موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية


14 - فص حكمة قدريّة في كلمة عزيرية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
هذ فص الحكمة العزيرية ، ذكره بعد حكمة لوط عليه السلام ، لأنه يذكر فيه تحقيق معنى القضاء والقدر ، المبين ذلك على ما مر في حكمة لوط عليه السلام ، من كون العلم تابعا للمعلوم ، ويذكر فيه بيان مراتب الرسل عليهم السلام من حيث هم رسل تتميم لما ذكر في حكمة لوط عليه السلام .
(فص حكمة قدرية) بفتح الدال نسبة إلى القدر (في كلمة عزيرية .)
إنم اختصت حكمة العزير عليه السلام بكونها قدرية ، لأن معراجه كان في مسألة سئلها في القدر ، فرفعه اللّه تعالى بها من حضيض الحياة الدنيوية الوهمية إلى حضرة الحياة الأبدية الحقيقة ، واخترق به سبع طباق النفوس البشرية على براق الرقيقة الروحانية ، ثم أرجعه عالم المحنة وقرار الفتنة لإنفاد بقية ما في خزائنه من الأقدار الإلهية والأسرار الربانية .
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أنّ القضاء حكم اللّه في الأشياء ، وحكم اللّه في الأشياء على حدّ علمه بها وفيها ، وعلم اللّه في الأشياء على ما أعطته المعلومات ممّا هي عليه في نفسها ، والقدر توقيت ما عليه الأشياء في عينها من غير مزيد .
فما حكم القضاء على الأشياء إلّا به .
وهذا هو عين سرّ القدر الذي يظهرلِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ ق : 37 ] .فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ[ الأنعام : 149 ] .
فالحاكم في التّحقيق تابع لعين المسألة الّتي يحكم فيها بما تقتضيه ذاته .
فالمحكوم عليه بما هو فيه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك فكلّ حاكم محكوم عليه بما حكم به وفيه ، كان الحاكم مّن كان) .
(اعلم) يا أيها السالك (أن القضاء) ، أي الحكم الإلهي الأزلي حكم اللّه تعالى العدل والفضل وإلزامه الفصل.
(في الأشياء) كلها محسوسها ومعقولها وحكم اللّه تعالى (في الأشياء) كلها (على حد) ، أي مقدار (علمه) تعالى (بها) أي بالأشياء من حيث ذواته (و) علمه (فيها) من حيث صفاتها وأحوالها .
(وعلم اللّه) تعالى (في الأشياء) كلها من حيث صفاتها وأحواله (على) حسب (ما أعطته المعلومات) التي هي أعيان تلك الأشياء وحقائقها الثابتة في عدمها الأصلي (مما هي عليه في نفسها) من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ول تبديل أصلا ولا تقديم ولا تأخير .
(والقدر) بالتحريك أي قدر اللّه تعالى الأزلي هو (توقيت) ، أي الحكم بالوقت جميع (م هي عليه الأشياء) كلها (في عينها) الثابتة في عدمها الأصلي (من غير مزيد) فيها ولا شك أن الوقت من جملة أحوال الشيء ، وهو الترتيب بينه وبين غيره من الأشياء ، وللأشياء أحوال أخرى غير الوقت ، فالحكم بالوقت قدر ، والحكم بغيره من الأحوال قضاء ، وقد يستعمل القدر في الحكم بالكل ، والقضاء كذلك ، وقد يستعملان معا بمعنى الحكم بالكل ، ويقدم القضاء ويكون القدر بعده تفسيرا له .
(فم حكم القضاء) الإلهي (على الأشياء) من الأزل (إل بها) ، أي بعين ما هي عليه الأشياء في ثبوتها حال عدمها الأصلي (وهذا) الأمر في قضاء اللّه تعالى الأزلي (هو عين سر القدر) الإلهي (الذي أخفاه اللّه تعالى) عن خلقه وأمرهم بالعمل وما هم عاملون إلا عين ما قدره عليهم ، وما قدر عليهم إلا عين ما هم عاملون في أعيانهم الثابتة حال عدمها الأصلي (ول ينكشف) هذا السر (إلا "لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ " )لا نفس ، لأن النفس بيت الشيطان ، فهو يوسوس فيها الذي يوسوس في صدور الناس ، ونعلم م توسوس به نفسه ، والقلب بيت اللّه .
قال عليه السلام : « ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ».
وهوالذي يتقلب في الصور بتجلي الحق تعالى عليه في تلك الصور كلها ، فيؤمن به فيه ولا ينكره ، فهو العبد المؤمن لا الكافر المنكر ("أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ" إلى) ما ورد عن اللّه تعالى ورسوله عليه السلام فيؤمن بما ورد عن اللّه على مراد اللّه .
وبم ورد عن رسول اللّه على مراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا الذي " أَلْقَى السَّمْعَ " إلى ما قالته علماء الأفكار المتأوّلين الأخبار كما سبق بيانه .
(وَهُوَ)، أي الذي ألقى السمع للّه ولرسوله فهو من المقلدين ("شَهِيدٌ") [ ق : 37] .
لم وقع في نفسه من الصورة التي تجلى بها عليه ربه وهو في عبادته كأنه يراه ، وهو في قبلته في حال صلاته ، لا الصورة التي اخترعها بنفسه فنحتها بفكره وأداه إليه دليله العقلي ، وبحثه وجداله في اللّه ، قال تعالى : "قالَ أَ تَعْبُدُونَ م تَنْحِتُونَ ( 95 ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ "[الصافات : 95 - 96 ]
("فَلِلَّهِ") على الخلق كلهم ("الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ") [ الأنعام : 149 ] ، وهي إيجادهم على طبق ما هم عليه في أعيانهم الثابتة حال عدمهم الأصلي ، فالسعيد سعيد الأزل والشقي شقي الأزل ، فما حكم عليهم إلا بما هم عليه في ثبوتهم الأزلي .
(فالحاكم في التحقيق) حكمه العدل (تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها ) ، أي تلك المسألة المحكوم بها كما ورد قاض في الجنة وقاضيان في النار .
فالقاضي الذي في الجنة قاض عرف الحق وحكم به ، فهو تابع للحق بما يقتضيه واللّه يقضي بالحق : وقل "رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ" [ الأنبياء : 112 ] ،
والقاضيان :
قاض عرف الحق وحكم بالباطل ولم يحكم بالحق .
وقاض لم يعرف الحق وحكم على جهله ، فهما في النار لعدم متابعتهما لما هو الأمر عليه في نفسه من الحق ، ولا بد أن يكون الحاكم محكوما عليه كما قال .
(فالمحكوم عليه ) باطنا من الخلق أو الحق (بما هو فيه) من الأحوال الثابتة له (حاكم) في الباطن (على الحاكم عليه) في الظاهر وملزوم له (أن يحكم عليه بذلك) .
أي بما هو من أحوال عينه الثابتة عنده (فكل حاكم) من قديم أو حادث (محكوم عليه ) باطنا (بما حكم به) ظاهرا من الأعيان (وفيه) من الأوصاف والأحوال كان الحاكم من كان ربا أو عبدا.

واعلم أن الحق تعالى حاكم الأزل عرضت عليه في الأزل ، أعيان الكائنات جميعها التي لا نهاية لها من ذوات وصفات وأحوال مختلفة في الحس والعقل وهي عدم صرف ، وثبتت عند علمه بشهادة شاهدين عنده بذلك هما سمعه القديم وبصره القديم ، فحكم فيها بما وجدها ثابتة عليه في أعيانه العدمية .
وكان المدعى عليها قائم وهو حضرة الصفات والأسماء الإلهية المؤثرة فيه ، دون السمع والبصر فإنهما كاشفان لا مؤثران بما لذلك المدعي عندها من الحق ، وهو عبوديتها لحضرة الصفات والأسماء الإلهية .
فأجابته بالإنكار لأجل ما هي فيه من ظلمة العدم الأصلي ، ظلما منه للحق والظلم ظلمات يوم القيامة ؛ ولهذا كان السمع والبصر من حضرة الصفات والأسماء الإلهية شاهدين عليها بعبوديته لمن ادعى الرق فيها ، واكتساء الأشياء كلها بالوجود في هذا العالم هو عين أداء الشهادة من هذين الاسمين الثابت بهما رق الأشياء وعبوديتها للحضرة الصفاتية والاسمائية ، وهي البينة التي قال تعالى :" لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ" [ البينة : 1 ] .

