موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة وجودية في كلمة داودية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة وجودية في كلمة داودية


17 - فص حكمة وجودية في كلمة داودية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
هذا فص الحكمة الداودية ، ذكره بعد حكمة سليمان عليه السلام ، لأنه أبوه فذكره بعده وكان القياس تقديم ذكر الأب على الابن ، لأنه أصله لما وهبه اللّه تعالى لأبيه وجمع سر الخلافة الإلهية فيه وفهمه الحكمة وحققه بالرحمة كان عمل أبيه الصالح المقدم بين يديه .
والمشار به إليه قال تعالى :"وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ"( 30 ) [ ص : 30 ] .
وقال تعالى :" فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً " [ الأنبياء : 79 ] ، فقد سبق أباه بالفهم وضرب له في مقام المظهرية الإلهية بأوفى سهم .
(فص حكمة وجودية) ، أي منسوبة إلى الوجود (في كلمة داودية) إنما اختصت حكمة داود عليه السلام بكونها وجودية لأنها كانت بتصرف الوجود في الوجود ، ولهذا ورد التصريح لها بالخلافة دون آدم عليه السلام ولين لها الحديد وأوّبت معها الجبال لكما اتصالها بالوجود عن تحقق كشف وشهود انفصالها عن حكم الأعيان الثابتة الظاهرة بنور الحق سبحانه فكأنها نفس النور الوجودي من كمال المقام الشهودي .
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أنّه كانت النّبوّة والرّسالة اختصاصا إلهيّا ليس فيها شيء من الاكتساب أعني نبوّة التّشريع ، كانت عطاياه تعالى لهم عليهم السّلام من هذا القبيل مواهب ليست جزاء ، ولا يطلب عليها جزاء فإعطاؤه إيّاهم على طريق الإنعام والإفضال .
فقال تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ[ الأنعام : 84 ] يعني لإبراهيم الخليل - عليه السّلام - وقال في أيّوب - عليه السّلام -وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ [ ص : 43 ] ؛ وقال في حقّ موسى - عليه السّلام -وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا( 53 ) [ مريم : 53 ] إلى مثل ذلك . فالّذي تولّاهم أوّلا هو الّذي تولّاهم آخرا في عموم أحوالهم أو أكثرها ، وليس إلّا اسمه الوهّاب .)
(اعلم) يا أيها السالك (أنه) ، أي الشأن لما كانت النبوّة والرسالة في النبي والرسول (اختصاصا إلهيا) ، أي مجرد خصوصية يختص اللّه تعالى بها من يشاء من عباده (ليس فيها) ،
أي في النبوّة وكذلك الرسالة (شيء من الاكتساب) ، أي التحصيل بالسعي أصل (أعني) بالنبوّة (نبوّة التشريع) ، أي المقتضية لتشريع الشرائع الإلهية وتكليف العباد بها احترازا عن نبوّة الخبر كالإلهام في حق الأولياء والوحي الوارد للنحل والأرض كما قال تعالى :وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ[ النحل : 68 ] ، وقال سبحانه :يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَه ( 4 ) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَه( 5 ) [ الزلزلة : 4 - 5 ] .
وقوله تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [ القصص : 7 ] ، وغير ذلك فإنه كان بمعنى وحي الإلهام ونبوّة الخبر دون وحي النبوّة ونبوّة التشريع (كانت عطاياه تعالى لهم) ، أي للأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) غير النبوّة والرسالة (من هذا القبيل) ، أي من قبيل نبوّتهم ورسالاتهم مجرد اختصاصات إلهية ومحض (مواهب) رحمانية (ليست جزاء) منه تعالى لهم على عمل أصل (ولا) هي عمل منه تعالى (يطلب) بالبناء للمفعول (عليها) ،
أي على تلك العطاي (منهم) ، أي من الأنبياء عليهم السلام (جزاء) ، لأن اللّه تعالى غني عن العالمين (بإعطائه) تعالى (إياهم) ، أي للأنبياء عليهم السلام تلك العطاي (على طريق الإنعام) منه سبحانه (والإفضال) ، أي الإحسان والتكرم .
(فقال) تعالى ("وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ " )[ الأنعام : 84 ] ابن إسحاق (يعني لإبراهيم الخليل) عليه السلام (وقال) تعالى (في أيوب) عليه السلام (" وَوَهَبْنا لَهُ") ،
أي لأيوب عليه السلام (أَهْلَهُ)، وهم أولاده وزوجاته فقيل : إن اللّه تعالى أحياهم له (وَمِثْلَهُمْ)، أي أولاده وزوجاته مقدارهم أيض (مَعَهُمْ) [ ص : 43 ] وقال تعالى أيض (في حق موسى) عليه السلام : ("وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا")( 53 ) [ مريم : 53 ] ، فشد اللّه تعالى عضده به وقوّاه وجعل لهما سلطانا في الأرض (إلى مثل ذلك) كقوله تعالى في زكريا عليه السلام :وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى[ الأنبياء : 90 ] ، (فالذي تولاهم) ،
أي الأنبياء عليهم السلام يعني كان وليا لهم (أوّلا) فجعلهم بمحض فضله عليهم وإحسانه إليهم أنبياء ومرسلين (هو الذي تولاهم آخرا) ،
أي قام على نفوسهم بجميع ما اكتسبو (في عموم أحوالهم) ظاهرا وباطنا من غير نسبة إلى نفوسهم عندهم أصل (أو) في (أكثرها) ، أي أحوالهم ، وفي الأقل بنسبتها إلى نفوسهم عندهم ونفوسهم قائمة به سبحانه كما كان يقسم صلى اللّه عليه وسلم بقوله : « والذي نفسي بيده » رواه البخارى ومسلم .
(وليس) ذلك الذي تولاهم (إلا اسمه) تعالى (الوهاب) كما ورد فعله بذلك في الآيات المذكورة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقال في حقّ داود - عليه السّلام – "وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا "[ سبأ : 10 ] فلم يقرن به جزاء يطلبه منه ، ولا أخبر أنّه أعطاه هذا الّذي ذكره جزاء . ولمّا طلب الشّكر على ذلك العمل طلبه من آل داود ولم يتعرّض لذكر داود ليشكره الآل على ما أنعم به على داود .
فهو في حقّ داود عطاء نعمة وإفضال ، وفي حقّ آله على غير ذلك لطلب المعاوضة
فقال تعالى :" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ" [ سب : 13] .
وإن كانت الأنبياء عليهم السّلام قد شكروا للّه على ما أنعم به عليهم ووهبهم ، فلم يكن ذلك على طلب من اللّه ، بل تبرّعوا بذلك من نفوسهم كما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتّى تورّمت قدماه شكرا لما غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر . فلمّا قيل له في ذلك قال : « أفلا أكون عبدا شكورا » ؟ وقال في نوح :" إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً " [ الإسراء : 3 ] .
والشّكور من عباد اللّه تعالى قليل .
فأوّل نعمة أنعم اللّه بها على داود - عليه السّلام - أن أعطاه اسما ليس فيه حرف من حروف الاتّصال . فقطعه عن العالم بذلك إخبارا لنا عنه بمجرّد هذا الاسم ، وهي الدّال والألف والواو).
(وقال) تعالى (في حق داود) عليه السلام " وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا " [ سب : 10] ،
أي فضيلة على جميع أهل زمانه بمزايا اختصه بها وعطايا منحه إياه (فلم يقرن) ، أي اللّه تعالى في كلامه (به) ، أي بذلك الفضل الذي ذكر سبحانه أنه آتاه لداود عليه السلام (جزاء) من شكر ونحوه (يطلبه) سبحانه وتعالى (منه) ، أي من داود عليه السلام في مقابلة ما آتاه (ولا أخبر) تعالى (أنه) سبحانه (أعطاه) ، أي أعطى داود عليه السلام (هذا) الفضل (الذي ذكره) سبحانه (جزاء) لداود عليه السلام على عمل سبق له .
(ولما طلب) تعالى (الشكر على ذلك) الفضل الذي آتاه لداود عليه السلام (بالعمل) الصالح (طلبه) ، أي ذلك الشكر (من آل) ، أي قوم (داود) عليه السلام ، وهم المتبعون له من أهله وأعوانه (ولم يتعرض) سبحانه (لذكر داود) عليه السلام بطلب شكر منه ولا غيره (ليشكره) تعالى (الآل) ، أي آل داود عليه السلام (على ما أنعم به) سبحانه وتعالى (على داود) عليه السلام من الفضل (فهو) ، أي ذلك الفضل (في حق داود) عليه السلام (عطاء نعمة) من اللّه تعالى عليه (وإفضال) ، أي إحسان إليه (وفي حق آله) ، أي آل داود عليه السلام (على) وجه (غير ذلك) الوجه وهو كونه (لطلب المعاوضة) من الآل وهي الشكر بالعمل الصالح .
(فقال تعالى) في ذلك الطلب : ("اعْمَلُوا آلَ") بحذف حرف النداء والتقدير (يا آل داود عليه السلام شكرا) ، أي عملا شكرا وهو المنظور فيه إلى اللّه تعالى العامل له لا إليه (" وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ") [ سبأ : 13 ] .
أي من يظهر هذا الاسم الإلهي فيه عند العمل فيعبد اللّه كأنه يراه فيكون شاكرا والشاكر من أسماء اللّه تعالى أيضا قال تعالى :" اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ " [ البقرة : 158 ] ، ثم إنه لا يرى اللّه تعالى فيراه اللّه تعالى بما يرى به نفسه فيكون شكورا وهو القليل من العباد (وإن كانت الأنبياء عليهم السلام قد شكروا للّه على ما أنعم به عليهم) .
