موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة أحدية في كلمة هودية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة أحدية في كلمة هودية


10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

10 - فص حكمة أحدية في كلمة هودية
هذا نص الحكمة الهودية ذكره بعد حكمة يوسف عليه السلام، لأن علم هود عليه السلام المتعلق بمعرفة استقامة الكل، وأخذ الحق بناصية كل دابة تدب من العدم إلى الوجود، نظير علم الخيال الذي هو علم يوسف عليه السلام من جهة تساويهما في اعتبار الوصف الواحد العام مع ملاحظة الأوصاف الخاصة في ضمنه.
قال رضي الله عنه : (فص حكمة أحدية) منسوبة إلى ظهور الأحد سبحانه في كل واحد (في كلمة هودية) إنما اختصت حكم هود عليه السلام بكونها أحدية.
لأن ظهور الاستقامة في كل شيء، لأنه على صراط ربه المستقيم فيما أراده منه يقتضى ظهور أحدية الأسماء الذاتية سبحانه وخفاء واحدية الأسماء الصفاتية، فيبطن الحكم وتظهر الحكمة. وهذه الحكمة ذاتية فهي أحدية وهو مشهد هود عليه السلام الغالب على بصيرته فيما أظهر الله تعالى لأهل الكشف بكلامه القديم من حال سريرته [شعر]
قال الشيخ رضي الله عنه:
(إن لله الصراط المستقيم ... ظاهر غير خفي في العموم
في صغير وكبير عينه ... وجهول بأمور وعليم
ولهذا وسعت رحمته ... كل شيء من حقير وعظيم
«ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم». فكل ماش فعلى صراط الرب المستقيم.
فهو غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ولا ضالون. فكما كان الضلال عارضا كذلك الغضب الإلهي عارض، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي السابقة.
وكل ما سوى الحق دابة فإنه ذو روح. وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره. فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم، فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه.
إذا دان لك الخلق ... فقد دان لك الحق
وإن دان لك الحق ... فقد لا يتبع الخلق
فحقق قولنا فيه ... فقولي كله الحق
فما في الكون موجود ... تراه ما له نطق
وما خلق تراه العين ... إلا عينه حق
ولكن مودع فيه ... لهذا صوره حق )
قال رضي الله عنه : (إن الله) سبحانه من حيث ذاته المطلقة الأزلية (الصراط)، أي الطريق (المستقيم) غير المعوج أصلا، وذلك هو حضرة أسمائه تعالى وصفاته التي تظهر الذات المطلقة فيها بقدم الأمر والوجه على حسب ما ترتبت الممکنات العدمية في الأزل شيئا فشيئا، فيشبه المشي في الطريق برفع قدم ووضع قدم أعلى من الأول.
كما قال تعالى في وصف نفسه أنه "رفيع ادرجات" [غافر : 15] وأنه "كل يوم هو في شأن" [الرحمن : 29]، وليس إلا الممکنات وأحواله المختلفة فهي الدرجات التي هو رفيعها كلها .
قال سبحانه : "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا ألعلم درجات" [المجادلة : 11]، وهي شؤونه أيضا التي هو كل يوم فيها في شأن وهذا اليوم كلمح بالبصر.
لأنه يوم الأمر الذي قدره سبحانه به في قوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمچ بالبصر ) [القمر: 50].
قال رضي الله عنه : (ظاهر) أي ذلك الصراط المستقيم لكل أحد (غير خفي) على أحد (في العموم)، أي في عموم الكائنات كلها .
(في كبير)، أي ظهور ذلك الصراط في كل شيء كبير (وصغير) من المحسوسات والمعقولات (عينه)، أي عين ذلك الكبير والصغير من غير اعتبار الصبغة العدمية بالعدم الأصلي (و) في كل (جهول) أيضا (بأمور) ظاهرة أو خفية وعليم) بأمر من الأمور وم بين ذلك .
قال رضي الله عنه : (ولهذا)، أي لكون صراطه المستقيم الذي هو عليه سبحانه ظاهر في كل شيء (وسعت رحمته) وهي ذاته الرحمة بالإيجاد والإمداد (كل شيء من) شيء (حقیر و) شيء (عظيم) في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء" [الأعراف: 156]، وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام أنه قال: ("وما من دابة إلا هو")سبحانه وتعالى وهی كناية عن ذاته العلية في مقام الأحدية("آخذ بناصيتها")، والناصية مقدم الرأس، والرأس موضع ظهور سلطان الروح المنفوخ في القلب.
ومن الرأس ينتشر ذلك السلطان في جميع الحواس الظاهرة والباطنة، وخص ناصيته لأنها موضع الحبال في الحيوان، ثم إذا أريد العموم في غير الحيوان أيضا من كل شيء قصد التشبيه فيما هو بمنزلة الرأس له والناصية.
وأيضا فإنه لما ذكر الدابة وأريد عمومها في جميع الكائنات كما سيأتي ذكر الناصية، لأن من عادة الدواب أن تؤخذ من نواصيها وتساق حيث يريد صاحبها ("إن ربی") الذي أشهده في مقام أحديته وهو ما کنی عنه بقوله هو وأتى بالهوية الذاتية المطلقة ("على صراط")، أي طريق واضح ("مستقيم") [هود: 56] غير ذي عوج.
وهو الذي أنزله سبحانه على نبينا صلى الله عليه وسلم وسماه القرآن، أي المجموع من القرء وهو الجمع، لأنه جامع من حيث هو ممسك كل حقيقة كونية ومجموع بها من حيث هي حقيقة في نفسها، لأنه عينها بالوجود وهي غيره بالصورة.
قال تعالى: " قرآن عربيا غير ذي عوج" [الزمر: 28].
قال رضي الله عنه : (فكل ماش) على أرض وجوده من الأشياء الممکنات (فعلی صراطه)، أي طريق الرب سبحانه (المستقيم) الذي لا اعوجاج فيه، لأنه عين إرادته القديمة توجه على الأعيان الممكنة، فمشى عليه بذاته ومشت الأعيان الممكنة أيضا عليه بذواتها ، فهو صراط سبق مشيه فيه على الاستقلال.
وهي مشت فيه بحكم التبعية له سبحانه ، لأنه آخذ بنواصيها (فهم)، أي المغضوب عليهم من الممكنات، والضالون منهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه الذي به مشوا على صراط الإرادة (ولا ضالون)، لأنهم مشو بحكم التبعية للماشي بالاستقلال، فهو مستقيم في مشيه ذلك، وهم كذلك مستقيمون بهذ الاعتبار.
قال رضي الله عنه : (فكما كان الضلال) الذي اتصف به من اتصف (عارضا له) في الحياة الدنيا على أصل خلقته وفطرته (كذلك الغضب الإلهي) المتصف به سبحانه على من غضب عليهم (عارض) أيضا ظهور اتصافه به عندنا وإن كان هو أيضا من جملة الحضرات الإلهية القديمة.
لكن ظهوره إنما هو بظهور الأحوال في العبد المقتضية لظهوره والأحوال في العبد المقتضية لظهوره، خلاف الأصل من العبد، فكذلك هو في الحضرات الإلهية خلاف الأصل من الحق.
(والمآل)، أي المرجع للكل بعد زوال خلاف الأصل من الطرفين : طرف العبد وطرف الرب وهو المسمى بالعارض (إلى الرحمة التي وسعت كل شيء) وهو الوجود المطلق، وحيث وسعت كل شيء، فكل شيء فيه عينها، وقد انمحت الصور التي تتمايز الأشياء في نفسها بحكم قوله سبحانه : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88].
ولم يسعها شيء أصلا، ولهذا تعددت، فالعارض الذي أطلق على ضلال العبد وغضب الرب راجع إلى الصورة الممكنة العدمية.
لأنها تعرض اللوجود المطلق فتقيده، والقيد منه عين غضبه، وتعطي الممكن وجودة بجهلها الأصلي الذي هو عين عدمها، فيكون الضلال (وهي) الرحمة (السابقة) إلى كل حقيقة كونية من الأزل، لأنها عينها، ولصورة أمر عارض لها منها كما ذكرنا .
قال رضي الله عنه : (وكل ما سوى الحق) تعالى من الممكنات (دابة فإنه)، أي كل ما سوى الحق (ذو روح) لظهور صورته في الحس أو العقل عن الصورة الأمرية الروحانية وقيامها بها.
فالأرواح مختلفة باختلاف صور أجسامها، لأن صور أجسامها كانت في غيبها فصارت هي في غيب صور أجسامها، فمنها أرواح معنوية، لأن صور أجسامها معاني عقلية أو وهمية، ومنها أرواح حسية، لأن صور أجسامها حسية، ومنه أرواح جمادية وأرواح نباتية وأرواح حيوانية وأرواح إنسانية وأرواح نورانية ملكية وأرواح نارية جنية .
وكل هذه النسب باعتبار صور أجسامها التي ظهرت من غيبها، فصارت هي في غيب صور أجسامها فسميت بذلك نفوسنا، فإذا رجعت كما كانت سمیت قلوبة فكانت مؤمنة، ولا بد أن تؤمن كلها.
ولهذا قال تعالى : "يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَ لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ" [الأنعام: 158]، وهو نفع اللذة لا نفع المعرفة، فإن نفع المعرفة حاصل للكل ونفع اللذة نفع الجنة ونفع المعرفة حاصل لأهل النار أيضا .
قال تعالى في حق الكافر :" فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" [ق: 22]، فإذا كانت القلوب مؤمنة وسعت الرب سبحانه كم قال: «وسعني قلب عبدي المؤمن» وهذا هو المال إلى الرحمة.
قال رضي الله عنه : (وما ثم)، أي هناك في هذا الوجود الحادث (من يدب) على أرض نفسه (بنفسه) أصلا (وإنم يدب بغیره) فالأرواح تدب بالأمر الإلهي، والصور تدب بالأرواح (فهو)، أي كل ما هو في هذا الوجود الحادث من أرواح وصور (يدب بحكم التبعية الذي هو على الصراط المستقيم) وهو الله تعالى.
ولهذا سماه صراطا ، أي طريق (فإنه لا يكون صراطا إلا بالمشي عليه)، ولولا المشي عليه ما كان صراطا.
قال الشيخ رضي الله عنه في بقية هذا المبحث من النظم (شعر):
(إذا دان)، أي انقاد وأطاع (لك) يا أيها العارف بالله تعالى (الخلق)، أي المخلوقات كله أو بعضها (فقد دان)، أي أطاع (لك الحق) سبحانه على حسب طاعة الخلق كلا أو بعضا، لأنهم إذا مشوا على الصراط المستقيم بحكم التبعية له
الزم ذلك المذكور، والمسمى خلقا هو الحق الذاتي من حيث الوجود، والمسمى حقا هو الحق الصفاتي الأسمائي من حيث الشهود، والحق المشهود تابع للحق الموجود، لأن الحق الموجود وهو الأصل، فإذا دان لك يا أيه العارف به فقد دان لك الحق الصفاتي الاسمائي بالأولى والأحرى.
قال رضي الله عنه : (وإن دان لك) يا أيه العارف (الحق) سبحانه وهو الظاهر لك من حيث شهودك (فقد لا يتبع) في الإطاعة لك (الخلق) من حيث الوجود الذاتي كما ذكرنا ، لأن الأصل لا يصير تبعا أصلا، (فحقق).
أي اعرف على وجه التحقيق (قولنا فيه)، أي في الحق تعالى هذا القول المذكور ولا تحتجب عنه بالألقاب والتسمية (فقولي كله الحق)، لا غيره وإن تسمى بخلق من جهة وبحق من جهة أخرى.
قال رضي الله عنه : (فما في) هذا الكون الحادث شيء (موجود) أصلا (تراه) يا أيها الإنسان محسوسا كان أو معقولا ساكتا (ما)، أي ليس (له نطق)، أي تكلم أصلا بل كل الكائنات ناطقة.
قال تعالى: " الذي أنطق كل شيء " [فصلت: 21] ولا يلزم أن يكون كل النطق في عالم واحد، فإن الله تعالى رب العالمين، وكل عالم ناطق في عالمه بكلام فصيح يسمعه ويفهمه كل من دخل في ذلك العالم بعد تجرده في عالمه هو.
أرأيت بأن النائم في مكان لما تجرد عن عالم نطقه وتكلمه بين أمثاله من بني آدم ودخل في عالم آخر من عوالم الله تعالی کیف نطق وتكلم مع أمثاله في ذلك العالم، وسمع نطقهم وتعليمهم، وهو في ذلك المكان نائم ساکت ل نطق له ولا تكلم أصلا عند أمثاله في عالم يقظة من منامه.
ولا هو يسمع بنطق من تكلم عنده في ذلك المكان، وكم لله سبحانه في طي الوجود عوالم كثيرة لا يحيط بعددها إلا الله تعالی وجميعه عامرة بالمخلوقين الناطقين المتكلمين بالكلام المسموع المفهوم والله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور.
قال رضي الله عنه : (وما خلق)، أي مخلوق من مخلوقات الله (تراه العين) الباصرة من المحسوسات والعين الفاهمة من المعقولات (إلا عينه)، أي عين ذلك الخلق يعني هويته وحقيقته القائمة عليه بما کسب من أحواله (حق)، أي أمر إلهي موجود وهو وجود مطلق قائم بنفسه وقيوم على ذلك الخلق.
ولكن هذا الحق (مودع) بصيغة اسم المفعول (فيه)، أي في ذلك الخلق، وهذا الإيداع باعتبار عدم ظهور ذلك الحق المودع إلا من ذلك الخلق المودع فيه وبالعكس والحق وجود صرف، والخلق عدم صرف.
فلا حلول ولا اتحاد لانتفاء المناسبة بينهم (لهذا)، أي للحق (صور)، أي صور ذلك الخلق جمع صورة كما قالوا في قوله تعالى: "ونفخ في الصور" [الكهف: 99]، أنه جمع صورة، فكل صورة
الواحد من الخلق (حق) بضم الحاء المهملة، أي وعاء ساتر للحق سبحانه ، فلا يظهر الحق إلا إذا فنيت تلك الصورة وانفتح الحق بالضم وانكسر ذلك الوعاء.
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة.
فإن الله تعالى يقول : «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش به ورجله التي يسعى بها.
فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد. فالهوية واحدة والجوارح مختلفة.
ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح، كالماء حقيقة واحدة مختلف في الطعم باختلاف البقاع، فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج، وهو ماء في جميع الأحوال لا يتغير عن حقيقته وإن اختلفت طعومه. )
قال رضي الله عنه : (اعلم) يا أيها السالك (أن العلوم الإلهية)، أي المنسوبة إلى الإله تعالى (الذوقية)، أي التي لا تنال إلا بالذوق والكشف دون الفكر والخيال (الحاصلة لأهل الله تعالی)، أي الطائفة المنسوبين في إيجادهم وإمدادهم عندهم إلى الله تعالی المنقطعين عن كل ما سواه المتصلين بجنابه سبحانه .
قال رضي الله عنه : (مختلفة) تلك العلوم في نفسها متفاوتة وضوحا وانکشافة (باختلاف القوى الحاصلة) لأهل الله تعالى (منها)، أي من تلك العلوم فإنها تمد أهل الله تعالى من طرف الحق تعالی بالقوة الأزلية.
وتختلف في وضوحها وانکشافها لهم باختلاف ما قبلوا بسببها من ظهور القوة الأزلية بهم (مع كونها)، أي تلك العلوم من طرف الحق سبحانه (ترجع إلى عين واحدة) هي عين العلم الإلهي القديم الذي هو نفس الوجود المطلق من حيث هو ينبوع كل ما سواه تعالى.
وذلك مشهودة لكل (فإن الله تعالى يقول) في الحديث القدسي: "ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته (كنت سمعه)"، أي سمع ذلك العبد (الذي يسمع به) إذا سمع (وبصره الذي يبصر به) إذا أبصر (ويده التي يبطش بها) إذا بطش (ورجله التي يسعى بها) إذا سعی.
قال رضي الله عنه : (فذكر) تعالى (أن هويته)، أي ذاته المطلقة (عين الجوارح)، أي الأعضاء الإنسانية (التي هي عبد العبد) مع قطع النظر عن صورة الجوارح المسماة باليد والرجل والسمع والبصر.
فإنه ممکنات عدمية بالعدم الأصلي وظهورها موجودة إنما هو بمحبة الله تعالی لذلك العبد الغافل المحجوب بحجاب نفسه، وكونه سبحانه عينها كلها، ولكن ذلك العبد غير عالم بذلك وغير ملتفت إليه لكفرانه نعمة ربه ، بسبب عدم تقربه إليه تعالی بالأعمال الصالحة، ليعرف ربه بذلك ويطلعه على ما هو معامله به .
قال رضي الله عنه : (فالهوية) الإلهية (واحدة) من حيث هي (والجوارح) في العبيد (مختلفة) كثيرة (ولكل جارحة) في كل عبد عارف (علم من علوم الأذواق) المختصة بها الأولياء میراثا عن الأنبياء عليهم السلام (يخصها)، أي يخص ذلك العلم تلك الجارحة من جوارح ذلك العبد حاصل ذلك العلم لتلك الجارحة .