وهي التي قامت عليهم شاهدة بعبوديتم للصفات والأسماء ، فهم لا يزالون على إنكارهم لتلك العبودية والرق فيهم حتى يظهر شاهد الحق من نفوسهم ، وهو قوله تعالى :"رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ" [ البينة : 2 ] كقوله تعالى : "لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ " [ التوبة : 128 ] .
ثم قال: "َيتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً " [ البينة : 2 ] ، وهي عين الخواطر المستقيمة في الحق تعالى ، فيها كتب : هي نزول العالم في كل نفس من حضرة الغيب ،
قيمة : من حيث اللوح والقلم ، وسر ظهور هذا كله فيهم كونه هو السميع البصير ، لأنه عين سمعهم الذي يسمعون به ، وعين بصرهم الذي يبصرون به ، كما ورد في الحديث المتقرب بالنوافل : " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به".
وقال عليه السلام : « البينة للمدعي واليمين على من أنكر » ؛ ولهذا أقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه من يموت ، وأوّل من أقسم باللّه تعالى كاذبا إبليس "وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ" [الأعراف : 21 ] وقد شرد بنا وارد الإلهام في أثناء هذا الكلام ، فأمسكنا عنان الإقدام أن هذا الميدان ليس لنا ، فإننا فيه خادمون لكلام غيرنا ، فينبغي المتابعة لذلك النظام.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فتحقّق هذه المسألة فإنّ القدر ما جهل إلّا لشدّة ظهوره فلم يعرف وكثر فيه الطّلب والإلحاح .
واعلم أنّ الرّسل صلوات اللّه عليهم من حيث هم رسل لا من حيث هم أولياء وعارفون على مراتب ما هي عليه أممهم فما عندهم من العلم الّذي أرسلوا به إلّا قدر ما تحتاج إليه أمّة ذلك الرّسول ، لا زائد ولا ناقص .
والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض فيتفاضل الرّسل في علم الإرسال بتفاضل أممها وهو قوله تعالى : "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ " [ البقرة : 253] .
كما هم أيضا فيما يرجع إلى ذواتهم عليهم السّلام من العلوم والمعارف والأحكام الإلهيّة متفاضلون بحسب استعداداتهم وهو في قوله : " وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ " [ الإسراء : 55 ] .)
(فتحقق) ي أيها السالك (هذه المسألة) المذكورة (فإن القدر) ، أي تقدير الإلهي (م جهل) في الناس إلا (لشدة ظهوره) وانكشافه (فلم يعرف) لأجل ذلك الظهور الذي له عند كل أحد من حيث إيمانه بعدل اللّه تعالى في خلقه أنه على طبق م علم اللّه تعالى من الأشياء ، فهو تابع لها وإن لم تعرف تفاصيلها عند الكل في الكل ، فالكل يعلمون أنه تعالى عالم قضى بالحق وقدر على علم منه لا جهل ، ولا يعرفون م ذكر هنا من البيان الحق (وكثر فيه) ، أي القدر الطلب والإلحاح من الناس في بيان المراد منه للإيمان به ، وتكلم فيه كل عالم على قدر ما عنده من العلم ، وفوق كل ذي علم عليم .

(واعلم) ي أيها السالك (أن الرسل صلوات اللّه عليهم) أجمعين (من حيث هم رسل) من اللّه تعالى إلى أممهم بالتكاليف المختلفة (لا من حيث هم) ، أي الرسل عليهم السلام (أولياء) للّه تعالى (وعارفون) باللّه تعالى فهم من هذا الوجه متفاوتون تفاوتا آخر من كونهم على درجات مختلفة في الولاية والمعرفة حيث هم في أذواقهم ، وليس هذا موضع بيان ذلك ، لأن هذا الباب معطل فيهم ، فليس أخذهم للشرائع منه بل من باب نبوّتهم ، فهم لا يأخذون بكشفهم وعرفانهم واستعدادهم من التجلي الخاص ، بل بما أنبأهم به الملك المنزل عليهم من حضرة ربهم ، فإنهم مع الحق في حكم ما يخبرهم به لا بحكم ما علموه باستعدادهم ، فالقرآن علم الرسالة المحمدية ، والسنة علم النبوّة والولاية (على مراتب) تختلف باختلاف على (ما هي عليه أممهم) من الفضائل المتفاوتة .

(فم عندهم) ، أي الرسل عليهم السلام (من العلم) الإلهي (الذي أرسلو به) إلى أممهم ليعلموا ما هم عليه في ظواهرهم وبواطنهم (إلا قدر) ، أي مقدار (ما تحتاج إليه أمة ذلك الرسول) ، في اعتقاداتهم وعباداتهم ومعاملاتهم لانتظام معادهم ومعاشهم لا زائد على ذلك ولا ناقص ، والأمم متفاضلة يزيد بعضها على بعض في الفضيلة .
(فتفاضل الرسل) عليهم السلام (في علم الإرسال بتفاضل أممها) ، أي الرسل (وهو قوله) تعالى (" تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ") [البقرة : 253 ] ،.
أي بسبب ما عندهم من العلوم التي تحتاج إلى أممهم بحسب تفاوت الأمم بالذكاء والحذق كل أمة على حسب استعدادها (كما هم) ، أي الرسل عليهم السلام (أيضا فيم يرجع إلى ذواتهم) ، أي أنفسهم (عليهم السلام من العلوم الإلهية) من حيث هم أنبياء عليهم السلام (والأحكام) المخاطبين بها على مقتضى أحوالهم الربانية (متفاضلون) فمنهم من هو أفضل من الآخر (بحسب استعداداتهم) لقبول الفيض من وجود


الوجود (وهو قوله) تعالى ("وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ") من حيث الفضائل العلمية والعملية ("عَلى بَعْضٍ") [ الإسراء : 55 ] منهم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقال تعالى في حقّ الخلق : "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ" [ النحل :71]
والرّزق منه ما هو روحانيّ كالعلوم ، وحسّيّ كالأغذية وما ينزّله الحقّ إلّا بقدر معلوم ، وهو الاستحقاق الّذي يطلبه الخلق .
فإنّ اللّه أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [ طه : 50 ] فينزّل بقدر ما يشاء وما يشاء إلّا ما علم فحكم به وما علم كما قلناه إلّا بما أعطاه المعلوم من نفسه .
فالتّوقيت في الأصل للمعلوم والقضاء والعلم والإرادة والمشيّة تبع للقدر . )
(وقال) : اللّه (تعالى) أيضا (في حق الخلق) ، أي غير الأنبياء والرسل عليهم السلام من جميع الناس وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ أيها الناس عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ[ النحل : 71 ] فيما يرزقكم إياه (والرزق) قسمان (منه ما هو) رزق (روحاني) تنتفع به أرواحكم المنفوخة فيكم (كالعلوم) الإلهية فإنها غذاء الأرواح تمدها وتقويها على الإدراك والطاعة ومنه ما هو رزق (حسي) ، أي محسوس (كالأغذية) من المآكل والمشارب فإنها غذاء الأجسام تمده وتقويها على الحركة في كل ما يريده وما ينزله.

أي الرزق بقسميه الروحاني والحسي الحق تعالى ، لأنه من جملة الأشياء التي قال تعالى فيها :وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ[ الرعد : 8 ] "وَما نُنَزِّلُهُ (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" وهو )[ الحجر : 21 ] .
أي ذلك القدر المعلوم (الاستحقاق الذي يطلبه الخلق) ، أي المرزوق بمقتضى استعدادهم (فإن اللّه) تعالى "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ"، أي مقدار ما يمكن أن يتخلق ذلك الشيء به وم هو قابل له من الفيض الواسع الدائم على مقتضى قسطه من الزمان والمكان والهيئة كم قال تعالى: "الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى" [ طه : 50 ] ، أي دل على ذلك الإعطاء من شاء من عباده أو عليه تعالى بذلك الإعطاء .
(فينزل) سبحانه (بقدر) ، أي مقدار معلوم عنده (ما يشاء) من الرزق كما قال تعالى :" وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" [ الشورى : 27 ] (وما يشاء) سبحانه (إلا ما علم) من كل شيء (فحكم به) ، أي بالذي علمه (وم علم ) تعالى (كما قلناه) فيما مر غير مرة (إلا بما أعطاه المعلوم) مما هو عليه (في نفسه فالتوقيت) الذي لكل شيء.
(في الأصل) من حيث كشف العلم عنه (للمعلوم) في نفسه فإن كل شيء من المعلومات كما أنه على مقدار مخصوص وصورة مخصوصة هو على ترتيب في ظهوره مخصوص إلى مدة مخصوصة والعلم الإلهي كاشف عن جميع ذلك في كل شيء وحاكم عليه بما هو كاشف عنه فيه (والقضاء) ، أي الحكم الإلهي الأزلي .
(و) كذلك (العلم) الإلهي (والإرادة) الإلهية المتعلقة بالأشياء من حيث زيادتها ونقصانها والمشيئة الإلهية المتعلقة بالأشياء من حيث هي في نفسها فقط فيشاء اللّه تعالى الشيء أن يكون كيفما هو عليه في نفسه من غير اعتبار كونه زائد أو ناقصا ويريد سبحانه أن يكون الشيء زائدا على الشيء الآخر والشيء الآخر ناقص عنه وهكذا في بقية الاعتبارات ، فتكون المشيئة باعتبار نفس الشيء ، والإرادة باعتبار أحواله ، وربما كانتا بمعنى واحد ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللّه تعالى في أوّل الفص اللقماني (تتبع للقدر) الذي هو التوقيت المذكور والتوقيت تبع للمعلوم على ما هو عليه ، فالكل يرجع إلى ما هو عليه المعلوم في نفسه حال عدمه الأصلي .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فسرّ القدر من أجلّ العلوم وما يفهّمه اللّه تعالى إلّا لمن اختصّه بالمعرفة التّامّة .
فالعلم به يعطي الرّاحة الكلّيّة للعالم به ويعطي العذاب الأليم للعالم به أيضا فهو يعطي النّقيضين .
وبه وصف الحقّ نفسه بالغضب والرّضا وبه تقابلت الأسماء الإلهيّة .
فحقيقته تحكم في الوجود المطلق والوجود المقيّد لا يمكن أن يكون شيء أتمّ منها ولا أقوى ولا أعظم لعموم حكمها المتعدّي وغير المتعدّي .
ولمّا كانت الأنبياء صلوات اللّه عليهم لا تأخذ علومها إلّا من الوحي الخاصّ الإلهي فقلوبهم ساذجة من النّظر العقليّ لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري ، عن إدراك الأمور على ما هي عليه .
والإخبار أيضا يقصر عن إدراك ما لا ينال إلّا بالذّوق فلم يبق العلم الكامل إلّا في التّجلّي الإلهي وما يكشف الحقّ عن أعين البصائر والأبصار من الأغطية فتدرك الأمور قديمها وحديثها وعدمها ووجودها ومحالها وواجبها وجائزها على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها) .