من أنواع النعم (ووهبهم) من الهبات الكثيرة في ظواهرهم وبواطنهم (فلم يكن ذلك) ، أي الشكر منهم (عن طلب من اللّه) تعالى (بل) هم (تبرعوا بذلك) الشكر من تلقاء نفوسهم الفاضلة (كما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) من الليل (حتى تورمت قدماه) من كثرة التهجد (شكرا) .
أي على وجه الشكر للّه تعالى (لما) ، أي لأجل أنه (غفر اللّه) تعالى (له) ، أي لنبينا صلى اللّه عليه وسلم (ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ،أي إلى آخر عمره عليه السلام (فلما قيل له في ذلك).
أي لم تفعل كذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال صلى اللّه عليه وسلم أفلا أكون عبدا للّه تعالى من حيث الصورة شكورا من حيث القيام بهذا الاسم الإلهي والتحقق به وقال اللّه تعالى في حق نوح عليه السلام إنه ، أي نوحا عليه السلام كانَ عَبْداً شَكُوراً[ الإسراء : 3 ] ، أي كلاما متحققا بنفسه وبربه والعبد الشكور ، كما ذكرنا من عباد اللّه تعالى قليل كما هو في الآية المذكورة .
(فأول نعمة أنعم اللّه) تعالى (بها على داود) عليه السلام (أن أعطاه) تعالى (اسما) سماه به (ليس فيه حرف من حروف الاتصال) ، أي متصل مع الحرف الآخر بل كل منه منفصل عن الآخر وهو اسم داود عليه السلام فقطعه اللّه تعالى عن التعلق بشيء من العالم المحسوس والمعقول بذلك الاسم إخبارا منه تعالى (لنا) معشر هذه الأمة عنه ، أي داود عليه السلام (بمجرد هذا الاسم ) الذي سماه به في الكتاب والسنة (وهي) ، أي حروف الاسم المذكور (الدال) المهملة (والألف والواو) فهي ثلاثة حروف من غير تكرار ، ومع التكرار خمسة حروف الدالان والواوان والألف ،
وقد حذفت من الكتابة إحدى الواوين لأنها جوفية فناسب استتارها مع وجودها في النطق ، كما حذفت في نظائره كطاوس وناوس ، فأوّل اسمه حرف في آخر اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وآخر اسمه كذلك نظير ظهوره عليه السلام بالصورة المحمدية ، وفي وسط اسمه ثلاثة حروف من حروف العلة أحدها مكرر وهو الواو نظير النفس والعقل فإنهما ملكوتيان مستتران بالصورة الجسمانية الملكية ، وأحدهما مستتر في الآخر صورة وظاهر حركة وتدبيرا نظير الواو ، والمحذوف في الخط والحرف الآخر الألف نظير الروح المنفوخ من عالم الأمر الإلهي ،
فالصورة في الحضرة العلمية ثابتة نظير الدال الأولى ، والروح والعقل والنفس نظير الألف ، والواوين أوّل ما ظهر من تلك الصورة الثابتة في العالم على الترتيب ، ثم ظهرت تلك الصورة وهي الدال الثانية ، وعندنا كلام آخر في الاسم من حيث دال الوجود المطلق يطول ذكره ، ومن حيث واو الهوية ومن حيثيات أخر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وسمّى اللّه محمّدا عليه الصّلاة والسّلام بحروف الاتّصال والانفصال ، فوصله به وفصله عن العالم فجمع له بين الحالتين . في اسمه كما جمع لداود بين الحالتين من طريق المعنى ، ولم يجعل ذلك في اسمه ، فكان ذلك اختصاصا لمحمّد صلوات اللّه عليهما أعني التّنبيه عليه باسمه . فتمّ له الأمر عليه الصلاة والسّلام من جميع جهاته ، وكذلك في اسمه « أحمد » فهذا من حكمة اللّه تعالى .
ثمّ قال في حقّ داود عليه السّلام ، فيما أعطاه إيّاه على طريق الإنعام عليه ، ترجيع الجبال معه بالتّسبيح ، فتسبّح لتسبيحه ليكون له عملها ، وكذلك الطّير .
وأعطاه القوّة ونعته بها ، وأعطاه الحكمة وفصل الخطاب . )
(وسمّى اللّه) تعالى (محمدا) نبينا صلى اللّه عليه وسلم (بحروف الاتصال) وحروف (والانفصال) فله أسماء متصلة كلها كمحمد ومصطفى ومجتبى وطه ، وأسماء منفصلة الحروف كرؤوف من قوله تعالى :بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (فوصله) ، أي اللّه تعالى به وأشار إلى ذلك بأسماء الاتصال وفصله تعالى عن جميع العالم المحسوس والمعقول بأسماء الانفصال فجمع سبحانه وتعالى له ، أي لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم (بين الحالين) ، أي حال الاتصال وحال الانفصال .
(في اسمه) صلى اللّه عليه وسلم المتصل الحروف والمنفصل الحروف (كما جمع) تعالى
(لداود) عليه السلام (بين الحالين) حال الاتصال به سبحانه وحال الانفصال عن جميع العالمين (من طريق المعنى) فقط (ولم يجعل) تعالى (ذلك) الجمع (في اسمه) ، أي اسم داود عليه السلام بل جعل في اسمه الانفصال في الحروف فقط
(فكان ذلك) الجمع بين الحالين في الاسم (اختصاصا لمحمد) نبينا صلى اللّه عليه وسلم (على داود) عليه السلام أعني بذلك الاختصاص التنبيه عليه ، أي على الجمع بين الحالين باسمه صلى اللّه عليه وسلم كما ذكرنا فتم ، أي كمل له ، أي لنبينا صلى اللّه عليه وسلم الأمر وهو الجمع المذكور عليه الصلاة والسلام من جميع جهاته اللفظية والمعنوية وكذلك تم له الأمر في اسمه أحمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن بعض حروفه منفصل والبعض متصل فقد جمع الاتصال والانفصال في اسم واحد ، ومثله اسمه محمود هادي وشافع ، فهذا الأمر المذكور من جملة حكمة اللّه تعالى في خلق الأنبياء عليهم السلام .
(ثم قال) تعالى (في حق داود عليه السلام فيما) ، أي في جملة م (أعطاه) اللّه تعالى من العطايا والمواهب (على طريق الإنعام عليه ) والإحسان إليه (ترجيع الجبال معه) ، أي مع داود عليه السلام (بالتسبيح) للّه تعالى والتقديس كما قال تعالى :يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ[ سبأ : 10 ] .
أي رجعي التسبيح (فتسبح) الجبال (بتسبيحه) ، أي تأخذ منه تسبيحه وتسبح به ، كما يأخذ المتعلم الكلمة من فم معلمه ويتكلم بها هو ، فيكون رجعها ثانيا بتكلمه به (ليكون) ، أي سبب ذلك الترجيع (له) ، أي لداود عليه السلام ثواب (عملها) ، لأنه إمامها في التسبيح وهي مقتدية به في ذلك ومتابعة له فيه وللإمام ثواب عمل كل من اقتدى به (وكذلك الطير) ، اسم جنس ، أي الطيور بأنواعها كانت تسبح معه فيكون له ثواب ترجيعها لمتابعتها له فيما يقول من التسبيح والتقديس وهو نطق الجماد له والحيوان بمثل ما يريد .
(وأعطاه اللّه) تعالى أيض (القوّة) وهو تليين الحديد له فكان في يديه مثل العجين يفعل به ما يشاء من شدّة قوّته عليه السلام التي أمده به (ونعته) عليه السلام ، أي وصفه اللّه تعالى (بها) في قوله سبحانه :وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ ص : 17 ] ، والأيدي جمع يد وهي القدرة والقوّة وأعطاه اللّه تعالى (الحكمة) وهي العلم باللّه تعالى مع العمل الصالح (وفصل الخطاب) ، أي الخطاب الفاصل بين الحق والباطل ، وذلك حكمه في بني إسرائيل وقضاؤه بينهم بالحق ، وقيل : فصل الخطاب قوله : أما بعد في كل خطبة وموعظة . قال اللّه تعالى :وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ[ ص : 20 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثمّ المنّة الكبرى والمكانة الزّلفى الّتي خصّه اللّه تعالى بها التّنصيص على خلافته . ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه وإن كان فيهم خلفاء فقال :يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي ما يخطر لك في حكمك من غير وحي منّي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الطّريق الّذي أوحي به إلى رسلي .
ثمّ تأدّب سبحانه معه فقال :إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ[ ص : 26 ] ولم يقل : « فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد )
.
(ثم المنة) من اللّه تعالى على داود عليه السلام (الكبرى) التي هي أكبر المنن عليه (والمكانة) ، أي المنزلة والرتبة (الزلفى) ، أي القريبة إلى حضرة اللّه تعالى التي خصه ، أي داود عليه السلام اللّه تعالى بها هي التنصيص في كلام اللّه تعالى على خلافته في الأرض بطريق المشافهة في الخطاب ولم يفعل اللّه تعالى (ذلك )، أي التنصيص المذكور (مع أحد من أبناء جنسه) ، أي داود من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وإن كان فيهم) ، أي الأنبياء عليهم السلام الذين هم أبناء جنسه خلفاء في الأرض كثيرون وهم المرسلون منهم ، ومنهم من لم يستخلفه اللّه تعالى كغير المرسلين من الأنبياء عليهم السلام حتى آدم عليه السلام لم يصرح اللّه تعالى له بالخلافة وإنما قال تعالى :وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30 ] الآية .
