موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة ملكية في كلمة لوطية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة ملكية في كلمة لوطية


13 - فص حكمة ملكية في كلمة لوطية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
هذ فص الحكمة اللّوطية ذكره بعد حكمة شعيب عليه السلام ، لأنه يبحث فيه عن القوى الإلهية الممدة لأهل الكمال الإنساني وحكم التصرف بمقتضاها في كل ما دخل تحت حيطة من الحوادث فناسب ذكرها بعد حكمة شعيب عليه السلام التي هي الحكمة القلبية.
لأن القوّة المذكورة أوّل ما تظهر في القلب ثم في بقية الأعضاء ، وابتداء تصرفها في القلب أيضا ، ثم منه يظهر التصرف في الأعضاء وما استولت عليه من الممكنات .
فص حكمة ملكية بضم الميم وسكون اللام أي منسوبة إلى عالم الملك وهو ظاهر المخلوقات ، وقدمنا أنه نسبة إلى الملك بالتحريك واحد الملائكة ، لأنه أنسب برسل لوط عليه السلام فإنهم كانوا ملائكة في صورة بشر في كلمة لوطية .
إنم اختصت حكمة لوط عليه السلام بكونها ملكية بضم الميم فسكون أو ملكية بالتحريك لاشتمالها على القوّة الإلهية الأمرية الممدة له عليه السلام في صورة الملائكة ، فصحت النسبة إلى الملك بمعنى القوّة وإلى الملك واحد الملائكة ، وهو الركن الشديد الذي كان يأوي إليه لما ظن أنهم أضيافه قبل أن يعلم أنهم ملائكة ، فقال ما قال ، ثم رأى عين ما تمناه أنه حاصل له على أتم الوجوه .

قال الشيخ رضي الله عنه : (الملك الشدّة والمليك الشّديد : يقال ملكت العجين إذا شددت عجنه
قال قيس بن الخطيم يصف طعنة :
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءه
أي شددت بها كفّي يعني الطّعنة .
فهو قول اللّه تعالى عن لوط : "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيد"ٍ[ هود : 80 ]
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يرحم اللّه أخي لوطا : لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، فنبّه صلى اللّه عليه وسلم أنّه كان مع اللّه من كونه شديد
.
والّذي قصد لوط عليه السلام القبيلة بالرّكن الشّديد ؛ والمقاومة بقوله : " لَوْأَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " وهي الهمّة هنا للبشر خاصّة . )

(الملك ) بضم فسكون في الغة الشدة ، أي المتانة والقوّة والصلابة (والمليك الشديد) ، أي القوي المتين .
(يقال : ملكت العجين إذا شددت عجينه) وقويته وصلبته قال شاعر العرب (قيس بن الحطيم) من الجاهلية يصف طعنة طعنها بالسلاح في عدوّه يوم الحرب .
(ملكت) ، أي شددت (بها) أي بتلك الطعنة (كفي) ، يعني على السلاح أو على تلك الطعنة (فأنهرت) ، أي أجريت واستلت (فتقها) ، أي ما انفتق منها من جلد المطعون حتى سال الدم بحيث (ترى) إنسان (قائم من دونها) ، أي قريب منها (ما ورائها لنفوذها) إلى الجهة الأخرى فمعنى ملكت بها كفي أي شددت بها كفي يعني الطعنة المذكورة (فهو) ، أي هذا المعنى ما أشار إليه (قول اللّه) تعالى (عن لوط عليه السلام) لما جاءته الملائكة عليهم السلام في صورة غلمان حسان الوجوه وجاءه قومه يهرعون إليه ، لأن امرأته دلتهم على أضيافه الذين جاؤوا إليه ، ولم يعلم أنهم ملائكة حتى "قالُو يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ" [ هود : 81 ] الآية .
وكان من قوله بعد أن دافع قومه في حقهم وعرض عليهم بناته ليتزوّجوا بهن ويكفوا عن أضيافه فأبوا : "وقالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ م لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ" ( 79 ) قال الشيخ رضي الله عنه : (" لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً")، أي يا ليت لي قدرة على دفعكم ومنعكم عم تريدون من السوء أَوْ آوِي، أي ألتجيء للنصرة والحماية إِلى رُكْنٍ، أي من أركن إليه من ناصر وحام ("شَدِيدٍ") [ هود : 79 - 80 ] .

أي قوي من عشيرة وقوم ، فكانت الملائكة عليهم السلام هم الركن الشديد له من الملك وهو الشدة ، وهو لا يعلم بذلك ، ثم علم بأخبارهم وقولهم :" إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ" .
(فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يرحم اللّه أخي لوطا لقد كان ») ، أي حين قوله :" أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" (يأوي إلى ركن شديد) حين كانت الملائكة عليهم السلام الذين أرسلهم اللّه تعالى إلى نصرته على قومه وهلاك قومه بهم.
وهو لا يعلم بذلك فنبه صلى اللّه عليه وسلم بقوله ذلك أنه ، أي لوطا عليه السلام كان قائما في ظاهره وباطنه (مع) قيومية (اللّه) تعالى عليه (من) حيث (كونه تعالى شديدا) ، أي قويا متينا ، فإن ما تمناه من الركن الشديد الذي يأوي إليه هو عنده في شهوده عين الوجود القديم القيوم على كل شيء ، فإن الأنبياء عليهم السلام على أكمل حال معرفة اللّه تعالى وشهوده .
وكانت الملائكة الذين هم رسل اللّه تعالى إليه من حيث لا يعلم عين الركن الشديد الذي هو يأوي إليه لأنهم مظاهر تجليات الحق تعالى في النصرة والشدة المطلوبة له ، وبذلك سموا ملائكة من الملك بمعنى الشدة كما ذكر .

(والذي قصد لوط عليه السلام) بقوله : " آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" ( القبيلة ) والقوم والعشيرة الذين ينصرونه (بالركن الشديد و) قصد أيضا (المقاومة) ، أي المدافعة والممانعة لقومه عن سوء ما أرادوه فقاومهم (بقوله "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً"وهي) ، أي المقاومة (الهمة) وهي الباعث القلبي المتوجه جهة الفعل المهتم به ل نفس الفعل ، لأنه فعل اللّه تعالى (ههنا) فإنه عليه السلام يعلم يقينا أن الفاعل هو اللّه تعالى ، فلا يطلب من غيره فعلا وإنما طلب الهمة من البشر خاصة الذين هم الجنس ليظهر الفعل عقيبها على حسب المخاطبة بالتصرف في الوقت الذي يريد .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمن ذلك الوقت ، يعني من الزّمن الذي قال فيه لوط عليه السلام :أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ما بعث نبيّ بعد ذلك إلّا في منعة من قومه .
