موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب جواهر النصوص
في حل كلمات الفصوص

تأليف: الشيخ عبد الغني النابلسي

فص حكمة نورية في كلمة يوسفية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة نورية في كلمة يوسفية


09 - فص حكمة نورية في كلمة يوسفية .شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي

كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص الشيخ عبد الغني النابلسي على فصوص الحكم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

هذا نص الحكمة اليوسفية ذكره بعد حكمة يعقوب عليه السلام، لأنه ابنه والأب مقدم على الابن والابن مؤخر عن الأب في رتبة الوجود.
ولأن علم الخيال الذي يبحث عنه في الحكمة اليوسفية ، هو من أحد الطرق الموصلة إلى معرفة أعيان الممكنات في حال ثبوتها.
فناسب تتميم المبحث السابق بما منه (فص حكمة نورية)، أي منسوبة إلى النور كما سبق بيانه (في كلمة يوسفية)، إنما اختصت حكمة يوسف عليه السلام بكونها نورية، لأن النور ممد الجمال الصوري في الهياكل الإنسانية، لأنه إشراق وجه الروح إلى جهة الجسم.
ويوسف عليه السلام كان الجمال النوراني مشرقة على صورته الظاهرة والباطنة؛ ولهذا شهد له النبي صلى الله عليه السلام وسلم أنه أعطي شطر الحسن، وهو أعطي الحسن كله. لأنه أعطي هذا الشطر الذي هو عين الحضرة الصفاتية والاسمائية.
وأعطي الشطر الآخر الذي هو عين الحضرة الذاتية الإلهية فكمل له الحسن ؟ ذات وصفات وأسماء .
قال الشيخ رضي الله عنه : (هذه الحكمة النورية انبساط نورها على حضرة الخيال وهو أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية. تقول عائشة رضي الله عنها: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح «تقول لا خفاء بها. وإلى هنا بلغ علمها لا غير.
وكانت المدة له في ذلك ستة أشهر ثم جاءه الملك، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، وكل ما يرى في حال النوم فهو من ذلك القبيل، وإن اختلفت الأحوال.
فمضى قولها ستة أشهر، بل عمره كله في الدنيا بتلك المثابة: إنما هو منام في منام.)
(هذه الحكمة النورية) من حقيقة يوسف عليه السلام (انبساط نورها) دائم (على حضرة الخيال) من كل إنسان في النوم وفي اليقظة.
حتى أنني بما جربته أني إذا قصت على رؤيا منام وطلب مني تعبيرها أتوجه بكليتى قبل إمرار صورة تلك الرؤيا على خيالي إلى يوسف عليه السلام بالنورية.
وأصلي وأسلم عليه في نفسي أو في لساني، ثم أتكلم في تعبير تلك الرؤيا ، فلا أكاد أخطىء إن شاء الله تعالى، وإذا لم أفعل كذلك أخطأت كثيرة (وهو)، أي الخيال المنبسط عليه تلك الحضرة النورية أول مباديء الوحي الإلهي (في أهل العناية الإلهية من الرسل والأنبياء عليهم السلام، ولهذا ورد في الحديث : «الرؤيا الصالحة جزء من النبوة»).
"" أضاف المحقق : يقول الشيخ ابن العربي الطائي الحاتمي :
" الخيال أحق باسم النور من جميع المخلوقات الموصوفة بالنورية ، فنوره لا يشبه الأنوار ، وبه تدرك التجليات وهو نور عين الخيال لا نور عين الحس .""
وفي رواية : «ذهبت النبوات وبقيت المبشرات»، أورده ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة . «الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تری له ».رواه الحاكم في المستدرك ،والطبراني في الكبير ورواه غيرهما.
فبقي من الوحي عالم الخيال في المنام بين الأمة غير ذاهب .
(تقول عائشة رضي الله عنها أول ما بدئ)، أي بدأ الله تعالى (به رسول الله) صلى الله عليه وسلم (من الوحي) النبوي (الرؤيا) في المنام الصادقة المنزهة عن كونها أضغاث أحلام (فكان) صلى الله عليه وسلم (لا يرى الرؤيا) في منامه (إلا خرجت) تلك الرؤيا أي ظهرت في اليقظة بعين ما رأى في المنام (مثل فلق الصبح)، أي ضوئه المنتشر في أقطار الأرض بحيث لا يخفى (تقول)، أي عائشة رضي الله عنه (لا خفاء بها)، أي بتلك الرؤي (وإلى هنا)، أي كون أول مبادئ الوحي كان الرؤيا الصادقة من النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة التي لا خفاء بها .
(بلغ)، أي وصل (علمها)، أي علم عائشة رضي الله عنها حين قالت ذلك (لا غير) مما هو فوق ذلك مما كان يعرفه النبي ة ويعرفه أبوها الصديق رضي الله عنه، ومن ضاهاه من الصحابة أرباب المقامات الاختصاصية .
(وكانت المدة) التي يرى فيها النبي الرؤيا الصادقة فتخرج ظاهرة مثل فلق الصبح (له)، أي للنبي عليه السلام في ذلك الأمر المذكور (ستة أشهر) فقط كما جاء في الأخبار الصحيحة (ثم جاء الملك)، أي جبريل بالوحي القرآني
(وما علمت) أي عائشة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال : إن الناس نيام)، أي نائمون بنوم الغفلة في الحياة الدنيا الوهمية عن اليقظة الحقيقية بالحياة الآخرة
(فإذا ماتوا) عن حياتهم الموهومة لهم موتا اختيارية أو اضطرارية (انتبهوا) من نورهم ذلك وقاموا بالحياة الحقيقية الأبدية الإلهية.
كما قال تعالى:" يوم يقوم الناس لرب العالمين" [المطففين: 6].
وقال تعالى: "ومن آياته منامكم بالليل والنهار" [الروم: 23]، فقد استوعب نوم الغافلين الليالي والأيام (وكل ما)، أي شيء (يرى)، أي يراه أحد (في حال النوم فهو من ذلك القبيل) الذي قالت عائشة رضي الله عنها فهو من جملة الوحي الإلهامي عند أهل المعرفة.
(وإن اختلفت الأحوال) من الرائي لذلك بالصلاح والفساد، لأن الناس الموصوفين بأنهم نيام غیر مخصوصین من العموم، ولكن لا يعرف هذا غير أرباب الكمال من خاصة الرجال .
(فمضى)، أي ذهب (قولها)، أي عائشة رضي الله عنها وكانت المدة له في ذلك (ستة أشهر)، إلى مقدار ما تعلم من ذلك (بل) كان عمره) صلى الله عليه وسلم (كله في) الحياة (الدنيا بتلك المثابة) التي قالت عائشة رضي الله عنها بمقتضى قوله عليه السلام : «الناس نيام».
وقول الله تعالى له : "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي" [الكهف: 110].
فانظر قوله:"يوحى إلى " ، أي في جميع أحوالي كما قال تعالى: "إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 4] .
(إنما هو)، أي عمره صلى الله عليه وسلم بسبب كونه من جملة الناس الذين أخبر عنهم أنهم نیام وقوله : «إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ».
(منام) كان ينامه (في منام) هو يقظة الحياة الدنيا إلا مدة ذلك ستة أشهر فقط يعني كل نوم كان ينامه فهو كذلك في مدة عمره عليه السلام.
قال الشيخ رضي الله عنه : (وكل ما ورد من هذا القبيل فهو المسمى عالم الخيال ولهذا يعبر، أي الأمر الذي هو في نفسه على صورة كذا ظهر في صورة غيرها، فيجوز العابر من هذه الصورة التي أبصرها النائم إلى صورة ما هو الأمر عليه إن أصاب كظهور العلم في صورة اللبن.
فعبر في التأويل من صورة اللبن إلى صورة العلم فتأول أي قال: مآل هذه الصورة اللبنية إلى صورة العلم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه أخذ عن المحسوسات المعتادة فسجي وغاب عن الحاضرين عنده: فإذا سري عنه رد. فما أدركه إلا في حضرة الخيال، إلا أنه لا يسمى نائما.)
(وكل ما ورد من رؤياه) المنامية عليه السلام ورؤيا غيره أيض (من هذا القبيل)، أي منام في منام مدة العمر (فهو)، أي الوارد من ذلك (المسمى عالم الخيال)، لأن الله تعالى يخلقه للنائم فكشف له عنه، فیدركه النائم بقوة خياله فهو عالم، أي موجود عنده لا عند غيره ممن ليس بنائم.
(ولهذا)، أي لكون المسمى عالم الخيال (يعبر)، أي يعبره المعبرون (أي) بيان للضمير المستتر في الفعل الأمر الذي يراه النائم (وهو في نفسه على صورة كذا)، أي صورة كانت من الصور المحسوسة أو المعنوية المعقولة (ظهر)، أي ذلك الأمر باعتبار حالة النوم (في صورة) أخرى محسوسة (غيرها)، أي غير تلك الصورة الأولى التي هو عليها ذلك الأمر.
(فيجوز)، أي يمر ويتجاوز الإنسان (العابر)، أي المعبر لتلك الرؤيا المنامية (من هذه الصورة) الثانية التي أبصرها النائم في منامه المنسوبة لذلك الأمر إلى (صورة ما هو) ذلك (الأمر عليه) من صورته التي هو عليها في عالم محسوسة كانت أو معقولة (إن أصاب) ذلك العابر في تعبيره (كظهور) صورة (العام) المعنوية في المنام (في صورة اللبن)، أي الحليب المحسوسة لمن رأى ذلك (فعبر)، أي جاوز العابر (في التأويل من صورة اللبن) المرئية في المنام.
(إلى صورة العلم فتأول) ذلك (أي قال مآل)، أي مرجع (هذه الصورة اللبنية)، أي المنسوبة إلى اللبن التي رآها الرائي في المنام (إلى صورة العلم) في اليقظة، وهكذا في كل رؤيا عبرها العابر وأولها المؤول.
(ثم إنه)، أي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (كان إذا أوحي إليه)، أي إذا أوحى الله تعالى إليه بالملك (أخذ بالبناء للمفعول، أي غاب (عن) الأشياء المحسوسات المعتادة) للناس (فسجي)، أي غطي بثوب ونحوه (وغاب عن) الجماعة (الحاضرين عنده فإذا سري)، أي ذهب ذلك الحال (عنه رد) صلى الله عليه وسلم إلى المحسوسات المعتادة (فما أدركه)، أي الوحي (إلا في حضرة الخيال إلا أنه)، أي النبي في تلك الحالة (لا يسمى نائما)، لأن النوم فتور يأتي من قبل الطبيعة لضعف تماسكها في بعض الأحيان من تراكم الأبخرة الرطبة المتصاعدة إلى الدماغ.
وهذه الحالة من قبل الروح الإنساني القدسي وتوجهه إلى إفادة النفس المتشعبة في الجسم التي هي شعاع ذلك الروح الإنساني، فتفيض ما أفاضته في الصور الطبيعية فتزول المعاني في الصور الطبيعية.
هو القدر المشترك بين حالة النائم وهذه الحالة، والفرق بينهما من جهة المبدأ الفياض.
ولهذا ورد في الحديث : أن رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة». رواه مسلم وابن حبان وغيرهما.