فقال تعالى في داود عليه السلام ("يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً") عن ("فِي الْأَرْضِ")، الجسمانية حيث نغيب نحن عن حواس المكلفين من العباد وعقولهم وتحضر أنت عند حواسهم وعقولهم فَاحْكُمْ أنت حينئذ بحكمنا نيابة عنه ("بَيْنَ النَّاسِ") وهم أهل الأرض الذين يختصمون إليك فلا يجدون حاكما غيرك ، وأما أهل السماء فإنهم إذا اختصموا كما في اختصام الملأ الأعلى يتحاكمون إلى اللّه تعالى ، لأنهم يجدونه من عدم غفلتهم عنه سبحانه وحضورهم معه بِالْحَقِّ الذي أنزله إليك مع جبريل عليه السلام وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى النفساني أي ما يخطر لك في حكمك بين الأخصام المتحاكمين إليك من غير وحي مني إليك بذلك فَيُضِلَّكَ،
أي الهوى الذي تتبعه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل (أي عن الطريق الذي أوحي به إلى رسلي) الذين هم مثلك خلفائي في الأرض ، فتبقى إذا أردت الاستمداد مني بعد ذلك لا تعرف طريقه لالتباسه عليك بخواطر نفسك .
(ثم تأدب) ، أي اللّه (سبحانه) يعني عامله معاملة المتأدب (معه) ، أي مع داود عليه السلام نظير معاملته هو مع اللّه تعالى فإنه تعالى الملك الديان يدين كما يدان.
فقال تعالى ("إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ") في الدنيا والآخرة (بِما نَسُوا) أي بسبب نسيانهم (يَوْمَ الْحِسابِ )[ ص : 26 ] ، وهو يوم القيامة الذي يحاسب اللّه تعالى به كل من حكم بين الناس بما يخطر له ويستحسنه بعقله من غير وحي من اللّه تعالى إن كان من أهل الوحي أو متابعة لأهل الوحي أو لمن أمر بمتابعتهم كالمقلد يتبع المجتهدين فيما استنبطوه من أدلتهم الشرعية (ولم يقل) سبحانه له ، أي لداود عليه السلام (فإن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد) احتراما من اللّه تعالى له من عزته عليه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإن قلت وآدم عليه السّلام قد نصّ على خلافته ، قلنا ما نصّ مثل التّنصيص على داود ، وإنّما قال للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ البقرة : 30 ] ولم يقل إنّي جاعل آدم خليفة في الأرض ولو قال أيضا مثل ذلك ، لم يكن مثل قوله :إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً[ ص :26 ] في حقّ داود ، فإنّ هذا محقّق وذلك ليس كذلك .
وما يدلّ ذكر آدم في القصّة بعد ذلك على أنّه عين ذلك الخليفة الّذي نصّ اللّه عليه فاجعل بالك لإخبارات الحقّ عن عباده إذا أخبر
. )
(فإن قلت) يا أيها السالك (وآدم عليه السلام) أيض (قد نص) ، أي نص اللّه تعالى في القرآن (على خلافته) أيضا وليس ذلك مخصوصا بداود عليه السلام قلنا في الجواب (ما نص) اللّه تعالى على خلافة آدم عليه السلام (مثل التنصيص على) خلافة داود عليه السلام من جهة التصريح له بذلك والمشافهة في الخطاب وإنما قال تعالى للملائكة قبل خلق آدم عليه السلامإِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةًولم يقل تعالى إني جاعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض ولو قال اللّه تعالى أيضا كذلك لم يكن مثل قوله تعالى : (إنا جعلناك خليفة في حق داود) عليه السلام .
فإن هذا التصريح أمر محقق في ذلك لا احتمال فيه وذلك الوارد في آدم عليه السلام بطريق الإشارة إليه في المعنى ليس كذلك ، أي ما هو أمر محقق وما يدل ذكر آدم عليه السلام في القصة ، أي قصة ذكر الخلافة للملائكة عليهم السلام بعد ذلك ، أي بعد ذكر الخلافة على أنه ، أي آدم عليه السلام (عين ذلك الخليفة الذي نص) اللّه تعالى عليه وإنما كان مفهوما أنه هو الخليفة من ذكر تعليمه الأسماء وسجود الملائكة له كلهم أجمعين إلا إبليس إن هذه لا تكون إلا صفات من استخلف في الأرض على أبناء جنسه ،
فإن إطاعة الجند واجتماعهم على ولي الأمر ابتداء شأن الخلافة وهو من لوازمها فدل ذلك بالمفهوم على خلافة آدم عليه السلام في الأرض (فاجعل بالك) يا أيها السالك (لإخبارات الحق) تعالى عن (عباده إذا أخبر) عنهم تجد لاختلاف ذلك أسرارا عظيمة .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك في حقّ إبراهيم الخليل :قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً[ البقرة : 124 ] ولم يقل خليفة ، وإن كنّا نعلم أنّ الإمامة هنا خلافة ، ولكن ما هي مثلها ، لأنّه ما ذكرها بأخصّ أسمائها وهي الخلافة .
ثمّ في داود من الاختصاص بالخلافة أن جعله خليفة حكم ، وليس ذلك إلّا عن اللّه تعالى فقال له فاحكم بين النّاس بالحقّ ، وخلافة آدم قد لا تكون من هذه المرتبة فتكون خلافته أن يخلف من كان فيها قبل ذلك ، لا أنّه نائب عن اللّه في خلقه بالحكم الإلهيّ فيهم ، وإن كان الأمر كذلك وقع ، ولكن ليس كلامنا إلّا في التّنصيص عليه والتّصريح به .
وللّه في الأرض خلائف عن اللّه ، وهم الرّسل . وأمّا الخلافة اليوم فعن الرّسل لا عن اللّه .
فإنّهم ما يحكمون إلّا بما شرع لهم الرّسول لا يخرجون عن ذلك . غير أن ههنا دقيقة لا يعلمها إلّا أمثالنا . وذلك في أخذ ما يحكمون به ممّا هو شرّع للرّسول عليه السّلام . )
(وكذلك) ، أي مثل آدم في عدم التصريح بالخلافة ، قال اللّه تعالى (في حق إبراهيم الخليل) عليه السلام إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً[ البقرة : 124] ، أي ليقتدوا بك في جميع شؤونهم ولم يقل له اللّه تعالى : إني جاعلك للناس خليفة عني وإن كنا نحن معاشر العارفين نعلم يقين (أن الإمامة هنا خلافة) عن اللّه تعالى في الأرض ولكن هذه الخلافة ما هي بمعنى الإمامة (ما هي مثلها) ، أي مثل خلافة داود (ولو ذكرها) اللّه تعالى ، أي هذه الخلافة بمعنى الإمامة (بأخص أسمائها وهي) ، أي أخص الأسماء والتأنيث من قبيل قولهم :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته … كما شرقت صدر القناة من الدم
"" البيت للأعشى. يخاطب عمير بن عبد الله بن المنذر وكان بينهما مهاجاة.
وتشرق بالقول الذي قد أذعته … كما شرقت صدر القناة من الدّم
، وتشرق:بالنصب عطفا على فعل منصوب في بيت سابق ..
ومعنى تشرق: ينقطع كلامك في حلقك، يريد أنه ينقطع كلامك حتى لا تقدر على أن تتكلم لما تسمعه من هجائي لك، بسبب ما تذيعه وتنشره من السب والشتم لي...
كما شرقت صدر القناة، يريد: أنّ الدم إذا وقع على صدر القناة وكثر عليها لم يتجاوز الصدر إلى غيره لأنه يجمد عليه، فأراد أنّ كلامه يقف في حلقه ولا يمكنه إخراجه كما يقف الدم على صدر القناة فلا يذهب ...و «ما» في «كما» مصدرية.والشاهد: أن كلمة «صدر» اكتسبت التأنيث من القناة، بالإضافة ولذلك أنّث الفعل المسند إليه وهو «شرقت» لأن المضاف يكتسب من المضاف إليه عشرة أشياء: التعريف، والتنكير، والاستفهام، والشرط، والتأنيث والتذكير، والبناء، ومعنى الظرف من الزّمان والمكان، ومعنى المصدر . أهـ""
(الخلافة) فقال تعالى : إني جاعلك للناس خليفة عني لم يكن ذلك مثل التنصيص على خلافة داود عليه السلام ، لأن خلافة داود عليه السلام خلافة حكم بين الناس وهذه خلافة علم ومتابعة فليست مثله .
(ثم في داود) عليه السلام (من الاختصاص بالخلافة) الإلهية عن اللّه تعالى أن جعله ، أي اللّه تعالى (خليفة حكم) في الأرض بين الناس (وليس ذلك) الاستخلاف بالحكم في الأرض بين الناس إلا نيابة (عن اللّه تعالى فقال) ، أي اللّه تعالى له ، أي لداود عليه السلام بعد التنصيص على خلافته فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ[ ص : 26 ] .