(فسر القدر)
الإلهي أي علمه (من أجلّ) ، أي أعظم العلوم الإلهية (وما يفهمه) ، أي سر التقدير (اللّه) تعالى لأحد من الناس (إلا من اختصه) ، أي اللّه تعالى (بالمعرفة التامة به) سبحانه ، فيعلم ذلك العارف الذي اعتنى به الحق تعالى فعرف أنه تعالى قدر على الأشياء وألزمها في الأزل بعين ما هي ثابتة من أحوالها في علمه تعالى الأزلي حال عدمه الأصلي ، ثم إنه تعالى يوجد كل شيء منها في وقته المخصوص به في ثبوت عينه وحاله المخصوص كذلك .
فكأنه تعالى أوجد الأشياء بجميع ما هي عليه في أعيانها العدمية ، فقدر عليها وألزمها بم هي عليه .
وبسبب ذلك كان التوجه منه تعالى عليها من الأزل إلى الأبد ، فانصبغت بوجوده وهي على م هي عليه من عدمها الأصلي ، فجاء التعريف الإلهي بقوله تعالى "كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " [ القصص : 88 ]
وقوله: " كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ( 26 ) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ" [الرحمن : 26 - 27 ] .
وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « كان اللّه ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان »
وقوله صلى اللّه عليه وسلم : « أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل » ، فعرف من عرف وجهل من جهل . رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(فالعلم به )، أي بسر القدر الإلهي (يعطي الراحة) ، أي عدم التعب (الكلية) من حيث الظاهر والباطن (للعالم به) ، أي بسر القدر في بعض الأوقات لحال يقتضيه ، لأنه يرفع من العارف حكم الخوف والرجاء ويقتضي الإلزام بحال واحد ل يتغير فيه العبد مع اللّه تعالى ، لقطعه بما هو كائن لا محالة ، سواء علم عين م يكون أو لم يعلم ، ولا يقبل العالم به الراحة الكلية إلا إذا كانت ثابتة في عينه العدمية ، فتظهر عليه في حالة إيجاده .
(ويعطي) أيضا ، أي العلم بسر القدر (العذاب الأليم للعالم به أيضا) في بعض الأوقات إذا كان ذلك ثابتا في عينه العدمية ، فيظهر منه كذلك في حالة وجوده بكمال الضجر والتألم أن يكون قد اقتضى ذلك ثبوت شر في عينه ، فيظهر في كونه وإن كان معصوما لعلمه بالعدل الإلهي ، حتى قيل إن إبراهيم الخليل عليه السلام كان يخفق قلبه في صدره حتى تسمع قعقعة عظامه من نحو ميل من شدة خوفه .
وكان نبينا صلى اللّه عليه وسلم يسمع لصدره أزير كأزير المرجل ، أي القدر على النار وهو من باب علمهم بسر القدر الإلهي في حال يقتضي منهم ذلك لثبوته في أعيانهم الأصلية .
(فهو) ، أي العلم بسر القدر (يعطي النقيضين) ، أي الراحة والتعب للعالم به على حسب الأحوال التي تعتريه بمقتضى العين الأصلية (وبه) ، أي بسبب سر القدر (وصف اللّه تعالى نفسه) في كلامه القديم على لسان نبيه عليه السلام (بالغضب) على أقوام بسبب أفعال صدرت منهم وأحوالهم التي هم عليها (وبالرضى) أيضا عن أقوام كذلك فكان ذلك بمقتضى ما عليه تلك الأقوام في أعيانهم العدمية من أحوال تلك الأعيان في الدنيا من المخالفات وفي الآخرة من المجازات بالثواب والعقاب وبه ، أي بسر القدر (تقابلت الأسماء الإلهية ) بأسماء الجلال وأسماء الجمال لتقابل أحوال الأعيان العدمية بما يقتضي ظهور الجلال لها من الحق تعالى ، أو ظهور الجمال منه سبحانه لها ، بل تعينت به جميع الأسماء الإلهية من الذات العلية ، وبه تسمى سبحانه وبه نعت وبه عرف وبه جهل .
)فحقيقته( ، أي سر القدر )تحكم(باعتبار أحوال الأعيان الثابتة في العدم عند تلك الأعيان )في الوجود المطلق( وهو الحق تعالى .
فتسميه بالأسماء وتنعته بالنعوت ، وتقابل بين حضراته وتنوّع أنواع تجلياته ، لا بالنسبة إلى ذلك الموجود المطلق في نفسه ، فإنه غني عن العالمين بحكم قوله سبحانه: “فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ “[ آل عمران : 97 ] .
أي بذاته من حيث هي ، وأما باعتبار المراتب ، فإنها ما تنوّعت وكثرت إلا باختلاف العالمين ، ولولا المراتب لم يكن البحث عن الذات الإلهية مفيدا ، فإنه لا يتصوّر أن يعلم أحد من هذا الوجه ولا يجهل أيضا وحقيقة سر القدر تحكم أيض )في الموجود المقيد( وهو هذا العالم الحادث ، فكيف ما كان يظهر هذا الممكن على مقتضاه )ول يمكن أن يكون شيء أتم( ، أي أكمل )منه(، أي من حقيقة سر القدر أصلا.
)ول أقوى( في التحكم )ول أعظم في( الشأن )لعموم حكمها (، أي حكم حقيقة سر القدر )المتعدي(من تلك الأعيان العدمية إلى عين الوجود المطلق في تعين صفاته وأسمائه من ذاته العلية الغنية عما سواها عنده )وغير المتعدي(بل قاصر على تلك الأعيان في حال ظهوره .

)ولم كانت الأنبياء صلوات اللّه عليهم لا تأخذ علومه( الإلهية )إل من الوحي الخاص( بجبريل عليه السلام وهو النبوي )الإلهي( احتراز عن وحي الإلهام فإنه عام في غير الأنبياء كوحي النحل والأرض.
) فقلوبهم(، أي الأنبياء عليهم السلام )ساذجة( ، أي بسيطة غير مركبة خالية )من النظر العقلي( فلا يستعملون عقولهم في العلوم الإلهية أصل)لعلمهم( ، أي الأنبياء عليهم السلام قطع )بقصور العقل من حيث نظره الفكري( لا الكشفي )عن إدراك الأمور( الغيبية الإلهية )على ما هي عليه( إلا إذا رفع له حجاب الغيب عنها فإنه يدركها حينئذ بقوّة شهوده وحسه .
)والأخبار أيض( من الغير له )
يقصر عن إدراك ما لا ينال إلا بالذوق( من الحقائق الإلهية والمعارف الغيبية ، ولهذا كانت علوم الأنبياء عليهم السلام بالإخبار من طريق الوحي الخاص النبوي ، إنما هو علوم الرسالة من الأحكام المتعلقة بأحوال أممهم وقصص الماضين ، وأحوال المعاد وما في غيب الملكوت وخبايا الملك .

