موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية


20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
هذا فص الحكمة اليحيوية ، ذكره بعد حكمة أيوب عليه السلام ، لأن سر الحياة الذي في الماء كان من حكمة أيوب عليه السلام ، وبذلك الماء حيي ذكر زكريا بيحيى عليه السلام ، لأنه ماء أبيه فحياة ذكره به ، ومن هنا قولهم : الولد سر أبيه ، لأن في الماء سر الحياة ، وإن كان المني ليس بماء في العرف العام ، فإنه ماء عند أهل الخصوص ولكن سر مادة بدنية مازجة لتفتح فيه صورة أصله .
قال تعالى :فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ( 5 ) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ( 6 ) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ( 7 ) [ الطارق : 5 - 7 ] .
وفي الحديث قال عليه السلام : « الماء من الماء » . رواه مسلم ورواه ابن حبان ورواه غيرهما .
(فص حكمة جلالية) ، أي منسوبة إلى الجلال وهو الهيبة الإلهية والقبض الرباني والعظمة الرحمانية في كلمة يحيوية .
إنما اختصت حكمة يحيى عليه السلام بكونها جلالية ، لأن الغالب عليه عليه السلام كان في حياته الجلال والقبض ، فكان كثير البكاء والحزن من هيبة اللّه تعالى وجلاله ، حتى قيل إنه كان إذا اجتمع بابن خالته عيسى ابن مريم عليه السلام يقول له لما يراه عليه من السرور والبسط كأنك آمن من مكر اللّه تعالى ، فيقول له عيسى عليه السلام لما يرى عليه من غلبة الحزن والقبض كأنك آيس من رحمة اللّه تعالى .
وقيل : إنه رأى مرة أمه توقد النار فبكى من خوف اللّه تعالى فقالت له : ما يبكيك وأنت صغير فقال : إني رأيتك توقدين الحطب الكبار بالصغار أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم .
قال الشيخ رضي الله عنه : هذه حكمة الأوّلية في الأسماء ، فإنّ اللّه سمّاه يحيى أي يحيا به ذكر زكريّا ولم يجعل له من قبل سميّ .
فجمع بين حصول الصّفة الّتي فيمن غبر ممّن ترك ولدا يحيى به ذكره ، وبين اسمه بذلك فسمّاه يحيى فكان اسمه يحيى كالعلم الذّوقيّ .
فإنّ آدم حيّي ذكره بشيث ، ونوحا حيّي ذكره بسام ، وكذلك الأنبياء ولكن ما جمع اللّه لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه وبين الصّفة إلّا لزكريّا عناية منه .
إذ قال : فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّ[ مريم : 5 ] فقدّم الحقّ على ذكر ولده كما قدّمت آسية ذكر الجار على الدّار في قوله :عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ[ التحريم : 11 ] .
فأكرمه اللّه بأن قضى حاجته وسمّاه بصفته حتّى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيّه زكريّا ، لأنّه عليه السّلام آثر بقاء ذكر اللّه في عقبه إذ الولد سرّ إبيه ، فقال :يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [ مريم : 6 ] وليس ثمّة موروث في حقّ هؤلاء إلّا مقام ذكر اللّه والدّعوة إليه . )
(هذه) ، أي حكمة يحيى عليه السلام (حكمة الأوّلية في الأسماء )، أي ظهور اسم جديد لم يكن ظاهرا من قبل لظهور مسمى جديد لم يكن من قبل موجودا فإن اللّه تعالى (سماه) ، أي يحيى عليه السلام باسم يحيى فهي تسمية اللّه تعالى له أوحى تعالى بها إلى أبيه زكريا عليه السلام وقد ابتدأ اللّه تعالى له التسمية بذلك كما ابتدأه في مقامه المخصوص فهي يحيى أي يحيا به ذكر أبيه زكريا عليه السلام بعد موته لأن بالولد يحيا ذكر الأب فيبقى مذكورا به بعد موته كما ورد في الحديث :
« إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية وعمل ينتفع به وولد صالح يدعو له » .