فأعلمه أنه خليفة حكم (وخلافة آدم) عليهما السلام (قد لا تكون من هذه المرتبة) ، أي مرتبة خلافة الحكم في بنيه بالحق إذ ليس فيها من التصريح بذلك مثل هذه الخلافة الداودية (فتكون خلافته) ، أي آدم عليه السلام (أن يخلف من كان فيها) ، أي في الأرض قبل ذلك ، أي قبل استخلاف آدم عليه السلام وهم الجن الذين كانوا يسكنون في الأرض لا أنه ، أي آدم عليه السلام نائب عن اللّه تعالى (في خلقه بالحكم الإلهي فيهم ) مثل داود عليه السلام ، فإنه نائب عن اللّه تعالى بالحكم الإلهي في الخلق (وإن كان الأمر كذلك وقع) ،
أي أن آدم عليه السلام نائب عن اللّه تعالى في خلقه بالحكم الإلهي (ولكن ليس كلامنا) الآن (إلا في التنصيص عليه) ، أي على هذا الأمر الواقع والتصريح به ، أي بهذا الأمر المذكور وللّه تعالى في الأرض خلائف جمع خليفة عن اللّه تعالى في العلم والحكم (وهم الرسل) عليهم السلام سواء ورد ذكر خلافتهم في القرآن أو لم يرد ذكره .
(وأما الخلافة اليوم) في الأولياء (فعن الرسل) عليهم السلام (لا عن اللّه) تعالى (فإنهم) ، أي الخلفاء اليوم (ما يحكمون) بين الناس في الظاهر والباطن (إلا بما شرع) ، أي بين (لهم الرسول) صلى اللّه عليه وسلم من الأحكام الإلهية لا يخرجون عن ذلك أصلا في قول أو عمل أو اعتقاد أو حال غير أن ههنا في هذه المسألة إشارة (دقيقة) جدا .
(لا يعلمها) ذوقا وكشف (إلا أمثالنا) من المحققين أصحاب الوراثة الكاملة والدائرة الكبرى الشاملة وإذا سمعها الأجنبي عن هذا المقام يتخيلها بعقله فيظن أنه عرفها فربما ينكرها الظهور عنده بخلاف ما هي عليه في نفسها عند صاحبها المتحقق به .
(وذلك) ، أي ما ههنا من تلك الدقيقة في كيفية أخذ ما يحكمون ، أي الخلفاء (به بما هو شرع للرسول عليه السلام) مقرر عنه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالخليفة عن الرّسول من يأخذ الحكم بالنّقل عنه صلى اللّه عليه وسلم أو بالاجتهاد الّذي أصله أيضا منقول عنه صلى اللّه عليه وسلم . وفينا من يأخذه عن اللّه بعين ذلك الحكم ، فتكون المادّة له من حيث كانت المادّة لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فهو في الظّاهر متّبع لعدم مخالفته في الحكم كعيسى عليه السّلام إذا نزل فحكم ، وكالنّبيّ محمّد صلى اللّه عليه وسلم في قوله :أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ[ الأنعام : 90 ] .
وهو في حقّ ما يعرفه من صورة الأخذ مختصّ موافق ، هو فيه بمنزلة ما قرّره النّبيّ صلى اللّه عليه وسلم من شرع من تقدّم من الرّسل بكونه قرّره فاتبعناه من حيث تقريره لا من حيث إنّه شرع لغيره قبله . )
(فالخليفة عن الرسول) صلى اللّه عليه وسلم في تقديره للأمة وتفصيله لهم والحكم به هو كل (من يأخذ الحكم الإلهي) في قضيته (بالنقل عنه) ، أي عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم حيث ورد التصريح به في كتاب أو سنة أو اجتمعت عليه الأمة أو يأخذه (بالاجتهاد) وهو الاستنباط بالفهم والمقايسة مما ورد في الكتاب والسنة أو الإجماع (الذي أصله) ، أي الاجتهاد أيضا ، أي مثل الكتاب والسنة أو الإجماع منقول ، أي الإذن فيه والإجازة له عنه صلى اللّه عليه وسلم قال تعالى :لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ[ النساء : 83 ] .
وقال عليه السلام : « من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر » ولما أرسل النبي صلى اللّه عليه وسلم معاذا إلى بلاد اليمن قال له : « بماذا تحكم يا معاذ فقال : أحكم بكتاب اللّه تعالى ، قال : فإن لم تجد ، قال : فسنة نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : فإن لم تجد قال : أرى رأيي وأحكم فقال : اللهم وفق رسول رسولك » رواه أبو داود والترمذي .
(وفينا) ، أي معشر المحققين من أهل اللّه تعالى العارفين (من يأخذه) ، أي الحكم الإلهي في القضية (عن اللّه) تعالى من غير واسطة دليل ظاهر (فيكون) حينئذ (خليفة عن اللّه) تعالى (بعين ذلك الحكم) الذي تلقاه من وحي الإلهام (فتكون المادة له) في تلقي ذلك الحكم عن اللّه تعالى (من حيث كانت المادة) فيه (لرسوله صلى اللّه عليه وسلم) وهذا المقام يسمى مقام القربة ، وللمصنف قدس اللّه سره في تبيينه وتحقيقه رسالة مستقلة ذكر فيها أن هذا مقام فوق الصديقية ودون النبوّة ، وإن أبا حامد الغزالي وبعض العارفين ينكره ويقول : ليس فوق الصديقية إلا النبوة .
والشيخ رضي اللّه عنه قد حقق به ووجده مذكورا في بعض كتب أبي عبد الرحمن السلمي نصا واسمه مقام القربة ، وأن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه كان له هذا المقام في زمان خلافته زيادة على مقام الصديقية .
ومن هذا المقام قاتل بني حنيفة وسباهم وقال عمر رضي اللّه عنه : فما هو إلا أن رأيت أن اللّه قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .
(فهو) ، أي صاحب هذا المقام المذكور (في الظاهر متبع) للرسول صلى اللّه عليه وسلم فيما جاء به من شرائع الأحكام (لعدم مخالفته) له (في الحكم) أصلا وهو في الباطن مستقل بأخذ عين الحكم الشرعي من اللّه تعالى بغير واسطة رسول من البشر وإليه الإشارة بقوله تعالى :يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ[ غافر : 15 ] الآية .
وقوله تعالى :قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[ يوسف : 108 ]
فقد أخبر تعالى أن المتبع في الظاهر على بصيرة أيضا مثل الرسول صلى اللّه عليه وسلم كعيسى ابن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فحكم بشريعتنا فإنه متبع في الظاهر ، وفي الباطن إنما هو مستقل بوحي اللّه تعالى إليه عين هذا الحكم الذي في شريعتنا ، ولا يأخذه عليه السلام من اجتهاد عقلي لعصمته من الخطأ واحتماله .
(وكان النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم في قوله) تعالى له عن الأنبياء الماضين عليهم السلام أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ[ الأنعام : 90 ] ، أي اتبع لهم في هداهم مع أنه صلى اللّه عليه وسلم يوحى إليه بعين ذلك الحكم المأمور بالاتباع فيه فهو متبع في الظاهر ومستقل في الباطن.
(وهو) ، أي صاحب هذا المقام (في حق ما نعرفه) نحن (من صورة) ، أي كيفية الأخذ ، أي أخذ الحكم عن اللّه مثل أخذ الأنبياء عليهم السلام لكن من وحي الإلهام لا وحي النبوة مختص بذلك دون غيره من أهل طريقه (موافق هو) ، أي صاحب هذا المقام فيه ، أي في الحكم المأخوذ للحكم الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم (بمنزلة ما قرره النبي صلى اللّه عليه وسلم من شرع من تقدم من الرسل) عليهم السلام بكونه ، أي بسبب كونه عليه السلام قرره ، أي ذلك الحكم (فاتبعناه من حيث تقريره) له صلى اللّه عليه وسلم لا اتبعناه (من حيث إنه) ، أي ذلك الحكم (شرع لغيره) عليه السلام قبله من شرائع المرسلين عليهم السلام .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك أخذ الخليفة عن اللّه عين ما أخذه منه الرّسول فنقول فيه بلسان الكشف خليفة اللّه وبلسان الظّاهر خليفة رسول اللّه . ولهذا مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما نصّ بخلافة عنه إلى أحد . ولا عيّنه لعلمه أنّ في أمّته من يأخذ الخلافة عن ربّه فيكون خليفة عن اللّه مع الموافقة في الحكم المشروع . فلمّا علم ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يحجر الأمر .
فللّه خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرّسول ما أخذته الرّسل عليهم السّلام .
ويعرفون فضل المتقدّم هناك لأنّ الرّسول قابل للزّيادة : وهذا الخليفة ليس بقابل للزّيادة الّتي لو كان الرّسول قبله .
فلا يعطى من العلم والحكم فيما شرع إلّا ما شرع للرّسول خاصّة ؛ فهو في الظّاهر متّبع غير مخالف ، بخلاف الرّسل . )
(وكذلك أخذ الخليفة) صاحب مقام القربة المذكور (عن اللّه) تعالى (عين ما أخذه منه) ، أي من اللّه تعالى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فنقول معشر المحققين فيه ، أي في الخليفة المذكور (بلسان الكشف) عن حقيقة ما هو عليه في مقامه وذلك هو (خليفة رسول اللّه في الأرض ونقول أيضا فيه (بلسان الظاهر) من حاله هو (خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ ولهذا) ، أي لكون الأمر كما ذكر (مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما نص) ، أي صرح بخلافة عنه صلى اللّه عليه وسلم إلى أحد من الصحابة رضي اللّه عنهم ولا عينه ، أي ذلك الأحد لعلمه صلى اللّه عليه وسلم (أن في أمته من يأخذ الخلافة) في الأرض (عن ربه) تعالى (فيكون) ذلك (خليفة عن اللّه) تعالى كما كانت الأنبياء والرسل عليهم السلام ، وهم الأفراد الخارجون عن نظر القطب.