قال رضي الله عنه : (من عين) إلهية (واحدة تختلف) تلك العين الواحدة في ظهورها وتجليه بمجموع ذلك العبد الذي هو آثارها (باختلاف الجوارح) من ذلك العبد (کالماء) الذي ينزل من السماء (حقيقة واحدة) لا يختلف في نفسه وإنم (يختلف في الطعم باختلاف البقاع) جمع بقعة.
أي الأماكن التي يكون فيها من الأرض (فمنه) ماء (عذب)، أي حلو (فرات)، أي صافي خفيف (ومنه) ماء (ملح أجاج)، أي مر، وينزل الماء أيضا في الأواني المختلفة المقدار، وفي الزجاجات المختلفة الألوان.
فيختلف مقداره بهيئة الإناء ويختلف لونه بلون الزجاجة (وهو)، أي الماء ماء في جميع هذه الأحوال لا يتغير أصلا (عن حقيقته) الواحدة التي هو عليها في نفسه (وإن اختلفت طعومه) باختلاف بقاع الأرض وتفاوت منابعه واختلفت مقادیره وهيئاته باختلاف أوانيه واختلفت ألوانه باختلاف زجاجاته .
قال تعالى: "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ولی خبث لا يخرج إل نكدا" [الأعراف: 58]، وهكذا أحوال علوم أهل الله تعالی علوم الأذواق المختصة بهم،
قال الشيخ رضي الله عنه : (وهذه الحكمة من علم الأرجل وهو قوله تعالى في الأكل لمن أقام كتبه: «ومن تحت أرجلهم». فإن الطريق الذي هو الصراط هو للسلوك عليه والمشي فيه، والسعي لا يكون إل بالأرجل.
فل ينتج هذا الشهود في أخذ النواصي بيد من هو على صراط مستقيم إلا هذا الفن الخاص من علوم الأذواق.
«فيسوق المجرمين» وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم بها، فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم- وهو عين الأهواء التي كانوا عليها- إلى جهنم، وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه.
فلم ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون.
فم أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة. )
قال رضي الله عنه : (وهذه الحكمة) التي هي معرفة اختلاف العلوم الإلهية باختلاف أهله (من علم الأرجل) بحسب ما تقتضيه الرجل في قولك : كنت رجله التي يسعى بها كما مر (وهو قوله تعالى في الأكل) الروحاني بعد الجسماني (لمن أقام كتبه) "ولو أنه أقاموا التورية والإنجيل وما أنزل إليهم ممن هم أكثرو من فوقهم ("ومن تحت أرجلهم" ) [المائدة: 66]، وهو علم سير الحقيقة الإلهية في مواطن الممكنات العدمية ونزولها في المنازل الاختصاصية .
(فإن الطريق الذي هو الصراط)، الذي سبق ذكره في قوله تعالى: "إن ربي على صراط مستقيم" [هود: 56] (هو)، أي الطريق لا يكون إل (للسلوك عليه والمشي فيه) فإنه مشتق من الطرق لأنه يطرق، أي يضرب بأقدام الناس و حوافر الدواب كما أن الصراط من الصرط وهو الابتلاع والازدراد، لأنه يبتلع المارة فيه ويزدردهم (والسعي لا يكون إلا بالأرجل فلا ينتج هذا الشهود) الإلهي الخاص.
قال رضي الله عنه : (في أخذ النواصي) من جميع الدواب التي تدب من العدم إلى الوجود (بید من هو على صراط مستقیم) وهو الرب سبحانه (إلا هذا الفن)، أي العلم (الخاص من علوم الأذواق) الوجدانية المختلفة باختلاف أهلها والكل من عين واحدة بل هو من تلك العين الواحدة .
(فيسوق الله المجرمين) من قوله تعالى : "ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " [مريم: 86] . (وهم)، أي المجرمون (الذين استحقوا)، أي تهيئووا واستعدوا فنالو
(المقام الذي ساقهم إليه) وهو جهنم وكان سوقهم منه تعالى إليه (بريح الدبور) وهي التي تهب من مغرب الشمس وكانت دبورة لأنها على إدبار النهار واختفاء الشمس، وتدل فيهم على أدبار أحوالهم واختفاء شمس الأحدية الإلهية تحت أراضي نفوسهم وانحجابها عنهم بهم.
وهذ من قوله تعالى: "فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذ عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها" [الأحقاف : 24 - 25] .
ولذ قال (التي أهلكهم) أي الله تعالى (عن نفوسهم بها) أي تلك الريح وهو عين الدمار (فهو)، أي الله تعالى (يأخذ بنواصيهم)، لأنه مالكهم (والريح) الدبور التي تدمرهم بإذن ربها (تسوقهم وهي)، أي تلك الريح (عین الأهواء ) النفسانية التي كانوا عليها في الحياة الدنيا کنی عنها بريح الدبور، لأنه نشأت فيهم من أجل احتجابهم عن شمس أحدية الحق تعالی .
كم تنشأ ريح الدبور عن غيبة الشمس وحركة غروبها في جهة المغرب إلى جهنم وهي البعد عن الله تعالى (الذين كانوا) أي المجرمون (يتوهمونه) بحضورهم مع الأغيار ول أغيار.
قال رضي الله عنه : (فلما ساقهم) الله تعالى (إلى ذلك الموطن) الذي يتوهمونه على خلاف ما هو عليه (حصلوا في عين القرب) الذي هم عليه في نفس الأمر في غير شعور منهم
فزال عنهم (البعد) الذي كانوا يتوهمونه بحكم المغايرة المجعولة فيهم بأهواء نفوسهم مع أنها عين أخذه تعالی بنواصيهم.
وعين سوقه لهم بتلك الأهواء المكنى عنها بالريح (فزال) من زوال البعد عنهم (مسمى جهنم في حقهم)، أي المجرمين يعني من جهة أذواقهم لا في حق غيرهم ممن يراهم في جهنم (ففازوا بنعيم القرب) من الله تعالى (من جهة الاستحقاق) بحكم العدل الإلهي (لأنهم)، أي هؤلاء المذكورين (مجرمون)، أي أصحاب جرائم، وهي الذنوب، وأكبر الذنوب الكفر والشرك .
قال رضي الله عنه : (فما أعطاهم هذا المقام الذوقي) الذي هو في أذواقهم فقط لا في ظواهرهم (اللذيذ) من جهة ما هو وجيع وأليم كضرب المحبوب لمحبه ضربة وجيعة من جهة ما هو ضرب، وفيه اللذة للمحب إذا انكشف له محبوبه، وأنه هو الضارب له من جهة أخرى ذوقية لا يعرفها إل المحب العاشق.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره :
وكل مآربي قد نلت منها سوى …… ملذوذ وجدي بالعذاب
""أضاف المحقق :
للحسين بن منصور الحلاج المولود سنة 244 هـ والبيت الثاني هو :
أريدك لا أريدك للثواب ….. ولكن أريدك للعقاب
فكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب ""
فقد أخبر أنه نال من محبوبه جميع مقاصده إلا مقصدا واحدا لم ينله فطلبه من محبوبه وهو اللذة العشقية التي تحصل بعذاب المحبوب له.
فقد طلب العذاب من محبوبه لتحصل له لذة العذاب بسبب ما عنده من المحبة، وأهل النار إذا دخلوا إليها وعذبوا بعذابها لا يخفف عنهم من عذابها شيئا إلى ما لا نهاية له وهو الخلود في حق الكافرين.
فهم محجوبون عن ربهم الذي هم قائمون به في أطوار وجودهم وهي الحضرة الأسمائية الإلهية كما قال تعالى : "إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " [المطففين : 15]، وموتهم من هذه الحياة الدنيا كشف عن غطائهم، أي غطاء نفوسهم المربربة بربهم فزالت نفوسهم واختفى عنهم ربهم فانحجبوا عنه.
وانكشفت لهم الهوية الذاتية التي تغني كل من شاهدها، فلهم بها نعیم القرب واللذة التي هي عين فنائهم عما هم فيه من عذاب الكفر.
وهذا الفناء ذوقي لا عيني فيجده الذائق، ولا يحس به المعاين، فهم في العذاب ظاهرة، والحجاب عن ربهم خالدون مخلدون في النار والزمهرير، لأن ربهم الذي هم محجوبون عنه في الآخرة ظهر بهم في الدنيا بأنواع الضلالات والكفر والجرائم وهم لا يشعرون.
وزين لهم أعمالهم، فلما ماتوا زالوا عن دعوى الوجود التي كان فيها الكل، قد ذاقوا نعیم الفناء الذي هو عين القرب إليه تعالى، كما ذاقه العارفون في الدنيا، فإذا ردوا بعد موتهم إلى تخیل وجودهم في عالم البرزخ وقع الحجاب لهم عن ربهم الذي أعطاهم عين ما اتصفت به نفوسهم.
فتعذبوا بعذاب النار على الجرائم التي كان بسبب اتصافهم بها عين حجابهم عن ربهم، وهم في الآخرة في جهنم أبد الآبدين، عذابهم من جهة حجابهم عن ربهم، ونعيمهم من جهة فنائهم الذي يرجعون فيه إلى أعيانهم الثابتة في الحضرة العلمية ، وهي لذة أهل الجنة أيضا، وكل ميت من حين الموت إلى الأبد كذلك.
ولأهل الجنة زيادة على ذلك لذة الرؤية لربهم الذي حجب عنه الكافرون وكما ذكرنا.
قال تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" [القيامة : 22 - 23].
وقال صلى الله عليه وسلم : «إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا» فالموت يقتضي کشف غطاء دعوی الوجود، وفيه لذة زوال تعب دعوى الوجود، وهي اللذة التي ستصحب أهل النار بل أهل الآخرة كلهم.
وإن كانوا يحيون بالحياة الأخروية الأبدية، فإنه غير الحياة الدنيوية الوهمية.
والحاصل أن التكليف بالأعمال في الدنيا إنما كان من حضرة الربوبية التي أشهدت كل إنسان على نفسه بالإقرار لها.
في قوله تعالى: «وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " [الأعراف: 172]، ثم إن هذه الحضرة جاءت منها المرسلون إلى الخلق يكلفونهم بمقتضى ما أخذ عليهم من الميثاق.
ولهذا قال عليه السلام: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا" فيقول: «هل من مستغفر فأغفر له» الحديث . رواه البخاري ومسلم.
فما قال ذلك إلا الرب لا غيره من الأسماء، فإذ عمل أهل الجنة للجنة، وأهل النار للنار كانت أعمالهم عين ما هو جزاؤهم إذا انقلبو بالموت من دعوى وجودهم إلى حضرة ثبوتهم.
فأهل الجنة يتنعمون في الجنة برؤية ربهم زيادة على نعيم الجنة بحسب أعمالهم الصالحة، وأهل النار يعذبون بالنار بحجابهم عن ربهم زيادة على عذابهم بالنار بحسب أعمالهم القبيحة.
فنعيم الرؤية لأهل الجنة نعيم روحانی ونعيم الجنة نعيم جسمانی.
وعذاب الحجاب لأهل النار عذاب روحانی، وعذاب النار عذاب جسماني.
والفريقان لهم لذة ذوقيه بمقام القرب الذاتي الإلهي يكونون فيه باطنة من حين زوال الحياة الدنيا إلى الأبد.
وأهل النار لا يزالون في الآخرة يتعذبون و" كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب" [النساء: 56].
وهو مع ذلك يمدهم من هذا المقام الذاتي بلذة القرب، ولهذا يحتملون ما يقاسونه من ألم العذاب في النار ما لولاه لذابوا في أقل قليل، وهم فيها يصطرخون وينادون : " يا مالك ليقض علينا ربك " ، فيقول لهم: "إنكم ماكثون" [الزخرف: 77]، حتى يضع الجبار قدمه في النار كما ورد في الحديث وينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط. رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وهذا كناية عن غلبة القرب الذاتي عليهم الذي فيه الكل ورسوخهم فيه، فعند ذلك يحصل في أذواقهم ما صرح به الشيخ المصنف قدس الله سره في هذا الكتاب وغيره من كتبه من اللذة بالعذاب مع بقاء عينه عذابا مؤلما موجعا.
وهذا البيان من فتوح الوقت والحمد الله على إنعامه (من جهة المنة)، أي الفضل الإلهي عليهم كما هو حال نعيم أهل الجنة .
قال : «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال : "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" وهذا عين الفضل .رواه الطبراني و صحيح ابن حبان ومسند أحمد .
قال رضي الله عنه : (وإنما أخذوه)، أي أخذ أهل النار هذا المقام الذوقي اللذيذ (بما استحقته حقائقهم)، أي حقائق نفوسهم وهي حضرات أمر ربهم القائم عليهم بما كسبوا في الدنيا وما جوزوا به في الآخرة (من أعمالهم التي كانوا عليها) في الدنيا واتصفوا بنتائجها في الآخرة ولا تستحق حقائقهم إلا عين العدل والفضل زيادة على ذلك وهو لأهل الجنة .
قال تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " [يونس: 26]. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ونعيم القرب الذاتي هو عين الحسني التي للذين أحسنوا ، والزيادة هي الجنة.
وأهل النار أحسن الله بهم في الدنيا ولم يحسنوا هم فلهم الحسنى من غير زيادة، لوجود الإحسان في حقائقهم.
ولهذ كانوا يرونه لما كانوا يسجدون کرهة في عين سجودهم للأصنام، لكن رؤية ذاتية في حضرة وجوده المطلق الذي هم موجودون به مع كل شيء عندهم قال تعالى : "ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها" [الرعد: 15].
وقال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " (الإسراء : 23).
وم قضی به تعالی واقع لا محالة (وكانوا)، أي المجرمون في السعي في أعمالهم في الدنيا التي هم عاملون لها (على صراط الرب المستقيم) وهو قيامهم بأسمائه تعالى (لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة)، أي هو على صراط مستقیم، وهو الله تعالی.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما مشوا بنفوسهم وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب.
«ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون»: وإنما هو يبصر فإنه مكشوف الغطاء «فبصره حديد». وما خص ميتا من ميت أي ما خص سعيدا في القرب من شقي.
«ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» وما خص إنسانا من إنسان. فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي.
فل قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود في خلق متوهم.
فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود.
وم عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول والخلق مشهود. فهم بمنزلة الماء الملح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه. )
قال رضي الله عنه : (فما مشوا) في أعمالهم تلك واكتسبوها في الدني (بنفوسهم وإنما مشوا) فيه بمن ساقهم إلى ذلك و اضطرهم إلى فعله مع علمهم بحكمة في الآخرة.
وإن كان ذلك العلم عندهم ظنا أو شكا أو جحودة بمقتضى ما قال ولقد وصلنا لهم القول فقامت عليهم حجته بمجرد وصول القول إليهم (بحكم الجبر لهم) على اختيارهم ذلك وإرادته فكان مآلهم قال رضي الله عنه : (إلى أن وصلوا إلى عين القرب) الذاتي الذي فيه الكل أزلا وأبدا . قال تعالى : " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَ تُبْصِرُونَ (85) " سورة الواقعة
قال رضي الله عنه : (ونحن) وهو كناية عن الوجود المطلق الظاهر بالممکنات العدمية (أقرب إليه)، أي إلى امرىء بلغت روحه الحلقوم، وأنتم حينئذ تنتظرون بلوغ روحه إلى ذلك (منکم) يا أيه الناظرون (ولكن لا تبصرون) أنتم هذا القرب المذكور (وإنما هو)، أي ذلك الميت (يبصر هذا) القرب الذاتي (فإنه)، أي ذلك الميت (مکشوف الغطاء) النفساني، فإن الموت من أوصاف النفوس.
وكذلك الحياة (فبصره)، أي ذلك الميت (حديد)، أي قوي في التحقق بذلك، ورؤية ذلك القرب وهو البصر الروحاني .
قال تعالى: "فكشفن عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" [ق: 22].
قال رضي الله عنه : (وما خص) تعالی بکشف الغطاء و حدة البصر (میتا من میت، أي ما خص سعيدة في القرب) الذاتي المذكور (من شقي) فقربه تعالى إلى كل شيء القرب الذاتي على السواء وهو الظهور بالوجود بعد ترك دعواه .
وقال تعالى أيضا : ("ونحن أقرب إليه")، أي إلى الإنسان ("من حبل الوريد") [ق: 16].
وهو العرق الذي يجري فيه الدم وتقوم به الحياة الدنيوية (وما خص) تعالى بهذا القرب (إنسانا من إنسان) بل عم الكل وهذا هو القرب الذاتي أيضا الذي هي عليه جميع الممکنات، علمه من علمه وجهله من جهله، فعالمه متنعم به دون جاهله في الدنيا، ولا جهل به في الآخرة للكل.
فإذا غلب على أحد أوجب نعيمه في الدنيا أو الآخرة، والقرب الآخر الاختصاصي وهو القرب الاسمائي حاصل في الدنيا لأهل الوصول ولأهل الجنة خاصة في الآخرة.
ولا ذوق لأهل النار فيه أصلا لا دنيا ولا آخرة وهو قوله تعالى : " ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى" [النجم: 8 - 9].
ولهذا وقع فيه التشبيه بقاب القوسين بخلاف القرب الأول الذاتي، فإنه لا تشبيه فيه أصلا لاقتضاء الفناء عن الوجود المشهود والرجوع إلى الثبوت المعهود.
قال رضي الله عنه : (فالقرب) الذاتي (الإلهي) المذكور هنا لله تعالى (من العبد لا خفاء به) أصلا (في الأخبار الإلهية) الواردة على ألسنة المرسلين.