وفي رواية : «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة». رواه البخاري والنسائي وغيرهما.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وكذلك إذا تمثل له الملك رجلا فذلك من حضرة الخيال، فإنه ليس برجل وإنما هو ملك، فدخل في صورة إنسان.
فعبره الناظر العارف حتى وصل إلى صورته الحقيقية، فقال هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
و قد قال لهم ردوا علي الرجل فسماه بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم فيها.
ثم قال هذا جبريل فاعتبر الصورة التي مآل هذا الرجل المتخيل إليها. فهو صادق في المقالتين:
صدق للعين في العين الحسية، وصدق في أن هذا جبريل، فإنه جبريل بلا شك. )
(وكذلك)، أي مثل ما ذكر (إذا تمثل له الملك) الذي يوحي إليه (رجلا)، أي في صورة رجل كما كان يأتيه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي (فذلك) التمثل (من حضرة الخيال) أيضا .
(فإنه)، أي الملك المتمثل (ليس برجل) من بني آدم (وإنما هو ملك) من الملائكة (فدخل) ذلك الملك (في صورة إنسان) فالحقيقة الروحانية للملك والإنسانية فيه خيالية (فعبره الناظر) إلى تلك الصورة الإنسانية (العارف) بذلك التمثيل يعني جاوز من تلك الصورة الإنسانية (حتى وصل إلى صورته)، أي صورة ذلك الملك الحقيقية التي هو عليها في نفسه .
والحاصل أن الأرواح سواء كانت ملكية أو إنسانية أو جنية أو شيطانية أو حيوانية أو غير ذلك قابلة للتشكل والدخول في أي صورة شاءت من الصو.
غير أن تلك القابلية فيها إما بالفعل كالأرواح الملكية والجنية والشيطانية وبعض الإنسانية، أو بالقوة كالأرواح الحيوانية وغيرها، وكل هذا بواسطة القوة المتخيلة ووجود عالم الخيال واتصاله بعالم الأرواح في الكل، والوحي يكون بتجريد النبي عن صورته الحسية الخيالية ودخوله في صورة ملكية خيالية أخرى.
وهو حال غيبته عن الحاضرين عنده ، أو بتجريد الملك عن صورته الخيالية ونزوله في الصورة الحسية الخيالية الإنسانية.
وهو مجيئه في صورة دحية الكلبي أو صورة الأعرابي والصور كلها خيالية في الملأ الأعلى والأدنى، والحقائق كلها روحانية في الأعلى والأدنى أيضا، فكل ما هو غير الحق تعالی عالم روحاني له قوة خيال يظهر بها في كل صورة إما بالفعل أو بالقوة (فقال) عليه السلام عند ذلك التعبير لهم عنه كما يعبر لهم رؤيا المنام بصورة غير صورة ما رأو (هذا)، أي الرجل الذي رأيتموه (جبرائیل) علیه السلام (أتاكم) في عالم منامكم الذي هو يقظتكم في الدنيا.
(یعلمكم دینكم) بسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم على حسب ما ورد في بقية الحديث.
(وقد قال)، أي النبي صلى الله عليه وسلم (لهم ردوا على الرجل فسماه)، أي الملك (بالرجل من أجل الصورة التي ظهر لهم) ذلك الملك (فيها ثم قال) صلى الله عليه وسلم (هذا جبرائیل) علیه السلام (فاعتبر الصورة) الجبرائيلية (التي مآل)، أي مرجع (هذا الرجل المتخيل) لهم في التأويل.
(إليها فهو) صلى الله عليه وسلم (صادق في المقالتين صدق) في المقالة الأولى ردوا على الرجل (العين) التي ظهر بها الملك له ولهم في صورة الرجل (في العين الحسية) الباصرة، فإنها لا ترى إلا الصورة المحسوسة (وصدق في أن هذا جبرائیل) علیه السلام في عين القلب التي هي البصيرة العارفة بذلك (فإنه)، أي ذلك الرجل (جبرائیل) علیه السلام (بلا شك) في نفس الأمر فقد أوفي عليه السلام كل عين حقها وأعطى كل عالم مقتضاه وهو الكمال المطلوب.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( و قال يوسف عليه السلام: «إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين»: فرأى إخوته في صورة الكواكب و رأى أباه و خالته في صورة الشمس و القمر.
هذا من جهة يوسف، ولو كان من جهة المرئي لكان ظهور إخوته في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم.
فلما لم يكن لهم علم بما رآه يوسف كان الإدراك من يوسف في خزانة خياله، وعلم ذلك يعقوب حين قصها عليه فقال: «يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا» ثم برأ أبناءه عن ذلك الكيد وألحقه بالشيطان، وليس إلا عين الكيد.
فقال: «إن الشيطان للإنسان عدو مبين» أي ظاهر العداوة. ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا» أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «الناس نيام»،)
"إن الشيطان للإنسان عدو مبين" [يوسف: 5] أي ظاهر العداوة .
ثم قال يوسف بعد ذلك في آخر الأمر: "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا". أي أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : «الناس نيام».
(وقال يوسف عليه السلام) في رؤياه التي قصها على أبيه (" إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " [يوسف: 4] .
فرأى عليه السلام (إخوته) الاثنى عشر (في صورة الكواكب ورأى أباه يعقوب) عليه السلام (في صورة الشمس) (وخالته) أخت أمه كان أبوه قد تزوجها بعد موت أمه في صورة (القمر) .
(هذا) الأمر كان (من جهة يوسف) عليه السلام في عالم خياله (ولو كان) الأمر كذلك (من جهة المرئي لكان ظهور إخوته) عليهم السلام (في صورة الكواكب وظهور أبيه وخالته في صورة الشمس والقمر مرادا لهم) من جهة عالم خيالهم أن يظهروا كذلك ليوسف عليه السلام.
مثل ظهور الملك "جبريل" في صورة الأعرابي من جهة عالم خياله أمر مراد له أن يظهر فيه للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة رضي الله عنهم.
(فلما لم يكن لهم)، أي لإخوة يوسف عليه السلام لأبيه وخالته (علم بما رآه يوسف عليه السلام) منهم في المنام في عالم خياله (كان الإدراك) في تلك الصور
من جهة (يوسف عليه السلام في خزانة خياله) بحسب منامه .
(وعلم ذلك)، أي أن تلك الصور من جهة يوسف عليه السلام لا من جهة المرئي (يعقوب أبوه عليهما السلام حين قصها)، أي هذه الرؤيا المنامية (عليه فقال ) يعقوب عليه السلام (" يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا") [يوسف: 5] .
بسبب علمهم من ذلك رفعتك عليهم وانقيادهم لك طوعا لسلطانك.
(ثم برأ) يعقوب عليه السلام (بنیه) عليهم السلام (عن ذلك الكيد) الذي علم أنه يصدر منهم في حق يوسف عليه السلام (وألحقه)، أي ذلك الكيد (بالشيطان وليس الشيطان في ذلك إلا عين الكيد) الذي وقع منهم في حق يوسف عليه السلام فإنهم أنبياء كما هو نبي وهم معصومون من الذنوب.
فإذا صدر منهم ذنب كان من عمل الشيطان الذي يجري من الإنسان في جسده مجرى الدم لا من علمهم، كما قال موسى لما وكز القبطي فقضى عليه إنه من عمل الشيطان.
ثم قال : و"وقتلت منهم نفسا" [القصص: 33]، أي بالنظر إلى رؤيتهم ذلك، فإن الشيطان استعمل" الغضب" يد موسی علیه السلام في القتل دون الحقيقة الإنسانية المعصومة من الذنوب ، فكان ظهور صور الذنوب على أجسام الأنبياء عليهم السلام نظير ظهور ذلك على أجسام
غيرهم من الناس الذي لم يكن ذلك عن تعمد منهم كما قال عليه السلام «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » فليست ذنوبا صغائر ولا كبائر وإنما هي صور الذنوب فقط.
الحديث أورده العجلوني في كشف الخفاء وأورده السيوطي في التفسير بلفظ : «رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه». وعزاه إلى ابن عدي في الكامل وأبي نعيم في التاريخ. و روي الحديث بألفاظ اخرى متقاربة منها: «وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
قال تعالى: "ولكن يؤاكم ما كسبت قلوبكم" [البقرة : 225]، وأما غير الأنبياء عليهم السلام إذا صدرت منهم الذنوب فإن الشيطان يستعمل فيها حقائقهم الإنسانية مع أعضائهم الجسمانية فتكون ذنوبة من الصغائر والكبائر.
وكون الشيطان نفس الكيد، لأنه قوة نارية اتصلت بأجسام النبيين فحفظ الله تعالى منها إنسانيتهم وعصمها فلم يصدر عنها ذنب أصلا وإنما صدر ذلك من الشيطان باستعمال أجسامهم كما ورد أن الله سلط الشيطان على جسد أيوب عليه السلام وحفظ قلبه.
فكان البلاء في جسده دون قلبه، وفي آدم عليه السلام حتى أكل من الشجرة فأهبط الله تعالی جسده إلى الأرض بسبب عصيانه الصوري. وهو في الحقيقة عصیان الشيطان العصيان الحقيقي.
وقلب آدم عليه السلام الذي هو إنسانيته المكلفة لم تبرح من حضرة الحق تعالی كباقي النبيين عليهم السلام، وهي المعصومة دون غيرهم من الناس، فإن التكليف واقع من الله تعالى على الإنسانية المتصلة بالجسد لا على الجسد.
ونظير هذا قصة الغرانيق التي وقعت لنبينا صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى فيها قوله سبحانه : "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " [الحج: 52]، الآية .
أرأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر وأخذ عن زوجته وكان يخيل له أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، والسحر استعمال الشياطين.
فكان ذلك في جسد النبي دون قلبه وأنزل الله عليه المعوذتين في شأن ذلك ولا ينافي هذا قول علماء الكلام إن الأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر عمدها وخطئها.
فإن هذا ليس من الذنوب بالنظر إلى الأنبياء عليهم السلام أصلا، وإن صدر على خواطرهم، فإنه من عمل الشيطان .
كما قال تعالى حكاية عنهم وليس من عملهم، ولعل للأنبياء عليهم السلام في حالة صدور ذلك عنهم حالة نفسانية خصوصية يعرفونها نظير الخطأ أو النسيان فينا.
فالنائم إذا رأى في منامه أنه فعل ذنبا فإنه ليس بذنب أصلا، ويؤيده قوله تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" [طه: 115]، فقد سمى تعالى تلك الحالة نسيانا ول
يقاس غير الأنبياء على الأنبياء والأمر ذوقي لا خيالي، والله أعلم.