فكان تحميه قبيلته كأبي طالب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
فقوله : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً[ هود : 80 ] لكونه عليه السلام سمع اللّه يقول :اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ بالأصالة .ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ فعرضت القوّة بالجعل فهي قوّة عرضيّة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً فالجعل تعلّق بالشّيبة ، وأمّا الضّعف فهو رجوع إلى أصل خلقه وهو قوله :"خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ "[ الروم : 54 ] .
فردّه لما خلقه منه قال تعالى : وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [ الحج : 5 ] . فذكر أنّه ردّ إلى الضّعف الأوّل فحكم الشّيخ حكم الطّفل في الضّعف . )

(فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمن ذلك الوقت يعني من الزمن الذي قال فيه لوط عليه السلام : " أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" ما بعث) ، أي بعث اللّه تعالى في أمة من الأمم (نبيا) من الأنبياء عليهم السلام بعد ذلك الوقت (إلا في منعة) ، أي نصرة وحمية (من قومه فكان) ذلك النبي المبعوث بعد لوط عليه السلام (يحميه) ، من أعدائه أن يصلوا إليه بسوء (قبيلته) وعشيرته وقومه (كأبي طالب) عم رسول اللّه (مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم) فإنه حماه من قريش ونصره من إيذائهم كما قال من الشعر لما في ذلك يخاطبه عليه السلام ولمن يؤمن به : واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم ..... حتى أوسد في التراب دفين
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة .... وأبشر بذلك وقر منك عيون
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ..... ولقد صدقت وكنت ثم أمين
وعرضت دينا لا محالة أنه .... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ..... لو جدتني سمحا بذاك مبينا
فقوله : أي لوط عليه السلام : ("لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً " لكونه) ، أي لوط (عليه السلام سمع اللّه تعالى يقول) بالكشف عن اللوح المحفوظ فإن القرآن مكتوب فيه من يوم خلق اللّه تعالى ذلك اللوح .
وكذلك جميع الكتب المنزلة والصحائف أو أن هذه الآية نزلت فيما نزل عليه من الوحي وإل فإن القرآن منزل بعد لوط عليه السلام فكيف يكون سمع هذه الآية منه أو أن المراد أنه سمع معنى ذلك في جملة ما أنزل عليه .
وهذه الآية في قراءتنا على معنى ما سمع لوط عليه السلام من كلام له في وحيه الخاص (" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ") معشر بني آدم (" مِنْ ضَعْفٍ" )، وهو عدم القوّة بالكلية على كل شيء فلا تقوى العين على الرؤية ولا الأذن على السمع ولا الأعضاء على الحركة ولا السكون وهذا بالأصالة في بني آدم وغيرهم كذلك أيضا ولهذا ورد لا حول ولا قوة إلا باللّه .
وقال تعالى : " أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً" [ البقرة : 561 ] ، (ثم جعل) تعالى (من بعد ضعف) هو الأصل في كل إنسان قوّة منسوبة إلى ذلك الإنسان الضعيف (ففرضت له القوّة بالجعل ) وهو نسبتها إليه . "فعرضت له القوة بالجعل"
لأنه قوّة اللّه تعالى نسبت إليه مجازا وهي للّه تعالى حقيقة (فهي) قوّة ذاتية إلهية للحق تعالى وللإنسان وغيره قوّة عرضية تعرض له بنسبتها إليه .
ثم يتكرر عروضها عليه وقبولها باختلاف التجلي فتسمى عرضية لأجل ذلك .
(ثم جعل) سبحانه (من بعد قوة) عرضت له فنسبت إليه (ضعفا) أصلي ، أي أرجعه إليه (وشيبة) ، أي هرما وكبرا (فالجعل) الثاني تعلق بالشيبة ، (وأما الضعف فهو رجوع إلى أصل خلقه) ، فلا يقع عليه الجعل لعدم مفارقته له (وهو قوله) تعالى "خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ" [ الروم : 54 ] فرده .
أي أرجعه لما خلقه منه وهو الضعف (كما قال تعالى : "وَمِنْكُمْ")، أي بعضكم ("مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ") [ النحل : 70 ] ، أي أحقره وأقله وهو سن الهرم والشيخوخة مقابلة أجل العمر وأعظمه وأكثره وهو سن الشباب ("لِكَيْ لا يَعْلَمَ ") ذلك البعض الذي رد ("بَعْدَ عِلْمٍ") كان يعلمه ("شَيْئاً") فتضعف قوّة مخيلته وحافظته وبقية حواسه الظاهرة والباطنة وآلات إدراكه .
ويرجع إلى ما كان فيه من قبل أن يخلق كأنه لم يعلم شيئا ، والعلم الحقيقي كله للّه تعالى فيرجع علمه إليه سبحانه ، والجهل إلى ما سواه كما كان .
(فذكر) تعالى (أنه) ، أي الإنسان (رد إلى الضعف الأوّل) الذي خلق منه (فحكم الشيخ) الكبير الهرم الواصل إلى أرذل العمر بضعف قواه وأعضائه (حكم الطفل) الصغير (في الضعف) الكائن في قواه وأعضائه وإدراكه الذي هو أصل ابتدائي منه الطفل ورجع إليه الشيخ .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وما بعث نبيّ إلّا بعد تمام الأربعين وهو زمان أخذه في النّقص والضعف فلهذا قال :لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [ هود : 80 ] مع كون ذلك يطلب همّة مؤثّرة .
فإن قلت وما يمنعه من الهمّة المؤثّرة وهي موجودة في السّالكين من الأتباع ، والرّسل أولى بها قلنا صدقت ولكن نقصك علم آخر ، وذلك أنّ المعرفة ل تترك للهمّة تصرّفا فكلّما علت معرفته نقص تصرّفه بالهمّة ، وذلك لوجهين :
الوجه الواحد لتحقّقه بمقام العبوديّة ونظره إلى أصل خلقه الطّبيعيّ .
والوجه الآخر أحديّة المتصرّف والمتصرّف فيه : فلا يرى على من يرسل همّته فيمنعه ذلك .
وفي هذا المشهد يرى أنّ المنازع له ما عدل عن الحقيقة الّتي هو عليها في حال ثبوت عينه وحال عدمه ، فما ظهر في الوجود إلّا ما كان له في حال العدم في الثّبوت ، فما تعدّى حقيقته ولا أخلّ بطريقته . )
قال رضي الله عنه : (وما بعث) نبي من أنبياء اللّه تعالى إلى أمة من الأمم (إلا بعد تمام) سن الأربعين سنة من عمره (وهو زمان أخذه) ، أي الإنسان إذا وصل إلى هذا المقدار من السن (في النقص والضعف) ظاهرا وباطنا . وتحققه بحال بدايته في حال نهايته.