(ولم يجعل اللّه) تعالى له ، أي ليحيى عليه السلام (من قبل) ، أي قبل معنى ما ذكر من نداء زكريا عليه السلام نداء خفيا وكون امرأته عاقرا وطلبه الغلام من اللّه تعالى والبشارة له به وخلقه سميا أي أحدا يسمى بهذا الاسم (فجمع) اللّه تعالى لزكريا عليه السلام (بين) نعمتين عظيمتين (حصول الصفة) له (التي) كانت فيمن غبر ، أي مضى وتقدم من الأنبياء عليهم السلام وهي قوله (ممّن ترك) بعد موته (ولدا) من أولاده (يحيا به ذكره) بحيث كل من رآه وعرفه تذكر أباه أو ظهرت عليه أخلاق أبيه وكمالاته وعلومه فورثه في مقامه ، فإذا مات كان ذكره ، أي ما كان يتذكره من العلم حيا بحياة ابنه بعده (وبين اسمه بذلك) ،
أي يحيى عليه السلام باسم لم يسم به غيره قبله إشارة منه تعالى لفظية إلى حصول الصفة الأولى (فسماه) اللّه تعالى (يحيى) بصيغة الفعل المضارع (فكان اسمه) ، أي اسم زكريا عليه السلام يحيى فلا يموت اسمه بموته (كالعلم الذوقي) ،
أي الذي في ذوق صاحبه ، أي كشفه والتحقق به ، فإنه ذكر صاحبه الذي إذا مات وترك ابنا له فيه من صلبه أو تربيته وتأديبه يحيى ذكره بذلك الابن ، بخلاف العلم الخيالي الذي لا يتجاوز فهم صاحبه وخزانة خياله ، فإنه ليس بعلم بل هو ظن وحدس ، إذ لو كان علما لذاقه صاحبه وتحقق به في نفسه وأخذه عن كشفه لا عن درسه ،
ولكنه علم غيره نقله بفهمه وبيانه ولقلق فيه بلسانه ، فليس بذكر لصاحبه حتى يحيا بعده بابن صلبي أو غيره فإن آدم عليه السلام (حيي ذكره) ، أي صار حيا بعد موته بشيث ابنه الوارث له في العلوم الإلهية (و) أن (نوحا) عليه السلام كذلك حيي ذكره بعد موته بسام ابنه الوارث في العلوم الإلهية .
قال رضي الله عنه : (وكذلك الأنبياء) عليهم السلام كموسى عليه السلام حيي ذكره بعد موته بفتاه يوشع بن نون ، وكان رباه موسى عليه السلام ، وهي أن نبىء بعده ، وكداود عليه السلام أحيا اللّه تعالى ذكره بولده سليمان عليه السلام فعمر بيت المقدس ، ولم تستقم عمارته على يدي داود عليه السلام كما مر ذكره ، وكإبراهيم عليه السلام أحيا اللّه تعالى ذكره بابنيه إسماعيل وإسحاق .
ولهذا قال عليه السلام :الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ [ إبراهيم : 39 ] .
ويعقوب أحيا اللّه تعالى ذكره بيوسف عليه السلام ، ونبينا صلى اللّه عليه وسلم أحيا اللّه تعالى ذكره بعلي رضي اللّه عنه ، لأنه باب لمدينة العلم النبوي كما قال عليه السلام : « أنا مدينة العلم وعلى بابها ". رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الكبير وغيرهم
. وفي رواية : « وحلقتها معاوية » أخرجه الديلمي في مسند الفردوس والعجلوني في كشف الخفاء
وورد أيضا : « إن اللّه جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب » .رواه الطبراني في الكبير
وورد : "كل بني أنثى تمات عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا عصبتهم وأنا أبوهم "
رواه الطبراني في الكبير و أبو يعلى في المسند .