(فقال) يعقوب عليه السلام ("إن الشيطان للإنسان") [يوسف : 5] من طرف يوسف وإخوته عليهم السلام وعدو مبيه [يوسف: 5]، (أي ظاهر العداوة) لا تخفي عداوته (ثم قال يوسف) لأبيه عليه السلام (بعد ذلك في آخر الأمر) بعد أن وقع الكيد له من إخوته ونجاه الله تعالى من ذلك .
وأتته إخوته ووضع أبويه على العرش وخروا له سجد (هذا)، أي ما وقع الآن (تأويل)، أي مآل، أي مرجع (رؤياي) المنامية (من قبل قد جعلها ربي حقا) بعدما كانت خيالا لا باطلا في غير صورتها الآن .
(أي أظهرها) في صورتها الأصلية (في) عالم (الحس بعدما كانت في صورة الخيال فقال له)، أي ليوسف عليه السلام بلسان الحال نظرا إلى مقابلة الكاملين (النبي صلى الله عليه وسلم الناس) في عالم الحس في الحياة الدنيا الذي سماه يوسف عليه السلام حق أي أمرة حقيقية (نیام) جمع نائم، فإذا ماتوا انتبهوا ، وكذلك إذا ماتوا نیام، فإذا بعثوا انتبهوا.
قال تعالى : "قالوا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا" [يس : 52]، والمرقد موضع الرقود وهو النوم وكذلك إذا بعثوا نيام، فإذا استقروا في جنة أو نار انتبهوا ، والانتباه الحقيقي الذي ليس بعده نوم وقت رؤية الحق تعالی و ظهور أمره مجردا عن كل صورة، لأن الصورة كلها خيالية كما قدمناه والحقائق كلها أمرية روحانية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان قول يوسف: «قد جعلها ربي حقا» بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا رآها ثم عبرها.
ولم يعلم أنه في النوم عينه ما برح، فإذا استيقظ يقول رأيت كذا ورأيت كأني استيقظت وأولها بكذا. هذا مثل ذلك.
فانظر كم بين إدراك محمد صلى الله عليه و سلم و بين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره حين قال: «هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا». معناه حسا أي محسوسا، و ما كان إلا محسوسا، فإن الخيال لا يعطي أبدا إلا المحسوسات، غير ذلك ليس له.
فانظر ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم. و سأبسط من القول)
فنقول :
(فكان قول يوسف عليه السلام : "قد جعلها ربي حقا " [يوسف : 100] بمنزلة من رأى في نومه أنه قد استيقظ من رؤيا) منامية (رآها ثم عبرها) في نومه (ولم يعلم ذلك) الرائی (المعبر أنه ) في حالة الرؤيا وحالة الاستيقاظ والتعبير لتلك الرؤي (في النوم عينه)، أي عين ذلك النوم الأول الذي كانت فيه الرؤي (ما برح) عنه (فإذا استيقظ) من ذلك النوم اليقظة الحقيقية.
(يقول رأيت) في منامي (كذا ورأيت) في منامي أيض (كأني استيقظت) من منامي (وأولتها)، أي تلك الرؤي (بكذا هذا) المذكور .
(مثل ذلك) الذي قاله يوسف عليه السلام (فانظر) يا أيها السالك (كم) من التفاوت في الرتبة (بين إدراك) نبين (محمد صلى الله عليه وسلم وبين إدراك يوسف عليه السلام في آخر أمره) لما كان عزیز مصر (حين قال : "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا" [يوسف: 100] معناه)، أي معنى حقا جعلها ربي (حسا، أي) أمر (محسوسا) يدرك بالحواس (وما كان) ذلك التأويل (إلا) أمرا (محسوسا) له صورة في الحس.
(فإن) عالم (الخيال لا يعطي أبدا إلا) الأمور (المحسوسات)، أي المدركات بالحس (غير ذلك) الأمر (ليس له)، أي الخيال.
(فانظر) يا أيها السالك (ما أشرف علم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم ) الذي أخذوه من مشكاة نبوته عليه السلام بالمتابعة والاقتداء ، فإن الأنبياء الماضين عليهم السلام لم يعلموا ذلك من حيث مقام نبوتهم بسبب عدم كونهم من هذه الأمة والورثة من الأولياء في هذه الأمة.
ما نالوه من جهة نبوة أنفسهم، وإنما نالوه من نبوة نبيهم، ولا يلزم بذلك تفضيلهم على الأنبياء الماضين.
لأن حصول العلم من الغير السابق إليه لا يلزم الفضيلة به، وإنما الفضيلة لمن تبيعوه في حصوله وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الحاصل له عليه السلام من نبوته الكاملة.
قال صلى الله عليه وسلم : «لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي» ومن هنا قول المصنف قدس سره : "خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله" والبحر هو علم محمد صلى الله عليه وسلم المختص به.
وفي رواية : بحارة. كناية عن علومه عليه السلام.
ووقوف الأنبياء عليهم السلام بساحله : اطلاعهم على أنه نبي آخر الزمان وأنه سيبعثه الله تعالى من غير اطلاع على تفاصيل علومه ولا خوض فيها.
(و سأبسط القول في) بيان هذه (الحضرة ) الخيالية التي كان يوسف عليه السلام عالما بها ، فانتسب إليه تعبير الرؤيا لأجل ذلك (بلسان) الولي الوارث مقام (یوسف عليه السلام) من المقام (المحمدي) الجامع لجميع مقامات الأنبياء عليهم السلام (ما)، أي بسطا وبيان (ستقف عليه)، أي تعرفه قريب (إن شاء الله تعالی فنقول) في بيان ذلك .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( اعلم أن المقول عليه «سوى الحق» أو مسمى العالم هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص، وهو ظل الله ، وهو عين نسبة الوجود إلى العالم لأن الظل موجود بلا شك في الحس ، ولكن إذا كان ثم من يظهر فيه ذلك الظل: حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل: كان الظل معقولا غير موجود في الحس، بل يكون بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه الظل.
فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات: عليها امتد هذا الظل، فتدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات.
ولكن باسمه النور وقع الإدراك و امتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول .
ألا ترى الظلال تضرب إلى السواد تشير إلى ما فيها من الخفاء لبعد المناسبة بينها و بين أشخاص من هي ظل له؟. وإن كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة.
ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وقد تكون في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونية، و ليس ثم علة إلا البعد؟. وكزرقة السماء.
فهذا ما أنتجه البعد في الحس في الأجسام غير النيرة. )
(اعلم) يا أيها السالك (أن) الشيء (المقول عليه) عند الحس والعقل (سوی الحق) تعالى من جميع المخلوقات .
(أو مسمي العالم) بفتح اللام لأن الله تعالى يعلم به (هو) كله (بالنسبة إلى) وجود (الحق) تعالى في نفسه (كالظل) الممتد (للشخص) في النور (فهو)، أي سوى الحق تعالى المسمی عالم (ظل الله) تعالى.
أي أثره الظاهر عنه على صورة ما علمه فأراده في الأزل (فهو)، أي ذلك الظل (عين نسبة الوجود إلى العالم) والعالم على أصله من العدم (لأن الظل) الممتد عن الشخص في النور (موجود بلا شك في الحس ولكن)، إنما يكون موجود (إذا كان ثم)، أي هناك (من يظهر فيه ذلك الظل حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل) من أرض أو ماء أو نحو ذلك (كان الظل) حينئذ أمر (معقولا غير موجود في الحس) بالفعل بل يكون موجودة (بالقوة في ذات الشخص المنسوب إليه) ذلك (الظل) إذا علم هذا.
(فمحل ظهور هذا الظل الإلهي) الذي هو الوجود المفاض من الحق تعالی على ما سواه من الممكنات (المسمى ذلك) الظل (بالعالم) باعتبار الوجود المستفاد من الحق تعالى (إنما هو أعيان الممكنات) العدمية بالعدم الأصلي (عليها)، أي على تلك الأعيان (امتد هذا الظل) الوجودي .
(فيدرك) بالبناء للمفعول أي يدرك المدركون (من هذا الظل) الممتد (بحسب)، أي مقدار (ما امتد عليه) من أعيان تلك الممكنات (من وجود هذه الذات) القديمة التي هذا ظلها امتد فظهر منها مقدار ما ظهر من أعيان الممكنات ، ويظهر على حسب ما ترتبت تلك الممكنات في أزلها العدمي (ولكن باسمه) تعالی (النور) كما قال تعالى : "الله نور السموات والأرض" [النور: 35]، أي منورهما .
(وقع الإدراك) لذلك الظل لأن به كان ظهوره ولولا النور ما تبين الظل المستور، فالنور سبب إدراك الكائنات بعضها لبعض؛ ولهذا كان الإدراك بمعنی باطني يأتي للكائنات من ورائها فلو استقبلته لما رأت شيئا لانطماسها به .
قال تعالى: "والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " [البروج : 20 - 22]. والقرآن نور كما قال الله تعالى: "النور الذي أنزلنا" [التغابن: 8] .
(وامتد هذا الظل) الوجودي من عين الوجود (على أعيان الممكنات) العدمية (في صورة)، أي هوية (الغيب) الذاتي الإلهي (المجهول) مطلقا على معنى أن ذلك الامتداد في صورة ذلك الغيب المذكور.
أي في مراتب صفاته وأسمائه وأحكامه وأفعاله المسماة صورته باعتبار تعينها من ذاته التعين الأزلي باستعداد الكائنات العدمية الغير المجعولة المستعدة للجعل بتلك الصورة الغيبية وهو الأمر الذي قال تعالى : "ذلك أمر الله أنزله إليكم" [الطلاق: 5]، وهو التوجه الأزلي المسمى بالوجه .
في قوله سبحانه : "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88]
وقوله تعالى : "فأينما تولوا فثم وجه الله إن" [البقرة : 115].
(ألا ترى) يا أيها السالك (أن الظلال) جمع ظل، أي ظلال الأشياء في الأنوار (تضرب)، أي تميل (إلى) لون (السواد) كأنه (تشير) بذلك (إلى ما فيها)، أي في نفس الظلال (من الخفاء) بالنسبة إلى ظهور ما هي ظلال عنه بها .
(لبعد المناسبة بينها)، أي بين تلك الظلال (وبين أشخاص من هي ظل له) تنزيها له وهو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى : "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده" [الإسراء : 44] الآية.
وإن كان ذلك الشخص الذي امتد الظل عنه (أبيض فظله بهذه المثابة) يعني أسود اللون (ألا ترى) ما يؤيد ظهور الظل أسود لبعد المناسبة (أن الجبال) البيض (إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر) له (سوداء) بخلاف لونها إشارة إلى البعد