ثم شرع في بيانه فقال : (فلا قرب أقرب من أن تكون هويته)، أي ذاته يعني وجوده تعالى المطلق الذي قام به کل شيء (عين أعضاء العبد) وعين (قواه) من حيث الظهور والوجود مع قطع النظر عن خصوص الصور الإمكانية العدمية بالعدم الأصلي .
قال رضي الله عنه : (وليس العبد) الذي لا يزال يتقرب بالنوافل كما ورد في الحديث ، فهو يشهد ذلك عيانا في ظاهره وباطنه (سوى هذه الأعضاء والقوى) الواردة في الحديث من حيث هي موجودة مشهودة، لا من حيث هي مسماة بالأسماء كاليد والرجل والسمع والبصر .
قال تعالى: "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم م أنزل الله بها من سلطان " [يوسف: 40] الآية.
فم عبدوا من الأصنام إلا مجرد الأسماء لأنهم ما عرفوا منها إلا ذلك ولو عرفوها حق المعرفة لعرفوا الله تعالى الذي قامت بوجوده.
وكذلك ما عرفوا من نفوسهم إلا مجرد أسماء الأعضاء والقوى، ولو عرفوا ذلك حق المعرفة لعرفوا الله تعالى.
فكان عين سمعهم وبصرهم ويدهم ورجلهم كما ورد في الحديث .
قال رضي الله عنه : (فهو)، أي العبد على الحقيقة (حق)، أي وجود مطلق قدیم (مشهود)، أي ظاهر يشهده كل أحد يعرفه أو يجهله أو ينكره (في خلق) من حيث الصور الإمكانية العدمية الظاهرة والباطنة (متوهم) وجوده ولا وجود له أصلا وسبب هذا التوهم غلبة النظر العقلي وسبب المعرفة غلبة النور الإيماني على العقل حتى يكون الدليل هو الله دون العقل إذا عرفت هذا. .
قال رضي الله عنه : (فالخلق) المتوهم أمر (معقول)، أي مدرك بالعقل (والحق) سبحانه وجود (محسوس مشهود عند المؤمنين) بالغيب من حيث هو غيب لا بما تصوروا من ذلك الغيب وربطوا بعقولهم وهم السالكون في طريق الله تعالى (و) عند (أهل الكشف) الروحاني (والوجود) الحق وهم العارفون المحققون (وما عدا)، أي غير (هذين الصنفين) من علماء الكلام وغيرهم من الفرق والعامة .
(فالحق) سبحانه (عندهم) أمر (معقول) يعقلونه بعقولهم ويضبطونه في خيالهم وتطمئن نفوسهم إلى ذلك.
والعلماء منهم ينزهونه عن مشابهة المحسوسات وبقية المعقولات غيره (والخلق) عندهم (مشهود) لهم محسوس معقول (فهم) عند أهل الكشف والوجود في نظر أذواقهم (بمنزلة الماء الملح الأجاج)، فإن الحق الظاهر بهم التبس عليهم بهم فغلبت صورهم الممكنة على وجوده المطلق فيهم.
فادعوا الوجود فتقيد المطلق عندهم بهم، كالماء النازل من السماء إذا خالط الأرض فغيرته وأظهرته ملحا أجاجا، ولهذ لما غاب عنهم منهم قائمون به في ظواهرهم وبواطنهم
هم معترفون بذلك لكن اعترافا غيبيا ولم يجروا على مقتضاه، وهو الحق تعالی عبدوه معقولا وعرفوه متخيلا بخيالهم وأنكروه محسوسا وكفروا من يقول بذلك ولم يؤمنوا بالكتاب كله والله يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
قال رضي الله عنه : (والطائفة الأولى) المنقسمون إلى صنفين سالكين و واصلين، الحق عندهم هو الظاهر في جميع المظاهر.
والخلق هو المعقول المضبوط من ظهوره سبحانه في المحسوس والمعقول، فهم قد آمنوا بالكتاب كله وصدقوا بالحق مطلقة موجودة حقا على ما هو عليه في الأزل ولم يلتبس عليهم بم عقلوه من خلقه في المحسوس والمعقول فكانوا (بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه) الذي نزل من السماء وبقي على أصل وصفه لطيب الأرض التي وقع عليه فإنها تشربته ثم أخرجته منها على ما هو عليه في نفسه.
فكأنم ائتمنت على أمانة فأدتها على ما هي عليه ولم تخن فيها شيئا، ولم تتصرف في شيء منها أصلا، بخلاف الطائفة التي ذكرت قبل هذه فإنه ائتمنت فخانت، وغيرت ما أودعته، وتصرفت فيه بعقولها، وخاضت بتخيلها .
قال الشيخ رضي الله عنه الله عنه : (فالناس على قسمين: من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها، فهي في حقه صراط مستقيم.
ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر.
فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة.
فهذ علم خاص يأتي من أسفل سافلين، لأن الأرجل هي السفل من الشخص، وأسفل منها ما تحته وليس إلا الطريق. فمن عرف أن الحق عين الطريق عرف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه جل وعلا تسلك وتسافر إذ لا معلوم إلا هو، وهو عين الوجود والسالك والمسافر.
فل عالم إلا هو فمن أنت؟ )
قال رضي الله عنه : (فالناس) في قسمة أخرى (على قسمين) :
فالقسم الأول من الناس (من يمشي) في الدني (على طريق يعرفها)، أي يعرف تلك الطريق (ويعرف غايتها)، أي ما ينتهي إليه أمر تلك الطريق وم تنتجه من السعادة الأبدية .
(فهي)، أي تلك الطريق (في حقه)، أي في حق هذا القسم (صراط مستقیم)، أي واضح عنده غیر معوج لأنه على بصيرة من أمره، فإذا دعا إليها كانت دعوته على بصيرة كالأنبياء والأولياء، ومن
تابعهم من المؤمنين بهم وبما هم عليه والمسلمون لهم ما هم فيه من غير تحكم عقلي ولا تصرف خيالى .
وهو قوله تعالی : "محمد رسول الله والذين معه" [الفتح: 29] الآية ، أي معه بالإيمان بما هو مؤمن به على حد ما هو مؤمن به .
وهو قول بلقيس : "وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" [النمل: 44]، ولو أسلمت لا مع سليمان لم تكن أسلمت بل نازعت بعقلها ونافست بنفسها.
فاعلم ما هو الإيمان والإسلام، ولا يلتبس عليك بمجادلات أهل الكلام من حيث هم أهل الكلام؛ ولهذا ذم السلف علم الكلام كالإمام الشافعي رحمه الله تعالی علیه وغیره.
وقولي : من حيث هم أهل الكلام إذ لا يلزم من ذم العلم أهله فإنه قد يكون عندهم لأجل رد الخصوم ورد المبتدعة لا للاعتقاد و كتعلم الفلسفة والسحر للرد ل للعمل.
قال رضي الله عنه : (و)القسم الثاني (من الناس من يمشي في الدني على طريق يجهلها)، أي يجهل تلك الطريق (ول يعرف غايتها)، أي ما تنتهي إليه وما تنتجه (وهي)، أي هذه الطريق المجهولة للماشي فيها عن الطريق الأولى (التي عرفها الصنف الآخر) الأول إذ الطريق واحدة لا يمكن تعددها.
لأن المقصود واحد وهو طلب الحق ونيل السعادة الأبدية به، ولكنها اختلفت وتعددت باختلاف أحوال الماشين عليها والسالكين فيها، والكل سالكون فيها .
قال تعالى: "وهو عليهم عمى" [فصلت : 44]، وقال تعالى: "يضل به كثيرا ويهډی به، كثيرا "[البقرة: 26]، فهو واحد حق، وإن تفاوتت رتب المهتدين به والضالین به التفاوت استعدادهم
فالعارف بالطريق الحق (يدعو إلى الله) تعالى كل من قبل دعوته (على بصيرة) من ذلك الطريق.
قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" [يوسف : 108]، فانظر كيف الاتباع يلحق بالمتبوع فيقتضي الشركة في البصيرة والدعوة عليها، وما ضل من ضل إلا بادعائهم المتابعة وسلوكهم بعقولهم و أنظارهم، وتصرفهم بخيالهم فيما أمر وبالإسلام له والإيمان به .
قال رضي الله عنه : (وغير العارف) بالطريق الحق، وإن كان ماشيا عليه إذ لا طريق غيره لكن ل يعرفه المعرفة الذوقية أو معرفة التصديق بها في أهلها (يدعو إلى الله) تعالى أيضا غيره من كان يقبل دعوته لكن (على التقليد) لغيره لا على البصيرة .
(و) على (الجهالة) لا على العلم الذوقي فهو الضال المضل والله يعلم المفسد من المصلح.
(فهذا) العلم المذكور هنا في شأن الحق والخلق وما الناس عليه فيهما من أحوال الطريق (علم خاص) لا يعرفه إلا العارفون .
قال رضي الله عنه : (يأتي) إلى العارف (من) جهة (أسفل سافلين) وهو عالم الصور الجسمانية (لأن الأرجل هي)
الجهة (السفل من الشخص) الماشي بها في الطريق (وأسفل منها)، أي من الأرجل (م تحتها)، أي تحت الأرجل (وليس) الذي تحتها (إلا الطريق) الذي هي ماشية فيه .
(فمن عرف الحق) تعالى أنه (عين الطريق) الذي هو ماشي فيه، لأنه الحامل له بحكم قوله تعالى : "وحملناهم في البر والبحر" [الإسراء: 70].
والطريق يحمل الماشي فيه وهو المحيط بهم بحكم قوله سبحانه : "وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس" [الإسراء: 60]. وقوله :والله "بكل شيء محيط" [فصلت: 54].
والقيوم على جميع أحوالهم الظاهرة والباطنة بحكم قوله : "قل من يملك "السمع والأبصار والأفئدة » [النحل: 78]، وقوله: "الله لا إله إلا هو الحى القيوم" [البقرة : 255]
قال رضي الله عنه : (عرف الأمر)، أي الأمر الإلهي (على ما هو عليه) في نفسه عرف أنه تعالى هو الصراط المستقيم الذي جميع المخلوقات ماشون عليه فهو الماشي بهم فيه بحكم قوله سبحانه کما مر: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " [هود: 56].
ولم كان كل صراط مستقیم علم الله تعالى الخلق أن يقولوا في فاتحة الكتاب : "اهدنا الصراط المستقيم * صرط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " [الفاتحة: 6 - 7]. وهو الصراط الخاص المعروف عند أهله للماشين.
قال رضي الله عنه : (فإن فيه)، أي الحق (جل وعلا نسلك) من أنفسنا إلى ربنا (ونسافر إليه) تعالی إذ لا معلوم على الحقيقة (إلا هو) سبحانه (وهو) تعالی (عين السالك والمسافر) أيضا على الحقيقة. لأنه الوجود المطلق الذي قام به كل شيء معه أصلا.
فهو قائم بنفسه وإذا كان كذلك (فلا عالم) على الحقيقة في جميع العوالم (إلا هو) سبحانه ولا شيء سواه.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن أنت؟ فاعرف حقيقتك وطريقتك، فقد بان لك الأمر على لسان الترجمان إن فهمت.
وهو لسان حق فلا يفهمه إلا من فهمه حق، فإن للحق نسبا كثيرة و وجوها مختلفة.
أل ترى عادا قوم هود كيف «قالوا هذا عارض ممطرنا» فظنوا خيرا بالله تعالى وهو عند ظن عبده به.
فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب، فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقى الحبة فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد فقال لهم: «بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم»: فجعل الريح إشارة إلى م فيها من الراحة فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة، )
قال رضي الله عنه : (فمن أنت) يا أيها السالك (فاعرف حقيقتك) التي هي ذلك الوجود المطلق، فإنك به أنت ل بنفسك، وما عداه من حسك وعقلك ومحسوسك ومعقولك أمور ممکنات علمية بالعدم الأصلي قائمة به سبحانه.
(و) اعرف (طريقتك) التي أنت سالك فيها ما هي؟
فإنه هو أيضا لأنك سالك به فيه إليه (فقد بان)، أي انكشف لك الأمر الإلهي (على لسان الترجمان) وهو المصنف رضي الله عنه .
قال رضي الله عنه : (إن فهمت) ما ذكر لك هنا، وإن لم تفهم فاستعن عن فهمه بالتصديق به على حد ما هو الصواب في علم قائله، وسلمه له على ذلك الحد الذي يعلمه قائله.
واعترف بقلبك وقالبك العجز عنه مع علوه واحترامك له، واحذر أن تنكره أو تسيء به ظنا من عدم فهمك له، فإن الله تعالى يمدك بنور منه إن آمنت به وأسلمت له ووكلته لفهم قائله، ويمدك الشيطان بإذن ربه بظلمة تقتضي خسرانك وحرمانك إن أنكرته أو أسأت به ظنا لعدم فهمك له .
قال رضي الله عنه : (وهو)، أي لسان الترجمان المذكور (لسان حق) من قوله سبحانه في حديث نبيه صلى الله عليه وسلم : «ولسانه الذي ينطق به» رواه البيهقي وأبو يعلى والبزار وغيرهم .
قال رضي الله عنه : (فلا يفهمه)، أي لسان هذا الترجمان (إلا من فهمه حق) أي يفهمه بالحق لا بنفسه وعقله عن كشف منه وحضور (فإن للحق تعالی) من حيث هو وجود مطلق (نسبا) جمع نسبة (كثيرة) نعت للنسب والنسبة مجرد إضافة لا وجود لها في نفسها .
فله تعالى من الحيثية المذكورة إضافة إلى كل شيء معدوم بالعدم الأصلي فيظهر موجود بوجوده سبحانه (ووجوها)، أي تلك النسب يعني بوجوه ما هي مضافة إليه (مختلفة)، أي كل نسبة إلى شيء محسوس أو معقول أو موهوم بمقتضى استعداد ذلك الشيء لإضافة الوجود إليه، والأشياء مختلفة الاستعداد فهي مختلفة القبول فهي مختلفة النسب.
قال رضي الله عنه : (ألا ترى) يا أيها السالك وهو بيان الاختلاف النسب لاختلاف القبول الاختلاف الاستعداد (عادا) الأولى وهم (قوم هود عليه السلام كيف قالوا) عن السحاب الذي رأوه مستقبل أوديتهم ("هذا عارض")، أي سحاب ("ممطرنا") [الأحقاف : 24].
أي منزل علينا المطر فظنوا خيرا بالله سبحانه وإن كانوا لم يعرفوا الحق الذي هو عين الوجود المطلق الظاهر لهم في صورة السحاب الممكنة العدمية .
ولم يروا ولم يعرفوا غير تلك الصورة الممكنة العدمية، المسماة بالسحاب الظاهرة لهم بقيومية الحق الذي هو الوجود المطلق.
فإنهم في نفس الأمر حين ظنوا أن ذلك السحاب فيه مطر سينزل عليهم فيسقي أراضيهم فتنبت لهم فينتفعون بذلك.
قد ظنوا خيرا بالله سبحانه المتجلي عليهم في تلك الصورة السحابية العدمية بالعدم الأصلي، بحيث لم يتغير سبحانه حين تجليه بها عن إطلاقه القديم.
ولم يتقيد بها إلا عند من أراد أن يتجلى بها عليهم، وإن كانوا لم يشعروا بذلك.
فإنهم لم يشعروا بتجليه سبحانه عليهم في صورة نفوسهم وأجسامهم، بل صورة كل شيء محسوس لهم ومعقول كما ذكرنا فضلا عن أن يشعروا بالتجلي في تلك الصورة السحابية به.
والتكلم الآن من حيث الحقائق لا من حيث الظواهر العقلية فاقتضى ذلك (وهو)، أي الله سبحانه موجود (عند ظن عبده) كما ورد في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا».
فإن خصصنا العبد بعبد الاختصاص كان المراد بظنه يقينه من قوله تعالى : "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون" [البقرة: 46].
وإن عممنا في العبد كما هو المناسب هنا كان باعتبار ظهوره تعالى في كل صورة لكل شيء، وإقبال كل شيء على ما هو مطلوبه من صورة كل شيء.
کالعطشان تجلى له في صورة الماء فظن به سبحانه خيرا من حيث لا يشعر بتجليه عليه السلام.
كذلك فكان سبحانه موجودا عند ظن عبده به بعين ما ظنه به من إزالة العطش عنه.
وهكذ في كل عبد من أهل السموات والأرض .
قال تعالى : "إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " [مريم: 93 - 95].
قال رضي الله عنه : (فاضرب لهم)، أي لقوم هود عليه السلام الحق سبحانه (عن هذا القول) وهو قولهم: "هذا عارض ممطرنا " [الأحقاف : 24] .( فأخبرهم) سبحانه في الإضراب المذكور (بما هو أتم) لهم وأكمل (وأعلى في القرب) إلى جنابه لأنهم ظنوا به خيرا، وإن لم يشعروا بمن ظنوا به الخير (فإنه) سبحانه (إذ أمطرهم) وأعطاهم عين ما ظنوه (فذلك)، أي المطر (حظ).