(فلهذ )، أي لأجل ما ذكر قال لوط عليه السلام حين كان متحققا بضعفه الأصلي الذي خلق منه وقد أرسل إلى قومه بعد وصوله إلى سن الأربعين من عمره ("لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً" مع كون ذلك) القائل (يطلب) بقوله (همة مؤثرة) في قومه تظهر فيه أو تظهر في غيره وهو الركن الشديد الذي طلب أن يأوي إليه (فإن قلت) يا أيها السالك وما يعني أي شيء (يمنعه) ، أي لوط عليه السلام مع كونه من الكاملين في العلم باللّه والعمل الصالح أو العصمة من السوء (من الهمة المؤثرة) إذا أرادها (وهي) ، أي الهمة المؤثرة موجودة في السالكين إلى طريق الكمال المذكور من الاتباع أي لاتباع الأنبياء والمرسلين .
قال رضي الله عنه : (فالرسل) والأنبياء عليهم السلام (أولى) ، أي أحق (بها) ، أي بوجود الهمة المؤثرة فيهم من وجودها في اتباعهم (قلنا) في جواب ذلك (صدقت) أن الهمة المؤثرة موجودة في السالكين فأولى أن تكون في الأنبياء والمرسلين (ولكن نقصك) ، أي فات عنك ولم تشعر به (علم آخر) معرفته شرط في الجواب عن سؤالك وذلك العلم الآخر هو (أن المعرفة) باللّه تعالى الذوقية الكشفية إذا كملت في إنسان (ل تترك للهمة) المنبعثة من قبله (تصرفا) في أمر من الأمور أصل .
(فكلم علت) ، أي ارتفعت (معرفته) ، أي معرفة الإنسان باللّه تعالى (نقص تصرفه بالهمة) فيما يريد كونه من الأشياء ، وإنما التصرف بالهمة للمبتدئين في السلوك عند غلبة الأحوال عليهم (وذلك) ، أي نقصان تصرف الهمة بسبب زيادة المعرفة باللّه تعالى (لوجهين : الوجه الواحد لتحققه) ، أي العارف (بمقام العبودية) التي هي كمال الذي للمعبود الحق في الظاهر والباطن ولأجل نظره .
أي العارف (إلى أصل خلقه الطبيعي) وهو الضعف الذي خلق منه ، فيمنعه ذلك من نفوذ الهمة وتأثيرها فيما يريده (والوجه الآخر) شهوده (أحدية المتصرّف) من حيث هو في نفسه (والمتصرّف فيه) من كل شيء فإنهما واحد بحكم الوجود الحق القيوم.
وإن كانا اثنين بمقتضى حكم الصورتين في الحس والعقل (فلا يرى) ذلك العارف على من يرسل همته إذ لا غير هناك يشهده فيمنعه ذلك ، أي غلبة حكم الاتحاد عليه بحيث ل يبقى للكثرة عنده اعتبار محقق لاستهلاكها في وحدة الأمر الإلهي ، فلا يمكنه إرسال همته على نفسه ، فيمتنع من ذلك .
ومن هنا قال الشيخ العارف باللّه الشيخ علي وفا قدس اللّه سره : احذر أن تدعو على من ظلمك فإنك إذن تدعو على نفسك "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها"[ الإسراء : 7 ].
"إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ" [ القلم : 39 ] فمن شهد ظلما فإنما هو منه وإليه "أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ" فأين الظلم وفي هذا المشهد الرباني الذي يقام فيه العارف (يرى) ذلك العارف أن المنازع له .
أي منازع كان من جميع أعدائه نازعه في دين أو دنيا (ما عدل عن حقيقته التي هو عليها في حال ثبوت عينه) في حضرة علم اللّه تعالى (وحال عدمه) الأصلي قبل أن يظهر (فما ظهر) منه في الوجود إلا ما كان حاصلا (له في حال العدم) الأصلي (في الثبوت) الذي كان فيه ضد النفي من الأحوال والأقوال والأعمال (فما) يراه (تعدى) ، أي خالف (حقيقته) تلك الثابتة أصلا بل ما اتصف بالوجود منه إلا ما هو ثابت في عدمه الأصلي (ولا أخلّ بطريقته) التي هو سائر عليها من ثبوته إلى وجوده ومن وجوده إلى ثبوته كما قال تعالى :"وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ" [ الرعد : 8 ] ،" وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" [ الحجر : 21 ] .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فتسمية ذلك نزاعا إنّما هو أمر عرضيّ أظهره الحجاب الّذي على أعين النّاس كما قال اللّه تعالى فيهم :" وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ( 7 )" [ الروم 6 - 7 ] وهو من المقلوب فإنّه من قولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ [ النساء : 155 ] أي في غلاف وهو الكنّ الّذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه .
فهذا وأمثاله يمنع العارف من التّصرّف في العالم .
قال الشّيخ أبو عبد اللّه بن قائد للشّيخ أبي السّعود بن الشّبل: لم لا تتصرّف ؟
فقال أبو السّعود : تركت الحقّ يتصرّف لي كما يشاء
: يريد قوله تعالى آمرا : "فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا" [ المزمل : 9 ] فالوكيل هو المتصرّف .
ولا سيّما وقد سمع اللّه يقول :" وَأَنْفِقُوا مِمَّ جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ "[ الحديد: 7]
فعلم أبو السّعود والعارفون أنّ الأمر الّذي بيده ليس له وأنّه مستخلف فيه .
ثمّ قال له الحقّ هذا الأمر الّذي استخلفتك فيه وملّكتك إيّاه اجعلني واتّخذني فيه وكيلا ، فامتثل أبو السّعود أمر اللّه فاتّخذه وكيل . فكيف تبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر همّة يتصرّف بها ، والهمّة لا تفعل إلّا بالجمعيّة الّتي لا متّسع لصاحبها إلى غير ما اجتمع عليه ؟
وهذه المعرفة تفرّقه عن هذه الجمعيّة . فيظهر العارف التّامّ المعرفة بغاية العجز والضّعف
. )
قال رضي الله عنه : (فتسميته ذلك) الواقع منه (نزاعا) في أمر الدنيا والدين ، وتسميته ظلما للعارف أو أذية له أو غير ذلك (إنما هو) عند العارف في بصيرته (أمر عرض) للغافلين من الغفلة عما يشهده العارف (أظهره) ، أي أظهر ذلك الأمر (الحجاب الذي على أعين الناس) وهو شهودهم أنفسهم دون من هم قائمون به كما قال اللّه تعالى فيهم ، أي في حق المحجوبين من الناس ("وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ل يَعْلَمُونَ") [ الأعراف : 187 ] ، أي ما الأمر الإلهي على ما هو عليه في نفسه ثم قال تعالى : ("يَعْلَمُونَ ظاهِراً") [ الروم : 7 ] ، أي ما هو الظاهر (مِنَ الْحَياةِ الدُّنْي ) التي هم مفتونون بها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي باطن ذلك الظاهر(هُمْ غافِلُونَ) لا ينتبهون لذلك .