وإن كان أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما أفضل منه عندنا ، ولكن فضيلتهما من وجه آخر ، فإن ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم بعلوم الأذواق ما ظهر إلا بعلي وأولاده رضي اللّه عنهم ، فأحيا اللّه تعالى ذكره به لأنه رباه فهو ولده من التربية ، وتلقين الذكر في طرق الصوفية كلها راجع بالأسانيد إلى علي رضي اللّه عنه .
قال رضي الله عنه : (ولكن ما جمع اللّه) تعالى لأحد من الأنبياء عليهم السلام (قبل يحيى) صلوات اللّه عليه (بين الاسم العلم) بالتحريك (منه ) المخترع من اللّه تعالى ، فلم يسم به أحد قبله (وبين الصفة له) بذلك الاسم حيث اقتضى إحياء الذكر إلا لزكريا عليه السلام (عناية )، أي اعتناء منه تعالى بزكريا عليه السلام (إذ قال) ، أي زكريا عليه السلام في دعائه ربه :"رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ" [ آل عمران : 38 ] ،
أي من عندك بطريق الاختراع الذي لم يسبق نظيره كعلم الذوق الذي قال تعالى فيه لما علمه للخضر عليه السلام : فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً( 65 ) [ الكهف : 65 ] ،
أي من عندنا وَلِيًّ [ مريم :5] ، أي ولدا يتولى أمر أبيه فيخلفه في جميع أحواله ولهذا قال :يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّ( 6 ) [ مريم : 6 ] .
قال رضي الله عنه : (فقدم) زكريا عليه السلام ذكر (الحق) تعالى بكاف الخطاب على ذكر ولده يحيى عليه السلام أدبا مع اللّه تعالى واحتراما لجنابه (كماقدمت آسية) بنت مزاحم امرأة فرعون (ذكر الجار) الحق سبحانه وتعالى (على) ذكر (الدار في قولها) ، أي آسية كما حكاه اللّه تعالى بقوله : (" رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ") [ التحريم :11] .
(فأكرمه) ، أي زكريا عليه السلام (اللّه) تعالى (بأن قضى حاجته) بخلق يحيى عليه السلام له (وسماه بصفته) فأحيا ذكره به (حتى يكون اسمه) ، أي اسم يحيى عليه السلام تذكارا من اللّه تعالى (لما) ، أي الذي (طلب) ، أي طلبه (منه) ،
أي من اللّه تعالى (نبيه زكريا) عليه السلام من الولي الوارث (لأنه) ، أي زكريا عليه السلام آثر ، أي قدم واختار (بقاء ذكر اللّه) تعالى في عقبه ، أي ذريته إلى يوم القيامة إذ ، أي (لأن الولد سرأبيه) ، فهو حامل كماله ونتيجة حضرة جماله وجلاله.
قال رضي الله عنه : (فقال) ، أي زكريا عليه السلام في حملة دعائه ( "يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب َ") وليس ثم بالفتح ، أي هناك موروث في حق هؤلاء من زكريا وآل يعقوب عليه السلام (إلا مقام ذكر اللّه) تعالى بالذوق والعرفان (والدعوة إليه) ،أي إلى دينه سبحانه بالقلب واللسان.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ إنّه بشّره بما قدّمه من سلامه عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّ .
فجاء بصفة الحياة وهي اسمه وأعلم بسلامه عليه ، وكلامه صدق فهو مقطوع به .
وإن كان قول الرّوح :وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّ [ مريم : 33 ] أكمل في الاتّحاد ، فهذا أكمل في الاتّحاد والاعتقاد وأرفع للتّأويلات .
