المشروع في حق الكافر كعابد الصنم والكوكب ونحو ذلك .
والعارف باللّه تعالى المكمل ، أي الذي كمله اللّه تعالى في مرتبتي العلم والعمل باطنا وظاهرا من رأى ، أي شهودا عيانا كل معبود من دون اللّه تعالى مجلى ، أي مظهرا للحق تعالى يتجلى به له يعبد بالبناء للمفعول سبحانه فيه ، أي في ذلك المجلى ولذلك ، أي لكونه مجلى سموه ، أي سمى العابدون كلهم كل معبود إلها والإله هو اللّه تعالى في الحقيقة مع ذكرهم اسمه ، أي اسم ذلك المعبود الخاص به فإنه مسمى بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك ، أو نحو ذلك من كل من عبد من دون اللّه تعالى هذا الاسم المذكور هو اسم الهيئة الشخصية ، أي المشخصة وهي الصورة الحسية والمعنوية فيه ، أي في ذلك المعبود من دون اللّه تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والألوهيّة مرتبة تخيّل العابد له أنّها مرتبة معبوده ، وهي على الحقيقة مجلى للحقّ لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختصّ .
ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ الزمر : 3 ] مع تسميتهم إيّاهم آلهة .
حتّى قالوا : "أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذ لَشَيْءٌ عُجابٌ " [ ص : 5 ] ، فم أنكروه بل تعجّبوا من ذلك ، فإنّهم وقفوا مع كثرة الصّور ونسبة الألوهيّة لها . )
والألوهية في ذلك المعبود مرتبة عقلية تخيل توهم العابد له ، أي لذلك المعبود أنها ، أي تلك المرتبة الألوهية مرتبة معبوده ذلك ، أي هو يستحقها مع اللّه تعالى وهي ، أي مرتبة الألوهية المتوهمة في ذلك المعبود على الحقيقة ، أي في نفس الأمر مجلى ، أي مظهر الحق تعالى وإن لم يعرف ذلك العابد لانحجابه بكفر لبصر هذا العابد الخاص ، الذي يبصر به معبوده فإنه الحق تعالى أيضا وإن جهل ذلك بحكم قوله عليه السلام كنت بصره الذي يبصر به
(المعتكف) ذلك العابد على هذا المعبود في هذا المجلى ، أي المظهر المختص بحجر أو شجر ونحو ذلك ؛ (ولهذا) ، أي لكون ذلك مجلى الحق تعالى قال بعض من لم يعرف مقاله ،
أي قوله الذي قاله عن نفسه وهم بعض الأقوام الماضية الذين كانوا يعبدون الأصنام (جهالة).
أي على وجه الجهالة منهم بذلك كما حكاه تعالى بقوله ("ما نَعْبُدُهُمْ") ، أي الأصنام ("إِلَّا لِيُقَرِّبُونا") ، أي يجعلون مقربين ("إِلَى اللَّهِ") تعالى ("زُلْفى") ، أي قربة عظيمة (مع تسميتهم) ، أي ذلك القوم (إياهم) ، أي الأصنام (آلهة) لهم من دون اللّه تعالى (كما قالوا) ، أي ذلك القوم الكافرون فيما حكاه اللّه عنهم (أجعل) ، أي رسولهم الذي أمرهم بالتوحيد (الآلهة) الكثيرة عندهم (إله واحدا) ، أي معبودا واحدا أمر بعبادته وحده وترك ما سواه إنّ هذا الجعل المذكور (لشيء عجاب) ، أي عجيب (فما أنكروه) ، أي جعل الآلهة إله واحدا يعني التوحيد (بل تعجبوا من ذلك) الجعل المذكور (فإنهم وقفوا مع كثرة الصور) في الحس والعقل ومع (نسبة الألوهية لها) ، أي لتلك الصور .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فجاء الرّسول ودعاهم إلى واحد يعرف ولا يشهد ، بشهادتهم أنّهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم : "ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى."
لعلمهم بأنّ تلك الصّور حجارة ، ولذلك قامت الحجّة عليهم بقوله :قُلْ سَمُّوهُمْ [ الرعد : 33 ] فما يسمّونهم إلّا بما يعلمون أنّ تلك الأسماء لهم حقيقة . ).