(مع الموافقة) للرسول صلى اللّه عليه وسلم (في الحكم) الإلهي (المشروع) للأمة (فلما علم ذلك) في أمته صلى اللّه عليه وسلم إلى يوم خروج المهدي في آخر الزمان (لم يحجر الأمر) بالنص لأحد على الخلافة عنه وترك ذلك شورى بين الصحابة رضي اللّه عنهم (فللّه) تعالى (خلفاء) عنه سبحانه (في خلقه) ، أي مخلوقاته وليسوا بأنبياء (يأخذون) من علم الشرائع والأحكام ومعرفة الحلال من الحرام (من معدن الرسول) صلى اللّه عليه وسلم ،
أي موضع أخذه شريعته ومعدن الرسل عليهم السلام قبله ما ، أي الحكم مفعول يأخذون الذي (أخذته الرسل عليهم السلام) فيكونون مستقلين موافقين في الباطن ومتبعين في الظاهر ومن هنا قال أبو القاسم الجنيدي رضي اللّه عنه المريد الصادق غني عن علم العلماء ، أي هو عالم بعلمهم من غير أن يحتاج إلى تعلمه منهم لأخذه ذلك عن اللّه تعالى إذا كان من أهل هذا المقام المذكور .
(ويعرفون) ، أي الخلفاء المذكورون (فضل) الرسول (المتقدم) عليهم الذي أخذوا من مأخذه (هناك) ، أي مما يأخذونه من الحكم الشرعي (لأن الرسول) الذي أخذوا من مأخذه (قابل للزيادة) في ذلك الحكم المشروع بإظهار حكم آخر ونسخ له (وهذا الخليفة) عن اللّه تعالى المذكور (ليس بقابل للزيادة) فيما أخذه عن اللّه تعالى من ذلك ( فلا يعطى) ، أي ذلك الخليفة من العلم الإلهي والحكم فيما ، أي في الأمر الذي شرع ، أي أظهر وبيّن لا تباعه إلا ما شرع الرسول لأمته خاصة ، من غير قابلية زيادة ولا نقصان ولهذا ورد في الحديث « الشيخ في أهله كالنبي في أمته » ، رواه الديلمي في مسند الفردوس .
وفي رواية ابن حبان في صحيحه . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " الشيخ في بيته كالنبي في أمته " .
(فهو) ، أي الخليفة المذكور (في الظاهر متّبع) للرسول صلى اللّه عليه وسلم (غير مخالف) له أصلا وإن كان مستقلا في أخذ الحكم الشرعي عن اللّه تعالى بالرقيقة الممتدة له من روحانية جبريل عليه السلام تنفث في روعه بعين الحكم الذي نزل به جبريل عليه السلام على الرسول قبله وبعضهم يسميه جبريل عليه السلام ، ولكنه ما اتصف (بخلاف الرسل) عليهم السلام فإنهم يعطون زيادة في العلم والحكم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ألا ترى عيسى عليه السّلام لمّا تخيّلت اليهود أنّه لا يزيد على موسى ، مثل ما قلناه في الخلافة اليوم مع الرّسول ، آمنوا به وأقرّوه ، فلمّا زاد حكما ونسخ حكما كان قد قرّره موسى - لكون عيسى رسولا - لم يحتملوا ذلك لأنّه خالف اعتقادهم فيه ؟ وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه .
فطلبت قتله ، فكان من قصّته ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز عنه وعنهم . فلمّا كان رسولا قبل الزّيادة ، إمّا بنقص حكم قد تقرّر ، أو زيادة حكم ، على أنّ النّقص زيادة حكم بلا شكّ .
والخلافة اليوم ليس لها هذا المنصب وإنّما تزيد وتنقص على الشّرع الّذي قد تقرّر بالاجتهاد لا على الشّرع الّذي شوفه به محمّد صلى اللّه عليه وسلم . )
(ألا ترى) يا أيها السالك (عيسى) ابن مريم عليهما السلام (لما تخيلت اليهود أنه لا يزيد) في الأحكام الشرعية (على) أحكام شريعة (موسى) بن عمران عليه السلام وظنوا أنه خليفة عن موسى عليه السلام (مثل ما قلناه في) حق (الخلافة) الإلهية في الأولياء (اليوم مع الرسول) صلى اللّه عليه وسلم لا يزيد عليه ولا ينقص عنه في حكم أصلا وإن أخذ من مأخذه آمنوا ، أي اليهود به ، أي بعيسى عليه السلام بقلوبهم أنه نبي ورسول إليهم متابعا لموسى عليه السلام وأقروا بألسنتهم به ولم يكذبوه .
(فلما زاد حكما) ليس عندهم في التوراة (أو نسخ حكما كان قد قرره) لهم موسى عليه السلام من أحكام التوراة (لكون عيسى) عليه السلام (رسولا) إليهم جاءهم بالإنجيل كما جاء موسى عليه السلام بالتوراة ، فقال لهم عليه السلام :وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[ آل عمران : 50 ] (لم يتحملوا) ، أي اليهود ذلك ، أي ما زاده من الحكم ونسخه لأنه ، أي عيسى عليه السلام (خالف اعتقادهم) ، أي اليهود فيه فإنهم كانوا يعتقدون أنه لا يزيد ولا ينقص من شريعة موسى عليه السلام شيئا ، فلما زاد أو نقص أنكروه وكفروا به (وجهلت اليهود الأمر على ما هو عليه) في نفسه لإنكارهم النسخ من أصله ، وأنه لا يقع في أحكام اللّه تعالى أصلا فطلبت ، أي اليهود قتله ، أي عيسى عليه السلام فكان من قصته عليه السلام مع اليهود لما هموا بقتله (ما أخبرنا اللّه تعالى في كتابه العزيز) عنه ، أي عن عيسى عليه السلام من رفعه إلى السماء وتطهره منهم قال تعالى :يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُو[ آل عمران : 55 ] ، (وعنهم) ، أي عن اليهود من عدم قتله وصلبه ومن تشبهه لهم .
قال تعالى :وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[ النساء : 157 ] ، وقال تعالى : "وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ "[ النساء : 157 ] .
(فلما كان) ، أي عيسى عليه السلام (رسولا) إلى اليهود (قبل الزيادة) على شريعة موسى عليه السلام (إما بنقص) أو نسخ حكم من أحكام اللّه تعالى قد تقرر عندهم في شريعة موسى عليه السلام (أو زيادة حكم) فيه (على أن النقص) منها بنسخ الحكم زيادة حكم فيها بلا شك لثبوت الإباحة بنسخ التحريم والخلافة الإلهية في الأولياء (اليوم ليس لها هذا المنصب) الذي للأنبياء والرسل عليهم السلام (وإنما تنقص) ، أي الخلافة (أو تزيد على الشرع )المحمدي الذي قد تقرر بالاجتهاد وهو مذهب المجتهد فإنه شرع محمدي عند ذلك المجتهد ومن قلده فقط ، وكل صاحب مذهب من المجتهدين كذلك ، وطريقة الاجتهاد باقية إلى يوم القيامة ، وتقع الزيادة والنقص وهو مذهب المجتهد بمجتهد آخر غيره ، لأن ذلك غلبة ظن لا محض يقين أرأيت أنه محتمل للخطأ كما ورد في حديث : « من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر » والأنبياء والرسل عليهم السلام عصموا من الخطأ فيما يحكمون به من شرائعهم ، ولهذا امتنع في حقهم الاجتهاد لا تنقص أو تزيد (على الشرع الذي شوفه) به نبين (محمد صلى اللّه عليه وسلم) ، أي شافهه اللّه تعالى في خطابه له بالوحي إليه .
قال رضي الله عنه : (فقد يظهر من الخليفة ما يخالف حديثا ما في الحكم فيخيّل أنّه من الاجتهاد وليس كذلك وإنّما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النّبيّ ؛ ولو ثبت لحكم به . وإن كان الطّريق فيه العدل عن العدل فما هو معصوم من الوهم ولا من النّقل على المعنى . فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم ، وكذلك يقع من عيسى عليه السّلام ، فإنّه إذا نزل يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرّر فيبيّن برفعه صورة الحقّ المشروع الّذي كان عليه السّلام عليه .
ولا سيّما إذا تعارضت أحكام الأئمّة في النّازلة الواحدة . فنعلم قطعا أنّه لو نزل وحي لنزل بأحد الوجوه فذلك هو الحكم الإلهيّ . وما عداه وإن قرّره الحقّ فهو شرع تقرير لرفع الحرج عن هذه الأمّة واتّساع الحكم فيه . )
(فقد يظهر من الخليفة) اليوم (ما يخالف حديثا ما) ، يعني أي حديث كان ( في الحكم) الشرعي (فيتخيل) بالبناء للمفعول أي يتخيل أحد من الناس (أنه) أي الخلاف الواقع من الخليفة لذلك الحديث (من الاجتهاد) كما يخالف المجتهد لغلبة ظنه بضعف الحديث أو نسخه أو فهمه منه ما لم يفهمه غيره .
(وليس الأمر) من الخليفة (كذلك) ، أي ما هو من قبيل الاجتهاد واستعمال العقل والفكر في الاستنباط من أحوال الشرع (وإنما هذا الإمام) الذي هو الخليفة عن اللّه تعالى في الأرض الذي يكشف بنور إيمانه ويقينه عما يقع في صدره من نفث ملك الإلهام الذي أيده اللّه تعالى به وأمده بمدده من روح القدس (لم يثبت عنده من جهة الكشف) المذكور الذي طريقه في المعرفة (ذلك الخبر) ، أي الحديث الذي ثبت عند غيره من الناس (عن النبي) صلى اللّه عليه وسلم (ولو ثبت) ذلك الحديث عنده بالطريق المخصوص له (لحكم به) كما حكم به من ثبت عنده (وإن كان الطريق) عند أهل الظاهر (فيه) ، أي في ذلك الخبر النبوي حيث خالفه الخليفة (العدل) ، أي الميل منه عن قبول قول المخبر العدل الراوي لذلك الخبر .