أي نصيب (الأرض وسقي الجهة)، أي البستان وحائط النخل الذي لهم (فما يصلون) هم (إلى نتيجة ذلك المطر) بخروج الثمار والزروع و انتفاعهم بذلك (إلا عن بعد) من الأسباب (فقال لهم) سبحانه في ذلك الإضراب (بل هو)، أي الوجود المطلق الحق (ما)، أي الذي (استعجلتم به)، أي طلبتم أن يعجلكم، يعني يأتيكم بعجلة وسرعة من كثرة شوقكم إليه من حيث لا تشعرون.
واستعجالهم به كان في صورة العذاب الذي تخيلوه بنفوسهم، فكذبوا به حين أخبرهم به نبيهم. قال تعالى : "ويستعجلونك بالعذاب" [العنكبوت : 53]، وهم كذلك.
ثم قال تعالى إخبارا عما جاء به ذلك العارض الذي رأوه فظنوه ممطرا هو (ريح فيها)، أي في تلك الريح ("عذاب أليم" )، أي موجع (فجعل) سبحانه (الريح إشارة إلى ما) كان لهم (فيها)، أي في تلك (من الراحة لهم) من إتعابهم (فإن بهذا الريح) التي هي "ريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية " [الحاقة: 68] .
قال رضي الله عنه : (أراحهم) سبحانه، أي أراح نفوسهم وأرواحهم (من هذه الهياكل)، أي الأجسام التي كانت لهم (المظلمة) بظلمات الغفلة والجهل بالله تعالى، والعمى عن الحق والتكذيب به، والغرور بالحياة الدنيا .
(و) من هذه (المسالك)، أي الطريق التي كانوا سالكين فيها بعقولهم وخيالاتهم فكانوا ضالين مضلين (الوعرة)، أي ذات الوعر غير السهل (والسدف) جمع سدفة وهي الظلمة (المدلهمة)، أي الشديدة السواد المهلكة، وهي ظلمات العقول والنفوس الضالة عن الحق.
قال الشيخ رضي الله عنه : (و في هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، إلا أنه يوجعهم لفرقة المألوف. فباشرهم العذاب فكان الأمر إليهم أقرب مما تخيلوه فدمرت كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» وهي جثتهم التي عمرتها أرواحهم الحقية.
فزالت حقية هذه النسبة الخاصة وبقيت على هياكلهم الحياة الخاصة بهم من الحق التي تنطق بها الجلود والأيدي والأرجل وعذبات الأسواط والأفخاذ.
وقد ورد النص الإلهي بهذا كله، إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته «حرم الفواحش» وليس الفحش إلا ما ظهر.
وأم فحش ما بطن فهو لمن ظهر له. )
قال رضي الله عنه : (وفي هذ الريح) المريحة مما ذكر (عذاب أي أمر) من الأمور الإلهية (يستعذبونه)، أي يجدونه عذبا لذيذا (إذا ذاقوه) من حيث كشفهم عن حقائق نفوسهم الهالكة الفانية بظهور الوجود المطلق القيوم عليهم بالموت الذي ذاقوه.
والنفوس هي التي تذوقه أولا عذابا مؤلما، فإذا زال حکم مغایرتها واستقلالها بالوجود ذاقته عذابا لذيذا بحکم الفناء عنه كما سبق، ولكن إن غلب عليهم هذا المشهد الذوقی، وهو غالب بحكم الموت المقتضي لكشف الغطاء النفساني الذي كانوا فيه.
قال رضي الله عنه : (إلا أنه)، أي هذا الأمر الذي يستعذبونه (يوجعهم) من جهة حكم نفوسهم التي ماتوا عليها (فرقة المألوف لهم) من الدعوى القائمة بنفوسهم والغفلة التي كانوا يتوهمونها نفس الأمر، فظهر لهم ما لم يكن في حسابهم.
قال تعالى : "وبدا لهم من الله ما لم يكونا يحتسبون" [الزمر: 47].
وذلك عين العذاب وعين تألمهم به، فإن الجعل المتولد من الزبل يتألم برائحة الورد ويتعذب بها، ولهذا قال تعالى في حق أصحاب الكهف السالكين في مسالك الفتوة على طريق خاص خلاف المعهود النبینا : "لو أطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا" [الكهف: 18].
وذلك لخلاف المألوف له في مسالك النبوة المحمدية من الأنس بالحق في الخلق، وهم في الوحشة من الخلق في الحق، والأنس بالحق في الحق، ولهذا آووا إلى الكهف لينشر لهم ربهم من رحمته، وهو عين الأنس به فيه.
ولو كان لهم به أنس في الخلق كمحمد صلى الله عليه وسلم لآووا إليه تعالى لا إلى الكهف في عين ما آووا إليه من الكهف، ولكن كمال الوحشة التي قامت بهم أدتهم إلى ذلك ففروا من الخلق إلى الخلق بالحق عكس ما فعل محمد صلى الله عليه وسلم حين قال تعالى: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى" [الكهف: 110].
فإنه فر من الحق إلى الحق بالخلق وهو نفسه، ولما كان حاله على النقيض من حالهم .
قال تعالى :"ما قال لهم فلو اطلع عليهم صلى الله عليه وسلم لأدركته الوحشة التي في نفوسهم وأخذه الرعب الذي عندهم ووحشتهم بالحق من الخلق ورعبهم كذلك ولهذا قالو : "عمن هم خائفون منهم " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " [الكهف: 20]، ومحمد صلى الله عليه وسلم قاسي من قومه بالفعل أكثر مما توهموه من قومهم بالقوة، ولم يستوحش ولم يخف .
ولم كانت هذه الوحشة وهذا الرعب فيهم بالحق لا بدعوى نفوسهم، أخبر الله تعالى أن ذلك كان يؤثر في النبي صلى الله عليه وسلم لو اطلع عليهم وهم في تلك الحالة.
قال رضي الله عنه : (فباشرهم)، أي نزل بقوم هود عليه السلام (العذاب) المذكور (فكان الأمر) الإلهي الذي هو نفس الأمر إليهم (أقرب مما تخيلوه) بنفوسهم وعقولهم من نزول المطر بذلك السحاب .
ثم ظهور ذلك الريح لهم عذاب أليم (فدمرت) تلك الريح كل شيء أتت عليه منهم (بأمر ربها) القائمة به، فالمدمر إنما هو أمر ربها الممسك لها في صورتها، فالريح مدمرة بأمر ربها استعانة، وأمر ربها مدمر بها ملابسة ومصاحبة، وهذان المعنيان للباء لا تنفك الباء عنهما في اللغة العربية ، وهما الأصل في جميع المعاني لحروف الباء.
قال رضي الله عنه : (فأصبحوا)، أي ذلك القوم المدمرون بالريح (لا ترى) يا أيه الناظر (إلا مساكنهم) التي كانت تسكنها نفوسهم وعقولهم الهالكة في الله المدمرة بأمره سبحانه.
(وهي)، أي تلك المساكن (جثثهم) جمع جثة وهي أجسامهم (التي عمرتها) في الحياة الدنيا (أرواحهم الحقية)، أي المنسوبة إلى الحق سبحانه من حيث إنه ظهور أمره بحكم قوله تعالى: " قل الروح من أمر ربي" [الإسراء: 85] .
قال رضي الله عنه : (فزالت) بدمارهم (حقيقة هذه النسبة)، أي نسبة أرواحهم الحقية إلى تعمير أجسامهم وهي النسبة النفسانية الخاصة بهم (وبقيت على هياكلهم)، أي أجسامهم (الحياة الخاصة بهم)، أي بالهياكل الجسمانية من حيث هي هياكل جسمانية وهي حياة روح التركيب الجسماني وهي الحياة الجمادية كحياة الأحجار .
و (من الحق)، فإن الحياة السارية في جميع العوالم من حضرة روح الله الذي هو مظهر أمره سبحانه من اسم إلهي منقسمة إلى أربعة أقسام مفرقة في العوالم، وقد جمعت كلها في الإنسان بما هو إنسان .
فالأولى الحياة الجماديةوروحها المنفوخ :
يقتضي إمساك أجزاء الجماد الطبيعية والعنصرية، فتظهر من ذلك نسبة خاصة هي نفس ذلك الجماد من حيث ترکیب طبيعته ومزاجه من حيث ترکیب عناصره، وموته زوال هذه الحياة عنه بانفكاك تركيبه وتفريق أجزائه الطبيعية والعنصرية .
والثانية الحياة النباتية وروحها المنفوخ :
يقتضي زيادة على الحياة الجمادية نموا وظهورا من بطون الكليات الطبيعية والعنصرية، وموته زوال حياته هذه بقطع قواه المستعدة للنمو والظهور المذكور.
والثالثة الحياة الحيوانية وروحها المنفوخ :
يقتضي زيادة على الحياة الجمادية والحياة النباتية حركة وسكونا بمقتضى الحس في المحسوسات، وموته زوال هذه الحياة عنه ببطلان الحس من القلب وانقطاع القوى منه المبثوثة في سائر البدن .
والرابعة الحياة الإنسانية وروحها المنفوخ :
يقتضي زيادة على الحياة الجمادية والحياة النباتية والحياة الحيوانية إدراكا وشعور بالنظريات العقلية والفهوم الاستدلالية، وموته زوال هذه الحياة عنه بالكلية ، فالنبات جماد، والحيوان نبات جماد، والإنسان حيوان نبات جماد .
وهذه الحياة بأنواعها الأربعة حجاب على الحياة الإلهية السارية في العوالم كله، فمن مات عن هذه كلها ظهرت له تلك الحياة.
فكان حيا بالله لا بروح أصلا کحياة أهل الآخرة(التي) نعت للحياة المذكورة وهي الحياة الجمادية التي لجسم الميت بعد موته (تنطق بها) يوم القيامة (الجلود)، أي جلود المكلفين، وتشهد عليهم بما عملوا بها . قال تعالى : " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء" [فصلت : 21].
قال رضي الله عنه : (والأيدي والأرجل) قال تعالى: "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانو يعملون " [النور: 24] .
(وعذبات) جمع عذبة وهي طرف الشيء المرسل (الأسواط) جمع سوط وهي الدرة التي يضرب بها (والأفخاذ) جمع فخذ وذلك من قوله عليه السلام: «لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل فخذه وعذبة سوطه بما فعل أهله»رواه الحاكم .
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، وتخبره بما أحدث أهله من بعده» هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه . تعليق الذهبي على شرط مسلم".
قال رضي الله عنه : (وقد ورد النص الإلهي) في الكتاب والسنة (بهذ كله) وهو ما ذكرنا وغیره (إلا أنه)، أي الله تعالى (وصف نفسه) على لسان نبيه عليه السلام (بالغيرة) .
فقال عليه السلام: «إن الله غيور» . البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي والترمذي وغيرهم.
"عن عبد الله رضي الله عنه، قال: «لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه» رواه البخاري ".

قال رضي الله عنه : (ومن غيرته حرم الفواحش) فتحريم الفواحش أي المحرمات الشرعية البالغة في التحريم إلى الغاية لظهورها إنما كان بسبب غيرته سبحانه التي أظهرها في خلقه بحكم الغيرية في الأشياء.
فالغيرة الإلهية عين الغيرية ، والفواحش من الفحش، (وليس الفحش إلا ما ظهر) من العصيان.
(وأم فحش ما بطن) منه عن الغير وظهر لصاحبه (فهو) فحش (لمن ظهر له)، وهو قوله تعالى: " قل إنما حرم ربى الفواحش م ظهر منها وما بطن" [الأعراف: 33]،
فالظاهر منها هو ما ظهر للغير، والباطن منها ظاهر لنفسه.
فالفواحش كلها ظاهرة إما للغير ولصاحبها أو لصاحبها فقط، فكل شيء محسوس أو معقول ظهر من كتم العدم.
فحكم عليه الحس أو العقل بالمغايرة للحق سبحانه القيوم علیه الظاهر فيه بوجوده المطلق المنزه عنه فاحشة حرمها الحق تعالی من غيرته سبحانه أن يكون في الوجود غيره يعرف أو يذكر.
فاقتضى تحريمه لذلك لا يعرف سبحانه ولا يذكر في عین ما حرم، فليست الغيرة إلا عن الغيرية، وليست الغيرية إلا عين التحريم، والكل من عين واحدة، فهو غيره ابتداء وتحريم انتهاء من جهته سبحانه.
وغيرته ابتداء والفواحش انتهاء من جهتنا وجهتنا هي جهته، فالغيرة عين الغيرية والتحريم عين الفاحشة.
بل التحريم منه عين الغيرة، والفاحشة منا عین الغيرية، والكل وجود واحد ظهر بأحكام كما ظهر بأعيان، والله واسع عليم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فلما حرم الفواحش أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة وهو أنت من الغير.
فالغير يقول السمع سمع زيد، والعارف يقول السمع عين الحق، وهكذا ما بقي من القوى والأعضاء. فما كل أحد عرف الحق:
فتفاضل الناس وتميزت المراتب فبان الفاضل والمفضول.
واعلم أنه لما أطلعني الحق وأشهدني أعيان رسله عليهم السلام وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ست وثمانين و خمسمائة، ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم، و رأيته رجلا ضخما في الرجال حسن الصورة لطيف المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها.
ودليلي على كشفه لها قوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم». وأي بشارة للخلق أعظم من هذه؟
ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن، ثم تمها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق بأنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان: أي هو عين الحواس. والقوى الروحانية أقرب من الحواس. فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد. )
قال رضي الله عنه : (فلما حرم) سبحانه (الفواحش أي منع أن تعرف) لغيره من بقية مظاهره (حقيقة ما ذكرناه) من أحوال قوم هود عليه السلام.
لأن سر الله تعالی بينه وبينهم لم يطلع عليه أحد ولا الريح التي دمرتهم، فإنها فعلت م فعلته بأمر ربها ولم تدر ما فعلته.
كالتسعة عشر زبانية النار يفعلون ما يفعلون مع أهل النار من أنواع العذاب، ولا يطلعهم الله تعالى على الأسرار التي بينه وبين المعذبين من المخلدين في النار.
لأن تلك الأسرار أمور ذوقية وجدانية لا يعرفها إلا صاحبها، وكم في طي النقمة من نعمة.
فلم حفظوا الله و وقوه بنفوسهم في الدنيا من نسبة الظلم إليه وقبائح الفواحش مع أن الكل خلقه وإيجاده، حفظ أذواقهم ووقاها سبحانه في الآخرة من الألم والوجع الذي هو مقتضى العذاب، فكان وقايتهم له بظواهرهم في الدني عین وقايته الهم بظواهرهم في الآخرة، فكفروه في الدنيا أي ستروه غيرة عليه، فسترهم في الآخرة غيرة عليهم.
قال رضي الله عنه : (وهي)، أي حقيقة ما ذكر (أنه)، أي الحق تعالی (عين الأشياء) من حيث إنه كلها مراتب ظهوراته وهو حقيقة الظاهر بها كلها .
قال رضي الله عنه : (فسترها)، أي الأشياء من حيث هي عنه (بالغيرة) التي هي صفته سبحانه (وهو) أي ذلك الساتر الذي هو الغيرة (أنت) يا أيها الإنسان لأن الغيرة مشتقة (من الغير) ولا غير في نفس الأمر من قامت به صفة الغيرة وهو الحق تعالى، فالغير صفة من صفاته سبحانه، فهو العين وهو الغير
فالغير يقول من حيث مقتضى ما اتصف به من صفة الغيرية (السمع سمع زيد)، لأن الغيرية التي هي صفته أعطته أن يقول كذلك، فلم يخرج عن صفته فصدق على حسب مقتضاها.
قال رضي الله عنه : (والعارف يقول) بمقتضى ما اتصف به من صفة العينية (السمع)، أي سمع زيد (عین الحق) تعالی، لأن العينية التي هي صفة أعطته أن يقول ذلك، فلم يخرج عن صفته، فصدق وتلاه شاهد منه على لسانه في مظهر خصوص النبوة المحمدية ، فقال: «كنت سمعه الذي يسمع به» الحديث .
قال رضي الله عنه : (وهكذا) الكلام في جميع (ما بقي من القوى والأعضاء فما كل أحد) من الناس (عرف الحق) تعالى بهذه المعرفة العينية، لأنه ليس كل أحد متصف بصفة العينية الإلهية، بل بعضهم متصف بصفة العينية الإلهية، وبعضهم متصف بصفة الغيرية الإلهية، وكلا الصفتين والموصوف واحد وهو الحق تعالی.
فظهر بهذه في قوم و ظهر بهذه في قوم في كل زمان ومكان على مراتب ودرجات كثيرة إلى أن يرجع إليه الأمر كله (فتفاضل الناس) في العلم بالحق تعالى (وتميزت المراتب) التي هم موصوفون بها بالعلم الإلهي (فبان الفاضل) منهم (والمفضول).
قال المصنف رضي الله عنه : (واعلم) يا أيها السالك (أنه)، أي الشأن (لما أطلعني)، أي كشف لي الحق تعالى (وأشهدني) في المنام الذي هو وحي المؤمنین كما كان فيه يوحي للأنبياء والمرسلين، أو في عالم السير إلى الله في الله بالله، الذي يأخذ عن الحس والعقل، ويرفع حجاب المحسوسات والمعقولات .
قال رضي الله عنه : (أعيان رسله)، أي رسل الله تعالى (وأنبيائه کلهم البشريين)، أي المنسوبين إلى البشر (من آدم إلى محمد )، أي على محمد صلى الله عليه وسلم (وعليهم)، أي على بقية الأنبياء والمرسلين (أجمعين في مشهد) ذوقي .