قال رضي الله عنه : (وهو) ، أي ذلك الحجاب الذي على أعين الناس أصله (من المقلوب) كما قال تعالى : " فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور"ِ[ الحج : 46 ].
(فإنه) ، أي ذلك الحجاب (من قولهم : " قُلُوبُنا غُلْفٌ" [ البقرة : 88 ] ، أي في غلاف وهو) ، أي الغلاف (الكنّ الذي ستره) ، أي القلب (عن إدراك الأمر) الإلهي على ما هو عليه في نفسه .
قال رضي الله عنه : (فهذا) الوجه المذكور (وأمثاله) من الوجوه أيضا إذ لا حصر للأسباب (يمنع العارف) باللّه تعالى مع كمال استعداده من التصرف في العالم ونفوذ همته وتأثيره بالتوجه فيما يريد (قال الشيخ) الإمام (أبو عبد اللّه بن قايد للشيخ) العارف الكامل (أبي السعود بن الشبلي) وكلاهما من تلامذة الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي اللّه عنهم (لم لا تتصرف) بهمتك في المخلوقات .
(فقال له) الشيخ (أبو السعود) المذكور (تركت الحق) سبحانه (يتصرف لي كما يشاء) هو سبحانه فيما يشاء (يريد) أبو السعود بقوله ذلك (قوله تعالى) حال كونه (آمرا) نبيه الفرد الكامل صلى اللّه عليه وسلم الذي قيل فيه "ولَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" [ الأحزاب : 21 ] (فاتخذه) ، أي ربك تعالى : ("وَكِيلًا") [ المزمل : 9 ] يتصرف عنك في جميع أمورك ظاهرا وباطن .
قال رضي الله عنه : (فالوكيل هو المتصرف) دون الموكل (ولا سيما) ، أي خصوصا (وقد سمع) ، أي أبو السعود المذكور (اللّه) تعالى يقول : ("وَأَنْفِقُوا") يا أيها الناس ("مِمَّا")، أي من الأمر الذي ("جَعَلَكُمْ") اللّه تعالى ("مُسْتَخْلَفِين") َبصيغة اسم المفعول عنه تعالى ("فِيهِ") [ الحديد : 7 ] من جميع الأمور والأحوال في الظاهر والباطن .
قال رضي الله عنه : (فعلم) الشيخ (أبو السعود) المذكور والعارفون كلهم رضي اللّه عنهم (أن الأمر الذي بيده) ، أي يد كل واحد منهم (ليس) ملكا (له و)علم (أنه مستخلف فيه) ، أي استخلفه فيه الحق تعالى الذي هو صاحبه ومالكه (ثم قال له) ، أي لذلك الإنسان الحق تعالى (هذا الأمر الذي استخلفتك) ، أي جعلتك خليفة عني (فيه وملكتك إياه) وجعلتك بحيث يمكنك أن تظهر به في الدنيا بهمة نفسك (اجعلني واتخذني وكيلا) عنك (فيه) ولا تتصرف فيه أنت واتركني أتصرف فيه وحدي عنك (فامتثل) الشيخ أبو السعود رضي اللّه عنه أمر اللّه تعالى له ولأمثاله بذلك ("فَاتَّخِذْهُ")، أي الحق تعالى ("وَكِيلًا") [ المزمل : 9 ] عنه في جميع أموره ولم يتصرف في أمر من الأمور أصلا لأجل ذلك من كمال معرفته باللّه تعالى .
وقد أشار الشيخ المصنف قدس اللّه سره في « الفتوحات المكية » أن هذا الشيخ أبو السعود المذكور تلميذ العارف الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي اللّه عنه ، ولكنه أكمل من شيخه الشيخ عبد القادر الكيلاني لتركه التصرف بعد ملكه له ولم يتركه شيخه الشيخ عبد القادر الكيلاني وتصرف في العلم قدس اللّه سرهم .
(فكيف يبقى لمن يشهد مثل هذا الأمر) الإلهي المذكور (همة) في قلبه (يتصرف بها) في كون من الأكوان (والهمة) القلبية من العارف باللّه تعالى لا تفعل ، أي لا تؤثر في شيء أصلا (إلا بالجمعيةفي) قلب العارف والتصميم بالتوجه من غير تردد أصلا (التي لا متسع) ، أي لا قدرة (لصاحبها) ، أي تلك الجمعية (إلى) إرادة (غير ما اجتمع) بقلبه (عليه) من الأمر الذي يريد كونه (وهذه المعرفة) المذكورة (تفرقه عن هذه الجمعية) فلا جمعية فلا تأثير بالهمة لهذا السبب (فيظهر العارف) باللّه تعالى (التام) ، أي الكامل (المعرفة بغاية العجز والضعف) عن انفعال الأشياء لهمته .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال بعض الأبدال للشّيخ عبد الرزّاق قل للشّيخ أبي مدين بعد السّلام عليه : يا أبا مدين لم لا يعتاص علين شيء وأنت تعتاص عليك الأشياء ونحن نرغب في مقامك وأنت لا ترغب في مقامنا ؟
وكذلك كان مع كون أبي مدين - رضي اللّه عنه - كان عنده ذلك المقام وغيره ، ونحن أتمّ في مقام العجز والضّعف منه .
ومع هذا قال له هذا البدل ما قال وهذا من ذلك القبيل أيض .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذا المقام عن أمر اللّه له بذلك « ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلّا ما يوحى إليّ » فالرّسول بحكم ما يوحى إليه ما عنده غير ذلك .
فإن أوحي إليه بالتّصرّف فيه بجزم تصرّف وإن منع امتنع ، وإن خيّر اختار ترك التّصرّف ، إلّا أن يكون ناقص المعرفة . )
قال رضي الله عنه : (قال بعض الأبدال) من أهل اللّه تعالى (للشيخ عبد الرزاق رضي اللّه عنه) تلميذ أبي مدين (قل للشيخ أبي مدين) رضي اللّه عنه (بعد السلام عليه : يا أبا مدين لم لا يعتاص) ، أي يصعب (علينا معشر الأبدال شيء نريده من الأكوان وأنت تعتاص) ، أي تصعب (عليك الأشياء) فلا تكاد تنفعل عن همتك وينفعل عن همتنا كل شيء ؟
ومع ذلك (نحن نرغب في) حصول (مقامك) الذي أنت فيه (وأنت لا ترغب في) نيل (مقامنا ) الذي نحن فيه وكان الشيخ أبو مدين رضي اللّه عنه قطب ذلك الزمان وصاحب الدائرة الكبرى في ذلك الوقت والأوان والجواب عن ذلك م سبق ذكره من الوجهين المتقدمين ونحوهما.