فجاء الرسول من اللّه تعالى إليهم ودعاهم إلى عبادة إله واحد يعرف بالبناء للمفعول أي يعرفه المؤمن به والكافر ولا يشهد بالبناء للمفعول أيض لا للمؤمن به ولا للكافر بشهادتهم التي يشهدونها بمجرد قولهم أنهم أثبتوه ، أي ذلك الإله الواحد عندهم واعتقدوه إلها حقا بالتصريح به (في قولهم "ما نَعْبُدُهُمْ ")، أي الأصنام بصيغة العقلاء لأنهم كانو ينحتونها على صور العقلاء ("إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى") [ الزمر : 3 ] .
فقد صرحوا بثبوت الإلهية للّه تعالى ، ولم يشهدوه بهذا الثبوت وإن اعتقدوه ، لأن شهوده تعالى الذي في قلوب المؤمنين به لا يكون في الشهود شيء غيره معه ، تعالى أصلا ول يمكن ذلك أبدا ، وهم في قلوبهم شهود الأغيار ، فكيف تنكشف لهم وجوه الأسرار وتشرق الأنوار .
(لعلمهم) ، أي الكافرين (بأن تلك الصور) التي عبدوها (حجارة) لا تضر ولا تنفع والضار النافع هو اللّه تعالى وحده ، ولكنهم اعتقدوا أن لها عند اللّه تعالى مزيد شرف ورفعة قدر ، فعبدوها وتركوا عبادة اللّه تعالى لتقربهم إليه سبحانه لظنهم بأنها مشاركة له تعالى في صفة الألوهية ، فإنها كانت صور رجال عابدين اللّه تعالى في الملل السابقة ، وربما خرقت لهم العادة في حياتهم أو بعد مماتهم بأمور كان أولئك العابدون لهم يعرفونها ، فظنوا أنهم شاركوا بذلك التأثير اللّه تعالى في الألوهية ، فكانوا آلهة مع اللّه تعالى ، فصوروهم بعد موتهم وعبدوهم وغابوا عن شهود اللّه تعالى فيهم عنهم ، وكون صدور ذلك التأثير بعينه عن اللّه تعالى لطمس بصائرهم بظلمة الكفر وزيغهم عن الصراط المستقيم .
قال تعالى :"إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ" [ المائدة : 67 ] .
(ولذلك) ، أي لعلمهم بأن معبودهم حجارة (قامت الحجة) القاطعة (عليهم) بكفرهم وزيغهم عن الحق المبين (بقوله) تعالى الذي أمر به نبيه المرسل إليهم أن يقول لهم حيث قال تعالى : (" قُلْ سَمُّوهُمْ") ، أي سموا م عبدتم من دون اللّه تعالى ولو سموهم (فما يسمونهم) ، أي يذكرون الأسماء لهم (إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة) لغوية عندهم كحجر وخشب وكوكب وأمثالها كإنسان وحيوان وملك فيظهر عند ذلك كفرهم بإقرارهم لو عقلوا أنهم عبدوا م لا ينفع ولا يضر أصلا .
ولهذ لما قال لهم إبراهيم عليه السلام "فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ( 63 ) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ( 64 ) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ" [ الأنبياء : 63 - 65 ] ،
أي رجعوا إلى قولهم الأوّل ، وتخيل لهم رؤية تأثيرهم من دون اللّه تعالى ،
فقالو له :" لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ "[ الأنبياء : 65 ] ،
أي إنك تعلم أنهم لا ينطقون ، ونحن نعبدهم كذلك لظهور تأثير الألوهية منهم ، فعدل عليه السلام إلى الاحتجاج برد ما تخيلوه فيهم من النفع والضر ،
قالَ: " أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما ل يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ( 66 ) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " [ الأنبياء : 66 - 67 ] ،
أي حيث وجدتم ذلك النفع والضر صادرا لكم من الأصنام دون اللّه تعالى : "أَفَلا تَعْقِلُونَ " إن ذلك صادر من اللّه تعالى لا من الأصنام ، فظهر الحق على لسان إبراهيم عليه السلام ، فلم يمكنهم رده إلا بالفعل فعند ذلك قالُوا :" حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ " [ الأنبياء : 68 ] إلى آخره .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكا لما عبد من الصّور لأنّ مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرّسول الّذي آمنوا به عليهم الّذي به سمّوا مؤمنين .