(فما هو) ، أي ذلك المخبر العدل (معصوم عن) حصول (الوهم) له في سماع الخبر (ولا ) معصوم (من النقل) ، أي رواية ذلك الخبر عن الرسول المعصوم صلى اللّه عليه وسلم (على المعنى) ، أي بمعنى لفظ الرسول عليه السلام لا بعين لفظه والنقل بالمعنى قد أجازه علماء الحديث في غير جوامع الكلم من الأحاديث النبوية ، ولهذا اختلفت الروايات فيها والمعنى واحد في الغالب .
وقد يختلف المعنى فيكون الخليفة كشف عن الحكم الموافق لذلك الحديث لو رواه الراوي عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم بلفظه أو لم يتوهم فيه من النبي عليه السلام أو من شيخه الذي روى عنه حتى وصل إلى من ثبت عنده بغلبة ظنه كونه قول الرسول صلى اللّه عليه وسلم (فمثل هذا) الأمر (يقع من الخليفة اليوم) ولا يكون مخالفا لحكم من أحكام الشريعة المحمدية أصلا في نفس الأمر وإن حكم عليه من ثبت الحديث عنده بالمخالفة فإنه ما اتصف في حكمه لعدم معرفته بالطريقة المأمونة عند المحققين .
وفي شرح الوصايا اليوسفية للمصنف قدس اللّه سره . :
قال : الواجب على المريد أن يرى نطق الشيخ نطق الحق في جميع ما ينطق به من خير وشر عرفا وشرعا ، وهذا عزيز في المريدين جدا ، بل الغالب على القابلين منهم أن يقبلوا ذلك إذا قبلوه ولم يردوه على كره منهم ، لا جرم أنهم يعاقبون على الرد وإن كان الحق بأيديهم في ذلك ، ولكن طاعة الشيخ أولى بالمريد على كل حال .
ولقد قال لي الشيخ يوما كلاما فيه فحش عظيم ، أو صله إلى الغير من عامة الناس ، وإيصال ذلك معصية في الشرع مقرر عندنا فبادرت لا متثال أمره بمحضر الجماعة
فقال لي : أو تفعل ذلك ؟
قلت له : أي واللّه ،
قال : وتعلم أن ذلك معصية شرعا ؟
قلت له : نعم ، قال : وكيف تفعله وأنت تعلم أنه معصية شرعا ؟
عن كره أو عن طيب نفس ؟
قلت له : عن طيب نفس قال : وبم ذلك ؟
قلت له : لأنا ما أخذنا الشرع عن الشارع وإنما أخذناه بالنقل عنه كما قال أبو يزيد : أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت .
وكلامك عندي هو الشرع المقرب إلى اللّه ، فإنك عندي ممن ينطق عن اللّه لا عن هوى نفسه ، والأخذ عنك أثبت وأصح من أخذي من أقوال علماء الشريعة .
فقال : بارك اللّه فيك اجلس لا تفعل ذلك ، فإني ما أردت ذلك إلا أري الجماعة صدقك في الخدمة وقيامك بالحرمة ، وقد ظهر والحمد للّه .
يا بني إن ذلك الذي أمرتك به معصية عندي ، وما كنت لأتركك تفعل ذلك ، وإنما ابتليتك حتى نعلم كما قال اللّه تعالى في محكم كتابه مع علمه "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ" [ محمد : 31 ] .
(وكذلك ) ، أي مثل ما يقع من الخليفة اليوم (يقع من عيسى عليه السلام) ، فإنه أي عيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان (يرفع كثيرا من شرع الاجتهاد المقرر) عن المجتهدين ومقلديهم اليوم فيبين ،
أي عيسى عليه السلام (برفعه) كما تقرر في شرع الاجتهاد (صورة الحق المشروع الذي كان عليه) نبينا محمد (صلى اللّه عليه وسلم ولا سيما) ، أي خصوص (إذا تعارضت أحكام الأئمة) المجتهدين (في النازلة الواحدة) فذهب كل إمام إلى قول .
(فنعلم) نحن الآن (قطعا أنه) ، أي الشأن (لو نزل وحي) من اللّه تعالى في تلك القضية الواحدة المختلف فيه (لنزل) ذلك الوحي (بأحد الوجوه) التي ذهب إليها أحد تلك الأئمة .
(فذلك) النازل (هو الحكم الإلهي) القديم وما عداه من بقية الأحكام وإن قرره الحق تعالى وقبل العمل بمقتضاه فهو شرع تقرير من الحق تعالى وعدم إنكاره لرفع أي إزالة الحرج ، أي الصعوبة والعسر عن هذه الأمة . قال تعالى :وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ الحج : 78 ] ولأجل اتساع الحكم الإلهي فيها ، أي في هذه الأمة .
قال تعالى :يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ البقرة : 185 ] ، وقال عليه السلام : « أتيتكم بالحنيفية السمحة السهلة » رواه الديلمي و أحمد في المسند.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا قوله عليه السّلام إذا بويع لخلفتين فاقتلوا الآخر منهما فهذا في الخلافة الظّاهرة الّتي لها السّيف . وإن اتّفقا فلا بدّ من قتل أحدهما بخلاف الخلافة المعنويّة فإنّه لا قتل فيه .
وإنّما جاء القتل في الخلافة الظّاهرة وإن لم يكن لذلك الخليفة هذا المقام وهو خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن عدل .
فمن حكم الأصل الّذي به تخيّل وجود إلهين .لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَت[ الأنبياء : 22 ].
وإن اتّفقا فنحن نعلم أنّهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما ، فالنّافذ الحكم هو اللّه على الحقيقة ، والّذي لم ينفذ حكمه ليس بإله . )
(وأما قوله) ، أي النبي (عليه السلام) في الحديث الصحيح (إذا بويع) ، أي بايع الناس (لخليفتين) في الأرض (فاقتلوا) الخليفة (الآخر منهما) وهو الثاني والخلافة للسابق . رواه مسلم والحاكم
(فهذا) الحكم (في) حق (الخلافة الظاهرة) في الناس (التي لها السيف) في القتل والسبي (وإن اتفقا) على الخلافة في الأرض (فلا بد من قتل أحدهما) ، أي الخليفتين ليصلح الأمر بين الناس ولا تفسد الأحوال .
(بخلاف الخلافة المعنوية) الباطنية المذكورة التي لها التأثير بالهمة مكان السيف فإنه ، أي الشأن (لا قتل فيها) لعدم معرفتها على أحد من الأولياء ، وإن قتل أحدهما من نازعه بحاله وهمته ،
كم وقع للشيخ شمس الدين الحنفي مع سيدي علي وفا قدس اللّه سرهما لما حضرا في مجلس
فقال سيدي علي : هنا رجل تدور رحى الكائنات عليه ،
فقال الشيخ شمس الدين الحنفي : وهنا رجل لو قال لها بيده : اسكني لسكنت ،
فقام سيدي علي محموما ولم يعش غير سبعة أيام رحمهما اللّه تعالى .
وإنما جاء القتل في الظاهر من المكلفين بذلك في أمر الخلافة الظاهرة التي هي الملك والسلطنة في الظاهر وإن لم يكن لذلك الخليفة ،
أي السلطان في الظاهر هذا المقام الشريف الذي لصاحب الخلافة المعنوية المذكور وهو ، أي صاحب الخلافة الظاهرة خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن عدل في حكمه بين رعاياه الداخلين تحت ولايته ، وإن ظلم وجار على الرعية فهو خليفة الشيطان فمن أجل (حكم الأصل) في التوحيد الإلهي (الذي به )،
أي بسببه (يخيّل) بالبناء للمفعول أي للقاصرين (وجود إلهين) اثنين أي مؤثرين بقدرتين وإرادتين نافذتين وهو تخيل الشرك في تعداد الأمر الواحد وما أحسن ما أنشأه وأنشده السلطان سليم من بني عثمان رحمه اللّه تعالى :
الملك للّه من يظفر لنيله مني .... يردده قهرا أو يضمن دونه الدرك
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ..... فوق البسيطة كان الأمر مشترك
أي كان أمر اللّه تعالى مشتركا ولم يكن الأمر واحدا وأمر اللّه تعالى واحد كما قال سبحانه :وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ[ القمر : 50 ] وقال تعالى :لَوْ كانَ فِيهِم، أي في السماوات والأرض آلِهَةٌ جمع إله إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا[ الأنبياء : 22 ] ،
أي السماوات والأرض فما فسدتا ، فليس فيهما آلهة إلا اللّه وإن اتفقا ، أي الإلهان ولم يختلفا أصلا في خلق شيء فنحن نعلم أنهما ،
أي الإلهين يمكن اختلافهما ولو اختلفا تقديرا فأراد أحدهما إيجاد شيء والآخر إعدامه لنفذ حكم أحدهما قطعا لاستحالة اجتماع النقيضين فالنافذ الحكم هو إله تعالى على الحقيقة والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله لعجزه والإله لا بد أن يكون قادرا على كل شيء .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ومن ههنا نعلم أنّ كلّ حكم ينفذ اليوم في العالم أنّه حكم اللّه عزّ وجلّ ، وإن خالف الحكم المقرّر في الظّاهر المسمّى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلّا للّه في نفس الأمر ، لأنّ الأمر الواقع في العالم إنّما هو على حكم المشيئة الإلهيّة لا على حكم الشّرع المقرّر .