فإنّ الّذي انخرقت فيه العادة في حقّ عيسى إنّما هو النّطق ، فقد تمكّن عقله وتكمّل في ذلك الزّمان الّذي انطقه اللّه فيه . ولا يلزم للمتمكّن من النّطق - على أيّ حالة كان - الصّدق فيما به ينطق ، بخلاف المشهود له كيحيى . )
ثم إنه تعالى بشّره ، أي زكريا عليه السلام بما قدمه تعالى على خلق يحيى عليه السلام وإظهاره من سلامه تعالى عليه ، أي على يحيى عليه السلام "يَوْمَ وُلِدَ"، أي ظهر في الدنيا "وَيَوْمَ يَمُوتُ"، أي يخرج منها إلى البرزخ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا[ مريم : 15 ] ، أي يخرج من البرزخ إلى القيامة ، وعالم الآخرة حيث قال سبحانه :"وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا"[ مريم : 15 ] وسلم هو تعالى على يحيى عليه السلام اعتناء بشأنه فجاء تعالى في ذكر البعث بصفة الحياة له وهي اسمه يحيى عليه السلام وهو الذي يذبح الموت في صورة كبش بين الجنة والنار ، أي يعرضه على أهل الجنة وأهل النار
فيعرفونه كما ورد في الخبر « ونصه : عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجاء بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشربون وينظرون ويقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ثم يذبح ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود لا موت ". رواه الطبراني في الكبير ورواه النسائي في السنن الكبرى ورواه غيرهم .
" وذلك من خصوصيته عليه السلام بكمال التحقق بصفة الحياة الحقيقة ، حتى يغلب على حقيقة الموت في صورة الكبش فيميته ، وإذا مات الموت فإنه يحيا ويدخل الجنة ، لأن أصله منها ، ولهذا جاء به جبريل عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام فداء لابنه فذبحه في الدنيا ، وهي عالم الخيال المطلق ،
وكان ذبحه في صورة ابنه في عالم خياله المقيد أيضا وهو منامه ، فلم يبرح من البرزخ حتى تقوم الساعة فيذبحه يحيى عليه السلام في ذلك العالم الحقيقي وهو ثالث مرة فيموت ويعود كم
كان في الجنة كبشا أملح ، ولهذا ورد أنه لا يدخل الجنة من الحيوان إلا خمسة :
كبش إسماعيل وناقة صالح ونملة سليمان وحمار العزير وهدهد بلقيس وزاد بعضهم براق النبي صلى اللّه عليه وسلم .
وأعلم أي زكريا عليه السلام أعلمه اللّه تعالى بسلامه سبحانه عليه ، أي على يحيى عليه السلام وكلامه ، أي اللّه تعالى صدقه كما قال :وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلً[ النساء : 122 ] فهو ، أي كلام اللّه تعالى مقطوع به فتمت البشارة .
وإن كان قول الروح ، أي عيسى عليه السلام عن نفسه حين تحقق بالروح الحقيقي الروحاني وانسلخ من المقام البشري النفساني والسلام علي ، أي الأمان مني من حيث الهوية القيومية على ذاتي من حيث الصورة اللاهوتية والناسوتية يَوْمَ وُلِدْتُ من أمي بغير أبوَيَوْمَ أَمُوتُبعد هبوطي من السماء وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّ[ مريم : 33 ] في يوم القيامة أكمل من السلام على يحيى في تحقيق المقام الاتحاد الروحاني .
قال رضي الله عنه : (فهذا) السلام اليحيوي (أكمل) منه (في) جمعه بين (الاتحاد) الباطني (والاعتقاد) الظاهري ، ولا يسلم اللّه تعالى إلا على المتحقق به سبحانه ، لأنه أمان له من الفناء ، وكل ما سواه تعالى يفنى ويزول فهذه دلالته على الاتحاد ، والاعتقاد فيه صريح التمييز بين المسلّم والمسلّم عليه (وأرفع) ، أي أكثر رفعا ، أي إزالة (للتأويلات) حيث لا التباس فيه بخلاف السلام العيسوي (فإن) الأمر (الذي انخرقت فيه العادة في حق عيسى) عليه السلام (إنما هو النطق) في المهد قبل أوان التكلم (فمن تمكن عقله) ،
أي عيسى عليه السلام وتكمل ، أي صار كاملا (في ذلك الزمان الذي أنطقه اللّه فيه) ، وهو صغير في المهد ابن ساعة (ولا يلزم للمتمكن) في نفسه (من النطق) ، أي التكلم بالكلام (على) أي حالة كان سواء كان ممن عادته ينطق أو كان لم يبلغ حد النطق وكان نطقه خرقا للعادة كعيسى عليه السلام (الصدق فيما به ينطق) من الكلام وإن كان قول عيسى عليه السلام وهو في المهد من الإتيان بالسلام منه عليه صدقا فلا شبهة فيه أصلا ، ولكن الخارق للعادة فيه إنما هو نفس النطق لا المنطوق به ، فأي شيء كان المنطوق به كان خارقا للعادة ، فليس معنى ذلك بمقصود في حصول الخارق (بخلاف المشهود له) بالسلام (كيحيى) عليه السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فسلام الحقّ على يحيى من هذا الوجه أرفع للالتباس الواقع في العناية الإلهيّة به من سلام عيسى على نفسه ، وإن كانت قرائن الأحوال تدلّ على قربه من اللّه في ذلك وصدقه ، إذ نطق في معرض الدّلالة على براءة أمّه في المهد ، فهو أحد الشّاهدين ، والشّاهد الآخر هزّ الجذع اليابس فتساقط رطبا جنيا من غير فحل ولا تذكير ، كما ولدت مريم عيسى من غير فحل ولا ذكر ولا جماع معتاد .