وقد تكون تلك الجبال (في أعيانها على غير ما يدركها الحس) البصري (من اللونية وليس ثم)، أي هناك (علة) لتغير لون المرئي بخلاف لونه عند الحس (إلا البعد) عن حس الرائي (وکزرقة السماء) مع أن لونه أبيض شفاف (فهذا ما)، أي الأمر الذي أنتجه البعد بين الرائي والمرئي (في الحس) البصري (في الأجسام غير النيرة)، أي المنيرة كالأجرام ذات الظلال والجبال." الكواكب والقمر تبدوا منيرة وحقيقتها غير ذلك فهى معتمة فى ذاتها ولكنها تعكس النور الساطع عليها من الأصل وهو نور الشمس."

قال الشيخ رضي الله عنه : ( و كذلك أعيان الممكنات ليست نيرة لأنها معدومة و إن اتصفت بالثبوت لكن لم تتصف بالوجود إذ الوجود نور . غير أن الأجسام النيرة يعطي فيها البعد في الحس صغرا ، فهذا تأثير آخر للبعد.
فلا يدركها الحس إلا صغيرة الحجم وهي في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر وأكثر كميات، كما يعلم بالدليل أن الشمس مثل الأرض في الجرم مائة وستين مرة، و هي في الحس على قدر جرم الترس مثلا. فهذا أثر البعد أيضا.)

(وكذلك أعيان الممكنات ليست نيرة)، أي مستنيرة (لأنها)، أي أعيان الممكنات (معدومة) بالعدم الأصلي له (وإن اتصفت) في حال عدمها ذلك (بالثبوت) ضد النفي فهي ثابتة بكشف علم الحق تعالی عنها وتعلقه بها .
وتخصيص إرادة الحق تعالى لها على طبق علمه بها وتوجه قدرته عليها من الأزل فليست منفية أزلا .
(لكن لم تتصف بالوجود)، لأنه ضد العدم وهي معدومة لا موجودة (إذ الوجود نور) والنور هو الحق تعالى لا غيره.
فإذا امتد نوره عليها من ورائها نسب إليها الوجود الذي هو ظل وجوده عند غير المحققين.
مداه استعدادها لقبول امتداد ذلك الظل الوجودي عليها بحسب ما كشف بعلمه عنها، وخصصها به بالإرادة ، وتوجه عليها بالقدرة على طبق الإرادة والعلم (غير أن الأجسام النيرة) كالكواكب (يعطي فيها البعد )عن الرائي (في الحس) البصري (صغرا) ليست هي عليه في نفسها فهذا تأثير آخر.
(للبعد فلا يدركها)، أي الأجسام النيرة (الحس البصري إلا صغيرة الحجم)، أي المقدار (و) الحال (هي)، أي تلك الأجسام النيرة (في أعيانها كبيرة عن ذلك القدر) الذي أدركها فيه الحس (وأكبر) من ذلك القدر (كميات)، أي مقادير (كما تعلم بالدليل) الذي ذكره في علم الهيئة (أن الشمس مثل الأرض في الجرم)، أي المقدار (مائة وستة وستين و ربعا وثمن مرة) ثم أعظم الكواكب خمسة عشرة كوكبا من الكواكب الثابتة ، كل واحد منه مثل أربعة وتسعين مرة ونصف مثل الأرض.


ثم زحل هو مثل تسع وتسعين مرة ونصف مثل الأرض، ثم المشتري وهو مثل اثنين وثمانين ونصف وربع مرة مثل الأرض، ثم سائر الكواكب الثابتة الباقية، كل واحد منها يصغر عن الآخر على مراتبها حتى يكون أصغرها مثل ستة عشر مرة من الأرض، ثم المريخ وهو مثل مرة ونصف من الأرض، ثم القمر أصغر من الأرض ويقع من الأرض مثل جزء من تسعة وثلاثين جزءا وربع جزء من الأرض، ثم الزهرة وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا من الأرض، ثم عطارد وهو جزء من مائة واثنين وثلاثين جزءا من الأرض . ذكره الشيخ شهاب الدین عمر السهروردي في رشف النصائح .
(و) الحال (هي)، أي الشمس مع هذا العظام في المقدار ظاهرة (في الحس) البصري للرائي (على قدر جرم)، أي سعة (الترس مثلا فهذا) الصغر في الجرم الكبير
أثر البعد بين الرائي والمرئي (أيضا) كما أن أثره ما تقدم من سواد اللون وفي رشف النصائح، وأما أبعاد الأفلاك من الأرض، فإن من مركز الأرض إلى أقرب بعد ذلك القمر مائة ألف وثمانية وعشرين ألف وأربعة وتسعين ميلا، والميل ثلاثة آلاف ذراع، وغلظ فلك القمر مائة وستة عشر ألفا وثمانمائة وأربعون ميلا وأبعد بعد القمر الذي هو أقرب بعد فلك عطارد مائتان وأربع وأربعون ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثون ميلا وغلظ فلك عطارد ثلاثمائة وثمانية وثمانون ألفا، أو ثمانمائة وخمسون ميلا، وعلى هذا الترتيب كل فلك بالنسبة إلى الفلك الآخر حتى قيل نسبة الأرض إلى فلك البروج جزء من ألف ألف وثلاثمائة ألف وستة وخمسون ألف وثلاثمائة وأربعة وستون جزء من درجة واحدة إذا علمت هذا.

قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال، و يجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل.
فمن حيث هو ظل له يعلم، و من حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من صورة شخص من امتد عنه بجهل من الحق.
فلذلك نقول إن الحق معلوم لنا من وجه مجهول لنا من وجه: «أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل و لو شاء لجعله ساكنا» أي يكون فيه بالقوة.
يقول ما كان الحق ليتجلى للممكنات حتى يظهر الظل فيكون كما بقي من الممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود.