وإن كان تقريره من المشيئة . ولذلك نفذ تقريره خاصّة .
وأنّ المشيئة ليس لها فيه إلّا التّقرير ، لا العمل بما جاء به .
فالمشيئة سلطانها عظيم ، ولهذا جعلها أبو طالب عرش الذّات .
لأنّها لذاتها تقتضي الحكم . فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيئة فإنّ الأمر الإلهيّ إذا خولف هنا بالمسمّى معصية فليس إلّا الأمر بالواسطة لا الأمر التّكوينيّ . )
(ومن هنا) ، أي من هذا الدليل الوارد في كلام اللّه تعالى على توحيده نعلم أن كل حكم من حاكم مطلق (ينفذ اليوم في العالم) المحسوس والمعقول والظاهر والباطن على طبق إرادة المخلوق أو على المكره منه .
(أنه) ، أي ذلك الحكم النافذ (حكم اللّه) تعالى من غير شك أصل (وإن خالف الحكم) الإلهي (المقرر في الظاهر) عند المؤمنين (المسمى شرعا) محمدي (إذ لا ينفذ حكم) أصل (إلا للّه تعالى) خالق كل شيء في نفس الأمر ، وإن كان ذلك الحكم منسوبا في الظاهر إلى المخلوق ، لأنه مظهر الحاكم الحق (لأن الأمر الواقع في العالم) سواء كان خيرا أو شرا إنما هو واقع (على) مقتضى (حكم المشيئة الإلهية) والإرادة الربانية (لا على) مقتضى (حكم الشرع) المحمدي (المقرر) عند المؤمنين (وإن كان تقريره) ، أي ذلك الشرع (من) حكم (المشيئة) الإلهية أيضا ؛
(ولذلك) ، أي لكونه من حكم المشيئة الإلهية (نفذ تقريره) بين المؤمنين به خاصة دون نفوذ مقتضاه في الكل (فإن المشيئة) الإلهية (ليس لها فيه) ، أي في الشرع المقرر إلا التقرير ، أي الإثبات والتبيين للمكلفين بالأنبياء والمرسلين عليهم السلام لا لها العمل بما جاء ذلك الشرع (به ، فالمشيئة) الإلهية (سلطانها عظيم) لنفوذها في كل شيء إيجادا وإمداد (ولهذا) ، أي لعظم سلطانه (جعلها أبو طالب) المكي صاحب « قوت القلوب » عرش الذات الإلهية ،
أي مستولى الذات الإلهية ، فلا تظهر الأسماء الإلهية بآثارها في الملك والملكوت إلا بحسب مقتضاها في الخير والشر لأنها ، أي المشيئة الإلهية لذاتها ، أي لكونها مشيئة تقتضي الحكم ، أي ترجيح أحد طرفي الممكن الإيجاد والإعدام .
(فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع) من الوجود شيء خارجا عن المشيئة الإلهية أصل (فإن الأمر الإلهي إذا خولف) ، أي خالفه مخالف من المكلفين به هنا ، أي في الشرع المقرر (بالمسمى معصية) من أفعال المكلفين (فليس) الذي خولف (إلا الأمر) الإلهي (بالواسطة) وهي الملائكة والأنبياء عليهم السلام والعلماء الناقلون ذلك عنهم (لا الأمر التكويني) ، أي الذي به تتكون الأشياء من عدمها ، وهو أمر المشيئة والإرادة كما قال تعالى :إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( 40 ) [ النحل : 40 ].
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما خالف اللّه أحد قطّ في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة ؛ فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة فافهم .
وعلى الحقيقة فأمر المشيئة إنّما يتوجّه على إيجاد عين الفعل لا على من ظهر على يديه ، فيستحيل أن لا يكون ؛ ولكن في هذا المحلّ الخاصّ .
فوقتا يسمّى به مخالفة لأمر اللّه ، ووقتا يسمّى موافقة وطاعة لأمر اللّه ، ويتبعه لسان الحمد والذّم على حسب ما يكون .
ولمّا كان الأمر في نفسه على ما قرّرناه لذلك كان مآل الخلق إلى السّعادة على اختلاف أنواعها.
فعبّر عن هذا المقام بأنّ الرّحمة وسعت كلّ شيء ، وأنّها سبقت الغضب الإلهيّ . )
(فما خالف) اللّه تعالى (أحد قط في جميع ما يفعله) سبحانه (من حيث أمر المشيئة) الإلهية النافذة الحكم في كل شيء (فوقعت المخالفة) ممن وقعت منه (من حيث أمر الواسطة) وهو الأمر التكليفي في الشرع المقرر لا غير (فافهم) يا أيها السالك (وعلى الحقيقة فأمر المشيئة) الإلهية (إنما يتوجه) من الحق تعالى (على إيجاد عين الفعل) وهو العمل الصادر من المكلف المسمى خيرا أو شرا . قال تعالى :وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ( 96 ) [ الصافات : 96 ] ،
أي وخلق عملكم ، والخلق هو توجه المشيئة الإلهية (لا) يتوجه (على من ظهر ذلك) الفعل (على يده) إلا في حال تكوينه بأمر المشيئة الإلهية مثل تكوين فعله (فيستحيل) حينئذ عقلا وشرع (أن لا يكون) ، أي لا يوجد ذلك الفعل الذي توجه عليه أمر المشيئة الإلهية ولكن في هذ (المحل الخاص) وهو العبد الفلاني من المكلفين .
(فوقتا يسمى) ، أي ذلك الفعل تسمية كائنة به ، أي بأمر المشيئة الإلهية (مخالفة لأمر اللّه ) تعالى ووقتا آخر يسمى ذلك الفعل (موافقة وطاعة لأمر اللّه تعالى .)
وهذه التسمية واردة في الشرع المقرر (ويتبعه) ، أي ذلك الفعل في الشرع (لسان الحمد) في تسميته موافقة وطاعة أو لسان الذم في تسميته مخالفة ومعصية (على حسب ما يكون) ذلك الفعل من المكلف (ولما كان الأمر) الإلهي والشأن الرباني (في نفسه على ما قدرناه) من أن أمر المشيئة لا يخالفه شيء أصلا ، فلم يخالف اللّه أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة الإلهية ، وإن خالفوه من حيث أمره الشرعي الذي كلفهم به على ألسنة الوسائط .
(لذلك) ، أي لما ذكر (كان مآل) ، أي مرجع (الخلق) ، أي المخلوقين كلهم (إلى السعادة) الأبدية (على) حسب (اختلاف أنواعها) ، أي السعادة (فعبر) بالبناء
للمفعول في كلام اللّه تعالى (عن هذا المقام) الذي هو مرجع الكل إلى السعادة المختلفة (بأن الرحمة) الإلهية (وسعت كل شيء) ، قال اللّه تعالى :وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[ الأعراف : 156 ] ، فكل شيء ظهر منها ويرجع إليها ، ولهذا تسعه ولا تضيق عنه وأنها ، أي الرحمة سبقت الغضب الإلهي .
كما ورد في الحديث « أن رحمتي سبقت غضبي » . أخرجه البخاري
في رواية له ولمسلم : " إن رحمتي تغلب غضبي " .
وفي رواية للبخاري : « غلبت غضبي » .
وفي رواية لمسلم : " سبقت رحمتي غضبي "
وكان ذلك ، لأنها الأصل والغضب طارىء عليها باعتبار تقدير المخالفة والمعصية المقتضية له ، فإذا رجعت الأمور إلى أصولها وجدت الرحمة ووسعت المخالفة والمعصية فأوجدتها ، ووسعت العقوبة في الآخرة والعذاب والنار فأوجدت ذلك ، فغلب حكمها مع بقاء النار وجميع ما فيها من أنواع العقوبات ، فيظهر أن الغضب نوع من الرحمة ، ويتبين عند ذلك كون الرحمة سابقة الغضب ، ويزول من الأفهام القاصرة مقابلة الغضب للرحمة وكونها نقيضها ، ويعود نوعا منها وهو عينها مع بقاء عينه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والسّابق متقدّم ، فإذا لحقه هذا الّذي حكم عليه المتأخّر حكم عليه المتقدّم فنالته الرّحمة إذ لم يكن غيرها سبق . فهذا معنى سبقت رحمته غضبه .
لتحكم على ما وصل إليها فإنّها في الغاية وقفت .
والكلّ سالك إلى الغاية . فلا بدّ من الوصول إليها ، فلا بدّ من الوصول إلى الرّحمة ومفارقة الغضب .
فيكون الحكم لها في كلّ واصل إليها بحسب ما تعطيه حال الواصل إليه .
فمن كان ذا فهم يشاهد ما قلنا .... وإن لم يكن فهم فيأخذه عنّ
فما ثمّ إلّا ما ذكرناه فاعتمد ..... عليه وكن بالحال فيه كما كنّ
فمنه إلينا ما تلونا عليكم ..... ومنّا إليكم ما وهبناكم منّا )
(والسابق) على الشيء (متقدم) عليه (فإذا لحقه) ، أي لحق ذلك السابق (هذا) الشيء (الذي حكم عليه) ، أي على السابق بكونه سابق (المتأخر) عنه (حكم عليه) ، أي على ذلك المتأخر المسبوق وذلك (المتقدم) السابق فالرحمة ما سبقت الغضب إلا لما كانت متقدمة عليه ، فإذا لحقها الغضب الذي حكم عليها بالسبق إذ لولا تأخره عنها ما كانت سابقة عليه فقد حكمت الرحمة عليه بتأخره عنه (فنالته) ، أي الغضب الإلهي (الرحمة) الإلهية (إذ) ، أي لأنه (لم يكن غيرها) ، أي غير الرحمة (سبق) على الغضب حتى يناله ، فإذا نالته الرحمة أحالته نوعا منها مع بقائه على حكمه ومقتضاه ، كالميتة إذا وقعت في المملحة فصارت ملحا كانت المملحة سابقة على تلك الميتة وكل سابق متقدم ، فإذا ألقيت تلك الميتة المتأخرة عن وجود المملحة في المملحة لم تزل المملحة متقدمة في الحكم ، فغلبت على أجزاء تلك الميتة فأحالتها ملحا مثلها وبقيت صورة الميتة على حالها ، فيقال فيه : ميتة حمار أو جمل أو طير ونحو ذلك . وفي نفس الأمر الكل ملح .