قال رضي الله عنه : (وكذلك كان) الأمر (مع كون أبي مدين رضي اللّه عنه كان عنده ذلك المقام) الذي للأبدال من أهل اللّه تعالى (وغيره) أيضا من المقامات وقال المصنف رضي اللّه تعالى عنه لأنه في مقام الفردية (ونحن أتم) ، أي أكمل (في مقام الضعف والعجز) عن كل شيء (منه) ، أي من الشيخ أبي مدين رضي اللّه عنه (ومع هذا) الضعف والعجز الذي فيه أقل من ضعفن وعجزنا (قال له هذا البدل) المذكور بواسطة الشيخ عبد الرزاق (ما قال) فكيف قولنا في حقنا فهو بالأولى .
(وهذا) الأمر المذكور عن أبي مدين (من ذلك القبيل أيضا) ، أي هو مم يجاب به عن عدم تأثير الهمة من العارف الكامل .
(وقال) نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم في هذا المقام الذي يعجز فيه العارف الكامل عن تأثير همته في كل شيء (عن أمر اللّه) تعالى (له بذلك) القول قل (م أدري ما يفعل بي) ، أي يفعل اللّه تعالى بقدرته ما يشاء (ولا) ما يفعل ما يشاء (بكم) وهذا أمر من عدم تأثير همته ومن تحققه بمقام العجز لكمال معرفته باللّه تعالى (إن) ، أي ما (اتبع) في جميع أحوالي (إلا ما) ، أي الذي (يوحى) ، أي يوحيه اللّه تعالى (إليّ) بواسطة الملك أو بدون ذلك (فالرسول) صلى اللّه عليه وسلم قائم في جميع أموره ظاهرا وباطن (بحكم ما يوحى إليه به) من كل ما يريده اللّه تعالى (ما عنده غير ذلك) ، أي مجرد التبعية دون الاستقلال في شيء أصل .
قال رضي الله عنه : (فإن أوحي إليه) من قبل الحق تعالى (بالتصرف) في أمر من الأمور (بجزم) من غير تخيير ولا إحالة على مشيئة (تصرف) في ذلك الأمر الذي أمر به لا يمكنه مخالفة أمر اللّه تعالى بكمال اتباعه صلى اللّه عليه وسلم وانقياده لإرادة ربه (وإن منع) عليه السلام ، أي منعه ربه عن مفارقة أمر امتنع عن ذلك الكمال التبعية أيضا فيه (وإن خيّر) ، أي خيره اللّه تعالى بين التصرف وعدمه كما ورد أن ملك الجبال أتاه فخيره عن أمر اللّه تعالى بين أن يطبق الأخشبين الجبلين في مكة على أهلها حين لم يؤمنوا وآذوه صلى اللّه عليه وسلم فأبى عليه السلام (اختار تركالتصرف) في شيء عن أمر نفسه ، وأوكل كل الأمور كلها إلى اللّه تعالى يتصرف فيها كيف يشاء.
وقال : وأفوّض أمري إلى اللّه إن اللّه بصير بالعباد إلا أن يكون ذلك العارف (ناقص المعرفة) باللّه تعالى فيكون من أهل غلبة الأحوال لا من أهل الرسوخ في المقامات فيغلب عليه حاله فيتحكم في العالم بهمته ، ويسلط جمعيته التامة من غير فرق على كل ما يريد ، فتنفعل له الأشياء .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( قال أبو السّعود لأصحابه المؤمنين به إنّ اللّه أعطاني التّصرّف منذ خمس عشرة سنة وتركناه تظرّفا هذا لسان ادلال .
وأمّا نحن فما تركناه تظرّفا - وهو تركه إيثارا - وإنّما تركناه لكمال المعرفة ، فإنّ المعرفة لا تقتضيه بحكم الاختيار . فمتى تصرّف العارف بالهمّة في العالم فعن أمر إلهيّ وجبر لا باختيار ، ولا نشكّ أنّ مقام الرّسالة يطلب التّصرّف لقبول الرّسالة الّتي جاء بها ، فيظهر عليه ما يصدّقه عند أمّته وقومه ليظهر دين اللّه . )

(قال) الشيخ (أبو السعود) بن الشبلي المتقدم ذكره رضي اللّه عنه (لأصحابه) ، أي تلامذته (المؤمنين به) ، أي المصدقين بشرف مقامه دون المنكرين عليه ، فإنه يزيدهم إنكارا بصدقه لهم في مقاله . قال تعالى :"وَل تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ" [ آل عمران : 73 ] ، (إن اللّه أعطاني التصرف) في كل ما أريد من الأكوان (منذ خمسة عشر سنة) ، أي خيرني في التصرف والامتناع منه إذ لو كان مأمورا بالتصرف أو ممنوعا منه بل تخيير ما ساغ له المخالفة بمقتضى مقام المتابعة ومع ذلك تركناه ، أي التصرف ، أي اختار تركه (تظرفا) ، أي طلبا للحالة الحسنة الظريفة عند كل أحد وهي أن ل يظهر بقهر النفوس وإذلال الرجال (هذا) القول منه رضي اللّه عنه (لسان إدلال) على اللّه تعالى ، لأنه مقتضى حال المحبوبية للحق تعالى .
(وأم نحن) وهو قول المصنف الشيخ الأكبر رضي اللّه عنه (فما تركناه) ، أي التصرف بعد أن خيرنا الحق تعالى فيه بمقتضى إيصالنا إليه (تظرفا) كما تركه الشيخ أبو السعود المذكور (وهو) ، أي معنى تركه تظرفا تركه إيثارا ، أي تقديما للحق تعالى على نفسه لأنه أحق به حيث لا يليق بسواه ، لهذا تقبله النفوس منه تعالى لحسنه منه ،ولا تقبله من غيره سبحانه لعدم حسنه من الغير.
(وإنم تركناه)، أي التصرف لكمال المعرفة باللّه تعالى (فإن المعرفة) الكاملة (ل تقتضيه) ، أي التصرف (بحكم الاختيار) ، والإرادة النفسانية إذا خير فيه العارف من غير جزم (فمتى تصرف العارف بالهمة في العالم) ، أي المخلوقات ، ورأينا ذلك منه مع كمال المعرفة الإلهية فيه (فعن أمر إلهي له) بذلك التصرف (وجبر) ، أي إلزام عليه به من جهة الحق تعالى (لا باختيار) وإرادة نفسانية منه بذلك أصلا ، لأن كمال المعرفة باللّه تعالى لا يعطي غير كمال المتابعة والانقياد للّه تعالى في الظاهر والباطن .