«ثم جعلنا الشمس عليه دليلا» وهو اسمه النور الذي قلناه، و يشهد له الحس: فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور.
«ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا»: و إنما قبضه إليه لأنه ظله، فمنه ظهر و إليه يرجع الأمر كله. فهو لا غيره. )

(فما تعلم من العالم) الظاهر المسمى بغير الحق تعالى (إلا قدر ما تعلم من الظلال) الممتدة عن الشخوص نظير امتداد ظل وجود الحق تعالى بالتوجه الذي هو عين أمر القديم على أعيان الممكنات العدمية .
(وتجهل من الحق) سبحانه (على قدر ما تجهل من الشخص الذي عنه كان ذلك الظل، فمن حيث هو)، أي ذلك الوجود الممتد على أعيان الممكنات العلمية المسمى بالأمر وبالوجه حيث كل شيء هالك إلا وجهه [القصص: 88] .
(ظل له)، أي للحق تعالی (يعلم)، أي الحق تعالی ويرى ولا يرى معه غيره .
(ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل) الممتد (من صورة شخص من امتد عنه) حيث خفي ذلك في الظل ولم يتبين من بعد المناسبة كما سبق.
(يجهل مقدار ذلك من الحق تعالی) فلا يعلم أصل (فلذلك)، أي لكون الأمر كما ذكر (نقول) معشر المحققين (إن الحق) تعالی (معلوم لنا من وجه) أمره ووجهه الظاهر فينا ونحن عدم بالعدم الأصلي.
ومع ذلك هو (مجهول لنا من وجه) آخر هو ذاته القديمة الأزلية على ما هي عليه من حيث هي ذاته، فلا تعلم أصلا.
قال الله تعالى تأييدا لما ذكر ("ألم تر") يا محمد (" إلى ربك") الذي هو الذات المغيبة عنك (" كيف مد الظل")، أي الوجود الأمري والتوجه الأزلي على أعيان الممكنات العدمية.
("ولو شاء") سبحانه ("لجعله")، أي ذلك الظل ("ساكنا") [الفرقان : 45] غير متحرك بحركة استعداد أعيان الكائنات لامتداده عليها وميله عنها منه (أي يكون) ذلك الظل الممتد عنه (فيه)، أي في الحق تعالی (بالقوة)، لأن امتداده على أعيان الكائنات ما كان إلا على مقدار استعداد الكائنات القبول امتداده عليها، أى مقدار ذلك الاستعداد.
وذلك الاستعداد أمر ذاتي لأعيان الممكنات العدمية غير مجعول فيها كما أنها غير مجعولة أيضا في عدمها الأصلي.
والجعل إنما هو إفاضة الوجود عليها بمقدار استعدادها لإفاضته، فما شاء امتداد ذلك الظل عليها إلا لاستعدادها له على مقدار الاستعداد.
فلو لم يكن لها استعداد لقبوله ما شاء لها ذلك الامتداد، وشاء عدم الامتداد فكان الظل ساكنا فيه غير ممتد منه عليها، لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلم، ولا يعلم إلا ما هي عليه في أعيان الممکنات من الاستعداد وغيره .