(أقمت)، أي أقامني الحق تعالی (فیه)، أي في ذلك المشهد (بقرطبة) من جملة جزيرة الأندلس من بلاد المغرب (سنة ست وثمانين وخمسمائة) من الهجرة النبوية (ما كلمني أحد) في ذلك المشهد (من تلك الطائفة)، أي الرسل والأنبياء عليهم السلام .
قال رضي الله عنه : (إلا هود عليه السلام فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم)، أي الرسل والأنبياء عليهم السلام، أي اجتماعهم لي في مشهدي ذلك حتى رأيتهم أي ذكر له استعداده الذي به استحق اجتماعه بهم في حضرة سلوكه.
قال رضي الله عنه : (ورأيته)، أي هود عليه السلام (رجلا ضخما)، أي كبير الجثة (في الرجال) قد زاده الله تعالى بسطة في العلم والجسم (حسن الصورة) الإنسانية الظاهرة (لطيف المحاورة)، أي الكلام وهو حسن الصورة الباطنة (عارفا بالأمور) الإلهية (كاشف لها)، أي مبينة بذوقه وكلامه .
قال رضي الله عنه : (ودليلي على كشفه) عليه السلام (لها)، أي للأمور الإلهية (قوله) فيما حكاه الله تعالی عنه في القرآن ("ما من دابة إلا هو ابند بنایا إن ربي على صراط مستقيم") [هود: 56]، وقد سبق الكلام في ذلك .
(وأي بشارة للخلق أعظم من هذه ) البشارة التي هي أخذ الحق تعالی بناصية كل دابة وقودها إليه سبحانه على الصراط المستقيم .
فالاعوجاج الذي في أعمال بعض الدواب، الذين هم شر الدواب كما قال تعالى: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون" [الأنفال: 22] أمر عرضي ليس من أصل خلقتهم .
كم قال تعالى: "فطرت الله التي فطر الناس عليها" [الروم: 30] فالغضب الذي منه تعالى في مقابلة ذلك أمر عارضي على الرحمة الأصلية التي وسعت كل شيء، فلا بد أن يتكافأ الأمران وتتقابل الحضرتان ظاهرة، أو يرجع كل شيء إلى أصله باطنا كما سبق تقريره.
قال رضي الله عنه : ( من امتنان الله تعالى علينا) معشر هذه الأمة (أن أوصل إلينا) سبحانه (هذه المقالة) التي قالها هود عليه السلام من هذه الآية (عنه) عليه السلام (في القرآن) المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال رضي الله عنه : (ثم تممها)، أي تمم هذه المقالة (الجامع للكل)، أي لمشارب كل الأنبياء والرسل وأتباعهم (محمد) نبينا (صلى الله عليه وسلم ) أجمعين وسلم (بما أخبر به) و في الحديث القدسي حديث المتقرب بالنوافل (عن الحق) تعالی.
(بأنه عين السمع) الذي يسمع به العبد (والبصر) الذي يبصر به واليد التي يبطش بها (والرجل) التي يسعى بها (واللسان) الذي ينطق به (أي هو)، أي الحق سبحانه (عين الحواس)، التي يحس بها العبد (والقوى الروحانية) كالفكر والخيال (أقرب) إليه تعالى (من الحواس) الجسمانية في أنه عينها إذ الروح من أمره تعالی بلا واسطة كما قال سبحانه: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" [الإسراء: 85] الآية.
والقوى الجسمانية الحساسة عن أمره تعالى أيضا لكن بواسطة الروح تتعين في الجسم الحيواني قال رضي الله عنه : (فاكتفى) سبحانه في بيان قربه إلى العبد (بالأبعد) عنه (المحدود) بحدود الجسم، فإن السمع محدود بالأذن، والبصر بالعين، واليد والرجل واللسان محدودات بصورها الظاهرة (عن الأقرب) إليه سبحانه (المجهول الحد) وهو القوى الروحانية الباطنة ليكون مفهوما بالطريق الأولى .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا، وترجم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مقالته بشرى: فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم «و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون» فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسد منهم و نفاسة و ظلما.
وم رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أو صله إلينا فيم يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيها كان أو غير تنزيه.
أوله العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء. فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق. ثم ذكر أنه استوى على العرش، فهذا أيضا تحديد.
ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا فهذا تحديد. ثم ذكر أنه في السماء وأنه في الأرض وأنه معنا أينما كنا إلى أن أخبرنا أنه عينا.
ونحن محدودون، فما وصف نفسه إلا بالحد. وقوله ليس كمثله شيء حد أيضا إن أخذنا الكف زائدة لغير الصفة. )
قال رضي الله عنه : (فترجم الحق) سبحانه، أي حكى (لنا عن نبيه هود عليه السلام مقالته) تلك (لقومه بشرى لنا) برجوع الكل باطنا إلى عين الرحمة الواسعة .
(وترجم)، أي حکی لنا رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم عليه السلام عن الله) تعالی (مقالته) سبحانه بأنه عین قوانا الظاهرة والباطنة التي بها تقوى في الإدراك والعمل.
وليس إلا وجوده تعالى المطلق عن القيود المميزة فينا بين تلك القوى في الظاهر والباطن، ولهذا قال سبحانه : "كنت سمعه الذي يسمع به"، ولم يقل : كنت سمعه فقط، من غير أن يقول الذي يسمع به.
فقوله: كنت سمعه تشبيه وقوله : الذي يسمع به تنزيه .
فإن كل أحد لا يسمع بالجارحة الجسمانية ولا بقوتها العرضية، وإنما يسمع بالقيوم الحق الممسك بظهور وجوده المطلق لتلك الجارحة وقوتها العرضية.
وهكذ الكلام في البصر وغيره (بشرى) منه تعالى (لنا) بتحقیق مقالة هود عليه السلام وبيانها .
قال رضي الله عنه : (فكمل) صلى الله عليه وسلم بها (العلم) الالهي (في صدور)، أي قلوب (الذين أوتوا)، أي آتاهم الله تعالى (العلم) كما قال سبحانه : " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم (وما يجحد بآيات) " ، أي ينكره على كل ما أتى بها .
قال رضي الله عنه : ("إلا الكافرون") العنكبوت : 47]، بالله تعالى (فإنهم يسترونها)، أي الآيات.
(وإن عرفوها حسدا منهم) لمن أتى الله تعالى تلك الآيات له (ونفاسة)، أي منافسة وعداوة له بقلوبهم (وظلما) له بنفوسهم .
قال رضي الله عنه : (وما رأينا قط من عند الله) تعالى (في حقه تعالى في آية أنزلها) على نبيه عليه السلام (أو إخبار عنه) تعالى (أوصله) سبحانه (إلينا) على لسان رسوله عليه السلام في حديثه (فيما)، أي في الأمر الذي (يرجع إليه) تعالى (إلا بالتحديد) والتقييد (تنزیها ) له تعالی (کان) ذلك الوارد عنه (أو غير تنزيه) له سبحانه (أوله)، أي الوارد عنه فيم يرجع إليه تعالى (العماء)، أي السحاب الرقيق (الذي ما فوقه هواء)، أي فراغ (وما تحته هواء)، أي فراغ كما يكون السحاب المسخر بين السماء والأرض. وذلك ما روى الترمذي بإسناده إلى أبي رزین العقيلي.
قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟
قال: «كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء» .والعماء السحاب الرقيق، وقيل : الكثيف.سنن الترمذي و ابن ماجة
وقيل : الضباب.
وقال الإمام أحمد: يريد بالعماء، أي ليس معه شيء.
وروي في عمى مقصورة قال : وهو كل أمر لا يدركه الفطن .
قال الأزهري : قال أبو عبيد: إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، وإل فلا ندري كيف كان ذلك العماء
قال الأزهري : فنحن نؤمن به ولا نتكيف بصفته (فكان الحق) تعالى (فيه)، أي في ذلك العماء (قبل أن يخلق الخلق) كما ذكرناه في هذا الحديث.
قال رضي الله عنه : (ثم ذكر) تعالی في القرآن بعد أن خلق الخلق (" أنه واستوى على العرش") [الأعراف: 54]. قال سبحانه : "الرحمن على العرش استوى " [طه: 50].
(فهذا) الاستواء أيضا (تحديد له) تعالى (ثم ذكر) سبحانه (أنه نزل إلى سماء الدنيا) وهو ما ذكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي بإسنادهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» . هذه رواية البخاري ومسلم وانفرد مسلم بروایات.
قال إن الله عز وجل : يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول ينزل إلى سماء الدنيا فيقول:
هل من مستغفر؟
هل من تائب؟
هل من سائل؟
هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر."
وله في رواية أخرى إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى؟
هل من داع فيستجاب؟
هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الصبح"
وله في رواية أخرى: حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول : " أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له "الحديث إلى آخره. وقال : حتى يصلي الفجر
قال رضي الله عنه : (فهذا) النزول أيضا (تحديد. ثم ذكر) تعالى (أنه في السماء) كما قال : "أم أمنتم من في السماء" [الملك: 17]، (وأنه) سبحانه (في الأرض) كما أخرج الترمذي وأبو داود بإسنادهما إلى العباس بن عبد المطلب في حديث طويل ذكر في آخره بعد أن بين مسافة كل سماء من سماء، وذكر العرش وأن بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء، إلى السماء والله عز وجل فوق ذلك.
وفي رواية الترمذي بإسناده إلى أبي هريرة في حديث آخر طویل قال صلى الله عليه وسلم :
والذي نفسي بيده لو أنكم دلیتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله » رواه الترمذي، ثم قرأ: "هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " [الحديد: 3] إلى غير ذلك من الأخبار (وأنه تعالى (معنا أينما كنا) كما قال سبحانه وهو معكم أينما کنتم (إلى أن أخبرن سبحانه (أنه عیننا) كما قال تعالى: "هو أهل التقوى وأهل المغفرة " [المدثر : 56] .
وإن احتمل التأويل وورد في حديث المتقرب بالنوافل في قوله: «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» إلى آخره.
وفي حديث مسلم بإسناده إلى أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت لو أنك عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين، قال : أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ، قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي».رواه مسلم
قال رضي الله عنه : (ونحن محددون)، أي مقيدون بقيود حسية ومعنوية في الظاهر والباطن (فم وصف) تعالی (نفسه) لنا (إلا بالحد) وهو المطلق عن جميع الحدود على ما هو عليه في نفسه بالبراهين العقلية مما تشير إليه الأدلة النقلية لكن لا من حيث ما وصف به نفسه فإنه ما وصف نفسه إلا بما يقتضي التحديد في الكتاب والسنة كم ذكرنا وقد ورد في حديث أخرجه السيوطي في جامعه الصغير.
قال رسول الله : «سألت جبرائیل هل ترى ربك قال: إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور لو رأيت أدناها لاحترقت» . رواه الطبري والديلمي
وفي خبر آخر «أن دون الله يوم القيامة سبعين ألف حجاب»رواه الطبراني فى الكبير.
فإن هذا يقتضي كمال تنزيه الله تعالى عن مشابهة كل شيء لكن بذكر الحجب التي يظهر به
يأتي التحديد (وقوله) تعالى: ("ليس كمثله ، شيء" حد)، أي تحديد (أيضا له) سبحانه (إن أخذنا الكاف) الداخلة على المثل (زائدة لغير الصفة)، أي صفة المثل بأن كان التقدير ليس مثله شيء فقد اقتضى الكلام تمييزه عن كل شيء وكل شيء محدود.
قال الشيخ رضي الله عنه : (ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود. فالإطلاق عن التقيد تقييد، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم.
وإن جعلنا الكاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا «ليس كمثله شيء» على نفي المثل تحققن بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها. فهو محدود بحد كل محدود.
فم يحد شيء إلا وهو الحق. فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود. فهو عين الوجود، «وهو على كل شيء حفيظ» بذاته، «ولا يؤده» حفظ شيء. فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشي ء غير صورته.
ول يصح إلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود. )
قال رضي الله عنه : (ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود، فالإطلاق عن التقييد تقیید) بالإطلاق (والمطلق) عن مشابهة كل شيء (مقيد) أيضا (بالإطلاق) عن مشابهة كل شيء (لمن فهم) المعاني وعرف مراتبها .
قال رضي الله عنه : (وإن جعلنا الكاف للصفة) وكان تقدير المعنى ليس مثل مثله شيء، حتى اقتضى الكلام إثبات المثل له ونفي المثل عن هذا المثل المثبت له (فقد حددناه) أيضا بإثبات المثل له وإن كان المراد بمثله ذاته كما يقال مثلك من يفعل كذا، أي أنت تفعل كذ أو مثله وصفاته أو على فرض وجود المثل له فكان تحديد له .
قال رضي الله عنه : (وإن أخذنا) معنى ("وليس كمثله، شئ" [الشورى : 11] على نفي المثل) والكاف لتأكيد النفي (تحققنا بالمفهوم)، أي مفهوم من نفين المثل عنه على وجه التأكيد وكل مفهوم محدود فهو تحدید.
(و) ثبت (بالإخبار الصحيح) عنه تعالى وإن احتمل التأويل عند أهل الأغيار (أنه) سبحانه (عين الأشياء) كما قال تعالى : "إنا كل شيء خلقناه بقدر" [القمر: 49] على قراءة رفع كل بأنه خبر إن.
وقال تعالى: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" [يونس: 101]،
وقال أيضا : "وهو الله في السموات وفي الأرض" [الأنعام: 3]،
وقال : "فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم" [البقرة: 115].
قال رضي الله عنه : (والأشياء محدودة) بحدود تمیز بعضها عن بعض (وإن اختلفت حدودها) اختلاف كثيرا (فهو)، أي الحق تعالی (محدود بحد كل محدود) من الأشياء المحدودة (فما يحد شيء) بحد (إلا وهو)، أي ذلك الحد (حد للحق) تعالى .
وهذ كله من حيث ظهوره تعالى بصفة القيومية على كل محسوس أو معقول من تجلي اسمه الظاهر والآخر.
وأم إطلاقه الحقيقي الذي هو عليه في نفسه أزلا وأبدا من غير تغير أصلا، فهو أمر معجوز عنه يتعلق به إيمان العارفين على وجه الإسلام له فقط، وهو من تجلي اسمه الباطن والأول فهو تعالى: "الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم" [الحديد: 3].
فهو تعالى من تجلی اسمه الظاهر القيوم الذي لا يصير من حيث هذا التجلي باطنا أصلا، وهو أيضا من تجلی اسمه الباطن لا يصير ظاهرا أصلا، لأن أسماءه تعالى قديمة باقية ل تتغير ولا تتبدل (الساري) من حيث ظهور وجوده المطلق في قيود الصور الممكنة العدمية الثابتة بعلمه القديم وتقديره وقضائه إلى آجالها المقدرة.
قال رضي الله عنه : (في مسمى المخلوقات والمبدعات) من المحسوسات والمعقولات، وليس هذا السريان کسريان شيء في شيء لاستحالة وجود شيء مع الله تعالى بنفسه، وإنما الوجود الظاهر لما سواه هو عين وجوده ظهر بملابسة ما سواه، وكل ما سواه معدوم بالعدم الأصلي.
قال تعالى : "الله نور السموات والأرض" (النور: 35).
وفي الحديث من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : «أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك أو تنزل علي سخطك» إلى آخره . رواه الطبراني والمقدسي في المختارة.
ومن حكم ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: «الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه» (ولو لم يكن الأمر كذلك)، أي هو تعالی بالوجود المطلق ساري في كل محسوس ومعقول سريان ظهور في المعلومات بحيث لا يتغير بها أصلا ولا تتغير به عما هي عليه في عدمها الأصلي من الأحوال الممكنة .
قال رضي الله عنه : (ما صح)، أي ثبت واستقام (هذا الوجود) الذي جملة العالم من كل محسوس ومعقول (فهو)، أي الحق تعالی (عين الوجود) المطلق بالإطلاق الحقيقي وإن تقيد في ظهوره بكل صورة لا قيد له في نفس الأمر من حيث اسمه الباطن.
(فهو)، أي الحق تعالى كما قال في كلامه القديم (على كل شيء) محسوس أو معقول (حفیظ) يحفظ ذلك الشيء من أن يزول عن وجوده الموهوم.
(له بذاته) سبحانه التي هي الوجود المطلق المذكور ("ولا يؤده" )، أي لا يعيقه سبحانه (حفظ شيء) من الأشياء كما قال تعالى : " وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلى العظيم" [البقرة : 255] .
قال رضي الله عنه : (فحفظه تعالى للأشياء كلها) محسوساتها ومعقولاتها هو (حفظه) سبحانه (لصورته) التي هي كل صورة في الحس أو العقل لصدور الكل عنه وقيامه بوجوده قيام معدوم بموجود.
(أن يكون الشيء) الهالك إلا وجهه أي المعدوم إلا وجوده (غير صورته) سبحانه فكل الصور له ولا صورة له.
لأنه إذا كان عين صورة لم يكن عين صورة أخرى، فيتنزه عن الصورة الأخرى، وإذا كان عين الصورة الأخرى أيضا لم یکن عین الصورة الأولى، فيتنزه عن الصورة الأولى فهو عين الصور كلها، وهو منزه عن الصور كلها .
قال رضي الله عنه : (ولا يصح) في حقه تعالی عند العارفين به المحققين (إلا هذا) الأمر .