(ول نشك) ، أي نقول قطعا من غير تردد (أن مقام الرسالة) النبوية (يطلب التصرف) في المرسل إليهم من الآية (لقبول الرسالة ) منه عن اللّه تعالى (التي جاء بها) إليهم (فيظهر عليه ما يصدق عند أمته وقومه) ، من خوارق العادات والتأثير بالهمة في إظهار الآيات والمعجزات (ليظهر) بذلك (دين اللّه) تعالى الحق عند المنكرين له المكذبين .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( والولي ليس كذلك ، ومع هذا فلا يطلبه الرّسول في الظّاهر لأنّ للرّسول الشّفقة على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجّة عليهم ، فإنّ في ذلك هلاكهم فيبقي عليهم .
وقد علم الرّسول أيضا أنّ الأمر المعجز إذا ظهر للجماعة فمنهم من يؤمن عند ذلك ومنهم من يعرفه ويجحده ولا يظهر التّصديق به ظلما وعلوا وحسدا ومنهم من يلحق ذلك بالسّحر والإيهام . فلمّا رأت الرّسل ذلك وأنّه لا يؤمن إلّا من أنار اللّه قلبه بنور الإيمان ، ومتى لم ينظر الشّخص بذلك النّور المسمّى إيمانا فل ينفع في حقّه الأمر المعجز
فقصرت الهمم عن طلب الأمور المعجزة لما لم يعمّ أثرها في النّاظرين ولا في قلوبهم. كما قال في حقّ أكمل الرّسل وأعلم الخلق وأصدقهم في الحالإِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ القصص : 56 ] ولو كان للهمّة أثر ولا بد ، لم يكن أحد أكمل من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا أعلى وأقوى همّة منه ، وما أثّرت في إسلام أبي طالب عمّه ، وفيه نزلت الآية الّتي ذكرناها .
ولذلك قال في الرّسول إنّه ما عليه إلّا البلاغ ، وقال تعالى :لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ البقرة : 272 ].
وزاد في سورة القصص : وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ القصص : 56] أي بالّذين أعطوه العلم بهدايتهم في حال عدمهم بأعيانهم الثابتة فأثبت أنّ العلم تابع للمعلوم .
قال رضي الله عنه : (والولي) الكامل المعرفة باللّه تعالى (ليس كذلك) ، أي مقام ولايته لا يقتضي ذلك لتقرر الدين وظهور حجة اللّه تعالى به على الناس (ومع هذا) المذكور (فلا يطلبه) ، أي التصرف (الرسول) صلى اللّه عليه وسلم (في الظاهر) إلا عن أمر إلهي يقتضي منه ذلك كقوله تعالى في حق موسى عليه السلام :"وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ" [ البقرة : 60 ] الآية.
وقوله تعالى :" وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ" ( 117 ) [ الأعراف : 117 ] ، وقال تعالى :" وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً" [ طه : 77 ] ، وهكذا كل الأنبياء عليهم السلام في ظهورهم بالآيات والمعجزات ، إما عن أمر في الظاهر أو في الباطن (لأن للرسول) كمال الشفقة والرأفة (على قومه ، فلا يريد أن يبالغ في ظهور الحجة ) ، أي حجة اللّه تعالى (عليهم ، فإن ذلك هلاكهم) سريعا (فيبقى عليهم) من بعض الالتباس لينفذ تقرير اللّه تعالى بالتكذيب عن شائبة عذر منهم ، فيخف الغضب الإلهي المتوجه على المكذبين .
قال رضي الله عنه : (وقد علم الرسول) عليه السلام (أيضا أن الأمر المعجز إذا ظهر) على يده (للجماعة) من أمته لا يجتمعون كلهم على الإيمان والتصديق بمقتضى ذلك ، ولكن تختلف أحوالهم (فمنهم من يؤمن) بالحق حيث ظهر (عند ذلك) ويصدق به (ومنهم من يعرفه) ، أي الحق (ويجحده ) ، أي ينكره (ولا يظهر التصديق به ظلما) منه للحق ولأهله (وعلوا).
أي تكبرا على الحق أن يقبله من غيره وحسدا من نفسه لمن ظهر الحق على يده ومنهم من يلحق ذلك الأمر المعجز حيث ظهر بالسحر والإيهام ، أي الشعبذة والزخرفة الباطلة عنادا مع الحق وكفرا به .
قال رضي الله عنه : (فلما رأت الرسل) عليهم السلام (ذلك) الاختلاف الذي يقع من أممهم عند ظهور الأمر المعجز على يدهم (وأنه لا يؤمن) بالحق عند ظهوره (إلا من أنار اللّه) تعالى (قلبه بنور الإيمان) الذي يقع فيه فيتسع لكل ما جاء به ذلك الرسول (ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور المسمى إيمانا) ولم يتسع به صدره بل ضاق وانحصر بحكم الطبع والعادة (فلا ينفع في حقه) ذلك (الأمر المعجز) من الرسول الذي أتى بذلك .
قال رضي الله عنه : (فقصرت) بسبب ذلك (الهمم) من الرسل عليهم السلام (عن طلب الأمور المعجزة) الخارقة للعادة من اللّه تعالى على صدقهم لما علموا (أنه لما لم يعم أثرها في) تحصيل الإيمان (الناظرين) إليها كلهم في ظواهرهم ولا في قلوبهم بل خص البعض دون البعض (كما قال) اللّه تعالى (في حق أكمل الرسل) كلهم عليهم السلام (وأعلم الخلق) باللّه تعالى (وأصدقهم) ، أي الخلق في الحال محمد رسولنا صلى اللّه عليه وسلم ("إِنَّكَ") يا محمد ("لا تَهْدِي") إلى دين اللّه تعالى ("مَنْ أَحْبَبْتَ") من الناس والأقارب والأجانب ، ولو جئت بالأمور الخارقة للعادة ("وَلكِنَّ اللَّهَ") سبحانه وتعالى هو الذي ("يَهْدِي") إلى دينه الحق والصراط المستقيم ("مَنْ يَشاءُ") [ القصص : 56 ] من عباده . وهذه الهداية بمعنى الإيصال ل الدلالة فإنه صلى اللّه عليه وسلم دل من أحبه ومن لم يحبه بحكم قوله تعالى : "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" [ الشورى: 52 ]. أي تدل "عليه" والموصل إلى ذلك هو اللّه تعالى .
قال رضي الله عنه : (ولو كان للهمة) القلبية (أثر) فيما يريد صاحبها (ولا بد) ، أي بطريق اللزوم (لم يكن أحد أكمل) فيها من رسوله (صلى اللّه عليه وسلم ولا) أحد (أعلى والأقوى همة) قلبية (منه عليه السلام) ومع ذلك (ما أثرت) همته صلى اللّه عليه وسلم (في) حصول (إسلام أبي طالب عمّه) أخ أبيه عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم حين دخل عليه في مرض موته وقال له : يا عماه قل ل إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، فامتنع ، فأدنى إليه أذنه وقال له : قلها ولو في أذني ، فأبى ومات على دين الأشياخ من قريش وفيه ، أي في أمر أبي طالب نزلت هذه الآية التي ذكرناها وهي قوله تعالى :" إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ " [ القصص : 56 ] .