قال تعالى : " الذي أعطى كل شيء خلقه " [طه: 50]، وإنما أحال جعله ساکنا على أقرب الأسباب وهو المشيئة وسبب المشيئة العلم وسبب العلم، ما هي عليه أعيان الممكنات العلمية في نفسها من استعداده وغيره.
ونظيره قوله تعالى: "ولو شاء لهداكم أجمعين" [النحل: 9]، أي لو كنتم كذلك لعلمكم كذلك لشاء لكم أن تكونوا كذلك وهو إضافة الحكم إلى أقرب أسبابه إليه وهو السبب المؤثر فيه فحاصل ذلك أنه تعالی.
(يقول) لو شاء (ما كان الحق) تعالى (يتجلى)، أي ينكشف بالوجوه (للمكنات) العلمية (حتى يظهر) عليه (الظل) الوجودي (فیکون) حينئذ أمر الممكنات العدمية الظاهرة بالوجود الممتد عليه (كما)، أي مثل الذي (بقي من الممكنات) العدمية بالعدم الأصلي (التي ما ظهر لها عين في الوجود) وهذا معنى جعل الظل ساكنا، أي غير ممتد على شيء من الأشياء الهالكة أصلا ("ثم جعلنا الشمس عليه ") [الفرقان: 45]، أي على ذلك الظل الممدود على أعيان الكائنات العدمية ("دليلا") بحيث تدل عليه، أي تكشف عنه وتظهره.
(وهو)، أي الدليل على الظل الذي هو الشمس (اسمه) تعالی (النور الذي قلناه) فيما مر قريبا أن الإدراك وقع به (ويشهد له)، أي لكون الشمس دليلا على الظل الممدود (الحس البصري، فإن الظلال) الممدودة من الشخوص (لا يكون لها عين) أصل (بعدم النور) فلا يدل عليها إلا النور (ثم قبضناه)، أي الظل الوجودي الممدود على أعيان الكائنات العدمية (إلينا)، أي إلى حضرة الذات الأزلية الممتد هو عنها بسبب استعداد الأعيان وقبولها الامتداد عليه (قبضا يسيرا)، أي شيئا فشيئا على حسب مقادیر استعدادات الممكنات القبول فيضانه وامتداده عليها فإن الاستعداد بقسط كما هو مرتب.
(وإنما قبضه)، أي الظل (إليه) سبحانه (لأنه ظل فمنه) تعالى (ظهر)، أي ذلك الظل (وإليه تعالی يرجع) قال عز وجل ("و إليه يرجع الأمر") فسمي الظل أمرا كما سماه وجها.
لأنه توجهه القديم كما مر ("كله") [هود: 123].
من حيث تعدده الاعتباري بسبب كثرة استعدادات أعيان الممكنات القابلة لامتداده عليه (فهو)، أي ذلك الظل الذي هو الأمر الإلهي والوجه الباقي بعد فناء كل شيء.
(هو)، أي الحق سبحانه وتعالى (لا) ذلك الظل والأمر والوجه (غیره تعالی) وأعيان الممکنات على ما هي عليه من عدمها الأصلي.
قال الشيخ رضي الله عنه : (فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات.
فمن حيث هوية الحق هو وجوده، و من حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات.
فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق.
فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق، لأنه الواحد الأحد.
و من حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن و تحقق ما أوضحته لك.
و إذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، و هذا معنى الخيال .
أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق وليس كذلك في نفس الأمر.
ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه، ويستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال لأنه يستحيل على الشي ء الانفكاك عن ذاته؟
فاعرف عينك ومن أنت و ما هويتك و ما نسبتك إلى الحق، و بما أنت حق و بما أنت عالم و سوى و غير و ما شاكل هذه الألفاظ. )
(فكل ما)، أي شيء محسوس أو معقول (تدركه) يا أيها الإنسان (فهو وجود الحق) سبحانه (في أعيان الممكنات) العدمية ممسك لها بتوجهه عليها فظاهر بها من غير أن يتغير عما هو عليه أزلا، فإن المعدوم لا يغير الوجود.
(فمن حيث هوية)، أي ذات (الحق) سبحانه (هو)، أي الحق تعالى (وجوده)، أي وجود كل ما تدركه بالحس أو العقل (ومن حيث اختلاف الصور) الحسية والعقلية (فيه) كل ما تدركه بالحس والعقل (هو)، أي كل ما تدركه (أعيان الممكنات) العدمية ظهرت في ظل الوجود القديم المسمى بالأمر والوجه كما قدمناه.
(فكما لا يزول عنه)، أي عن كل ما تدركه (باختلاف الصور) الحسية والعقلية (اسم الظل) الممتد عن الوجود والقديم، لأن كل ما تدركه أعيان ممكنة علمية في نفسها بالعدم الأصلي، فلا تغير من الوجود الممتد المسمى بالظل شيئا كما أن اختلاف الصور لا يغير من وجه المرآة الصقيلة شيئا في عين الرائي .
(كذلك لا يزول عنه)، أي عن كل ما تدركه (باختلاف الصور) الحسية والعقلية (اسم العالم) الحادث المتغير المتجدد في كل وقت (أو اسم سوی)، أي غير (الحق) تعالی، لأنه غير الحق تعالى حقيقة، لأنه أعيان عدمية قائمة بإيجاد الله تعالى الذي هو أمره ووجهه.
(فمن حيث أحدية كونه)، أي كون كل ما تدركه (ظلا) وجودية للوجود القديم (هو)، أي كل ما تدركه (الحق) تعالى من غير اعتبار أعيان الممكنات العدمية وإن ظهرت بظهوره سبحانه (لأنه تعالی) هو (الواحد) في صفاته (الأحد) في ذاته (ومن حيث كثرة الصور الحسية والعقلية (هو)، أي كل ما تدركه
العالم الحادث المتغير (فتفطن) يا أيها السالك (وتحقق ما أوضحته لك) من البيان في هذا المكان.
(وإذا كان الأمر)، أي الشأن في نفسه (على) حسب (ما ذكرته لك) هن (فالعالم) المسمى بغير الحق تعالی من كل محسوس أو معقول في الدنيا والآخرة كله أمر (متوهم في بعضه للبعض (ما له)، أي العالم (وجود حقيقي) وإنما الوجود الحقيقي للحق تعالی وللعالم الوجود المجازي وهو المستعمل في غير ما وضع العلاقة السببية .
(وهذا) الأمر المتوهم المنتفي عنه الوجود الحقيقي القائمة بنسبة الوجود إليه هو (معنى الخيال) الذي الآن في صدد بیانه (أي خيل لك) يا أيها الإنسان هذا العالم المحسوس والمعقول (أنه أمر زائد) على الحق تعالی (قائم بنفسه) من حيث ما أعطاك نظر الحس والعقل وغابت عنك المعرفة الحقيقية (خارج)، أي منفصل
(عن الحق) كما هو نظر جميع الناس من علماء وجاهلين ما عدا هذه الطائفة العارفين، الذين خرقوا حجاب الوهم وأرتكزوا على مراكز الحقيقة و تأدبوا بآداب الشريعة.
(وليس كذلك)، أي كما خيل لك (في نفس الأمر)، فإن الكتاب والسنة وإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم سلفا وخلفا مما أنت قائل به أيضا كلامة لا تحققا يرد عليك ما خيل لك من زيادة وجود العالم.
وأنه وجود حقيقي قائم بنفسه خارج عن الحق، وإنما مقتضى الأدلة القطعية عندك أن وجود العالم وجود عرض له بعد أن لم يكن، مستفادة من الحق تعالی غیر قائم بنفسه أصلا.
ولا منقطع عن قيومية الحق تعالی عليه، بل الأدلة صريحة بأن الكل فان منعدم بالعدم الأصلي، وإن تبين بالتجلي الإلهي النوراني كما ورد: "كل شيء هالك إلا وجهه" [القصص: 88]، وقوله : "كان الله ولا شيء معه" إلى غير ذلك.اورده ابن حبان والحاكم وابن أبي بريدة والعجلوني
وإن أول ذلك مؤول مخالف، وتكلف له ليخرجه عن مفهومه، ويطابق بينه وبين الوهم الحسي، نصرة للحس والعقل على الشرع، "والله بكل شيء عليم" [لبقرة : 282].
(ألا تراه)، أي الظل الممتد عن الشخص (في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه) اتصالا به من غير لصوق لعدم المناسبة بينهم (يستحيل عليه)، أي على ذلك الظل (الانفكاك)، أي الانفصال (عن ذلك الاتصال) المذكور ولا لما كان ظلا عن ذلك الشخص بل كان وجود مستقلا مثل ذلك الشخص (لأنه)، أي الشأن
يستحيل على الشيء الواحد (الانفكاك)، أي الانفصال (عن ذاته)، وإلا لما كان شيئا واحدا بل كان شيئين.
(فاعرف) يا أيها السالك (عينك)، أي ذاتك الممكنة العدمية بالعدم الأصلي (و) اعرف (من أنت) فإنك عين ممكنة عدمية بالعدم الأصلي (و) اعرف (ما هويتك)، أي ذاتك وماهيتك فإنها عدم صرف.