(فهو) تعالى (الشاهد من الشاهد و) هو أيضا (المشهود من المشهود)فهو الشاهد والمشهود كما أقسم سبحانه بقوله وشاهد ومشهود، ولم يقسم بغيره إذ ما ثم غيره، والغيرية من جملة حضراته سبحانه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير.
فهو الكون كله ... وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه ... ولذا قلت يغتذي
فوجودي غذاؤه ... وبه نحن نحتذي
فبه منه إن نظرت ... بوجه تعوذي
ولهذا الكرب تنفس، فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، و هو الأول إذ كان و لا هي، و هو الآخر إذ كان عينها عند ظهورها.
فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول، «وهو بكل شيء عليم» لأنه بنفسه عليم.
فلم أوجد الصور في النفس وظهر سلطان النسب المعبر عنها بالأسماء صح النسب الإلهي للعالم فانتسبوا إليه تعالى فقال: «اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي» أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم و أرداكم إلى انتسابكم إلى. )
قال رضي الله عنه : (فالعالم) بفتح اللام (كله) وهو ما سواه تعالى (صورة) على معنى أن كل صورة فهو صورته ومجموع الصور كلها صورته ظهر بها له فيها وتنزه عنها له فيها فبطن وظهر وما عنه بطن ولا لغيره ظهر .
قال رضي الله عنه : (وهو) سبحانه (روح العالم) بفتح اللام (المدبر له)، أي للعالم فهو كل الأرواح، وهو كل النفوس، وهو كل الأجسام، وهو كل الأحوال والمعاني، وهو المنزه عن جميع ذلك أيضا، إذ لا وجود إلا وجوده ، والجميع مراتبه وتقاديره العدمية التي هي على عدمها الأصلي.
قال تعالى : "وخلق كل شيء فقدره تقديرا" [الفرقان : 2]، فبين لنا أن التخليق للأشياء معناه التقدير لها فقط.
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال رسول الله : «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم عن علم الله تعالی».رواه الحااكم وابن حبان والترمذي .
هذ تمام الحديث وجفاف القلم كناية عن عدم التغيير والتبديل عما هو في الأزل .
وإن وقع التغيير والتبديل في اللوح المحفوظ، لأنه من جملة الأحوال المخلوقة، أي المقدرة في ظلمة العدم من الأزل فلا تغيير ولا تبديل .
وليس المراد بجفاف القلم عدم جريانه بالكتابة؛ ولهذا ورد في حديث رزين بإسناده إلى أبي بن كعب ، قال : سمعت رسول الله يقول: «أول ما خلق الله عز وجل القلم
فقال له : اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد».رواه ابن مندة وفى الشريعة للآجري و أبو الشيخ في العظمة وغيرهم.
"الحديث : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد وفي الحديث قصة" .
"الحديث : عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: " أول م خلق الله , عز وجل , القلم , فقال له: اكتب , فقال: ما أكتب؟ فقال: اكتب القدر، فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة قال: ثم ارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات، ثم خلق النون، ثم بسط الأرض على ظهره فاضطربت فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإنه لتفخر عليها "
قال رضي الله عنه : (فهو)، أي الحق تعالى (الإنسان الكبير) الذي قامت به صور العالم كلها ، وهي منه فهو قيومها، وهو المدبر للعالم كله بالروح الأعظم الذي هو من أمره سبحانه، وهو القيوم على كل شيء، وجميع الصور صورته التي خلق عليها آدم عليه السلام، كما ورد في الحديث: «أن الله خلق آدم على صورته».
فآدم هو الإنسان الصغير في مقابلة ذلك الإنسان الكبير، وعلم آدم الأسماء كلها فتسمى بتلك الأسماء كلها.
فنزع سبحانه حلة الأسماء عن جميع العالم وألبسها لآدم عليه السلام، وعمر به دار الآخرة إلى الأبد، ويوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.
وفي الحديث: «ما وسعني سماواتي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن» وهو الإنسان الكامل العالم للأسماء القائم بها في جملة العالم وتصاريف الأحوال.
قال رضي الله عنه : (فهو)، أي الحق سبحانه (الكون) الظاهر للحس والعقل من حيث الوجود لا الأشخاص العدمية إلا من حيث القيومية، فهو القائم عليها بما کسبت لا هي قائمة (كله)، أي روحانية وجسمانية .
قال رضي الله عنه : (و) مع ذلك (هو الواحد) الأحد الفرد الصمد (الذي قام)، أي ثبت (كوني)، أي وجودي الظاهر بالوهم (بكونه)، أي وجوده الحقيقي الظاهر بالتحقيق (فلذ قلت) عن وجوده الظاهر (أنه يغتذي)، أي يستمد من حيث هو ظاهر بصور الأشياء.
(فوجودي)، أي ثبوتي في الأزل بعلمه ووجودي الوهمي المجازي به (غذاؤه)، لأن ينسب إليه فيظهر به، لأنه له كما قال تعالي: "لله ما في السموات وما في الأرض" [البقرة : 284].
قال رضي الله عنه : (وبه)، أي بالحق سبحانه لا بغيره إذ لا غير (نحن) معشر بني آدم والمراد أهل الكمال منهم (نحتذي)، أي نتحاذی ونتقابل، فيقابلنا بوجوده ونقابله بصفاتنا، فنغذية بالصفات ويغذينا بالوجود، فنظهر نحن وهو، ونبطن نحن وهو، ف "هو الأول والأخر والظهر والباطن" [الحديد: 3] ونحن كذلك .
قال رضي الله عنه : (فبه)، أي بوجوده سبحانه من وجه جماله (إن نظرت) يا أيها السالك (منه)، أي من وجوده (بوجه) جلاله (تعوذي)، أي استعاذتي واحتمائي والتجائي.
ولهذ ورد في الحديث: «وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»، وأصل هذا كمال الوسع الإلهي الذي لا يحصى .
كم قال تعالى : "علم أن لا تحصوه فتاب عليكم " [المزمل: 20]. ومن هنا قال من قال : العجز عن درك الإدراك إدراك.
قال رضي الله عنه : (ولهذا الكرب) الذي عنده من حيث هو عين الأشياء كلها وذلك توجهه القديم بإظهار أعيان الممكنات العلمية التي سبق بها کشف علمه وتقدير إرادته وقضاء قدرته ونفوذ أمره وتحقيق كلمته فكان کربا بسبب عدم احتمال الكتم في تلك الأعيان.
فهو حزن على مفارقة العينية الذاتية من حيث الحضرة الأسمائية، ومن هنا وقع الحب الإلهي للأعيان الممكنة، والحب منها له في قوله سبحانه : "يحبهم ويحبونه "
[المائدة : 54].
فإن المحبة تقتضي البعد كما تقتضي الوصلة بالقرب، فهي تطلب الضدين، ولا بد أن يغلب أحدهما، وهو کرب المحبة مما يجد سبحانه من جمال الحضرة وكمال النظرة (تنفس) بإظهار تلك الأعيان الممكنة من باطن العلم إلى ظاهر السمع الإلهي والبصر الإلهي .
(فينسب النفس) بفتح الفاء (إلى الرحمن) كما ورد في الحديث: «أني لأجد نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن»، فكان الأنصار وهم أهل الصفة الذين قال الله تعالى في وصفهم : "يريدون وجهه" ، فسماهم نفس الرحمن من حيث إنه نفس بهم عن كرب الأسماء الإلهية.
فظهرت له من العلم إلى العين، فقرت بهم العين وارتفع البين من البين، وعلى مشاربهم وردت العارفون إلى يوم القيامة، وخص الرحمن بنسبة النفس إليه (لأنه) سبحانه (رحم به)، أي بذلك التنفس (ما طلبته النسب الإلهية) التي هي الصفات والأسماء (من إيجاد صور العالم) المحسوسة والمعقولة (التي قلنا) فيما سبق إنها (هي ظاهر الحق) سبحانه .
(إذ)، أي لأنه (هو) سبحانه (الظاهر و) مع ذلك (هو) أيضا (باطنها)، أي باطن تلك الصور لأنها ممكنة عدمية بالعدم الأصلي فلا حكم لها من ظهور أو بطون إلا (به)، وكذلك هو فهو بها الظاهر الباطن وهي به الظاهرة الباطنة فإذا أظهرها بطن بها وإذ أظهرته بطنت به .
(إذ)، أي لأنه (هو) سبحانه (الباطن) إذا كانت هي الظاهرة به (وهو)، أي الحق تعالى (الأول إذ)، أي لأنه (كان)، أي وجد سبحانه (ولا هي) لأنها ممكنة علمية بالعدم الأصلي.
(وهو) سبحانه أيضا (الآخر إذ)، أي لأنه (كان عينها)، أي عين تلك الصور (عند ظهورها) كما مر بيانه وهي أيضا الأول لأنها عينه عند بطونها، والآخر لأنه غيره عند ظهورها وبطونه ، فاتصفت بما اتصف به لأنها صورته وعلمه بذاته وتفصيل مجمل حضراته .
قال رضي الله عنه : (فالآخر) على حسب ما ذكر في حقه سبحانه (عين الظاهر، والباطن عین الأول) والصور المذكورة على هذا معه تعالى.
فإنه إذا كان هو الأول كانت هي الأول، لأنه أول بالبطون وهي عينه في البطون، وإذا كان هو الآخر كانت هي الآخر أيضا، لأنه الآخر بكونه عينها في الظهور، وهي الآخر بكونه غيره في الظهور.
وإذ كان هو الظاهر كانت هي الباطن، وإذا كانت هي الظاهر كان هو الباطن، فالآخر في حقه عين الظاهر في حقها، والباطن في حقها عين الأول في حقها .
قال رضي الله عنه : (وهو) سبحانه (بكل شيء) من تلك الصور (عليم) وكل صورة منها من حيث هي صورة بكل تجل منه سبحانه بها عليم أيضا على حسب ما يعطي ذلك التجلي من عينية أو غيرية.
وهو أيضا عليم بكل شيء على حسب ما يعطي ذلك الشيء والعلم واحد من الطرفين (لأنه) سبحانه (بنفسه) بفتح الفاء وهو أعيان الصور الممكنة العدمية (عليم)، فهو عليم بكل شيء، فالنفس بقيد العدم والأشياء بقيد الوجود.
قال رضي الله عنه : (فلما أوجد الصور) وهي أعيان الأشياء الممكنة (في النفس) بفتح الفاء لأنه تنفس وجود بنفس موجود (وظهر) بالوجود (سلطان)، أي حكم سلطنة (النسب) جمع نسبة وهي الإضافات الإلهية.
(المعبر عنها) في لسان الشرع (بالأسماء) الإلهية فإنها تعينات في الذات الإلهية المطلقة بسبب قيام الممکنات العدمية بتلك الذات وصدورها عنها بحكمها (صح النسب الإلهي للعالم) بفتح اللام بينه وبين الحق تعالی، لأنه صادر عنه.
قال رضي الله عنه : (فانتسبوا)، أي أفراد العالم الحاصلون من توجه أسمائه تعالى (إليه تعالی)، لأنهم صدروا عنه بحكم: "كل من عند الله" [النساء: 78]، وقاموا به بحكم: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" [الرعد: 33] ومرجعهم إليه بحكم: "وإليه ترجعون" [البقرة : 245]، "وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" [أل عمران : 83] .
"وإليه تقلبون" . "وإليه المصير" [المائدة: 18]، "وأن إلى ربك المنتهى " [النجم: 42]،" وإليه يرجع الأمر كله" [هود: 28]، "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" [البقرة: 281]، "وإلى الله ترجع الأمور" [البقرة: 210].
قال رضي الله عنه : (فقال) : أي الحق تعالی كما ورد في الحديث (اليوم) إشارة إلى يوم القيامة (أضع نسبكم) الذي كان بينكم في الدنيا (وأرفع نسبي أي آخذ عنکم) دعوی ( انتسابكم) بینکم (إلى أنفسكم) وكذلك نسبة وجود بعضكم من بعض وهو قوله تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومين ولا يتساءلون" [المؤمنون : 101].
(وأردكم)، أي أراجعكم من النسبة المجازية (إلى) النسبة الحقيقية وهي عين (انتسابكم إلي) لصدوركم عني لا عن سبب أصلا لتقطع الأسباب، ثم يقول تعالى في ذلك اليوم .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( أين المتقون؟
أي الذين اتخذوا الله وقاية فكان الحق ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة، وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع.
وقد يكون المتقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هوية الحق قوى العبد. فجعل مسمى العبد وقاية لمسمى الحق على الشهود حتى يتميز العالم من غير العالم.
«قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب» وهم الناظرون في لب الشيء الذي هو المطلوب من الشيء. فما سبق مقصر مجدا كذلك لا يماثل أجير عبدا.)
قال رضي الله عنه : (أين المتقون) يعني أنهم كانوا في الدنيا منتسبين إلى الحق تعالى لا إلى آبائهم وأمهاتهم إلا من حيث النسبة المجازية الذاهبة بذهاب الدنيا ، وزوال علاقة المجاز التي هي مجرد السببية أو المحلية، فإن المتقين يعرفون ذلك.
ووصف التقوى ألزمهم ذلك وهم حجة الحق تعالى على الناس، ثم بين المتقين بقوله (أي) القوم الذين اتخذوا الله تعالى (وقاية لهم) عندهم فلم يكونوا هم عند أنفسهم بل كان هو عند أنفسهم فاتقوا بظهوره لهم ظهور أنفسهم لهم فهم عندهم هؤلاء هم وهم في الفناء والزوال .
قال رضي الله عنه : (فكان الحق) تعالی (ظاهرهم أي) ما يظهر لهم منهم وهو (عين صورهم الظاهرة) لهم من حيث حسهم وعقلهم، وهم الذين كانوا سمع الحق وبصره لتقربهم بالفرائض.
(وهو)، أي المتقي بهذا النوع من التقوى وهي تقوی خواص الخواص من كل شيء سوى الله تعالى كم أن تقوى الخواص من المعاصي وتقوى العوام من الكفر.
قال رضي الله عنه : (أعظم الناس) كلهم ولهذا كان من خواص الخواص (وأحقهم)، أي أحق الناس اسم المتقی وبصفة التقوى و باستحقاق ما للمتقين من الثناء في الدنيا والجزاء في الآخرة (وأقواهم)، أي أقوى الناس بصيرة في معرفة الله، وقلبا في خدمته بالأعمال الصالحة (عند الجميع).
أي جميع الناس من الخواص والعوام (وقد يكون المتقي) من خواص الخواص معناه بعكس ما ذكر يعني (من جعل نفسه) عنده (وقاية للحق) تعالی (بصورته) الظاهرة له بحسه وعقله فكان هو الظاهر لنفسه بربه وربه غيب عنه.
فقد اتقی ظهور ربه له بظهور نفسه بربه لا به (إذ)، أي لأنه (هوية)، أي ذات (الحق) تعالی ووجوده المطلق عين (قوی) جمع قوة (العبد) المتقرب بالنوافل كما مر في الحديث کسمعه وبصره لا أذنه وعينه .
قال رضي الله عنه : (فجعل)، أي هذا المتقي (مسمى العبد)، الذي هو مجموع الصورة الظاهرة والباطنة (وقاية لمسمى الحق) سبحانه (على) طريق (الشهود) فالحق سبحانه يشهد العبد ببصره ويسمعه بسمعه والعبد مشهود لا شاهد، والأول شاهد لا مشهود، والأول حال السالك والثاني حال الواصل، وكلاهما من خواص الخواص.
وهم النوعان الواردان في حديث الإحسان وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه».
وهو حال المتقي الأول فإنه يرى الله تعالى لا يرى معه غيره، فقد اتقى نفسه بربه وجعل ربه وقاية له من نفسه، وجيء فيه بأداة التشبيه وهي كان المقتضية لتشبيه رؤية تلك الحالة برؤية الله تعالى من حيث كمال الحضور معه سبحانه.
والفناء عن شهود كل شيء سواه، وهي رؤية الغائب في الحاضر، کرؤية زيد الغائب عنك عند رؤية داره أو ثوبه أو دابته بتذكرك له كمال التذكر.
بحيث تغيب عن الحاضر الذي أحضر ذلك الغائب عندك وتحضر عند الغائب.
وإليه أشار الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدس الله سره بقوله :
ناب بدر التمام طيف محيا ... ك، لطرفي، بيقظتي، إذ حكاك
فتراءيت في سواك لعين ... بك قرت، وما رأيت سواك
وكذاك الخليل قلب قبلي ... طرفه، حين راقب الأفلاك
ثم أشارة صلى الله عليه وسلم إلى النوع الثاني من الإحسان بقوله : "فإن لم تكن تراه فإنه يراك". "أضاف الجامع : فإن لم تكن = ان كنت فانيا في الله تراه بعين الحق و ترى نفسك "
أي فإن لم تكن ترى الحق في حال كونك كأنك تراه بأن غبت عن شهود الغائب عنك الذي كنت تشهده، وحضرت عند نفسك التي كنت تشهد بها ذلك الغائب
عنك، فكن في هذه الحالة بحيث أنه تعالى يراك.