(فهذا معنى) أنه تعالى (سبقت رحمته غضبه) كما ورد في الحديث (لتحكم) ، أي الرحمة (على من وصل إليها) ممن هو آيل وراجع إليها لتأخره عنها بإدراك الغضب له ثم لا يزال يسير به الغضب خلف الرحمة حتى يصل إلى الرحمة فإنها ، أي الرحمة (في الغاية) التي إليها السير من الجميع كما قال تعالى :وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ[ هود : 123 ] وقفت إذ هي رحمة اللّه تعالى ظهرت منه بظهور أمره ، فتوجهت على إيجاد كل شيء ، ثم تنوّعت أنواعا منه : نوع الغضب فساق هذا النوع منها المسمى بالغضب قوما بمخالفاتهم ومعاصيهم إليه تعالى لقيامهم بأمره من حيث لا يشعرون ، فلما رجع أمره إليه رجعوا هم أيضا إليه بحكم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فوجدوا الرحمة سبقتهم إليه ، لأنه غايتها فوقعوا فيها فوسعتهم ، فمنها كان ابتداؤهم وإليها كان مرجعهم وانتهاؤهم .
(والكل) ، أي كل شيء (سالك) مع الأنفاس إذ هو في خلق جديد كما مر (إلى الغاية) التي هي مستقر الرحمة وهي حضرة الحق تعالى (فلا بد من الوصول إليها) ، أي الغاية (فلا بد من الوصول إلى الرحمة) الإلهية ومن مفارقة غلبة حكم الغضب الإلهي في كل سالك إذ بالوصول إليها يستحيل الغضب رحمة كما ذكرن (فيكون الحكم لها) ، أي الرحمة (في كل) سالك (واصل إليها) لكن حكما خاصا.
(بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها )، أي إلى الرحمة من السالكين ، فلا يزال مسمى جهنم دركاتها وأنواع العذاب فيها لأهلها إلى الأبد ، ولكن الرحمة تسع ذلك كله فتحيله إليها ، فيرجع الكل رحمة مع بقاء الغضب غضبا والعذاب عذاب .
قال تعالى :" فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ" [ الحديد : 13 ].
وفي الحديث : « لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد حتى يضع الجبار قدمه فيها فتقول : قط قط وينزوي بعضها إلى بعض » . رواه النسائي واحمد .
(فمن كان) من السالكين (ذا) ، أي صاحب (فهم) منوّر بنور الإيمان كما ورد :
" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه ". (يشاهد) عيان (ما) ، أي الذي قلناه في سبق الرحمة للغضب في أهل النار الذين هم أهلها مع بقاء الكل بحاله ولا يحتاج إلى معلم يعلمه ذلك (وإن لم يكن) له (فهم) كذلك (فيأخذه) ، أي ما قلنا من الأمر المذكور عنا ويتعلمه منا إن كان قابلا لذلك ، وكان مؤمنا بنا مصدقا لكلامنا وإلا فله ما رأى وحسابه على اللّه .
(فما ثم) ، بالفتح ، أي هناك في نفس الأمر من الحق إلا ما ذكرناه في هذا المحل وغيره (فاعتمد) يا أيها السالك (عليه) ، أي على ما ذكرناه (وكن بالحال) ، أي الذوق والشهود لا التخيل والفهم لمعناه فقط (فيه) ، أي فيما ذكرناه (كما كنا) نحن فإننا على شهود منه وذوق لا تخيل لمعناه وفهم .
(فمنه) ، أي من الأمر في نفسه وأصل (إلينا ما) ، أي الذي (تلوناه عليكم) من الكلام فإنه انكشف لنا بنور اللّه تعالى الذي نحن ننظر به من حيث إنا مؤمنون فعرفناه على ما هو عليه من حيث إنا محسنون نعبد اللّه كأنا نراه فإن لم نكن نراه فإنه يران .
قال تعالى :اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ[ النور : 35 ] والنور يكشف كل مستور (ومنّا) وأصل (إليكم ما وهبناكم منا) ، لأنه موقوف على الكشف عنه منه فإذا أخذتموه منا تخيلتموه بأفهامكم ، فلم يصل إليكم ما الأمر عليه في نفسه من ذلك ، لأنه لا يؤخذ إلا منه بنور اللّه تعالى كما أخذناه نحن لا منا من حيث ما نحن عندكم وعلى اللّه قصد السبيل .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمّا تليين الحديد فقلوب قاسية يليّنها الزّجر والوعيد تليين النّار الحديد .
وإنّما الصّعب قلوب أشدّ قساوة من الحجارة ، فإنّ الحجارة تكسّرها وتكلّسها النّار ولا تليّنها : وما ألان له الحديد إلّا لعمل الدّروع الواقية تنبيها من اللّه : أي لا يتّقى الشّيء إلّا بنفسه ، فإنّ الدّرع يتّقى بها السّنان والسّيف والسّكّين والنّصل ، فاتّقيت الحديد بالحديد .
فجاء الشّرع المحمّديّ بأعوذ بك منك . فافهم ، فهذا روح تليين الحديد فهو المنتقم الرّحيم .
واللّه الموفّق . )
(وأما تليين الحديد) لداود عليه السلام كما قال اللّه تعالى :وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ[ سبأ : 10 - 11 ] ، (فقلوب) القوم غافلين عن اللّه تعالى (قاسية) من كثرة جهلها به سبحانه كما قال اللّه تعالى :ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ[ البقرة : 74 ] ، وهم أصحاب البقرة الذين هم كالبقر اليهود الذين كان فيهم داود عليه السلام (يلينها الزجر والوعيد )، أي الإنذار والتخويف (مثل تليين النار الحديد) حين ألقاه به فيها ، وذلك مما أكرم اللّه تعالى به داود عليه السلام (وإنما الصعب قلوب) القوم أكثر غفلة من الأوّلين (أشد قسوة من الحجارة) والحجارة أقسى من الحديد وهذه القلوب أقسى من الحجارة فإن الحديد تلينه النار .
(والحجارة تكسرها وتكلسها) ، أي تجعلها كلس (النار ولا تلينها) وهذه القلوب القاسية لا تلينها المواعظ والآيات في الدنيا ولا النار في الآخرة ، ولهذا تبقى فيها إلى الأبد من غير تأثير فيه (وما ألان اللّه) تعالى (له) ، أي لداود عليه السلام (الحديد إلا لعمل الدروع) جمع درع (الواقية) ، أي الحافظة لمن يلبسها من معرة السلاح (تنبيها من اللّه) تعالى لداود عليه السلام وغيره على سر خفي (أن لا يتّقى الشيء إلا بنفسه) فنفسه وقاية منه .
(فإن الدرع) من الحديد (يتقى به السنان) جمع سن وهو نصل الرمح (والسيف والسكين والنصل) من السهام وهي من الحديد (فاتقيت الحديد بالحديد فجاء الشرع المحمدي) في نظير ذلك التنبيه (بأعوذ) ، أي بقول نبينا صلى اللّه عليه وسلم في دعائه : « اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » .أخرجه السيوطي في الجامع الصغير.
فلا تحصل الوقاية من اللّه تعالى إلا باللّه تعالى ، فكل من اتقاه بنفسه فليس بمتق ومن اتقاه به فهو المتقي ؛ ولهذا قال تعالى اقرأ باسم ربك فقرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال تعالى :وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[ البينة : 5 ] ، أي يعبدونه به لا بأنفسهم .
وقال تعالى للشيطان :إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ[ الحجر : 42 ] وهم العابدون له به وهم المخلصون . وقال تعالى حكاية عن الشيطان :لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ ص : 82 - 83 ] .
ونزل في ابتداء كل سورة : بسم اللّه الرحمن الرحيم إلا سورة التوبة لنزولها في قتال المشركين وبراءة اللّه تعالى ورسوله منهم فليسوا باسم اللّه وإنما هم بنفوسهم .
ولما كان الأمر في نفسه باللّه وإن جهلوه جاءت الباء في أوّل السورة إشارة إلى باء البسملة لكنها خفية ، لأنها جزء من براءة اللّه تعالى منهم وبراءة رسوله عليه السلام الكامنة في نفوسهم وهم لا يشعرون فافهم يا أيها السالك ما ذكر فهذا الأمر المذكور
روح ،أي سر تليين اللّه تعالى الحديد لداود عليه السلام فهو ، أي اللّه تعالى المنتقم فيتقي منه الرحيم فيكون وقاية لعباده منه .
قال تعالى :نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 49 ) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ( 50 ) [ الحجر : 49 - 50 ] واللّه سبحانه هو الموفق لمن يشاء إلى هذه التقوى والحافظ لعباده في السر والنجوى .
تم الفص الداودي
.
....

YsddzTmlby4

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!