وأم ما يرجع إلى معرفة الحق تعالى فإن الأنبياء عليهم السلام نالوا ذلك من حيث ولايتهم ، واستعمال أذواقهم المؤيدة بالعصمة والحفظ ، لا من طريق الخبر ولا النظر العقلي .
وقد ورثتهم الأولياء في ذلك على تفاوت مقاماتهم )فلم يبق العلم الكامل( فيما لا ينال إلا بالذوق من علوم الأسماء الإلهية والنعوت الربانية والتجليات القدسية والحضرات الأنسية وغير ذلك )إل في( حصول طريق )التجلي( ، أي الانكشاف )الإلهي( للعبد وإفادته العلم به منه )و (في أنواع م )يكشفه الحق(تعالى لعباده الطاهرين من التعلق بالأكوان في ظواهرهم وبواطنهم )من أعين البصائر( القلبية )والأبصار( الحسية )من الأغطية( الوهمية التي هي مجرد قصور في الإدراك ، فيقوى الإدراك فيرى ما لم يكن يراه ، ويعرف ما لم يكن عارفا به من قبل .
)فتدرك(، أي البصائر والأبصار عند ذلك جميع )الأمور( على ما هي عليه )قديمه( كالتعينات الاسمائية والنعوت الربانية .
)وحادثه( كمظاهر تلك التعينات والنعوت من الآثار الكونية )أو عدمه)، كالأعيان الثابتة حال عدمها الأصلي بحسب ما قدر لعينه مما يدركه منها ووجودها كمعرفة تجليات الوجود المطلق وشهوده في مظاهر قيوده (ومحالها) .
وهي مراتب التنزيه لذلك الوجود المطلق بحسب ما يقتضيه الوهم والخيال (وواجبها) من تحقيق معرفة الوجود والثبوت (وجائزها)من تقلب الأعيان الكونيتين :
الوجود والعدم والحدوث والقدم (على ما هي) ، أي تلك الأمور (عليه في حقائقها) الموجودة والمعدومة (وأعيانها) الثابتة والمنفية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما كان مطلب العزير على الطّريقة الخاصّة لذلك وقع العتب عليه كما ورد في الخبر ولو طلب الكشف الّذي ذكرناه ربّما كان لا يقع عتب في ذلك .
والدّليل على سذاجة قلبه قوله في بعض الوجوه "أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِه"[ البقرة : 259 ] .
وأمّا عندنا فصورته عليه السّلام في قوله هذا كصورة إبراهيم عليه السّلام في قوله: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى" [ البقرة : 260 ] ويقتضي ذلك الجواب بالفعل الّذي أظهره الحقّ فيه في قوله تعالى: "فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ"
فقال له : "وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُه ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً " [ البقرة : 259]
فعاين كيف تنبت الأجسام معاينة تحقيق فأراه الكيفيّة .
فسأل عن القدر الّذي لا يدرك إلّا بالكشف للأشياء في حال ثبوتها في عدمها فما أعطي ذلك فإنّ ذلك من خصائص الإطّلاع الإلهي .
فمن المحال أن يعلمه إلّا هو فإنّها المفاتح الأول أعني مفاتح الغيب الّتي لا يعلمها إلّا هو وقد يطلع اللّه من شاء من عباده على بعض الأمور من ذلك . )
قال رضي الله عنه : (فلما كان مطلب العزير) عليه السلام تحصيل العلم عنده بكيفية إعادة بناء بيت المقدس ، وتعيين السبب والوقت والفاعل بوجه ، جزي ليكشف عن ذلك على الطريقة الخاصة النبوية الحاصلة بالوحي الجبرائيلي (لذلك) ، أي لأجل هذا السبب (وقع العتب) ، أي المعاتبة من اللّه تعالى عليه في ذلك كما ورد في الخبر الإلهي قال اللّه تعالى: "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها" [ البقرة : 259 ] الآية .
حيث كان عند طريقة العلم الكامل المذكور (فلو) أنه عليه السلام (طلب الكشف) عن ذلك بالوجه (الذي ذكرناه) من طريق التجلي الإلهي بالذوق الوجداني من مقام ولايته (ربما كان لا يقع عليه عتب) من جهة الحق تعالى (في ذلك) السؤال الذي سأله .
(والدليل) عندنا (على سذاجة) ، أي عدم التركيب (قلبه) ، أي العزير عليه السلام كبقية الأنبياء عليهم السلام ، فإنهم يهملون النظر في الأمور من جهتهم عقلا وكشف ، ويطلبون العلم بها من جهة ربهم بطريقهم النبوي الخاص قوله عليه السلام (في بعض الوجوه) ، أي الجهات التي أرادها حين مر على بيت المقدس ، وقد خربه بختنصر وقتل اليهود ("أَنَّى") أي كيف (" يُحْيِي هذِهِ")، أي القرية بمعنى البلدة بإعادة بنيانها وإرجاع أهلها يسكنون فيها ("اللَّهُ") سبحانه ("بَعْدَ مَوْتِها") [ البقرة : 259 ].
أي خرابها وذهاب أهلها ، فإنه عليه السلام لولا سذاجة قلبه وعدم تكلفه وتصنعه في الأمور ما وقع منه السؤال عن ذلك ، مع كمال إيمانه بالقضاء والقدر ومعرفته بسعة قدرة اللّه تعالى عن أبلغ من ذلك ؛ ولهذا أجابه اللّه تعالى عن سؤاله ذلك بأن أماته مائة عام ، ثم بعثه وأراه العبرة في نفسه غيرة عليه أن يسأل عن مثل ذلك مع كمال مقامه ورفعة شأنه ، هذا عند طائفة من أهل طريق اللّه تعالى .
قال الغزالي رحمه اللّه تعالى : وانظر كيف تحمل لإخوة يوسف عليه السلام ما فعلوه بيوسف عليهم السلام ، ولم يتحمل للعزير عليه السلام كلمة واحدة سئل عنها في القدر (وأم عندنا) ، أي معشر المحققين من أهل اللّه تعالى.
قال رضي الله عنه : (فصورته) ، أي العزيز (عليه السلام في قوله هذا) المذكور (كصورة إبراهيم) الخليل (عليه السلام في قوله) طالبا عين اليقين بعد علم اليقين (رب) ، أي رب ("أَرِنِي") ، أي اكشف لي معاينة (" كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ") [ البقرة : 260 ] .
ولهذ ذكرت قصة إبراهيم عليه السلام متصلة بقصة العزير عليه السلام حتى كأنها قصة واحدة ، ولما كان ابن زكريا عليه السلام في مقام معاينة ذلك من نفسه سماه اللّه تعالى يحيى ، ولم يجعل له من قبل سميا ، وكان يحيي دائما بالحياة الإلهية عن كشف وشهود ، قال تعالى: "يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا" [ مريم : 7 ] .
وقد ألبسه اللّه تعالى خلعة هذا الاسم الخاص به مثل خصوصية اسم اللّه به تعالى كما قال سبحانه "هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ " [ مريم : 65 ] ، أي تعلم أحدا يسمي اللّه غيره تعالى ، فقد نال هذا المقام يحيى عليه السلام من غير طلب بل من باب الاختصاص والمنة .
وقد طلب العزير وإبراهيم عليهما السلام لينالاه من باب الكسب فوصل إليه العزير في نفسه وإبراهيم عليه السلام في الطيور الأربعة ، ولا بد فيه من شهود مثال يظهر فيه ، ولهذا قتل يحيى عليه السلام وقطع رأسه ليتحقق في مثال نفسه على وجه الشهادة ، فإن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .
ولم كان له هذا المقام لا من باب الكسب فكان هو المطلوب له لا الطالب وهو مستمر له ، لأنه يحيي بصيغة المضارع الشامل للحال والاستقبال كان هو الذي يذبح الموت في صورة كبش يوم القيامة بين الجنة والنار بعد عرضه على أهل الجنة وأهل النار كما ورد في الخبر الصحيح ، وسيأتي في الحكمة اليحيوية مشرب غير هذا من حضرة أخرى إلهية .
قال رضي الله عنه : (ويقتضي ذلك) ، أي قوله في سؤاله: "رَبِّ أَرِنِي " إلى آخره (الجواب) عن السؤال بالفعل لا بالقول ، فإن القول يوصل إلى علم اليقين وهو موجود فيه عليه السلام ، ولا يوصل إلى عين اليقين ، لا الفعل الذي ( أظهره الحق) تعالى (فيه) ، أي في العزير عليه السلام (في قوله) تعالى: "فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عام " ٍليرى ما سأل عنه ويعاينه ("ثُمَّ بَعَثَهُ") .
أي أحياه اللّه تعالى (فقال له) سبحانه بأن أوحى إليه بذلك : "قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ")، أي عظام حمار("كَيْفَ نُنْشِزُها")، أي نرفعها ونضم بعضها إلى بعض ("ثُمَّ نَكْسُوها")، أي تلك العظام بأن ننبت لها منها عليها ("لَحْماً") كما كانت من قبل (فعاين كيف تنبت الأجسام) والعظام (معاينة تحقيق) فلما تبين له قال: "أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [ البقرة : 259 ] .
أي أنا أعلم علم يقين من قبل بذلك والآن عاينته عين اليقين (فأراه) الحق تعالى (الكيفية) ، أي كيفية الإحياء للموتى .
قال رضي الله عنه : (فسأل) ، أي عزير عليه السلام بما وقع منه مما ذكر (عن) سر (القدر) الإلهي (الذي لا يدرك) من طريق الأنبياء والأخبار (إلا بالكشف) الذوقي (للأشياء) المحسوسة والمعقولة والموهومة (في حال ثبوتها في عدمها) الأصلي من غير وجود لها (فما أعطي) ، أي ما أعطاه اللّه تعالى ذلك وإنما أماته عام فأرجع نفسه إلى عينها الثابتة في عدمها الأصلي ، ثم أعادها كما كانت فذاقت كيفية ذلك ولم تكشف عن عينها الثابتة في العدم كيف هي وكيف أحوالها فإن ذلك الكشف المذكور (من خصائص الاطلاع الإلهي) بالعلم القديم (فمن المحال) عقل وشرعا (أن يعلمه) ، أي ذلك الكشف عن الأعيان الثابتة على ما هي عليه كلها (إل هو) سبحانه .
(فإنها) أي تلك الأشياء الثابتة والأعيان العدمية الممكنة (هي المفاتيح الأول أعني مفاتيح الغيب) وهو الوجود الذاتي المطلق .
كم قال تعالى "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" [ البقرة : 3 ] ، أي باللّه تعالى الغائب عنهم ، لأن الوجود المطلق القديم فلا ينفتح فيظهر إلا بالمفاتيح المذكورة (التي لا يعلمها) كلها إلا (هو) تعالى بحكم قوله سبحانه "وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ" [ الأنعام : 59 ] .
(وقد يطلع اللّه) تعالى بطريق الكشف (من يشاء من عباده) الأنبياء والأولياء بالورثة عن الأنبياء (على بعض الأمور من ذلك) السر الذي للقدر الإلهي في بعض الأحوال دون بعض ولا يعلم ذلك على التفصيل إلا اللّه تعالى .
قال تعالى :"عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ( 26 ) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ" [ الجن : 72 ] الآية .
وقال تعالى : "وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ" [ البقرة : 255 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه : (واعلم أنّها لا تسمّى مفاتح إلّا في حال الفتح ، وحال الفتح هو حال تعلّق التّكوين بالأشياء ؛ أو قل إن شئت : حال تعلّق القدرة بالمقدور ولا ذوق لغير اللّه في ذلك .
فلا يقع فيها تجلّ ولا كشف ، إذ لا قدرة ولا فعل إلّا للّه خاصّة ، إذ له الوجود المطلق الّذي لا يتقيّد .
فلمّا رأينا عتب الحقّ له عليه السّلام في سؤاله في القدر علمن أنّه طلب هذا الاطّلاع ، فطلب أن تكون له قدرة تتعلّق بالمقدور ، وما يقتضي ذلك إلّا من له الوجود المطلق .
فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا ، فإنّ الكيفيّات لا تدرك إلّا بالأذواق).
(واعلم أنها) ، أي تلك الأعيان الثابتة في عدمها الأصلي (لا تسمى مفاتيح) تفتح خزانة الغيب الذاتي فتظهر ذلك الوجود المطلق مقيدا بها حين تتصف به عنده وتظهر به لها (إلا في حال الفتح) والإظهار المذكور لا قبل ذلك لأنها قبل ذلك عدم صرف .
وليست ثابتة من دون وجود قبل ظهورها بالوجود إلا في ذلك الحال الذي تفتح به غيب الوجود ، لأن العلم الإلهي القديم تعلق بها أن تكون ثابتة به حين فتحها باتصافها بالوجود على طريق الوهم وليس لها إلا الثبوت في نفس الأمر ، فهي مفاتيح لا مفاتيح كما أن الأجرام إذا قابلت نور الشمس تفتح من نورها بقدر ما قبلت الظهور به منها ونور الشمس منفتح بنفسه فالأجرام مفاتيح إذ لولاها لم يظهر النور للرائي ، والنور ظاهر بنفسه لنفسه لا يغيب عن نفسه أصل .
(وحال الفتح) الذي هي فيه ثابتة من الأزل معدومة بالعدم الأصلي هو حال تعلق التكوين الإلهي للأشياء (بالأشياء) تعلقا أزليا لا بداية له أن تكون تلك الأشياء في أوقات وجودها (أو قل إن شئت) بعبارة أخرى حال الفتح هو حال تعلق القدرة الأزلية (بالمقدور) أن يكون في وقت كونه ، فكونه في وقت كونه هو وقت تعلق القدرة به والوقت باعتبار المقدور ، ولا وقت باعتبار القدرة ، فالأزل محيط بالأوقات باعتبار المقدورات التي يمر عليها الزمان وتتصف بالحدثان ، فهي المرتبة بالمرتب لها ولا ترتيب للمرتب لها في ترتيبه لها (ولا ذوق) ، أي لا علم بطريق الكشف والمعاينة والمشاهدة (لغير اللّه) تعالى (في ذلك السر) الذي للأشياء في حال ثبوتها في عدمها الأصلي .
(فل يقع فيها) ، أي في الأشياء الثابتة في عدمها الأصلي مع بقائها الثابتة كذلك (تجل) للحق تعالى على أحد أصلا (ولا) يقع (كشف) عنها لأحد من حيث هي أشياء ثابتة إلا في بعض الأمور في بعض الأحوال لبعض الأشخاص إذ ، أي لأنه (لا قدرة) على شيء قدرة مؤثرة (ولا فعل) على الحقيقة (إلا للّه) تعالى (خاصة) دون غيره سبحانه إذ ، أي لأنه تعالى (له الوجود المطلق الذي ل يتقيد) من حيث هي تفيد أصلا ، فلا يكشف عن جميع القيود في جميع الأحوال والأزمان والأشخاص سواه تعالى ، وكل ما سواه قيود عدمية وأعيان ممكنة ومقدورات ثابتة في غير وجود في عدمها الأصلي ، فلا يكشف عنها مثلها ولا يعلمها إلا من هو منزه عنها ، لأنه الموجود وهي المعدومة وهو العلم وهي المعلومة .
(فلم رأينا عتب الحق) تعالى له أي للعزير (عليه السلام في سؤاله في القدر) حين " قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها".
أي يوجدها كما كانت ويكشف بوجوده المطلق عن أعيانها الثابتة في عدمها الأصلي وأحوال تلك الأعيان فيظهر مقيدا بها (علمنا أنه) ، أي العزير عليه السلام (طلب) من اللّه تعالى (هذا الاطلاع) بأن يكشف له اللّه تعالى من طريق نبوته ويخبره بالوحي عما طلب مع بقائه قائما بالوجود الحق (فطلب أن يكون له قدرة) مؤثرة بالحق تعالى (تتعلق بالمقدور) فتوجده بعد الكشف عن ثبوته عما هو عليه ، وهو أمر ممكن لأن اللّه تعالى على كل شيء قدير ، فإن عيسى عليه السلام كشف عن الطير الذي خلقه من طين في حضرة عينه الثابتة وأمده اللّه تعالى بالقدرة المؤثرة فنفخ فيه روحا أيضا بعد أن سوّى جسده ، وكذلك فعل إبراهيم عليه السلام في الطيور الأربعة .
(وم يقتضي ذلك) ، أي يقدر عليه في كل شيء (إلا من له الوجود المطلق) ؛ ولهذ قال العزير عليه السلام لما تبين له مقدار ما عرف من كيفية ما طلب أن اللّه على كل شيء قدير ، وحكى الحق سبحانه عن ذلك فقال "فَلَمَّ تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" .
(فطلب) من الحق تعالى (ما لا يمكن وجوده في الخلق) ، أي من المخلوق (ذوقا) إل مقدار مجرد النسبة في بعض الأمور وحصل له ما يمكن من ذلك في نفسه وفات ما لم يكن (فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق) وكان جوابه بالفعل ليذوق ما يمكن من ذلك بنفسه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأمّا ما رويناه ممّا أوحى اللّه به إليه لئن لم تنته لأمحونّ اسمك من ديوان النبوّة ، أي أرفع عنك طريق الخبر وأعطيك الأمور على التّجلّي ، والتّجلّي لا يكون إلّا بما أنت عليه من الاستعداد الّذي به يقع الإدراك الذّوقي ، فتعلم أنّك ما أدركت إلّا بحسب استعدادك فتنظر في هذا الأمر الّذي طلبت ، فلمّا لم تره تعلم أنّه ليس عندك الاستعداد الّذي تطلبه وأنّ ذلك من خصائص الذّات الإلهيّة ، وقد علمت أنّ اللّه أعطى كلّ شيء خلقه فإن لم يعطك هذا الاستعداد الخاصّ ، فم هو خلقك ، ولو كان خلقك لأعطاكه الحقّ الّذي أخبر أنّهأَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [ طه : 50 ] فتكون أنت الّذي تنتهي عن مثل هذ السّؤال من نفسك ، لا تحتاج فيه إلى نهي إلهي وهذه عناية من اللّه بالعزير عليه السّلام علم ذلك من علمه وجهله من جهله ).