لأنه بصرك الذي تبصر به وهذا أعلى من الأول، لأنه صحو من محو ورجوع إلى عين الحقيقة قال رضي الله عنه : (حتى يتميز) بحسب هذا النوع الثاني من التقوى إذ فيه ظهور العبد (العالم من غير العالم) بخلاف النوع الأول فإنه لا ظهور للعبد فيه أصلا قال الله تعالى ("قل") لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم ("هل يستوى ")، أي يتساوى عندهم وهو استفهام إنکاري، أي لا يستوي القوم (" الذين يعلمون")، أي يتصفون بالعلم (و) القوم ("الذين ل يعلمون") [الزمر: 9].
أي لا يتصفون بصفة العلم ("إنما يتذكر") ما ذكر ("أولوا")، أي أصحاب ("الألباب " وهم) [الرعد: 19].
أي أولو الألباب (الناظرون في لب الشيء الذي هو) باطن الشيء المطلوب من ذلك (الشيء) و"كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88] كما قال تعالی .
فوجهه سبحانه لب كل شيء فهو المطلوب
كم قال تعالى : "يردون وجهه" [الأنعام: 52]، وقال تعالى: "إنم نطعمكم لوجه الله" [الإنسان: 9] .
قال رضي الله عنه : (فما سبق مقصر) في السلوك إليه تعالى بالأعمال الصالحة (مجدا) في ذلك أبدا (كذلك لا يماثل أجير)، أي عامل بقصد الجزاء (عبدا)، أي عامل بوصف العبودية للربوبية، فإن المجد العامل بالعبودية من الذين يعلمون، والمقصر العامل للجزاء من الذين لا يعلمون والعارف الكامل من أولي الألباب الذين يتذكرون .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا كان الحق وقاية للحق بوجه والعبد وقاية للحق بوجه.
فقل في الكون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق.
وإن شئت قلت هو الحق.
وإن شئت قلت هو الحق الخلق.
وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه.
وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب.
ولو لا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه.
فل تنظر العين إلا إليه ... و لا يقع الحكم إلا عليه
فنحن له وبه في يديه ... و في كل حال فإنا لديه
لهذ ينكر ويعرف وينزه ويوصف. )
وإذ كان الحق سبحانه (وقاية للعبد بوجه) في النوع الأول من التقوى (و) كان (العبد وقاية للحق) تعالی (بوجه) آخر في النوع الثاني من التقوى .
قال رضي الله عنه : (فقل) يا أيها السالك (في) هذا (الكون)، أي الوجود الموهوم النسبة المضاف إلى الأعيان الممكنة العلمية الظاهرة في الحس والعقل (ما شئت)، أي أردت من العبارات حيث عرفت الأمر على ما هو عليه في نفسه (إن شئت قلت هو)، أي هذ الكون المذكور (الخلق)، لأنه تقدير الله تعالى الذي قدره في الأزل في ظلمة العدم ثم ظهر به حيث أظهره بتجلي وجوده عليه (وإن شئت قلت هو)، أي الكون المذكور (الحق) تعالی، لأن الوجود المطلق الظاهر نوره على أعيان الممكنات العدمية بالعدم الأصلي.
قال رضي الله عنه : (وإن شئت قلت هو)، أي الكون (الحق) باعتبار الوجود المطلق الظاهر بنفسه ولا شيء معه إذ " كل شيء هالك إلا" هو (الخلق) باعتبار صور الأعيان الممكنة الظاهرة بنور الوجود المطلق (وإن شئت قلت إنه (لاحق من كل وجه) بل من وجه الوجود فقط (ول خلق من كل وجه)، بل من وجه الصور الممكنة المحسوسة والمعقولة .
قال رضي الله عنه : (وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك) الأمر والوقوف من غير قطع بواحد، فإنك لا تقدر أن تخلص واحدة إلى الطرف لتعلقها بالأخرى.
وإليه أشرت بقولي شعرا:
إن الوجود حقيقة لا تدرك ….. وقف المحقق عنده والمشرك
قال رضي الله عنه : (فقد بانت المطالب) التي هي مقاصد العارف، فإنه يعرف الكون بهذه المعارف المذكورة، ثم ينفيها ويقف في العجز عن الإدراك، ثم في العجز عن العجز، ويرجع إليه بغير ما تركها.
وهكذ وليس للأمر نهاية ولا للمعرفة غاية (بتعيينك) هذه المراتب المذكورة للكون في نفسك (ولولا التحديد الوارد) عن الله تعالى في حضرة ظهوره كما سبق بيانه.
قال رضي الله عنه : (ما أخبرت الرسل) عليهم السلام (بتحول الحق) تعالى في يوم القيامة (في الصور) لأهل المحشر (ولا وصفته)، أي الرسل عليهم السلام (بخلع الصور عن نفسه ) سبحانه، فإن هذا كله تحديد في ظهوره تعالى، وهو حق لا يغير الحق أصلا من حيث بطونه على ما هو عليه عز وجل.
أخرج الترمذي بإسناده عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: "يجمع الله تعالى الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين
فيقول: ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ، ولصاحب التصاویر تصاویره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون .
ويبقى المسلمون، فيطلع عليهم رب العالمين فيقول: ألا تتبعون الناس.
فيقولون: نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نری ربنا، وهو يأمرهم ويثبتهم، ثم يتوارى.
ثم يطلع فيقول: ألا تتبعون الناس
فيقولون نعوذ بالله منك، الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم، ثم يتوارى .
ثم يطلع فيقول : ألا تتبعون الناس
فيقولون: نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك نعوذ بالله منك الله ربن، وهذ مكاننا حتى نرى ربنا، وهو يأمرهم ويثبتهم إلى آخر الحديث الطويل .ورواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم والنسائي بإسنادهم إلى أبي سعيد الخدري إلى أن قال: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله عز وجل من بر وفاجر .
أتاهم الله عز وجل في أدنى صورة من التي رأوه فيها .
قال : فما تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد
قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما کنا إليهم ولم نصاحبهم
فيقول: وأنا ربكم
فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثة حتى أن بعضهم ليكاد ينقلب .
فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها .
فيقولون: نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله عز وجل من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود.
ول يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله تعالی ظهره طبقة واحدة كما أراد أن يسجد على قفاه .
ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة.
قال: فيقول: "أنا ربكم "
فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة.
ويقولون: اللهم سلم، سلم .
" قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ إلى آخر الحديث. وهناك روايات أخرى غير هذا في كتب الحديث النبوي . .
قال رضي الله عنه : (فلا تنظر العين) من كل أحد (إلا إليه سبحانه) من حيث ظهوره تعالى في كل صورة وهو منزه عن كل شيء من حيث بطونه (ولا يقع الحكم) من كل أحد على كل شيء بشيء من الأشياء (إلا عليه) سبحانه من الحيثية المذكورة .
(فنحن) كلنا معشر الأعيان الممكنة العدمية بالعدم الأصلي (له) ليظهر بنا في حضرة ظهوره بتجلي وجوده وانکشاف نوره .
وقال تعالى : "لله ما في السماوات وما في الأرض" [البقرة : 284].
وقال سبحانه : "وله كل شئ" [النمل: 91].
(و) نحن أيضا قائمون إيجادا وإمدادا (به)،سبحانه تعالی، لأنه الحي القيوم الذي قامت السماوات والأرض بأمره (و) نحن أيضا (في يديه) يصرفنا كيف يشاء بما شاء ويحركنا ويسكننا."وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [الأنعام : 13].
قال رضي الله عنه : (وفي كل حال) من أحواله التي لنا في الحس أو العقل أو الخير أو الشر أو القرب أو البعد (فإنا) كلنا (لديه)، أي عنده ولم نبرح من حضرته سواء كان بعضنا محسنا أو مجرما.
قال تعالى: " إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر" [القمر: 54 - 55].
وقال تعالى : "إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته " [الأعراف: 206] الآية.
وقال تعالى : "ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم" [السجدة : 12] الآية.
قال رضي الله عنه : (ولهذا) أي لكون الأمر كذلك (بنکر) سبحانه، أي ينكره قوم من الجاهلين به الغافلين عنه الكافرين له .
قال رضي الله عنه : (ویعرف) سبحانه، أي يعرفه قوم آخرون من المؤمنين به المتقين الكاملين (وينزه)، أي ينزهه قوم من المسلمين الحاکمین بعقولهم في إيمانهم به .
(ويوصف) سبحانه بما لا يليق بجنابه من أوصاف الحوادث عند قوم من المبتدعين الضالين، وجميع ذلك تجلياته سبحانه في حضرة ظهوره، لأنه الظاهر بكل شيء.
وهو في حضرة بطونه على ما هو عليه من إطلاقه الحقيقي، لأنه الباطن عن كل شيء، وأحكامه متوجهة منه تعالى على كل ذلك بألسنة رسله وأنبيائه عليهم السلام، فحكم بالكفر في اعتقاد وبالإيمان في اعتقاد وبالبدعة في اعتقاد وبالجهل به في اعتقاد و بالمعرفة به في اعتقاد والله يحكم لا معقب لحكمه له الحكم وإليه ترجعون.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف.
ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف.
ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل.
وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها :
فإذ تجلى له الحق فيها و أقر به، و إن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر، وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه فلا يعتقد معتقد إلها إلا جعل في نفسه، فالإله في الاعتقادات بالجعل، فما رأوا إلا نفوسهم و ما جعلوا فيها. )
قال رضي الله عنه : (فمن رأى الحق) تعالى (منه)، أي من نفسه وصورته یعني ظاهرة له من ذلك ، لأنه مظهرا له تعالى، أي آلة لظهوره سبحانه من حيث نحن وإلا فهو تعالی ظاهر لنفسه أزلا وأبدا ولا حاجة له في ظهوره إلى شيء أصلا (فيه).
أي في نفسه وصورتهعلى معنى أن نفسه وصورته تفنى وتضمحل بظهوره سبحانه فيبقى هو تعالى الموجود الممسك للنفس والصورة الممكنة العلمية بالعدم الأصلي، ولا نفس ولا صورة في الوجود أصلا (بعينه)، أي بعين الحق تعالی، لأنه سبحانه كان عينه التي يبصر بها لا عينه التي لا يبصر بها التي هي عين القلب أو البصر الحادثة المخلوقة المشتملة على القوة العرضية كما ورد : «كنت بصره الذي يبصر به» (فذلك) العبد حينئذ هو العارف بالله تعالی.
قال رضي الله عنه : (ومن رأى الحق) تعالى (منه)، أي من ذات نفسه كما ذكرن (فيه)، أي في ذات نفسه على حسب ما بيناه (بعين نفسه) هو لا بعين الحق تعالی (فذلك) العبد
غير العارف بالله تعالى وهو السالك الذي عليه بقية نفسانية (ومن لم ير الحق) تعالى (منه)، أي من نفسه وصورته بأن رأى نفسه وصورته هو موجودة مع الحق تعالی فكان عنده موجودان :
موجود محسوس له وهو نفسه وصورته.
وموجود معقول له وهو الحق تعالى .
قال رضي الله عنه : (ولا) رأى الحق تعالى (فيه)، أي في نفسه وصورته بل ادعى الوجود المستقبل في نفسه وصورته (وانتظر أن يراه)، أي يرى الحق تعالی بعين نفسه في الدنيا أو في الآخرة (فذلك) هو العبد (الجاهل) بالله تعالى المنقطع عنه المعرض بجانبه عن التوجه إلى جنابه غير السالك إليه ولا العارف به تعالى .
وإن قطع إربا إربا في عبادته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإنه عبد محجوب بالطاعة .
كم أن العاصي المذنب محجوب بالمعاصي والذنوب .
والكافر المشرك محجوب بالكفر والشرك.
فإن صدق هذا الجاهل بما عليه العارفون من المعرفة بالله وآمن بكلامهم وبعلومهم، فهو معهم على مشرب من مشاربهم، لأن المرء مع من أحب.
قال الجنيد رضي الله عنه: "الإيمان بكلام هذه الطائفية ولاية".
فإن كلب أصحاب الكهف لما آمن بهم وصدقهم وتبعهم، وهو باق على صفة الكلبية والنجاسة العينية لم يضره ذلك.
وذكره الله تعالى معهم في القرآن كما ذكروا وهو معهم في الجنة أيضا.
كم ورد في الأخبار، وفي الباب السادس والثمانين ومائتان من الفتوحات المكية للمصنف قدس الله سره قال ما ملخصه:
إنه إن قام بك التصديق فيما يتحقق به أهل طريق الله تعالى بأنه حق، وإن لم تذقه ولا تخالفهم، فإنك تكون على بينة من ربك.
وبتلك البينة التي أنت عليها توافقهم في ذلك، فأنت منهم في مشرب من مشاربهم، فإنهم أيض ممن يوافق بعضهم بعضا فيما يتحققون به في الوقت ، وإن كان لا يدرك هذا ذوقا فيقر له ويسلمه له ولا ينكره لارتفاع التهمة.
ومجالسة هؤلاء الأقوام الغير المؤمن بهم على خطر عظيم وخسران كما قال بعض السادات وأظنه رویمرضي الله عنه : من قعد معهم وخالفهم في شيء مما يتحققون به في سرائرهم نزع الله نور الايمان انتهى .
وقال سيدي أفضل الدين :
لو أن إنسانا أحسن الظن بجميع أولياء الله تعالی إلا واحدا منهم بغیر عذر مقبول في الشرع لم ينفعه حسن الظن عند الله تعالی .
ولذلك لا تجد وليا حق له قدم الولاية إلا وهو مصدق بجميع أقرانه من الأولياء لم يختلف في ذلك اثنان ، كما أنه لم يختلف في الله تعالی بنیان.
فمن آذى الأولياء بسوء ظنه فقد خرج من دائرة الشريعة.
ومن كلام الشيخ أبي المواهب الشاذلي رضي الله عنه:
من حرم احترام أصحاب الوقت فقد استوجب الطرد والمقت.
وقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه المصنف لمتن هذا الكتاب :
معاداة الأولياء والعلماء العاملين كفر عند الجمهور .
وقال : من عادي أحدا من العلماء العاملين أو الشرفاء فقد عادی إيمانه .
وقال سيدي علي الخواص رضي الله عنه :
من عادى أحدا من الأولياء أو العلماء خالفه ضرورة، وفي مخالفة الولي والعالم الضلال والهلاك.
قال رضي الله عنه : (وبالجملة فلا بد لكل شخص) من الناس (من عقيدة) يعتقدها بقلبه (في ربه) سبحانه (يرجع) ذلك الشخص (بها)، أي بتلك العقيدة (إليه)، أي إلى ربه تعالى (ويطلبه) سبحانه .
قال رضي الله عنه : (فيها فإذا تجلی) أي انكشف (له)، أي لذلك الشخص (الحق) تعالى (فيها عرفه)، أي عرف الحق تعالى ذلك الشخص (وأقر)، أي صدق واعترف (به) سبحانه .
(وإن تجلی الحق) تعالی (له)، أي لذلك الشخص (في غيرها)، أي غير تلك العقيدة (نکره)، أي أنكره ولم يقر به (وتعوذ منه وأساء الأدب عليه)، أي على الحق تعالى (في نفس الأمر) من حيث لا يشعر بذلك ولا يدري، وهذا في الدنيا بقلبه أو بلسانه أو بهما، وفي الآخرة كذلك إذا تجلى له في المحشر كما مر ذكره في الحديث .
قال رضي الله عنه : (وهو)، أي ذلك الشخص (عند نفسه أنه قد تأدب معه)، أي مع الحق تعالی باستعاذته منه وإسائته الأدب معه وإنكاره له من كثرة جهله بربه (فلا يعتقد معتقد) من الناس مطلقة (إلها) يرجع إليه و يطلبه (إلا بما جعل).
أي يجعله ذلك (في نفسه فالإله في الاعتقادات بالجعل)وذلك في المتمسكين بالنظر العقلي وما يؤديهم إليه فکرهم، فيقيدون الإله في معنى يفهمونه، ثم ينزهونه عن كل ما سواه من محسوساتهم ومعقولاتهم.
فإذا شعرو بأن الذي ينزهونه معنی مفهوم لهم، أثبتوا معنى آخر فهموه، ونزهوه عن المعنى المفهوم لهم أولا، وعن كل شيء وهكذا، ولا يمكنهم أن يخرجوا عن المفاهيم العقلية أصلا ما دام الحق تعالى في بالهم وهم مستحضرون له.
قال رضي الله عنه : (فما رأوا) حينئذ (إلا نفوسهم وما جعلوا فيها)، أي في نفوسهم من الاعتقادات حيث رأوا قوة استعدادهم في إثبات المفهوم العقلي الذي اطمأنوا إليه أنه الحق تعالی ونزهوه عن مشابهة كل ما عداه من محسوس أو معقول ولو عقلوا لما اغتروا بتنزيههم ذلك المعنى المفهوم العقلي.
وبكشفهم عن كونه منزه عن مشابهة كل ما سواه من المحسوسات والمعقولات، فإن كل معنى عقلي وكل محسوس بتلك المثابة من وجه ما منزه به عن كل ما سواه، ومن وجه ما هو مفهوم عقلي يشبه غيره من المفاهيم العقلية، ومن وجه ما هو محدود يشبه المحسوسات أيض .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فانظر: مراتب الناس في العلم بالله تعالى هو عين مراتبهم في الرؤية يوم القيامة.
وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك . فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول «فأينما تولو فثم وجه الله» وما ذكر أينا من أين.