لو قال نبيّ آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط ، فنطق الحائط وقال في نطقه تكذب ما أنت رسول اللّه ، لصحّت الآية وثبت بها أنّه رسول اللّه ، ولم يلتفت إلى ما نطق به الحائط .
فلمّا دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى بإشارة أمّه إليه وهو في المهد ، كان سلام اللّه على يحيى أرفع من هذا الوجه .
فموضع الدّلالة أنّه عبد اللّه من أجل ما قيل فيه إنّه ابن اللّه - وفرغت الدّلالة بمجرّد النّطق - وأنّه عبد اللّه عند الطّائفة الأخرى القائلة بالنّبوّة . وبقي ما زاد في حكم الاحتمال في النّظر العقليّ حتّى ظهر في المستقبل صدقه في جميع ما أخبر به في المهد فتحقّق ما أشرنا إليه . )
قال رضي الله عنه : (فسلام الحق) تعالى (على يحيى) عليه السلام (من هذا الوجه) المذكور (أرفع) ، أي أكثر إزالة (للالتباس الواقع في) جهة (العناية الإلهية) ، أي الاعتناء الإلهي الرباني به ، أي بيحيى عليه السلام حيث أقامه اللّه تعالى في مقام الاتحاد الروحاني الحقيقي كعيسى عليه السلام ولكن ستره منه فلم يظهره عليه ،
وأظهره على عيسى عليه السلام وهو في المهد بسلامه على نفسه وبعد نبوّته فكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن اللّه تعالى ، وخلق الطير ونفخ فيه الروح بإذن اللّه تعالى (من سلام عيسى) عليه السلام (على نفسه) لظهور معنى الاتحاد فيه الموهم للمعنى الفاسد ، فيحتاج إلى التأويل وعدم كون معناه مقصودا بالذات في وقت صدوره منه (وإن كانت قرائن الأحوال) من عيسى عليه السلام حين نطق وهو في المهد (تدل على قربه) ،
أي عيسى عليه السلام (من اللّه) تعالى (في ذلك) القول (و)على (صدقه) عليه السلام فيه إذ ، أي لأنه عليه السلام (نطق) بذلك (في معرض) ، أي لأجل (الدلالة على براءة أمه) مريم عليها السلام مما رموها به وهو طفل في المهد فهو ، أي عيسى عليه السلام أحد الشاهدين ببراءة أمه عليها السلام (والشاهد الآخر) على براءتها (هزّ الجذع) من النخل (اليابس فسقّط) بالتشديد ذلك الجذع عليها (رطبا) من التمر (جنيا) ،
أي نضيجا (من غير فحل) لتلك النخلة (ولا تذكير) ، أي تلقيح وهو تأبير النخل لأجل الحمل ، ومن عادته أنه لا يثمر إلا بعد ذلك .