(و) اعرف (ما نسبتك إلى) وجود (الحق تعالی)، فإن نسبتك مثل نسبة لوم الزجاج الأحمر أو الأخضر إلى شعاع الشمس إذا انصبغ به أو وجه المرأة الصافية إذا انصبغ بلون الصورة المقابلة له (و) اعرف (بما) بأي أمر (أنت حق).
فإنك وجود حق بوجود الذي هو منصبغ بك انصباغة عدمية لأنك عين ممكنة عدمية بالعدم الأصلي، فليس الانصباغ حقيقية بل هو بحسب ما يظهر لك في الحس والعقل.
وهذا الظهور وما به كان هذا الظهور لك من حسك وعقلك من جملة عينك الممكنة العدمية بالعدم الأصلي، والانصباغ العدمي لوجود الحق تعالی سبحانه حاصل بذلك أيضا .
(و) اعرف (بما)، أي بأي أمر (أنت عالم) بفتح اللام (وسوى) للحق تعالی (وغير) الحق تعالى (وما شاكل)، أي ماثل (هذه الألفاظ) من ذلك عبدة ومخلوقة ومصنوعة وحادثة (فإنك كذلك بالماهية الممكنة العلمية بالعدم الأصلي الشاملة لصورتك الظاهرة والباطنة.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفي هذا يتفاضل العلماء، فعالم وأعلم. فالحق بالنسبة إلى ظل خاص صغير وكبير، وصاف وأصفى، كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج يتلون بلونه، وفي نفس الأمر لا لون له. ولكن هكذا تراه.
ضرب مثال لحقيقتك بربك. فإن قلت: إن النور أخضر لخضرة الزجاج صدقت وشاهدك الحس، وإن قلت إنه ليس بأخضر ولا ذي لون لما أعطاه لك الدليل، صدقت وشاهدك النظر العقلي الصحيح.
فهذا نور ممتد عن ظل وهو عين الزجاج فهو ظل نوري لصفائه.
كذلك المتحقق منا بالحق تظهر صورة الحق فيه أكثر مما تظهر في غيره. فمنا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قوة وجوارحه بعلامات قد أعطاها الشرع الذي يخبر عن الحق.
مع هذا عين الظل موجود، فإن الضمير من سمعه يعود عليه: وغيره من العبيد ليس كذلك. فنسبة هذا العبد أقرب إلى وجود الحق من نسبة غيره من العبيد.)
(وفي هذا) العرفان (تتفاضل العلماء) بالله سبحانه (فعالم) بالله (و) آخر (أعلم منه) بالله. قال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" [فاطر: 28]، أي بالله .
وقال عليه السلام لأصحابه رضي الله عنهم: «أنا أعلمكم بالله وأكثركم منه خشية».
ورد بمسند ابن حميد و رواه البخاري في صحيحه بلفظ: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا".
فالحق سبحانه (بالنسبة إلى ظل) شيء (خاص) امتد ذلك الظل الوجودي المسمى أمرة ووجها على ذلك الشيء الخاص وهو عين ممكنة معدومة بالعدم الأصلي
(صغير) ذلك الشيء الخاص كالذرة (وكبير) كالجبل .
(وصاف)، أي لطيف كالنفوس الحيوانية وقواها المنبثة في الأجسام (وأصفى) كالأرواح والعقول المجردة (كالنور)، أي بمنزلة شعاع الشمس مثل (بالنسبة إلى حجابه)، أي حجاب ذلك النور الذي هو الشعاع (عن) عين (الناظر) إليه حجاب حاصل (بالزجاج) الأحمر أو الأخضر وغير ذلك.
(فإنه يتلون) ذلك النور (بلونه)، أي بلون ذلك الزجاج في نظر الحس عند الناظر (وفي نفس الأمر) مع عدم اعتبار نظر الحس عند الناظر (لا لون له)، أي لذلك النور الظاهر أصل (ولكن هكذا)، أي على حسب ألوان الزجاج (تراه)، أي ترى النور الظاهر بلون الزجاج يا أيها الإنسان (ضرب) مفعول ثان لتراه (مثال الحقیقتك) يا أيها الإنسان في ظاهر و باطنك مع جميع أحوالك القائمة (بربك) الحق سبحانه وتعالی.
(فإن رأيته) كذلك ومع ذلك (قلت إن النور) الظاهر لك بلون الزجاج (أخضر) مثل (كخضرة الزجاج صدقت وشاهدك) على صدق قولك (الحس)، أي نظر العين منك ومن غيرك.
(وإن قلت إنه)، أي ذلك النور (ليس بأخضر ولا) هو بنور (ذي)، أي صاحب (لون) من الألوان أصل (لما)، أي على مقتضی الوصف الذي (أعطاه لك الدليل) بأن النور لا لون له أصلا وهو منزه عن جميع الألوان .
(صدقت) في ذلك (وشاهدك) على صدق قولك (النظر)، أي الدليل (العقلي)، أي المنسوب إلى العقل (الصحیح) الذي لا شبهة فيه أصلا وذلك أن النور لو كان له لون يخصه لما قبل أن يظهر في ألوان الزجاج على مقتضى ما هي عليه السلام.
تلك الألوان فى نفسها وهو ظاهر كذلك من غير أن يغير من لون الزجاج شيئا مع تضاد تلك الألوان وعدم مناسبة بعضها لبعض وعدم المشابهة بينها، فإن اللون الأسود غير اللون الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر وغير ذلك.
فلا لون للنور من حيث هو أصلا ولو كان له لون في نفسه على ما هو عليه لغير شيئا من ألوان الزجاج حين ظهوره ومصبوغ به إذا علمت ما ذكر .
(فهذا)، أي شعاع الشمس الذي هو ظل عنه (نور ممتد عن ظل) أيض (هو)، أي ذلك الظل (عين الزجاج) الملون فقد امتد النور الذي هو نور الشمس مثلا وهو شعاعها عن الشمس فهو ظل الشمس وعن عين الزجاج الملون أيضا فهو ظل عين الزجاج الملون (فهو) أي ذلك النور الممتد على عين الزجاج الملون (ظل نوري) على ما هو عليه في نفسه لا لون له أصلا وإن تلون بلون الزجاج (لصفائه) في نفسه مع قطع النظر عن لون الزجاج.
(كذلك)، أي مثل ما ذكر من ضرب المثال الإنساني (المتحقق منا) معشر المحققين (بالحق) تعالى، فإنه (تظهر) له (صورة الحق) تعالى (فيه) وهو الوجود المطلق المنزه عن مشابهة كل ما عداه (أكثر مما تظهر)، أي من ظهوره (في غيره)، أي غير ذلك المتحقق من جميع السالكين والعارفين وأما المنقطعون فلا ظهور للحق تعالى فيهم لهم أصلا وإن صدقوا لوجدوه وعبدوه في صورة تخيلاتهم فإنهم غافلون عن ظهوره لهم بهمن
و (فمنا)، أي معشر المحققين (من یكون) وجود (الحق) تعالی (سمعه) الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به (وجميع قواه) الباطنة (وجوارحه) الظاهرة كیده ورجله (بعلامات) عنده (قد أعطاها له الشرع) المحمدي (الذي يخبر عن الحق تعالی) وهو التقرب بنوافل الأعمال إلى حضرة ذي الجلال بوصف الإخلاص والرغبة والإقبال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي في حديثه القدسي: «ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه».
(ومع هذا)، أي مع كون الحق تعالی سمعه وبصره كما ذكر (عين الظل) الذي هو مقید بلون الزجاج (موجود) بوجود ظل الشمس الذي هو شعاعه (فإن الضمير من) قوله صلى الله عليه وسلم كنت سمعه وبصره ويده ورجله (يعود عليه).
أي على ذلك الظل المنبعث عن الزجاج الذي هو في نفس الأمر ظل الشمس، لأن شعاعها المنبعث عنها وهو أيضا ظل الزجاج المنبعث عنه من حيث هو متلون بلون الزجاج وهو العبد الذي قيل عنه : «ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» الحديث .
فالعبد موجود والحق تعالی أيضا موجود، والوجود واحد مطلق لله تعالى، مقيد بالقيود الإمكانية العدمية للعبد الحادث (وغیره)، أي غير ذلك العبد المتحقق بما ذكر (من) بقية (العبيد ليس كذلك) قال تعالى : "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب " [الزمر: 9].
وقال تعالى: "أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض أم نجعل المتقين كالفجار " [ص: 28] إلى غير ذلك من الآيات .
(فنسبه هذا العبد) المتحقق بما ذكر من المعرفة عن كشف و شهود وذوق لا عن مجرد تخيل في النفس وحفظ للمعنى (أقرب عنده إلى وجود الحق) تعالى (من نسبة غيره من العبد) إلى وجود الحق تعالی.
كما قال سبحانه : " ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون" [الواقعة: 85].
وقال سبحانه: «نحن أقرب إليه من حبل الوريد" [ق: 16].
وقال سبحانه:: "استمع يوم ينادون من مكان قريب" [ق: 41].
وقال سبحانه: : " أولئك ينادون من مكان بعيد" [فصلت : 44].