ولذلك ، أي لأجل ما ذكر قال اللّه تعالى في حق الرسول أنه ما عليه إلا البلاغ ، أي إيصال الحق إلى الناس لا قبولهم له كما قال تعالى : " وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" [ النور : 54 ] .
قال رضي الله عنه : (وقال) تعالى : (" لَيْسَ عَلَيْكَ") يا أيها الرسول ("هُداهُمْ") ، أي هدايتهم (" وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ" [ البقرة : 272 ] وزاد) اللّه تعالى في آية :" إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ " في سورة القصص قوله تعالى : (" وَهُو") َ، أي اللّه تعالى ("أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" أي) [ القصص : 56 ] .
أعلم (بالذين أعطوه العلم بهدايتهم) من الأزل حين كشف عنهم بعلمه القديم وهم (في حال عدمهم) الأصلي (بأعيانهم) متعلق بأعطوه ، أي حقائقهم (الثابتة) غير المنفية بلا وجود فأثبت سبحانه بمقتضى هذه الآية (أن العلم) الإلهي الكاشف في الأزل عن كل شيء (تابع للمعلوم) المكشوف عنه على حسب ما هو عليه ذلك المعلوم في عينه الثابتة في العدم من دون وجود .

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن كان مؤمنا في ثبوت عينه وحال عدمه ظهر بتلك الصّورة في حال وجوده ، وقد علم اللّه ذلك منه أنّه هكذا يكون ، فلذلك قال :وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فلمّا قال مثل هذا قال أيضا :ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ لأنّ قولي على حدّ علمي في خلقيوَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ ق : 29 ] أي ما قدّرت عليهم الكفر الّذي يشقيهم ثمّ طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلّا بحسب ما علمناهم ، وم علمناهم إلّا بما أعطونا من نفوسهم ممّا هم عليه ، فإن كان ظلما فهم الظّالمون . ولذلك قال : وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الأعراف : 160 ] فما ظلمهم اللّه ، كذلك ما قلنا لهم إلّا ما أعطته ذاتن أن نقول لهم ؛ وذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا ، ولا نقول كذا ، فم قلنا إلّا ما علمنا أنّا نقول فلنا القول منّا . ولهم الامتثال وعدم الامتثال مع السّماع منهم .
فالكلّ منّا ومنهم .... والأخذ عنّا وعنهم
إن لا يكونوا من ..... فنحن لا شك منهم
فتحقّق يا وليّ هذه الحكمة الملكيّة من الكلمة اللّوطيّة فإنّه لباب المعرفة .
فقد بان لك السّرّ ..... وقد اتّضح الأمر
وقد أدرج في الشّفع .... الّذي قيل هو الوتر )

قال رضي الله عنه : (فمن كان) في الأزل (مؤمنا في) حال (ثبوت عينه) ، أي حقيقته ثبوتا هو ضد النفي ل بمعنى الوجود (و) في (حال عدمه) الأصلي (ظهر) ذلك الثابت (بتلك الصورة) التي هي الإيمان (في حال وجوده) المستفاد من تجلي الحق تعالى عليه في حضرة سمعه وبصره (وقد علم اللّه) تعالى (ذلك) الوصف الذي هو ثابت فيه (منه في) الأزل (أنه هكذا) ، أي على الوصف المذكور (يكون) ، أي يوجد ، وكذلك من كان في الأزل كافرا أو فاسقا أو جاهلا أو مبتدعا وغير ذلك في حال ثبوت عينه ، يعلم اللّه تعالى منه ذلك فلا يوجد إلا كذلك .
قال رضي الله عنه : (فلذلك) ، أي لأجل ما ذكر (قال) تعالى : (" وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [ القصص : 56 ]
فلم قال) سبحانه مثل هذا المقول المذكور قال تعالى أيض "ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" [ ق : 29 ] ، أي عندي (لأن قولي) حق (على حد علمي) ، أي تابع لعلمي (في خلقي) فلا أقول إلا ما أعلم ، ولا أعلم إلا ما الأمر عليه ثابت في نفسه ، ويستحيل غير ذلك ("وَما أَنَا بِظَلَّامٍ") ، أي منسوب إلى الظلم .
كم يقال لحام وسمان منسوبان إلى اللحم والسّمن ، لا أنه صيغة مبالغة حتى يلزم منه محذور بأن المنفي المبالغة في الظلم لا مطلق الظلم ، فيقتضي ثبوت شيء من الظلم له تعالى : ("لِلْعَبِيدِ أي ما قدرت) في الأزل (عليهم) ، أي على بعض العبيد (الكفر الذي يشقيهم) بمخالفتم أمري قال رضي الله عنه : (ثم طالبتهم) في الدني (بما ليس في وسعهم) أي طاقتهم وقدرتهم أن يأتوا به من الإيمان والطاعة (بل ما عاملناهم) في الأزل حين قدّرنا عليهم الشقاوة في الدنيا حين كلفناهم بعد أن خلقناهم إلا بحسب ما علمناهم عليه من الأوصاف في حال ثبوتهم في عدمهم الأصلي (وما علمناهم) كذلك في الأزل (إلا بما أعطونا من نفوسهم) ، وأحوالها في ظواهرهم وبواطنهم (مم هم عليه) في عالم الثبوت غير الوجود وغير المنفي ويسمى عالم الإمكان ، كما أن الوجود يسمى عالم الوجود ، والنفي يسمى عالم الاستحالة .
(فإن كان) فيما قدرنا عليهم من الأزل ثم أوجدناه فيهم من أحوالهم (ظلما) بسبب عدم تأثيرهم في شيء منه أصلا (فهم الظالمون) والأحق أنهم هم الذين يوصفون بهذا الوصف القبيح الذي هو الظلم لأنه لم يكن في علمنا إلا تبعا لما هو في أحوالهم الثابتة أزلا في عالم الإمكان ، واللّه تعالى منزه عن القبائح أزلا وأبد .
قال رضي الله عنه : (ولذلك قال) سبحانه ("وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ") [ البقرة : 57 ] من أصل ثبوت أعيانهم كذلك كم ذكرنا (فما ظلمهم اللّه) تعالى ، لأنه أعطاهم خلقهم ، فأوجدهم على طبق م هم عليه ، فله المنة عليهم والفضل بتشريفهم بحلة الوجود ، التي أعارها لهم على حسب ما أوجدهم أيضا قابلين له منها ، هذا من حيث وجودهم بأحوالهم التي هم عليها ، وأم من حيث الحكم عليهم بالأحكام الشرعية أمرا ونهيا ، فقد أشار إليه بقوله :
قال رضي الله عنه : (كذلك ما قلنا لهم) من حيث التكاليف الشرعية (إلا ما أعطته ذاتنا) الإلهية الأزلية (أن نقول لهم) مما نحن عليه من الكمال الذاتي والجمال الذاتي .