(وأما ما رويناه) في الحديث النبوي (مما أوحى اللّه) تعالى (به إليه) ، أي عزير عليه السلام من قوله له زيادة في المعاتبة (لئن لم تنته) عن طلب ما سألته (لأمحون اسمك) ، أي أزيل حقيقتك (من ديوان النبوّة ) وأوقفك في مقام الولاية أي (أرفع عنك طريق الخبر) بالوحي النبوي ، فلا أكشف لك عن الأمور على مقدار م هي عليه في نفسها وأدرك إلى أن أفيض عليك الإمداد على قدر استعدادك (وأعطيك الأمور) الغيبية (على) طريق (التجلي) ، أي الانكشاف بحسب استعدادك وأقطع عنك الخبر بالوحي (والتجلي) بالأمور الغيبية (لا يكون) أبدا (إلا بما أنت) كائن (عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك) منك (الذوقي) لذلك الأمر الذي تدركه (فتعلم) حينئذ (أنك ما أدركت أمرا إلا بحسب استعدادك) ، أي قوّتك القابلة ووسعك المتهيىء ، فتنال من كل أمر على قدرك لا على قدر ذلك الأمر في نفسه .
(فتنظر في هذا الأمر الذي طلبت) وهو الاطلاع على سر القدر (فلم لم تره) وجد عندك مع توجهك على حصوله (تعلم أنه) ، أي الشأن (ليس عندك الاستعداد) ، أي التهيؤ والقبول (للذي تطلبه) من ذلك السر المذكور (و) تعلم (أن ذلك من خصائص الذات الإلهية ) لا يقدر عليه غيره تعالى (وقد علمت أن اللّه) تعالى ("أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ") من استعداده الخاص القابل لما تهيأ له من المدد الفياض الدائم بحكم قوله تعالى: "الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ."
(ولم يعطك) سبحانه (هذا الاستعداد الخاص) لقبول فيض هذا الوسع المذكور للإحاطة بسر القدر الإلهي (فما هو) ، أي هذا الاستعداد (خلقك ولو كان خلقك) ثابتا في الأزل لعينك الثابتة قبل إضافة الوجود في حال العدم الأصلي (لأعطاكه الحق) تعالى (الذي أخبر أنه "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ") ولم يمنع شيئا ما استعد له وتهيأ لقبوله أصلا (فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذ السؤال) المذكور انتهاء صادرا (من نفسك لا تحتاج فيه) ، أي في هذ الانتهاء (إلى نهي إلهي) يرد عليك (وهذا) الأمر الذي وقع للعزير عليه السلام (عناية) ، أي اعتناء (من اللّه) تعالى (بالعزير عليه السلام علم ذلك) المذكور (من علمه) من الناس (وجهله من جهله) منهم وهو حق في نفسه كما ذكر.
قال الشيخ رضي الله عنه : (واعلم أنّ الولاية هي الفلك المحيط العامّ ، ولهذا لم تنقطع ، وله الإنباء العامّ . وأمّا نبوّة التّشريع والرّسالة فمنقطعة ، وفي محمّد صلى اللّه عليه وسلم قد انقطعت ، فلا نبيّ بعده مشرّعا أو مشرعا له ولا رسول وهو المشرّع .
وهذا الحديث قصم ظهور أولياء اللّه لأنّه يتضمّن انقطاع ذوق العبوديّة الكاملة التّامّة فلا ينطلق عليه اسمها الخاصّ بها فإنّ العبد يريد أن لا يشارك سيّده - وهو اللّه - في اسم ؛ واللّه لم يتسمّ بنبيّ ولا رسول ، وتسمّى بالوليّ واتّصف بهذا الاسم فقال :اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُو[ البقرة : 258 ] وقال :وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ[ الشورى : 28 ] وهذا الاسم باق جار على عباد اللّه دنيا وآخرة . فلم يبق اسم يختصّ به العبد دون الحقّ بانقطاع النّبوّة والرّسالة .
إلّا أنّ اللّه لطيف بعباده فأبقى لهم النّبوّة العامّة الّتي ل تشريع فيها ، وأبقى لهم التّشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام . وأبقى لهم الوراثة في التّشريع فقال : « العلماء ورثة الأنبياء » وما ثمّة ميراث في ذلك إلّا فيم اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه . )

(واعلم) ي أيها السالك (أن) دائرة (الولاية هي الفلك المحيط العام ) فهي شاملة للأنبياء والمرسلين عليهم السلام ، فإنهم أولياء كما أنهم أنبياء (ولهذا لم تنقطع) ، أي الولاية إلى يوم القيامة ، لأنها الميراث الذي تركته الأنبياء عليهم السلام من بعدهم ، فلم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم وهو الولاية ، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ أوفر (ولها) ، أي للولاية (الإنباء) ، أي الإخبار بطريق التجلي الإلهي على مقدار الاستعداد في الأمور كلها (العام) ذلك الإنباء في النبي وغيره .
(وأم نبوّة التشريع) للأحكام (والرسالة) من اللّه تعالى إلى الأمّة (فمنقطعة) لا تكون في كل زمان كنبوّة الولاية ، لأن نبوّة الولاية عامة ونبوّة التشريع والرسالة خاصة ، والعام يبقى ببقاء أفراده وهم باقون إلى يوم القيامة ، والخاص يذهب بذهاب أفراده .
(وفي) نبينا (محمد صلى اللّه عليه وسلم قد انقطعت) النبوة التي هي نبوة التشريع والرسالة (فلا نبي بعده) إلى يوم القيامة (يعني) نبيا (مشرعا) للأحكام على الاستقلال بشرع جديد (أو) نبيا (مشرعا له) ، أي محمد صلى اللّه عليه وسلم بأن يكون نبيا جاء مقررا لشريعة محمد عليه السلام كما كانت أنبياء بني إسرائيل يقررون شريعة موسى عليه السلام (ولا رسول) بعده أيضا (وهو) الرسول (المشرع) للأحكام الإلهية .
(وهذ الحديث) "رواه مسلم والبخاري وغيرهما" في انقطاع نبوّة التشريع والرسالة (قصم) ، أي قطع (ظهور)

جمع ظهر (أولياء اللّه) تعالى ، لأنه ، أي الحادث المذكور (يتضمن انقطاع ذوق العبودية) للّه تعالى (الكاملة التامة) في مرتبتي العلم والعمل في الظاهر والباطن (فلا يطلق عليه السلام ) ، أي على الولي (اسمها) ، أي اسم العبودية (الخاص) ذلك الاسم (بها) ، أي بالعبودية بحيث إذ أطلقت تصرف إليه لأنه فردها الكامل (فإن العبد) المقبل على التحقق بالعبودية (يريد أن لا يشاركه سيده) تعالى (وهو اللّه) سبحانه (في اسم) من أسمائه لينفرد بالعبودية كما انفرد ربه بالربوبية .
(واللّه) تعالى (لم يتسم) في الكتاب ولا السنة (بنبي ولا رسول و) إنما (تسمى بالولي واتصف) سبحانه بهذا الاسم في الكتاب العزيز فقال "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا" [ البقرة : 257 ] .
فولي وصف اللّه تعالى في المعنى وإن كان خبرا عنه في اللفظ (وقال) تعالى في مثل ذلك (وهو) أي اللّه تعالى : ("الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ") [ الشّورى : 28 ] أي المحمود ولايته (وهذا الاسم) أي الولي باق جار في الألسنة على عباد اللّه تعالى المتقين (دني وآخرة ).
قال تعالى "إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ" [ الأنفال : 34] .
(فلم يبق اسم يختص به العبد) المؤمن المتقي (دون الحق) تعالى (بانقطاع النبوّة والرسالة) فإن النبي والرسول اسمان يختص بهما العبد دون الحق تعالى كما ذكر واسم الولي مشترك .
(إل أن اللّه) تعالى (لطيف بعباده) المؤمنين كما قال سبحانه "اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ" [ الشورى : 19 ] ، والضمير راجع إلى اللّه تعالى ، أي بعباد اللّه تعالى لا بعبد الدرهم ول عبد الدينار ، فإنه لا يلطف به .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "تعس عبد الدرهم وتعس عبد الدينار ، وتعس عبد الخميصة وانتكس وإذا شيك فلا انتقش". أي إذا دخلت فيه شوكة لا خرجت منه بالمنقاش .
رواه الطبري والديلمي و البيهقي والبزار والمناوي وغيرهم.

(فأبقى) سبحانه (لهم النبوّة العامة) وهي مقام الولاية (التي لا تشريع فيها) ، أي تبيين الأحكام الإلهية للمكلفين بها (وأبقى لهم) سبحانه ، أي لعباده (التشريع في) رتبة (الاجتهاد) الذي للمجتهدين (في ثبوت الأحكام) الشرعية (وأبقى لهم) سبحانه (الوراثة) عن الأنبياء عليهم السلام (في التشريع) باستنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها الأصلية (فقال) ، أي اللّه تعالى على لسان نبيه عليه السلام ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، أي "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى" [ النجم : 4 ] .
والوحي قول اللّه تعالى (العلماء) باللّه تعالى عن كشف وشهود وعيان وربما يلتحق بهم أصحاب الدليل والبرهان من بعض الوجوه في بعض الأحيان (ورثة) جمع وارث (الأنبياء)

المتقدمين عليهم السلام وذلك في وصف العلم الإلهي اللدني الذي هو الولاية .
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثتي وورثة الأنبياء ». اوره السيوطي في الجامع الكبير والصغير والمتقي الهندي القزويني في التدوين .
وقال " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا" [ فاطر : 32 ] الآية .
(وم ثم) ، أي هناك في العلماء (ميراث في ذلك) ، أي في العلم النبوي (إل فيما اجتهدوا فيه من الأحكام) الشرعية الأصلية والفرعية في الاعتقاد وفي العمل بالكشف عن ذلك في الكتاب والسنة (فشرعوه) للأمة المحمدية شريعة نبيهم ، فيأتي كل ولي وارث كامل بالفهم الجديد لا بالشرع الجديد ، كما يأتي المجتهد بالمذهب الجديد لا الدين الجديد ، والمشارب تختلف بالأذواق والحق واحد في عين الكل ، والكل طرق إليه ولا خطأ في الفهم الجديد عند الولي الوارث لقوله تعالى: " قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً" [ الكهف : 109 ] .
ففهوم كلمات الرب لا تنحصر على الأبد ، ولهذا ورد في الحديث أنه يقال للمؤمن في الجنة حيث يقرأ القرآن : " اقرأ وارق ".
لأنه كلما قرأ فهم فهما جديدا فيرقى به مرتبة في الشهود لم يكن عليها والكل صواب ، لأنه معنى الكلمات الإلهية بخلاف مذهب المجتهد في العمل الظاهر فإنه يخطئ ويصيب كما قال صلى اللّه عليه وسلم : " من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد " .
وسبب الخطأ من المجتهد استعمال عقله فيما اجتهد فيه من الدليل الشرعي ، والعقل قاصر فتارة يصيب بمعونة إلهية ، وتارة يخطئ فتنة له من اللّه تعالى ، وهو مثاب على كل حال ، لأنه ما استعمل عقله في هواه وإنم استعمله في أصول شرعه المأمور باتباعه .
وسبب عدم خطأ الولي الوارث في فهمه أصلا لأنه ما استعمل عقله في ذلك الفهم ، وإنما فرغ المحل بعد طهارته من الأغيار وتنظيفه منها وتطييبه بالأذكار الإلهية والحضور التام ، وقعد ينتظر ما يفيض عليه من كرم ربه من علوم الإلهام ، فهو مصيب على كل حال ويسمى مجتهدا ، وإنما يسمى عالما باللّه وعارف .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فإذا رأيت النّبيّ يتكلّم بكلام خارج عن التّشريع فمن حيث هو وليّ عارف .
ولهذا ، مقامه من حيث هو عالم ووليّ أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع .
فإذا سمعت أحدا من أهل اللّه يقول أو ينقل إليك عنه أنّه قال الولاية أعلى من النّبوّة ، فليس يريد ذلك القائل إلّا ما ذكرناه .
أو يقول إنّ الوليّ فوق النّبيّ والرّسول ، فإنّه يعني بذلك في شخص واحد وهو أنّ الرّسول من حيث أنّه وليّ أتمّ منه من حيث أنّه نبيّ ورسول ، لا أنّ الوليّ التّابع له أعلى منه ، فإنّ التّابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ، إذ لو أدركه لم يكن تابعا فافهم . )
قال الشيخ الله عنه : (فإذا رأيت) ي أيها السالك (النبي) من الأنبياء عليهم السلام فيما ورد عنه (أنه يتكلم بكلام خارج عن التشريع) أي تبيين الأحكام الشرعية للمكلفين أمرا ونهيا وتخيير (فمن حيث هو) ، أي ذلك النبي (ولي) للّه تعالى (وعارف به) سبحانه لا من حيث هو نبي ورسول (ولهذا) كان (مقامه) ، أي النبي (من حيث هو عالم) باللّه تعالى وهو مقام ولايته (أتم وأكمل) من مقامه (من حيث هو رسول أو ذو تشريع) ، أي تبيين الأحكام الإلهية من نبي قبله (و) ذو (شرع) جديد ، لأن مقام الولاية بينه وبين اللّه تعالى ومقام الرسالة بينه وبين المرسل إليهم من مؤمنين وكافرين ، ولأن الولاية باللّه والرسالة بالملك ، ولأنهم في حال الولاية مع اللّه تعالى وفي حال الرسالة مع غيره ، ولأن الولاية باقية والرسالة منقطعة ، وهذا كله في ولاية الأنبياء مع رسالتهم عليهم السلام ، لا في الولاية المفردة وحدها من غير رسالة ، كحالة الأولياء أشار إلى ذلك بقوله :
قال الشيخ الله عنه : (فإذا سمعت) ي أيها السالك (أحدا من أهل اللّه يقول) من تلقاء نفسه (أو ينقل) بالبناء للمفعول ، أي ينقل أحد (إليك عنه أنه قال الولاية أعلى من النبوة ) والرسالة (فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه) من أن النبي من حيث هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول ونبي .
(أو) سمعت أحدا يقول إن الولي فوق النبي والرسول في المرتبة (فإنه) إنما (يعني) ، أي يقصد (بذلك في) حق (شخص واحد) أنه ولي نبي رسول (وهو) ، أي ما يعنيه بقوله ذلك (أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم ) ، وأكمل (منه) ، أي من نفسه (من حيث هو نبي ورسول) وهذا حق لا شبهة فيه (لا أن) مراده أن (الولي التابع له) ، أي للنبي الكائن من أمته في زمان من الأزمنة الماضية والمستقبلة أو الحالية (أعلى) ، أي أرفع مرتبة (منه ) ، أي من ذلك النبي أو من نبي من الأنبياء عليهم السلام
قال الشيخ الله عنه : (فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا) كائن من كان ذلك التابع وذلك المتبوع (فيما هو تابع له فيه) من الشرع المقرر وغيره إذ ، أي لأنه لو أدركه ، أي التابع للمتبوع (لم يكن تابعا) لذلك المتبوع وقد فرضنا أنه تابع له فإنه لا يدركه أصلا فضلا عن سبقه له (فافهم) هذ البحث .
فإن كثيرا ممن هو أجنبي عن أهل هذه الطائفة المحققين يشنع عليهم في أنهم يقولون بأن الولي أفضل من النبي والرسول ، وأن الولاية أفضل من النبوّة ولا يعرف قولهم في ذلك ولا كيف قالوا فيفتري عليهم الكذب ويرميهم بالبهتان واللّه بصير بالعباد .