فهم عبّاد الوقت مع علمهم بأنّهم ما عبدوا من تلك الصّور أعيانها ، وإنّما عبدوا اللّه فيها بحكم سلطان التّجلّي الّذي عرفوه منهم ، وجهله المنكر الّذي لا علم له بما تجلّى .
وستره العارف المكمّل من نبيّ ورسول ووارث عنهم . )
(وأم العارفون) من أهل اللّه تعالى (بالأمر) الإلهي (على ما هو عليه) في نفسه (فيظهرون) بين الناس كما ظهرت الأنبياء والمرسلون عليهم السلام (بصورة الإنكار لما عبد) بالبناء للمفعول (من الصور) من دون اللّه تعالى وإن عرفوا نفس الأمر على ما هو عليه كما سبق (لأن مرتبتهم) ، أي العارفين (في العلم) الإلهي (تعطيهم أن يكونوا) قائمين (بحكم الوقت) ، أي الزمان الذي هم فيه موجودون تابعين (لحكم الرسول الذي آمنوا) ،
أي صدقوا به ، أي بذلك الحكم (عليهم) متعلق بحكم الذي نعت الحكم (به) ، أي بسببه (سموا مؤمنين) ، أي مصدقين مذعنين ويجوز كون الموصولين نعتا للرسول (فهم) ، أي العارفون (عبّاد) بالتشديد جمع عابد (الوقت) ،
أي الزمان الذي هم بحكمه قائمون لتنفيذهم مقتضاه في ظواهرهم والمراد أنهم عباد اللّه تعالى الكاملون في الوقت (مععلمهم) ، أي العارفين (بأنهم) ، أي عباد الصور من دون اللّه تعالى (ما عبدوا من تلك الصور) من الأصنام وغيرها (أعيانها) ، أي ذواته
(وإنم عبدوا اللّه) تعالى الظاهر (فيها) ، أي في تلك الصور (بحكم سلطان التجلي) الإلهي ، أي الانكشاف (الذي عرفوه) ، أي العارفون (منهم) ، أي من عباد الصور (وجهله) ، أي ذلك التجلي (المنكر الذي لا علم له بم تجلى) ، أي ظهر وانكشف من الحق تعالى في تلك الصور المعبودة وستره ، أي ذلك التجلي العارف المكمل في المعرفة من رسول ، أي صاحب كتاب وشريعة (ونبي) مقرر شريعة من قبله (ووارث) من الأولياء للعلم الإلهي (عنهم) ، أي عن المرسلين والأنبياء صلوات اللّه عليهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصّور لما انتزح عنها رسول الوقت اتّباع للرّسول طمعا في محبّة اللّه إيّاهم بقوله : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهَ " [ آل عمران : 31 ] .
فدعا إلى إله يصمد إليه ويعلم من حيث الجملة ، ولا يشهد ول تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُبلوَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَللطفه وسريانه في أعيان الأشياء . فلا تدركه الأبصار كما أنّها لا تدرك أرواحها المدبّرة أشباحها وصوره الظّاهرة . "فهو اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " [ الأنعام : 103 ] .
والخبرة ذوق ، والذّوق تجلّ ، والتّجلّي في الصّور . فلا بدّ منه ولا بدّ منه .
فلا بدّ أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت ." وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ " [ النحل : 9 ] . )
فأمرهم ، أي أمر ذلك العارف المكمل لعباد الصور بالانتزاح ، أي التباعد والتجنب عن تلك الصور التي يعبدونها من دون اللّه تعالى لم انتزح ، أي تباعد واجتنب عنها ، أي عن تلك الصور رسول الوقت هو المقر للشريعة والدين في ذلك الوقت من الأولياء ميراثا نبويا اتباعا ، أي على وجه المتابعة منه للرسول النبي صاحب الكتاب والشريعة طمعا من رسول الوقت في حصول محبة اللّه تعالى إياهم ، أي عباد الصور بزوال كفرهم الذي اقتضته عبادتهم لها من دون اللّه تعالى بقوله تعالى أي بسبب قوله : ("قُلْ") ، أي يا محمد للكافرين " إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ " وتطمعون في حصول محبته سبحانه لكم (" فَاتَّبِعُونِي") ، أي اقتدوا بي في جميع ما آمركم به وأنهاكم عنه ظاهرا وباطنا (" يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ " فدعا) [ آل عمران : 31].