قال رضي الله عنه : (كما ولدت مريم) عليها السلام (عيسى) عليه السلام (من غير فحل) لها (ولا ذكر) وهي عذراء بتول لا زوج لها عليها السلام (ولا جماع عرفي معتاد) بإيلاج وإنزال ، وإنما جاءها جبريل عليه السلام في صورة بشر سوي كما كان يأتي النبي صلى اللّه عليه وسلم في صورة دحية الكلبي الذي هو أجمل أهل زمانه ليباسطه في الوحي إليه فنفخ في فرجها فحملت بعيسى عليه السلام ، فكان النفخ في ساعة والحمل في ساعة والوضع في ساعة ، ثم جاءت به قومها تحمله فأعابوا عليها واتهموها ، فأشارت إليه فنطق وهو صغير في المهد ببراءته .
قال رضي الله عنه : (لو قال نبي) من الأنبياء عليهم السلام (آيتي) ، أي الأمر الذي جئت به خارقا للعادة دليلا على صدق دعواي النبوة (ومعجزتي) على ذلك (أن ينطق هذا الحائط فنطق) ذلك الحائط (وقال في نطقه) لذلك النبي مثلا (تكذب ما أنت برسول) اللّه تعالى ولا نبيه (لصحت الآية) ، أي المعجزة الخارقة للعادة الدالة على صدقه في دعواه النبوّة (وثبت بها) ، أي بتلك الآية (أنه) ،
أي ذلك النبي (رسول اللّه) ، لأن المعجزة نطق الحائط وقد حصلت لا معنى ما نطق به من الكلام (ولم يلتفت) بالبناء للمفعول (إلى) معنى (ما نطق به) ذلك (الحائط) من التكذيب لذلك النبي (فلما دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى) عليه السلام (بإشارة أمه) مريم عليها السلام (إليه وهو) صغير (في المهد) ، فاحتمل أن يكون الخارق للعادة المقصودة هو نطقه مع صغره جدا ، وقد حصلت البراءة بذلك ، ويحتمل أن الخارق للعادة في مضمون كلامه أيضا ، ومعلوم أن العصمة إنما تقررت له عند الغير في زمان نبوّته ودعواه الرسالة لا في حال صغره وكونه في المهد .
قال رضي الله عنه : (كان سلام اللّه) تعالى (على يحيى) عليه السلام (أرفع) رتبة من سلام عيسى عليه السلام على نفسه (من هذا الوجه) المذكور (فموضع الدلالة) من مضمون كلامه عليه السلام وهو في المهد على صدق عبوديته للّه تعالى وبطلان ما يدعيه الجاهلون في حقه قوله (أنه عبد اللّه) وهي دعوى ظاهرة لا تحتاج إلى إثبات ، فإنه عبد اللّه بلا شبهة ، وذلك القول (من أجل ما قيل فيه) من الجاهلين به أنه ابن اللّه تعالى عن ذلك علوا كبير .
قال رضي الله عنه : (وفرغت الدلالة منه بمجرد النطق) الذي أتى به (وأنه) ، أي عيسى عليه السلام بلا شك (عبد اللّه عند الطائفة الأخرى) العارفين به عليه السلام وهم المؤمنون (القائلة) تلك الطائفة فيه بالنبوة ، أي أنه نبي من أنبياء اللّه تعالى وبقي ما زاد على ذلك كلامه عليه السلام وهو في المهد وذلك قوله :آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا .
قالَ تعالى : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ( 30 ) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّ ( 31 ) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّ ( 32 ) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّ( 33 ) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) [ مريم : 30 33 ] ،
قال رضي الله عنه : (في حكم الاحتمال في النظر العقلي) لأنها دعوى قابلة للثبوت (حتى يظهر في المستقبل) بعد كبره صدقه بالمعجزات (في جميع ما أخبر به وهو في المهد) مما ذكر في الآية .
قال رضي الله عنه : (فتحقق) يا أيها السالك ما أشرنا إليه هنا من هذه الأسرار واللّه فاتح البصائر والأبصار .
تم الفص اليحيوي
.
....

Y7aNc9FJrT0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!