قال الشيخ رضي الله عنه : (فمرجع الرّسول والنّبيّ المشرّع إلى الولاية والعلم .
ألا ترى أنّ اللّه أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره فقال له آمرا : بقوله :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً[ طه : 114 ] .
وذلك أنّك تعلم أنّ الشّرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهي عن أعمال مخصوصة ومحلّها هذه الدّار فهي منقطعة ، والولاية ليست كذلك إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي كما انقطعت الرّسالة من حيث هي . وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم ، والوليّ اسم باق للّه تعالى ، فهو لعبيده تخلّقا وتحقّقا وتعلّق ).

(فمرجع) ، أي ما يكون إليه رجوع (الرسول والنبي المشرّع) للأمة أحكام ربها في نفسه (إلى الولاية والعلم) باللّه تعالى ألا ترى أن اللّه تعالى قد أمره ، أي النبي صلى اللّه عليه وسلم بطلب الزيادة من العلم لا من غيره ، أي العلم فقال تعالى له آمرا بذلك "وَقُلْ رَبِّ"، أي يا رب (" زِدْنِي عِلْماً " وذلك) ، أي كون العلم والولاية مرجع النبي والرسول .
(إنك) ي أيها السالك تعلم قطعا أن الشرع تكليف من اللّه تعالى لعباده (بأعمال مخصوصة أو نهي عن أفعال مخصوصة ومحلها)، أي تلك الأعمال والأفعال (هذه الدار) التي هي دار الدنيا فقط ولا محل لها في الآخرة (فهي) ، أي تلك الأعمال والأفعال (منقطعة) بموت المكلف وذهاب التكليف عنه بانتقاله إلى دار الآخرة ، فالنبوّة والرسالة المتعلقتان بما هو منقطع منقطعتان أيضا (والولاية ليست كذلك) ، أي هي ليست منقطعة لعدم تعلقها بالأعمال والأفعال المنقطعة (إذ لو انقطعت) بانقضاء هذه الدار والدخول إلى دار الآخرة لا نقطعت من حيث هي ، ولاية فلم تكن توجد في ولي أصلا إلى يوم القيامة.

(كما انقطعت الرسالة من حيث هي) رسالة لا من حيث الولاية التي في ضمنها ، وكذلك النبوة انقطعت من حيث هي نبوة فل يوجد رسول جديد ولا نبي جديدا إلى يوم القيامة (وإذا انقطعت) ، أي الولاية (من حيث هي) ولاية (لم يبق لها اسم) إلى يوم القيامة .
(والولي اسم) من أسماء اللّه تعالى (باق للّه) تعالى إلى الأبد (فهو) ، أي اسم الولي باق أيضا (لعبيده) ، أي اللّه تعالى غير منقطع في الدني والآخرة .
(تخلقا) ، أي من جهة التخلق وهو الاتصاف في النفس على وجه التكليف بمقتضى معنى الولاية ، وهي تنفيذ القول والحكم في الغير بطريق القهر ، فاللّه تعالى الولي على كل شيء لنفوذ قوله وحكمه في ملكه الذي هو كل شيء إيجادا وإمدادا ، فإذا اتصف العبد بهذا الوصف في نفسه فنفذ قوله وحكمه في ملكه الذي جعله اللّه تعالى له من أعضائه وقواه الظاهرة والباطنة إيجادا وإمدادا أيضا بمعونة اللّه تعالى له فقد تخلق باسم اللّه تعالى الولي وإنما يكون هذا للعبد إذا ألقت أرض نفسه ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت .
(وتحققا) ، أي من جهة التحقق أيضا وهو الكشف والمعاينة لما هو في نفس الأمر من وصف الولاية واسم الولي ، والتحقق ثلاث مراتب : علم اليقين بالفهم الجازم والإدراك اللازم ، وعين اليقين بالحس والمشاهدة ، وهاتان المرتبتان أجنبيتان من المقصود ، والمقصود هو المرتبة الثالثة وهي حق اليقين وهو الاتحاد الأزلي الأبدي الذي يستهلك جميع النسب والاعتبارات ولا يتصور فيه علم أصلا ولا عنه خبر في الدارين ، وهذان القسمان التخلق والتحقق مقاما سلوك لا وصول فالتخلق معرفة نهاية العبودية والتحقق معرفة نهاية الربوبية وبهاتين المعرفتين يكون الوصول لأهله .
(وتعلقا) ، أي من وجه التعلق وهو لزوم العبودية للربوبية وقيام الربوبية على العبودية فيتعلق العبد بالرب والرب بالعبد ، وهو الوقوف في عين القسمين الأوّلين ، وذلك نهاية السير من حيث الجملة وإن كان السير لا نهاية له ، فإن عدم النهاية فيه من حيث الخلق الجديد بالتجلي الجديد في هذه المراتب المذكورة وعلى حسب الموازين الكلية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقوله للعزير لئن لم تنته عن السّؤال عن ماهيّة القدر لأمحونّ اسمك من ديوان النّبوّة فيأتيك الأمر على الكشف بالتّجلّي ويزول عنك اسم النّبيّ والرّسول ، وتبقى له ولايته .
إلا أنّه لمّا دلّت قرينة الحال أنّ هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنّه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدّار ، إذ النّبوّة والرّسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض م تجري عليه الولاية من المراتب ، فيعلم أنّه أعلى من الوليّ الّذي لا نبوّة تشريع عنده ولا رسالة .
ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضا مرتبة النّبوّة يثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد فإنّ سؤاله عليه السّلام مقبول إذ النّبيّ هو الوليّ الخاصّ .
ويعرف بقرينة الحال أنّ النّبيّ من حيث له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أنّ اللّه يكرهه منه أو يقدم على ما يعلم أنّ حصوله محال ).
(فقوله) تعالى (للعزير) في الخبر المذكور فيما مضى (لئن لم تنته عن السؤال عن ماهية القدر) الإلهي لتعلم مقدراته الجزئية على ما هي عليه في عدمها الأصلي (لأمحون اسمك) ، أي أرفعك وأزيلك (من ديوان) ، أي جملة أصحاب (النبوّة) الإلهية المقتضية للأنبياء والأخبار من طرف اللّه تعالى للعبد بالوحي من الملائكة .
(فيأتيك الأمر) الإلهي (على) طريق (الكشف) منك عنه والمعاينة له (بالتجلي) الإلهي عليك من غير واسطة وحي ولا ملك (ويزول عنك اسم النبي) لعدم النب وهو الخبر من الغير لك (و) اسم (الرسول) لعدم إرسالنا لك إلى غيرك بتبليغ أحكامنا ، فيزول حينئذ عنه اسم نبوته ورسالته لزوال ما هو سبب وجودهما فيه وهو النبأ والإرسال (وتبقى له ولايته) التي هي له لا باعتبار شيء زائد على حقيقته فكأنها ذاتية ، ولهذا بقيت النبوّة والرسالة عرضيان زائلان بزوال الدني وبطلان التكليف ؛ ولهذا ختما فلم يأت منهما أحد غير ما كان من قبل .
(إل أنه) ، أي الشأن (لما دلت قرينة الحال) عند من يتأمل هذا الكلام الذي قال اللّه تعالى له : (أن هذا الخطاب) المذكور منه تعالى للعزير عليه السلام (جرى مجرى الوعيد) المستعمل في الشر لاقتضائه هبوط مرتبة العزير عليه السلام حيث يسد عليه طريق زائد في التلقي من حضرة الغيب وهو طريق الوحي بالملائكة عليهم السلام .
(علم) من ذلك (من اقترنت عنده هذه الحالة) المذكورة (مع) هذا (الخطاب) المقتضي (أنه) ، أي الخطاب (وعيد) منه تعالى للعزير عليه السلام (بانقطاع) متعلق باقترنت (خصوص بعض مراتب الولاية) ، وهي مرتبة الإنباء والإخبار بالملك في حق أحكام التكليف في هذه الدار الدنيوية (إذ) ، أي لأن (النبوة والرسالة خصوص رتبة) من المراتب (في) مقام (الولاية محتوية) تلك المرتبة (على بعض ما تحتوي عليه الولاية من المراتب) الإلهية.