فمن تبع أحكامه كمل وجمل على حسب استعداده ، فجذبناه إلينا لظهور بعض أوصافنا فيه بمقتضى استعداده .
بل جذبنا أو صافنا التي اتصف بلوائحها فانجذب معها إلينا ، ومن أعرض عن متابعة أحكامنا انقطع عنا (وذاتنا) الكمالية الجمالية المذكورة معلومة لنا ، أي مكشوفة عنها بعلمنا الأزلي (بما هي عليه أن نقول) لهم (كذا) من الأحكام ولا نقول كذا فالعلم الإلهي كاشف عن ذات اللّه تعالى وعن قولها أيض .
قال رضي الله عنه : (فما قلنا) لهم من الأحكام (إلا ما علمنا) منا (أنا نقول) لهم (فلنا القول) المنزل بالأحكام الشرعية في الأمر والنهي حاصل (منا) ، أي من حيث كمالنا وجمالن وما يخالف ذلك (ولهم الامتثال وعدم الامتثال) بمقتضى ما هم عليه في أحوال أعيانهم الثابتة في عدمها الأصلي (مع السماع) لقولنا الحق وهو وصول الأحكام إليهم وإطلاعهم عليها لا قبل ذلك ، فإنه لا مؤاخذة كما قال سبحانه : " وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" [ الإسراء : 15 ] ، فإن الرسول يبلغهم الأحكام فيحصل السماع فتقوم الحجة عليهم (منهم) ، أي حامل ذلك الامتثال وعدمه والسماع من جهتهم .
[ شعر ]
فالكل منا ومنهم ... والأخذ عنا وعنهم
إن لا يكونون منا ... فنحن لا شك منهم
(فالكل) ، أي أعيانهم وأحوالهم وأحكامهم التي هم مكلفون بها (منا) أصله وهي الأحكام (ومنهم) أصلها وهي الأعيان والأحوال (والأخذ) ، أي تناول ذلك الكل المذكور (عنا) للأحكام (وعنهم) للأعيان والأحوال .
(إن لا يكونوا) ، أي إذا لم يكونوا من حيث أعيانهم وأحوالهم الثابتة (منا) بمقتضى حكم التجلي الذاتي من حضرة الأحدية في حضرة الواحدية التي هي حضرة الصفات والأسماء الإلهية حتى ثبتت فيها تلك الأعيان والأحوال .
(فنحن) من حيث حضرة الصفات والأسماء الإلهية التي تعينت من الذات الأحدية بسبب قيام الأعيان والأحوال الثابتة بها في أنفسها حال عدمها الأصلي (لا شك) أننا من الوجه المذكور (منهم) ، أي من تلك الأعيان والأحوال الثابتة ، وهو معنى قول تلميذ المصنف الشيخ صدر الدين القونوي رضي اللّه عنهما في كتابه النفحات في مبشرته التي رأى فيها شيخه رضي اللّه عنه آثار الأسماء من الأحكام والأحكام من الأحوال ، والأحوال تتعين من الذات بحسب الاستعداد أمر لا يعلل بشيء سواه ، يريد بآثار الأسماء الوجود المفاض على الأعيان الثابتة ، فإنه من أحكام الأحوال الإلهية التي هي الصفات والأسماء ، والأحوال الإلهية متعينة من الذات الإلهية بحسب الاستعداد الذي تقتضيه الأعيان الثابتة ، والاستعداد لا يعلل بعلة .

(فتحقق يا ولي) ، أي صديقي (هذه الحكمة الملكية من الحكمة اللوطية) المنسوبة إلى لوط عليه السلام فإنها من لباب ، أي خالص المعرفة باللّه تعالى
[ شعر ]
فقد بان لك السر ... وقد اتضح الأمر
وقد أدرج في الشفع ... الذي قيل هو الوتر
(فقد بان) ، أي انكشف (لك) يا أيها السالك (السر) الإلهي الذي قام به كل شيء في الحس والعقل (وقد اتضح) لك (الأمر) الإلهي أيضا ، وهو عين السر من جهة عمومه ، وافترق السر عنه بقيد الخفاء ، فقيوم العالم من جهة بطونه سر ومطلقا أمر .
(وقد أدرج) ، أي اختفى فلم يتبين وتداخل فلم يتميز ولا يتداخل في نفس الأمر ولكن من قبيل قوله تعالى : "وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ( 20 )" [البروج : 20 ] .
وقوله :" أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِم كَسَبَتْ" [ الرعد : 33 ] ونحو ذلك (في الشفع) وهو العبد المركب من عين ثابتة ووجود مفاض عليها (الذي قيل) .
أي قال صاحب الشرع بأن من جملة أسمائه أنه (هو الوتر) وهو الحق تعالى صاحب الذات والصفات والأفعال ، فكان المجموع عبدا كاملا لاندراج الغيب فيه واندراجه في الغيب ، فهو شهادة ذلك الغيب ، وذلك الغيب غيب في هذه الشهادة ، التي هي شهادته وما ظهرت هذه الشهادة إلا من ذلك الغيب وهو عالم الغيب والشهادة ستكتب شهادتهم والكاتب لها الغيب " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " [ الأنعام : 54 ].
والرحمة عين الشهادة وقوله : ويسألون أي يسألهم الكاتب عما كتب وهو قوله : " كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً " [ الإسراء : 14 ].
وم أعظم هذه الحكمة ! وما أشمل هذه الرحمة !
وقد أنشدني بعض الإخوان قول بعض المحققين من أولي العرفان :
سبحان من أظهر ناسوته ..... سرسن لا هوية الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهر ..... في صورة الآكل والشارب
""أضاف المحقق :
هما بيتان من ثلاثة أبيات نسبت لشهيد العشق الإلهي الشيخ الحسين بن منصور الحلاج المولود سنة 244 هـ والمتوفى سنة 309 هـ والبيت الثالث هو :
حتى لقد عاينه خلقه .... كلحظة الحاجب بالحاجب""
وربم يقع الكتاب في غير أهله ممن احترق بنيران جهله .
فيقال له : افهم القيوميّة في الغيب والشيئية الهالكة في الشهادة ، واعلم أن الرب رب والعبد عبد ، وليس في الكلام ما يفيد الإشكال ، غير أنك قاصر الإدراك عن معرفة الرجال .

.
....

19A4wQC5k0E

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!