قال الشيخ رضي الله عنه : ( وإذا كان الأمر على ما قررناه فاعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا خيال.
فالوجود كله خيال في خيال، والوجود الحق إنما هو الله خاصة من حيث ذاته و عينه لا من حيث أسماؤه، لأن أسماءه لها مدلولان: المدلول الواحد عينه و هو عين المسمى، و المدلول الآخر ما يدل عليه مما ينفصل الاسم به من هذا الاسم الآخر و يتميز.
فأين الغفور من الظاهر ومن الباطن، وأين الأول من الآخر.؟
فقد بان لك بما هو كل اسم عين الاسم الآخر وبما هو غير الاسم الآخر.
فبما هو عينه هو الحق، وبما هو غيره هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده.
فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ولا ثبت كونه إلا بعينه. )
(وإذا كان الأمر) الإلهي في نفسه (على) حسب (ما قررناه) لك (فاعلم) يا أيها السالك (أنك) في الدنيا والآخرة (خیال) لا حقيقة وجود لك بل لك مجاز الوجود كما تقرر فيما مر.
(وجميع ما تدركه) من المحسوسات والمعقولات (مما تقول فيه) بلسانك أو بقلبك (ليس أنا) لأنك تراه غيرك (خیال) أيضا مثلك (فالوجود) المحسوس والمعقول على اختلاف أنواعه في الدنيا والآخرة (كله خیال) ظاهر (في) حس وعقل (خیال) ذلك الحس والعقل أيضا.
(والوجود الحق تعالی) الحقيقي (إنما هو الله) تعالی (خاصة من حيث ذاته) سبحانه (وعينه) الأزلية القديمة الأبدية المطلقة عن جميع القيود، المنزهة عن مشابهة كل شيء محدود .
(لا من حيث أسماؤه) سبحانه .
(لأن أسماءه) تعالی (لها مدلولان)، أي جهتان تدل عليهما:-
(المدلول الواحد) أسماؤه تعالى (عينه)، أي ذاته لا زائد عليها أصل (وهو) كون الاسم (عين المسمى .)
(والمدلول الآخر) أسماؤه تعالى هي (ما تدل عليه مما)، أي من الأمر الذي (ينفصل) هذ (الاسم) الإلهي (به عن هذا الاسم الآخر ويتميز) به اسم عن اسم .
وهو خصوص التعين الإلهي بأعيان الممكنات العدمية في الأزل مما يرجع إليه تعالی عندنا كونه مصدر جميع الكائنات، وهذا معنى قولهم إن الصفات الإلهية ليست عين الذات ولا غيرها فإنهما نقیضان يلزم من ارتفاعهما ثبوتهما، فهي عين الذات باعتبار وغيرها باعتبار آخر.
(فأين) الاسم (الغفور) للذنوب ودلالته على معنى العفو والمسامحة (من) الاسم (الظاهر) في كل شيء ودلالته على معنى الظهور والتجلي والانكشاف (و) أين الاسم (الظاهر من) الاسم (الباطن) لبعده عن مشابهة كل شيء ودلالته على معنى الخفاء والغيبة عن علم كل شيء به مطلقا .
(وأين) الاسم الأول من حيث سبقه على كل شيء ودلالته على القدم والأزلية (من) الاسم (الآخر) من حيث دوامه واستمراره على ما هو عليه بعد فناء كل شيء واضمحلاله له ودلالته على البقاء والأبدية (فقد بان)، أي ظهر (لك) من هذا التقرير (بما)، أي بأي اعتبار (هو).
أي ذلك الاعتبار كل اسم من الأسماء الإلهية (عين الاسم الآخر)، أي بأي اعتبار (وبما هو)، أي كل اسم إلهي (غير الاسم الآخر) ثم بين هذا الأمر بقوله .
(فبما)، أي فـ بالاعتبار الذي (هو)، أي كل اسم إلهي (عينه)، أي عين الاسم الآخر (هو)، أي كل اسم إلهي عين (الحق) سبحانه الوجود المطلق القديم (وبما)، أي باعتبار الذي (هو)، أي كل اسم إلهي (غيره)، أي غير الاسم الآخر (هو)، أي كل اسم (الحق المتخيل) بصيغة اسم المفعول، أي (الذي) هو ظاهر بصور أعيان الممكنات العلمية الذي يتخيله العارف به في كل ما يراه حسة أو عقلا الذي (كنا) فيما سبق من الكلام (بصدده)، أي بصدد بیانه (فسبحان) تنزیه له تعالى من الشيخ قدس سره (من) هو الحق تعالى الذي (لم يكن)، أي يوجد (عليه دلیل سوى نفسه)، فإنه عين كل دلیل حسي أو عقلي أو شرعي، لأنه الظاهر بصورة ذلك من حيث إن ذلك ممكن عدمي بالعدم الأصلي (ولا ثبت كونه)، أي وجوده عند أحد (إلا بعينه)، أي بعين وجوده الظاهر بأعيان الممكنات العدمية .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فما في الكون إلا ما دلت عليه الأحدية. وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة. فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم.
ومن وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين.
وإذا كانت غنية عن العالمين فهو عين غنائها عن نسبة الأسماء لها، لأن الأسماء لها كما تدل عليها تدل على مسميات أخر يحقق ذلك أثرها.
«قل هو الله أحد» من حيث عينه: «الله الصمد» من حيث استنادنا إليه: «لم يلد» من حيث هويته ونحن، «ولم يولد» كذلك، «ولم يكن له كفوا أحد» كذلك.
فهذا نعته فأفرد ذاته بقوله: «الله أحد» وظهرت الكثرة بنعوته المعلومة عندنا.
فنحن نلد ونولد ونحن نستند إليه ونحن أكفاء بعضنا لبعض.
وهذا الواحد منزه عن هذه النعوت فهو غني عنها كما هو غني عنا.
وما للحق نسب إلا هذه السورة، سورة الإخلاص، وفي ذلك نزلت.)
(فما في) هذ (الكون) ، أى الوجود المجازي الحادث (إلا ما دلت عليه) صفة (الأحدية) الإلهية من حيث ظهور هذا الوجود المطلق القديم بكل ممكن عدمي، فهو هو في عين كل ممكن لم يتغير ولم يتبدل عما هو عليه في نفسه من إطلاقه.
(وما في الخيال) الذي هو أعيان الممكنات العدمية بالعدم الأصلي الظاهرة بظهور الوجود الواحد المطلق القديم (إلا ما دلت عليه الكثرة) الحسية والعقلية (فمن وقف من الناس (مع الكثرة) الخيالية الظاهرة في الحس والعقل (كان) واقف (مع العالم) بفتح اللام المسمى غير الحق تعالى (ومع الأسماء الإلهية) من وجه كونها غير الحق تعالى (و) مع (أسماء العالم) بفتح اللام فهو محجوب عن الحق تعالی بوقوفه ذلك .
(ومن وقف مع) صفة الذات (الأحدية) الإلهية الظاهرة في كل شيء من غير أن يغيرها شيء مطلقا عما هي عليه في نفسه (كان) واقفة (مع الحق) تعالى (من حيث ذاته) سبحانه (الغنية عن العالمين) بحكم قوله تعالى :" إن الله لغني عن العالمين" العنكبوت : 6] . وقوله سبحانه :" ليس كمثله شيء" [الشورى : 11].
(وإذا كانت) تلك الذات الإلهية (غنية عن العالمين فهو)، أي ذلك الغني (عين غنائها عن نسبة الأسماء) الإلهية (إليها) من وجه كون الأسماء غيرها كما مر (لأن الأسماء) الإلهية (لها)، أي لتلك الذات (كما تدل عليها ) من حيث أسماؤها بوجه كونها غيرها، لأن الدال غير المدلول .
(تدل) أيض (على مسميات أخر) هي حضرات تلك الذات وتعيناتها المعروفة عند العارف .
(يحقق ذلك)، أي يثبته على طبق ما ورد به الشرع المحمدي وأتي به الكشف الذوقي للعارفين (أثرها)، أي أثر تلك الأسماء الإلهية من الأعيان الممكنة الظاهرة بنسبة الوجود إليها .
قال تعالى في سورة الإخلاص: ("قل") یا محمد "صلى الله عليه وسلم" ("هو")، أي الشأن ("الله أحد")، أي موصوف بالأحدية (من حيث عينه)، أي ذاته (" الله الصمد")، أي المصمود إليه، يعني المقصود بالحوائج من كل شيء فهو صمد.
(من حيث استنادنا) معشر الكائنات (إليه) سبحانه ("لم یلد")، أي لم يتولد منه شيء (من حيث هويته)، أي ذاته المطلقة الوجود، الخارجة عن أن تخاطبها الحدود.
(و) من حيث (نحن) أيضا معشر الكائنات العدمية الظاهرة لنا في صورها الحسية والعقلية ("ولم يولد")، أي لم يتولد هو من شيء أصلا .
(كذلك أيضا)، أي من حيث هويته ومن حينه نحن أيض ("ولم يكن له ") سبحانه ("كفوا")، أي مكافئا يعني مماثلا ومشابه (" أحد") [الإخلاص] من المحسوسات والمعقولات .
(كذلك أيضا)، أي من حيث هويته وحيث نحن (فهذا) الشأن المذكور (نعته)، أي وصفه سبحانه (فأفرد) عز وجل (ذاته) الأزلية (بقوله : " الله أحد" وظهرت الكثرة) من حيث هو ظاهر في كل شيء محسوس ومعقول ظهور (بنعوته)، أي بسبب أوصافه أو أسمائه (المعلومة عندنا) مما دل عليها الشرع.
فنحن معشر الكائنات (نلد) أي يتولد منا غيرن (ونولد) نحن من غيرنا ونحن نستند إليه سبحانه في وجودنا وفي جميع صفاتنا وأفعالنا وأحوالن (ونحن أكفاء)، أي أمثال يشبه (بعضنا البعض وهذا الواحد) الأحد (منزه عن النعوت) كلها .
أي الأوصاف التي نحن موصوفون به (فهو) سبحانه (غني) بالذات الأزلية (عنها)، أي عن هذه النعوت المذكورة (كما هو غني عنا معشر الكائنات (وما للحق نسب إلا هذه السورة المذكورة وهي (سورة الإخلاص) سميت بذلك لاشتمالها على
خالص التوحيد، ولأن الإخلاص مشروط بالتحقق بمعانيها، ولأن الكشف عن أسرارها يوصل إلى مقام الإخلاص (وفي ذلك)، أي في بيان نسب الحق تعالی نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الكافرون:" انسب لنا ربك من أي شيء هو". رواه الترمذي و الحاكم في المستدرك وغيرهما .
قال الشيخ رضي الله عنه : فأحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا أحدية الكثرة، و أحدية الله من حيث الغنى عنا و عن الأسماء أحدية العين، و كلاهما يطلق عليه الاسم الأحد، فاعلم ذلك. فما أوجد الحق الظلال وجعلها ساجدة متفيئة عن اليمين والشمال إلا دلائل لك عليك وعليه لتعرف من أنت وما نسبتك إليه وما نسبته إليك حتى تعلم من أين أو من أي حقيقة إلهية اتصف ما سوى الله بالفقر الكلي إلى الله، وبالفقر النسبي بافتقار بعضه إلى بعض)
(فأحدية الله) تعالى (من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا ) أن تكون آثارا لها فتظهر له تعالی بن (أحدية الكثرة)، فهو تعالى أحد في عين كل شيء محسوس أو معقول، يعني لا يشبه ظهوره في عين شيء ظهوره في عين الشيء الآخر.
فكل شيء بهذا الاعتبار موصوف بظهور هذه الأحدية فيه، فكل شيء لا يشبه كل شيء (وأحدية الله ) تعالى (من حيث الغنى) الذاتي (عنا) معشر الكائنات (وعن الأسماء)، أي أسمائه تعالى من وجه كونها غيره سبحانه (أحدية العين)، أي الذات الإلهية.
(وكلاهما) أحدية الكثرة وأحدية العين (يطلق عليه)، أي على كل واحد منهم (اسم الأحد) وذلك وارد في قوله تعالى : "قل هو الله أحد" ، ف الهو أحدية العين ، والله أحدية الكثرة، والخبر عنهما واحد وهو لفظ أحد.
(فاعلم) يا أيها السالك (ذلك) المذكور (فما أوجد الحق) تعالى (الظلال) جمع ظل وهي ظلال الأجسام الكثيفة في الأنوار (وجعلها)، أي تلك الظلال (ساجدة)، أي فانية من أنفسها معدومة مضمحلة في وجود الأشخاص الجسمانية التي هي ظلال عنه (متفيئة عن الشمال)، أي شمال الشخوص (وعن اليمين)، أي يمين الشخوص على حسب النور وتوجهه فإذا كان النور عن اليمين كانت الظلال عن الشمال وبالعكس كما يراه الحس في الدنيا إلا دلائل واضحة (لك) .
يا أيها السالك (عليك)، أي على نفسك (وعليه)، أي على ربك سبحانه (لتعرف من أنت) من حيث إنك أثر ظاهر عن مؤثر.
كالظل يظهر عن الشخص وليس هو جزء منه ، ولم يتأثر الشخص بظهوره عنه، ظاهر عن كل مؤثر كالظل يظهر عن الشخص وليس هو جزء منه ولم يتأثر الشخص بظهوره عنه ولا هو مماثل له بوجه أصلا إلا أنه ظله قائم به موجود به وجودة لا يشبه وجود الشخص ولا هو عدم صرف كما كان قبل أن يكون.
وزواله بشخصه أيضا لا بشيء غيره أصلا ما دام النور متوجها على الشخص، فإن توجه النور إلى جهة الظل انتقل الظل إلى الجهة التي كان فيها النور، وهكذا فإن النور بمنزلة الذات الإلهية.
والشخص بمنزلة الأسماء الإلهية التي امتد عنها ظل الممكنات، فكل ممكن تجلی عليه النور الذاتي انعدم في الحال وزال عنه تجلي الأسماء الإلهية ، فإذا استتر عنه النور الذاتي تجلت عليه الأسماء الإلهية فأوجدته بوجهها الذي تغایر به الذات الإلهية ، وهو الوجه الذي من طرف الآثار الكونية .
(و) تعرف (ما نسبتك إليه) سبحانه فإن نسبتك إليه نسبة الظل إلى شخصه كما ذكرن (و) تعرف (ما نسبته)، أي الحق تعالى (إليك) يا أيها السالك وكذلك كل مخلوق مثلك.
فإن نسبته إليك سبحانه نسبة الشخص إلى ظله من حيث أسماؤه وصفاته ونسبة النور إلى الظل من حيث ذاته تعالى.
ولا يغنيك إلا شهود الذات الإلهية النورية، ولا يوجدك ويبقيك إلا شهود الأسماء الإلهية بالنور الذات الإلهي (حتى تعلم) يا أيها السالك (من أين)، أي من أي ذات وهي ذات الحق تعالی وعينه النورية الوجودية المطلقة.
(أو من أي حقيقة إلهية)، أي حضرة جامعة للذات والاسم الإلهي (اتصف م سوی)، أي غير (الله تعالی) من كل شيء محسوس أو معقول (بالفقر)، أي بالافتقار والاحتياج (الكلي) الذي هو من حيث ذات ذلك الشيء وصفاته وجميع أحواله في ظاهره وباطنه إلى الله تعالى .
وذلك من حيث أن الظل صادر عن الشخص بصورته وهيئته وأحواله من حركة وسكون، وصادر عن النور الذي هو خلف الشخص بثبوته ووجوده وارتسامه في نفسه .
فقد اشترك الشخص والنور في إظهار الظل، والظل ظاهر عنهما معا لا عن أحدهما فقط، لكن كل واحد منهما له فيه تأثير باعتبار، إذ لو لم يكن الشخص ما كان الظل، وكذلك لو لم يكن النور ما كان الظل، فالشخص يرسم صورة مخصوصة يقتضيها.
والنور يكشف عن تلك الصورة ويظهر للحس فافتقار الظل إلى النور، والشخص بافتقار كلي نظر افتقار كل شيء محسوس أو معقول إلى الله تعالی من حيث ذاته تعالى، ومن حيث أسمائه وصفاته.
فإن الأسماء والصفات الإلهية لها رسم كل شيء أزلا، وتخصيص صورته بما تقتضيه من حال حسي أو معنوي على اختلاف ذلك.
والذات الإلهية لها إظهار ذلك الشيء على حسب ما هو عليه والكشف عنه ، لأنها النور الذي يظهر به كل مستور.
قال الله تعالى : "الله نور السموات والأرض" [النور: 35]. وفي الحديث من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل على غضبك، أو تنزل على سخطك».رواه الطبراني والمقدسي في المختارة.
(و) اتصف أيض (بالفقر)، أي الافتقار (النسبي) الذي هو مجرد نسبة افتقار واحتياج فقط بلا حقيقة افتقار ولا احیتاج في نفس الأمر (بافتقار)، أي بسبب افتقار (بعضه)، أي بعض ما سوى الله تعالى.
(إلى بعض) آخر من ذلك السوي، فإنه اتصف بهذا النوع من الافتقار، الذي هو مجرد نسبة الافتقار فقط، باعتبار عدم انفكاك ما سوى الله تعالى الذي هو الظل عن شخصه، الذي هو حضرة الأسماء الإلهية.
.


gbVrFJ73TZ0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!