وذكر أن ثم وجه الله، ووجه الشيء حقيقته.
فنبه بذلك قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا فإنه لا يدري العبد في أي نفس يقبض، فقد يقبض في وقت غفلة فلا يستوي مع من قبض على حضور. )
قال رضي الله عنه : (فانظر) يا أيها السالك (مراتب الناس في العلم بالله) في الدنيا على زعمهم أنهم عالمون به سبحانه (فإنه هو عين مراتبهم)، أي الناس (في الرؤية)، أي رؤية ربهم تعالی (یوم القیامة) كما سبق في الحديث (وقد أعلمتك) ي أيها السالك
(بالسبب الموجب لذلك)، أي لكون مراتب علمهم بالله عين مراتب رؤيتهم له في الآخرة، وذلك السبب هو اعتقادهم له بما جعلوه في نفوسهم من صورة استحضارهم له لجهلهم به وعدم رؤيتهم له منهم فيهم كما سبق بيانه .
قال رضي الله عنه : (فإياك) يا أيها السالك أي احذر (أن تتقيد) في الله تعالى (بعقد مخصوص)، أي اعتقاد معنی مفهوم لك بعقلك أنه هو الله تعالى كما فعل أرباب النظر العقلي والتقليد النقلي (وتكفر بما)، أي بكل عقد (سواه) من عقائد الناس كفعل من ذكرن (فيفوتك خیر کثیر) من الكمال العلمي (بل يفوتك العلم) في الله تعالی (ب لأمر ما هو عليه) كما فات المتقدمين بذلك من الجهة .
قال رضي الله عنه : (فکن) يا أيها السالك (في نفسك هیولی)، أي مادة كلية (الصور المعتقدات)، التي يعتقدها في الله تعالى جميع الناس في سائر الملل (كلها) مع تخطئتك لجميع الملل المقيدين اعتقادهم بعقد واحد و مكفرين من خالفهم في ذلك.
فإنهم الذين قال تعالى في حقهم: "في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها " [الأعراف: 38] .
قال رضي الله عنه : (فإن الإله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد) من عقائد الناس (دون عقد آخر) من عقائدهم لإطلاقه تعالى الإطلاق الحقيقي الذي تشير إليه أرباب الملل من حيث العبارة.
وتعدل عنه في نفسها من حيث ما تفهمه، فتنزهه عن كل ما سواه، ولا يشعر أحد منهم بأن قيده وحصره بفهمه له حين نزهه عن كل ما سواه.
فإن كل مفهوم محدود بالمعنى المنسوب إليه بالفهم مقيدة بما نسب إليه من المعنى الخاص قال رضي الله عنه : (فإنه)، أي الله تعالى يقول في كلامه القديم (" فأينما تولوا فثم وجه الله")، أي تتوجهوا بظواهركم أو بواطنكم ("فثم")، أي هناك ("وجه الله")."إن الله واسع عليم" [البقرة : 115] .
قال رضي الله عنه : (وما ذكر) سبحانه (أيا)، أي مكانا (من أين)، أي مكان يعني لم يخصص بل عمم في كل أين لكل جهة توجهت إليها همة طالب للحق سبحانه في تلك الجهة
(وذكر) تعالى (أن ثم)، أي هناك في الجهة التي وقع التوجه إليها ("وجه الله") تعالى (ووجه الشيء حقيقته)، أي ذاته وهويته الجامعة لصفائه وأسمائه .
قال رضي الله عنه : (فنبه) سبحانه (بهذا) الإخبار (قلوب العارفين به) أنه تعالى الظاهر على كل حال في كل شيء مع أنه سبحانه الباطن على كل حال عن كل شيء (لئلا تشغلهم العوارض)، أي الأمور التي تعرض لهم من عوائق الأحوال (في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا)، أي عموم ظهور الحق تعالى في كل أمر، فلا يحجبون عنه تعالی بشيء، ولا يشتغلون عن شهود ظاهريته تعالى بما هم فيه.
ول ينكرونه سبحانه في كل تجلي من تجلياته وظهور من ظهوراته و تستغرقهم الأوقات في معرفته واستحضاره، فلا يغيبون عنه كما هو لا يغيب عنهم.
قال رضي الله عنه : (فإنه)، أي الشأن (لا يدري العبد) المخلوق (في أي نفس) بفتح الفاء (يقبض) فإن الأنفاس بيد الله تعالى والأعمار مقدرة بها (فقد يقبض) العبد (في وقت غفلة) بنفس ملهي عن الحق سبحانه (فلا يستوي) عند الله تعالى (مع من قبض على حضور)، أي استحضار لعظمة الله تعالى في تجليه بنوع من أنواع تجلياته.
قال الشيخ رضي الله عنه: ( ثم إن العبد الكامل مع علمه بهذا يلزم في الصورة الظاهرة والحال المقيدة التوجه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله في قبلته حال صلاته، وهو بعض مراتب وجه لحق من «فأينما تولوا فثم وجه الله». فشطر المسجد الحرام منها، ففيه وجه الله.
ولكن لا تقل هو هنا فقط، بل قف عند ما أدركت والزم الأدب في الاستقبال شطر المسجد الحرام والزم الأدب في عدم حصر الوجه في تلك الأبنية الخاصة، بل هي من جملة أينيات ما تولى متول إليها. فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة، وما ثم إل الاعتقادات.
فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضي عنه وإن شقي زمانا ما في الدار الآخرة.)
قال رضي الله عنه: (ثم إن العبد الكامل) في المعرفة الإلهية (مع علمه بهذا) الأمر المذكور في حق الله تعالى (يلزم في الصورة الظاهرة) التي له (والحال المقيدة) المتصف بها (التوجه بالصلاة) المفروضة وغير المفروضة (إلى شطر)، أي جهة (المسجد الحرام) حيث كان من الأرض (ويعتقد أن الله تعالی) سبحانه (في قبلته) وهو متوجه إليه تعالى (في حال صلاته) ووجهه مقابل له أينما توجه من حيث ظهوره تعالى فيما توجه إليه تعالی ذلك العبد لا من حيث بطونه تعالى بما لا يعلمه إلا هو.
وفي حديث الترمذي بإسناده إلى الحارث الأشعري قال فيه:
«وإن الله عز وجل أمركم بالصلاة، فإذا صلیتم فلا تلتفتوا فإن الله عز وجل ينصب وجهه لوجه عبده فى صلاته مالم يلتفت».رواه الحاكم و الترمذي ، الجامع الصحيح.
قال رضي الله عنه: (وهو) ، أي التوجه إلى شطر المسجد الحرام (بعض مراتب وجه الحق) تعالى المأخوذة
(من) قوله سبحانه : (" فأينما تولوا فثم وجه الله" ف "شطر المسجد الحرام") بعض (منها)، أي من تلك الأينيات التي هي مراتب لوجه الحق تعالی (ففيه)، أي في شطر المسجد ("وجه الله") سبحانه .
قال رضي الله عنه: (ولكن لا تقل) يا أيها السالك (هو)، أي الحق تعالی (ههنا) في شطر المسجد الحرام (فقط) دون غيره من الجهات (بل قف) يا أيها السالك (عندما أدركت) وعرفت من أنه تعالى في كل وجهة من حيث ظاهريته كما مر غير مرة (والزم الأدب) الذي أمرت به على لسان الشارع (في استقبال شطر المسجد الحرام) حال صلاتك ولا تستقبل غير ذلك في الصلاة .
قال رضي الله عنه: (والزم الأدب) أيضا (في عدم حصر الوجه) الإلهي (في تلك الأينية الخاصة) شطر المسجد الحرام (بل هي)، أي تلك الأينية (من جملة أينيات م تولى) من الناس (إليها) فهي وغيرها سواء في كون وجه الحق تعالی ظاهرة فيها من اسمه الظاهر لا فرق بينهما أصلا.
ولكن الخصوص شطر المسجد الحرام أمر تعبدي شرعي لا علة له غير مجرد الأمر الإلهي بالتوجه إلى ذلك، فللخصوص أدب وللعموم أدب، والكامل قائم بكلا الأدبين في ظاهره وباطنه علما وعملا.
قال رضي الله عنه: (فقد بان)، أي ظهر (لك) يا أيها السالك (عن الله) تعالى (أنه) ظاهر سبحانه من حيث تجلي اسمه الظاهر (في أبنية كل وجهة) لكل أحد، وهو سبحانه من حيث اسمه الباطن منزه عن كل شيء بل عن تنزيهنا له.
لأنه حكم منا على محكوم عليه مفهوم لنا، وكل محكوم عليه مفهوم لنا محدود محصور، وكل محدود محصور غیر مطلق وغير منزه عن القيود، فتنزيهنا تشبيه له، والتنزيه اللائق به ما هو عليه في نفسه مما لا يعلمه به عالم أصلا.
وإنم تعلق علم العالمين به من حيث تشبيهه وظهوره في الأينيات المذكورة، وتجليه لقلوب العارفين في كل صورة، ومن هذه الحضرة جاءت الشرائع وانتصبت الوسائل إليه والذرائع ووصف على ألسنة الأنبياء والمرسلين وتعلقت به قلوب السالكين والواصلين.
فمن عرف أنه مطلق في عين کونه مقيدة وصدق وآمن بأنه سبحانه منزه بالتنزيه الذي يعلمه هو سبحانه مما هو معجوز عنه في عين كونه مصورة محدودة .
فكان تعالی عنده جامعة بين النقيضين وموصوفة بالخلافين والضدين فهو العارف الكامل والعالم العامل ومن قيده بالإطلاق أو القيد فهو جاهل به تعالی وعلمه قاصر غير شامل.
قال رضي الله عنه: (وما ثم)، أي هناك في الأينيات المذكورة (إلا الاعتقادات) في الحق تعالی من كل معتقد من الناس (فالكل)، أي كل معتقد من الناس في الحق تعالى بأي اعتقاد اعتقده (مصيب) في اعتقاده ذلك.
لأن الحق تعالی تجلی عليه في ذلك الاعتقاد فخلقه له في بصيرته على حسب استعداده ، فكيف يكون أخطأ في اعتقاده ، وجميع الاعتقادات بهذه المثابة، لا ترجيح لأحدها على الآخر.
وم يتوهمه الجاهل من مطابقة اعتقاده للحق تعالى دون اعتقاد غيره، فإن كل ذي اعتقاد في اعتقاده كذلك، وليس اعتقاد من الاعتقادات مطابقة أصلا ولا مردودة أيضا على معتقده أصلا.
وإنم الكفر والضلال في حصر الحق تعالی من حيث ما هو عليه في ذلك الاعتقاد، ورؤية ذلك الاعتقاد لائقا بالحق تعالی مطابقا لنفس الأمر، خصوصا مع اعتقاد أن ذلك الاعتقاد مخلوق لله تعالى.
مثل الاعتقادات كلها تبارك الله تعالی في ذاته، وتقدس في صفاته وأسمائه عن ذلك علو كبيرا.
قال رضي الله عنه: (وكل مصيب) من الناس في اعتقاده (مأجور) من الله تعالى على إصابته للحق (وكل مأجور) على إصابته للحق (سعيد وكل سعيد مرضي)، أي الله تعالی (عنه) راض (وإن شقی)، أي اتصف بالشقاوة (زمان) طويلا أو قصيرة (في الدار الآخرة)، وإن لقبه الله تعالى في الدنيا بلقب الكافر والفاسق أو غير ذلك، فإنه تعالى لقب غيره بلقب المؤمن أو التقى أو الصالح من غير علة ولا سبب ولكن بمجرد الحكم الربانی.
والحكمة المقتضية لذلك ولا غرض له تعالى أصلا مع أن الكل مخلوقون نه تعالى ، وهو الذي يخلق لهم ما يفعلونه بحوله سبحانه وقوته في ظواهرهم وبواطنهم، وهو تعالی متجلي على الكل في صور اعتقاداتهم كلهم.
وهو عالم سبحانه بأن جميع اعتقاداتهم غير مطابقة لما هو عليه سبحانه في حضرة اسمه الباطن، وإنما هي كلها مطابقة له تعالى من تجلی اسمه الظاهر.
وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب الإقامة الحجج في الآخرة ولتمييز القبضتين : قبضة السعادة وقبضة الشقاوة.
وأعد لهم في الآخرة جزاء وفاقا على حسب أعمالهم المنسوبة إليهم.
ومرجع الكل إلى الرحمة العامة التي هم فيها في الدنيا والآخرة مؤمنهم وكافرهم، وأهل الجنة في الجنة خالدون، وأهل النار في النار خالدون.
وم سماه نعيمة في حق هؤلاء لا يزول عنهم أبدا، وما سماه عذاب أليمة في حق هؤلاء ل يزول عنهم أبدا.
والشريعة حق والحقيقة حق ولكن الجاهل في عمر وإن كان إلى العلم انتمى، وشقاوة أهل الشقاوة في الآخرة نظیر شقاوة أهل السعادة في الدنيا وإن لم يسم ذلك شقاوة في حق السعداء ولا عذابا لهم لأجل الحكم الإلهي و التلقيب الرباني بل يسمی ابتلاء قال عليه الصلاة والسلام «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل».
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فقد مرض وتألم أهل العناية- مع علمنا بأنهم سعداء أهل حق- في الحياة الدنيا. فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم، و مع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم، أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان و الله أعلم .)
قال رضي الله عنه : (فقد مرض وتألم) في الدنيا بأنواع الأمراض والأوجاع والآلام (أهل العناية) من الخاصة والعامة (مع علمنا) قطعة (بأنهم سعداء أهل حق في الحياة الدنيا) وكثير من الناس جرى عليهم لسان الشرع بالتلقيب بالكافرين والضالين المضلين والفاسقين والمبتدعين.
ثم انتسخ ذلك عنهم وزال حكمه بخلق الله فيهم الإيمان والهداية ، فلقبوا بالمؤمنين والصالحين والأولياء المقربين، وبعد أن توجه عليهم غضب الله تعالی وکانوا من أهل السخط والعقوبة زال ذلك عنهم.
وتبدل الغضب بالرضوان والمثوبة، وبالعكس من ذلك أيضا ولم يلزم منه فساد في ملك الله تعالى ولا تعطيل اسم من أسمائه ولا صفة من صفاته، لأن صفاته تعالى وأسماءه ثابتة له تعالى من الأزل إلى الأبد ولا توقف لها على ظهور أثر أصلا، بل الآثار موقوفة عليها لا هي موقوفة على الآثار، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
والمخلوقات كلها متغيرة متبدلة في كل حين كما هو المشاهد في الدنيا ، وكذلك في الآخرة وإن كانت الآخرة متسر مدة عليهم وأهل الجنة والنار باقون على الأبد.
ولكن تغيير أحوالهم في ظواهرهم وبواطنهم كائنة لا محالة ، فإذا أدركت الرحمة جميع أهل الآخرة وعمتهم مع بقاء أحوالهم فيها على ما هي عليه وتبدلها من حيث الأذواق باطن فلا بعد في ذلك والنصوص بسبق الرحمة والغضب واردة.
والإشارة القرآنية على ذلك متعاضدة .
قال رضي الله عنه : (فمن) بعض (عباد الله) تعالى (من تدركهم تلك الآلام) والبلايا التي أدركت أهل السعادة في الحياة الدنيا تدركهم (في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم ومع هذا)، أي إدراك الأمر لهم في الحياة الأخرى (لا يقطع أحد من أهل العلم) بالله تعالى (الذين كشفوا الأمر) الإلهي في جميع العالمين (على ما هو عليه) في نفسه.
(أنه)، أي الشأن (لا يكون لهم)، أي لأهل الشقاء في الآخرة (في تلك الدار) التي تسمى جهنم (نعیم) روحاني ذوقي (خاص بهم) ليس مما يعهد في الحس والعقل إما بفقد ألم العذاب الذي (كانوا يجدونه) في نار جهنم مع بقاء صورة العذاب عليهم إلى الأبد (فارتفع عنهم) وجعه وبقيت عينه على ما هو عليه .
قال رضي الله عنه : (فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم) الذي كانوا يجدونه أولا مدة يوم القيامة حتى ينقضي كما انقضى يوم الدنيا، ويبدأ يوم الخلود كما قال سبحانه :
"ذلك يوم الخلود " [ق: 34] .
فيوم الخلود بعد أن ييأس أهل النار من الخروج منها وينادوا : "ونادو يامالك ليقض علينا ربك" ، وهم فيها يصطرخون وأن يستغيثو يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه : "قال إنكم ماكثون " [الزخرف: 77].
فإذ ابتدأ يوم الخلود أدركوا هذا النعيم الروحاني الذي كانوا بعضهم من طوائف أهل النار مؤمنین به في الدنيا ولاحظ لهم من النعيم الجسماني الذي كذب به من كذبه منهم.
قال رضي الله عنه : (أو يكون) لهم في النار (نعیم مستقل) غير الراحة وزوال الألم (زائد) على الراحة وزوال الألم المذكور (کنعيم أهل الجنان في الجنان).
وقد اختلف أهل الله تعالى في هذه المسألة وكلهم مجمعون بطريق الكشف والإشارة اللائحة من النصوص العقلية على أن المآل والمرجع إلى الرحمة وسبقها للغضب وتأخر الغضب عنه(والله أعلم ) بما هو الأمر عليه في نفسه وهو الحكيم الخبير .
تم فص الحكمة الهودية
.


f1IdWabpANM

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!