أي الرسول النبي المأمور بذلك إلى عبادة إله ، أي معبود حق يصمد بالبناء للمفعول ، أي يقصد إليه في تحصيل جميع الحوائج ويعلم بالبناء للمفعول أيضا أي يعلمه المؤمنون به من حيث الجملة ، أي بطريق الإجمال في حضراته وما يجب له من الكمال ولا يشهد بالبناء للمفعول أيضا يعني من حيث ذاته المطلقة وإن شهد من حيث تجليات أسمائه وصفاته ولا تدركه سبحانه من حيث ذاته أيضا الأبصار جمع بصر من حيث هي أبصار (بل "وَهُوَ") سبحانه (" يُدْرِكُ الْأَبْصارَ") [ الأنعام : 103 ] من حيث هو عين الإبصار كما ورد : « كنت بصره الذي يبصر به » .
وإذ أدرك الأبصار أدرك ذاته حينئذ ، لأنه يكون عين الإبصار لا من حيث هي صور مشتملة على قوى حساسة بل من حيث ما هي موصوفة بالوجود فهي نفس الوجود مثل كل شيء والصور العدمية علامة على الحضرة البصرية المخصوصة للطفه تعالى وكل ما سواه بالنسبة إليه سبحانه كثيف جدا وسريانه بصفة القيومية في أعيان الأشياء من غير حلول لعدم تصوره في حقه تعالى ،
فإن الموجود لا يحل في المعدوم وإن ظهر به وتقيد بقيوده عنده في نفس الأمر (فل تدركه) تعالى (الأبصار) لأجل ذلك (كما أنها) ، أي الأبصار (ل تدرك أرواحها) ، أي أرواح الأبصار ، المدبرة أشباحها ، أي أجسامها الإنسانية وصورها الظاهرة فالأرواح (المدبرة للأجسام) ألطف من الأبصار فلا تقدر الأبصار أن تدركها لأنها ألطف منها ، والكثيف لا يدركه اللطيف واللطيف يدرك الكثيف .
(فهو) ، أي اللّه تعالى (اللطيف) ، أي الموصوف بكمال اللطف فكيف تدركه الأبصار (الخبير) ، أي الموصوف بكمال الخبرة ، فكيف لا يدرك الأبصار (والخبرة ذوق) ، أي علم كشف ومعاينة وإحساس ، لأنه العلم المستفاد من الاختبار والامتحان كما مر (والذوق تجل) ، أي ظهور وانكشاف (والتجلي) من اللّه تعالى إنما يكون (في الصور) فيتجلى بها فيعرف من يعرف ويجهل من يجهل وينكر من ينكر والأمر في نفسه لا يتغير (فلا بد منها) ، أي من الصور (ول بد منه) ، أي التجلي فيها (فلا بد أن يعبده) تعالى من رآه في الصور من مقام الإحسان الذي هو أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (بهواه) ،
أي بميل نفسه إلى عين ما رأى (إن فهمت) يا أيها السالك سر المعرفة الإلهية الذوقية فإن فيها يطيب الهوى وبعدمها عند ظهور المعرفة الخيالية الوهمية في القاصرين يخبث الهوى ، ومن هنا قيل للجنيد رضي اللّه عنه : متى يصير داء النفس دواها فقال : إذا تركت هواها صادر داؤها دواه .
(وعلى اللّه) تعالى فضلا منه ورحمة كما قال سبحانه :"كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" [ الأنعام : 54 ] ، أي ألزم نفسه لكم بها (قصد) ، أي إرادة المريد بصدق وعزم للسلوك في (السبيل) ، أي طريق اللّه تعالى المستقيم وهو صراط الذين أنعم اللّه عليهم .
وفيه إشارة إلى أنه لا وصول إلى اللّه تعالى أصلا في الدنيا والآخرة ، وإنما هناك سلوك فقط في صراط اللّه المستقيم ، فمن دخل الطريق وسلك فيه فهو الواصل والخروج عنه انقطاع .
تم الفص الهاروني
.
....

yfBV04DhRgw

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!