فإن الإنباء والإخبار في مقام النبوة ، والتبليغ في مقام الرسالة كشف في نفس الأمر بحسب الاستعداد الذي خلقت عليه الأنبياء والمرسلون لقبول فيض التجلي الدائم ، فالكل ولاية وأخذ بطريق الكشف والتجلي ، ولكن النبوة والرسالة خصوص حالة من ذلك ، فإذا نقص هذا الخصوص كان هبوط مقام في الجملة (فيعلم) ، أي من اقترن عنده ذلك أنه ، أي النبي والرسول الجامع لجميع مراتب الولاية خصوصها وعمومها (أعلى) مرتبة عند اللّه تعالى (من) مرتبة (الولي الذي) نقصت ولايته بحيث (لا يكون) خصوص مرتبة (نبوّة تشريع) للأمة (عنده) فيها (ولا) خصوص مرتبة رسالة ومن اقترنت عنده حالة أخرى).

تأتي الإشارة إليها قريبا مع هذا الخطاب المذكور (تقتضيها) ، أي تلك الحالة (أيضا مرتبة النبوّة) والرسالة (ثبت عنده أن هذا) أي الخطاب من اللّه تعالى (وعد) بالخبر للعزيز عليه السلام (لا وعيد) بالشر (فإن سؤاله) ، أي العزير (عليه السلام مقبول) عند اللّه تعالى إذ ، أي لأن (النبي هو الولي الخاص) ، أي صاحب الولاية الخاصة التي من جملة مراتبها النبوة والرسالة ، ثم أشار إلى القرينة الأخرى بقوله (ويعرف بقرينة الحال) وهي تحقق الكمال (أن النبي من حيث له في) مقام الولاية الإلهية (هذا الاختصاص) الذي ل يوجد في غيره من بقية الأولياء الذين ليس عندهم هذا الخصوص في ولايتهم محال عقلا وشرعا أن يقدم على ما يعلم من الأقوال والأفعال أن اللّه تعالى (يكرهه منه) ولا يحبه له (أو يقدم على ما يعلم أن حصوله) من اللّه تعالى (محال) إذ الجهل على الأنبياء عليهم السلام بما يجب في حق اللّه تعالى وما يجوز وم يستحيل محال عليهم ، فإنهم أعرف الناس باللّه تعالى .
قال الشيخ رضي الله عنه : (فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده وتقرّرت أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله : « لأمحونّ اسمك من ديوان النّبوّة » مخرج الوعد ، وصار خبر يدلّ على علوّ مرتبة باقية وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرّسل في الدّار الآخرة الّتي ليست بمحلّ لشرع يكون عليه أحد من خلق اللّه في جنّة ولا نار بعد الدّخول فيهم .
وإنّما قيّدناه بالدّخول في الدّارين - الجنّة والنّار - لما شرّع يوم القيامة لأصحاب الفترات والأطفال الصّغار والمجانين فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثّواب العملي في أصحاب الجنّة . فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن النّاس بعث فيهم نبيّ من أفضلهم وتمثّل لهم نار يأتي بها هذ النّبيّ المبعوث في ذلك اليوم فيقول لهم أنا رسول اللّه إليكم ، فيقع عندهم التّصديق به ويقع التّكذيب عند بعضهم .
ويقول لهم اقتحموا هذه النّار بأنفسكم ، فمن أطاعني نجا ودخل الجنّة ، ومن عصاني وخالف أمري هلك ، وكان من أهل النّار . فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثّواب العملي ووجد تلك النّار بردا وسلاما . ومن عصاه استحقّ العقوبة فدخل النّار ونزل فيها بعمله المخالف ليقوم العدل من اللّه تعالى في عباده)

(فإذ اقترنت هذه الأحوال) مع الخطاب الإلهي (عند من اقترنت عنده وتقررت) ، أي ثبتت في نفسه (أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده) الوارد منه تعالى في حق عزير عليه السلام (في قوله تعالى : لأمحون اسمك من ديوان النبوة) كما سبق بيانه (مخرج الوعد له) بالخير .
(فصار) ذلك (خبرا) من اللّه تعالى (يدل) في حق عزير عليه السلام (على علو مرتبة له باقية) إلى الأبد لا تزول عنه ولا تنقطع وهي مرتبة الولاية الإلهية (وهي المرتبة الباقية) إلى يوم القيامة وإلى ما بعد ذلك (على الأنبياء والرسل) عليهم السلام (في الدار الآخرة) أيضا.
(التي ليست بمحل شرع يكون عليه أحد من خلق اللّه) تعالى (في جنة ولا نار بعد الدخول فيهما) ، أي في الجنة والنار ، فالنبوّة والرسالة تزولان بزوال الدار التي هي محل التكليف ولا يبقى إلا الولاية ، فالمحو من ديوان النبوّة على هذ زيادة شرف في حقه عليه السلام ، وهو قد طلب ما يقتضي ذلك بسؤاله عن سر القدر .
فوعده اللّه تعالى بحصول ذلك له إن لم ينته عن ذلك السؤال ، لأن النبوّة والرسالة مقامان لأحكام المكلفين من المؤمنين والكافرين وأحوال التبليغ إليهم ، وذلك يقتضي الهبوط عن مقام الولاية العالي الذي هو في الأنبياء والمرسلين عليهم السلام أفضل من مقام نبوتهم ومقام رسالتهم كما سبق بيانه .
(وإنما قيدناه) ، أي الشرع الذي يكون عليه أحد من الخلق (بالدخول في الدارين) دار (الجنة) ودار (النار لما شرع) ، أي لأجل أنه ورد في الأخبار الصحيحة

أن اللّه تعالى شرع (في يوم القيامة لأصحاب الفترات) جمع فترة وهي انقطاع الوحي وفقد تواتر الدين الصحيح بين كل رسولين كالفترة بين عيسى ومحمد عليهم السلام (والأطفال الصغار) الذين ماتوا قبل البلوغ ولعلهم أطفال المشركين ، فإن أطفال المسلمين كلهم في الجنة كما ورد في الأخبار النبوية (والمجانين) الذين ماتوا قبل أن يجري عليهم قلم التكليف في الدني .
(فيحشر هؤلاء) يوم القيامة (في صعيد واحد) ، أي أرض واحدة غير محشر الناس (لإقامة العدل) الإلهي عليهم (والمؤاخذة بالجريمة) في أصحاب النار منهم (والثواب العملي) ، أي العمل الصالح (في أصحاب الجنة) منهم (فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن الناس بعث فيهم نبي من أفضلهم) يبلغهم بإرساله إليهم (وتمثّل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث) إليهم (في ذلك اليوم فيقول لهم : أن رسول الحق) تعالى (إليكم فيقع عندهم التصديق به) عند البعض منهم ويقع التكذيب به عند بعضهم الآخر (ويقول لهم اقتحموا) ، أي ادخلوا (هذه النار بأنفسكم فمن أطاعني نجا ودخل الجنة ومن عصاني وخالف أمري هلك وكان من أهل النار) فتنة لهم منه تعالى بذلك واختبارا ومحنة في طاعة اللّه تعالى .

(فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها) ، أي في تلك النار (سعد ونال الثواب العملي) ، أي ما يثاب عليه أهل العمل الصالح (وجد تلك النار) ، التي رمى بنفسه فيها ("بَرْداً وَسَلاماً")[ الأنبياء : 69 ] ، عليه أي أمانا له من التأذي بها ودخل الجنة مع الطائعين ومن عصاه فلم يرم بنفسه فيها (استحق العقوبة) لمخالفة ما كلف به من حكم اللّه تعالى فدخل النار ، أي نار العقاب مع المخالفين (ونزل فيها) ، أي في نار العقاب (بعلمه المخالف ليقوم العدل من اللّه تعالى في) جميع (عباده) فهذ تكليف يبقى في يوم القيامة قبل دخول الجنة والنار .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وكذلك قوله تعالى : "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ" أي أمر عظيم من أمور الآخرة وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ تكليف وتشريع فيهم . فمنهم من يستطيع ومنهم من لا يستطيع ، وهم الّذين قال اللّه تعالى فيهم :وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [ القلم : 42 ] وهذا كما لم يستطع في الدّنيا امتثال أمر اللّه بعض العباد كأبي جهل وغيره . فهذا قدر من الشّرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنّة والنّار ، فلذا قيّدناه . والحمد للّه ربّ العالمين ).
(وكذلك) ، أي مثل ما ذكر في بقاء التكليف يوم القيامة (قوله) تعالى : (" يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ") أي يتميز الأمر الملتبس أو تنفصل شدة البعث من قولهم : قامت الحرب على ساق ، أي شدة وقيل : الساق الذات الإلهية ويشمل ذلك تفسيره بقوله (أي أمر عظيم من أمور الآخرة "وَيُدْعَوْنَ" )، أي أهل المحشر كلهم ("إِلَى السُّجُودِ") للّه تعالى من تلقاء أنفسهم (فهذا تكليف وتشريع) أيضا في حق الجميع في ذلك اليوم .

(فمنهم من يستطيع) السجود للّه تعالى كما كانوا يسجدون له في الدني (ومنهم من ل يستطيع) السجود (وهم) ، أي من لا يستطيعون الذين قال اللّه فيهم : "وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ"[ القلم : 42 ] .
أن يسجدوا قيل : إن ظهورهم تصير كأنها صحيفة فولاذ . قال تعالى : "وَقَدْ كانُو يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ" [ القلم : 43 ] .
(وهذ كما) كان (لم يستطع في) الحياة (الدنيا امتثال أمر اللّه) تعالى (بعض العباد كأبي جهل وغيره) من الكافرين (فهذا) المذكور هو (قدر ما يبقى من) التكليف بأحكام (الشرع في) الدار (الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنة والنار فلهذا) ، أي ولأجل ما ذكر (قيدناه) ، أي الشرع الذي لا يبقى بالدخول في الجنة والنار (والحمد للّه ) على أنعامه بتحقيق تعليمه وإلهامه .
.
....

WFlumSebEeE

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!