موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب خصوص النعم
في شرح فصوص الحكم

تأليف: الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

فص حكمة إمامية في كلمة هارونية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة إمامية في كلمة هارونية


24 - فص حكمة إمامية في كلمة هارونية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفصّ الهاروني
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بالأمة التي هي إما التصرف بالحق في الخلق من حققه بأسماء الحق ، أو إقامة أمره ونهيه في العموم ، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى هارون عليه السّلام ؛ لتحققه بأسماء الحق من جهة كونه من حضرة الرحموت ، وإقامته أمر الحق ونواهيه باستخلاف أخيه إياه على قومه .
"إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً " [ البقرة : 124 ] أي : خليفة عليهم .
""أضاف المحقق :
(الإمامة المذكورة هاهنا لقب من ألقاب الخلافة ، وهي تنقسم إلى إمامة بلا واسطة وبين حضرة الألوهية ، وإلى إمامة ثابتة بالواسطة ، وكل رسول بعث بالسيف فهو خليفة من خلفاء الحق ، ول خلاف في أن موسى وهارون بعثا بالسيف ؛ فهما من خلفاء الحق الجامعين بين الرسالة والخلافة . شرح الجامي) .""
قال الشيخ رضي الله عنه : (اعلم أنّ وجود هارون عليه السّلام كان من حضرة الرّحموت بقوله تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِن [ مريم : 53 ] يعني لموسى :أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّ [ مريم : 53 ] ، فكانت نبوّته من حضرة الرّحموت ؛ فإنّه أكبر من موسى سنّا ، وكان موسى أكبر منه نبوّة ، ولمّا كانت نبوّة هارون من حضرة الرّحمة ، لذلك قال لأخيه موسى - عليهما السلام :يَا بْنَ أُمَّ [ طه :94 ] ، فناداه بأمّه لا بأبيه إذ كانت الرّحمة للأمّ دون الأب أوفر في الحكم ، ولولا تلك الرّحمة ما صبرت على مباشرة التّربية ) .
( اعلم أن وجود هارون عليه السّلام كان من حضرة الرحموت ) ، والرحمن اسم شامل تجليه تجليات سائر الأسماء ، والرحيم يدل على الاختصاص المشير إلى التحقق والتخلق والرحمة شاملة لهم ، فكان متحققا بالأسماء الإلهية .
( بقوله تعالى :وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِن[ مريم :53 ] يعني لموسى ) بين الضمير ؛ لأن مرجعه وإن كان مذكورا في القرآن فليس مذكورا في الكتاب ، وفيه إشارة إلى أن خلافته عن موسى عين خلافته عن الحق ، وإنها مكملة لنبوته ونبوة موسى إذ وهبه له مع أخوته حال نبوته كما كان( أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا )؛فكانت نبوته من حضرة الرحموت ) ،
فلابدّ أن تكون مكملة بالإمامة ، وكونه موهوبا لموسى من هذه الحضرة يستلزم كونه رحمة عليه ، ( فإنه أكبر من موسى سنا ) ، ومن شأن الكبير أن يكون راحما على الصغير ، ولا ينافي هذا كونه خليفة لموسى إذ ( كان موسى أكبر منهنبوة ) ، والصغير في النبوة يجوز أن يكون خليفة للكبير فيها ، وإن كان راحم على الكبير فيها من حيث كونه صغيرا في السن .
(ولم كانت نبوة هارون ) التي هي غاية كماله ( من حضرة ) الرحموت كان الغالب عليه في أفعاله وأقواله م يناسب ( الرحمة ؛ لذلك قال لأخيه موسى - عليهما السلام ) مع كونه أخاه من الأبوين ؛( يَا بْنَ أُمَّ [ طه : 94 ] ، فناداه بأمه ) أي : إضافة إلى أمه ( لا بأبيه ) ، وإن كان أرحم من سائر الناس ،
( إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر في الحكم ) ، فإن أثر الرحمة في الأم أظهر وأكثر مما في الأب ، ( ولولا تلك الرحمة ) الوافرة الأثر من الأم على الصغير ( ما صبرت على مباشرة التربية ) للصغير كما لا يصبر عليه الأب ؛ ولذلك جعلت الحضانة أولا للأمهات .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثمّ قال :لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [ طه : 94 ] ،فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ [ الأعراف : 150 ] ؛ فهذا كلّه نفس من أنفاس الرّحمة . وسبب ذلك عدم التّثبّت في النّظر فيما كان في يديه من الألواح الّتي ألقاها من يديه ، فلو نظر فيها نظر تثبّت لوجد فيها الهدى والرّحمة ، فالهدى بيان ما وقع من الأمر الّذي أغضبه ممّا هو هارون بريء منه ، والرّحمة بأخيه ، فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره وأنّه أسنّ منه ، فكان ذلك من هارون شفقة على موسى لأنّ نبوّة هارون من رحمة اللّه ، فلا يصدر منه إلّا مثل هذا ).
( ثم ) أي : بعد قوله :يَا بْنَ أُمَّ ( قال :لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [ طه : 94 ] ،فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ [ الأعراف : 150 ] ) ، ولم يغضب عليه مع أنه فعل ذلك عن علمه ، ( فهذا ) القول وترك الغضب على موسى عليه السّلام ( كله نفس من أنفاس الرحمة ) المجتمعة تلك الأنفاس في هارون رحم بها موسى ؛ لئل يزيد غضبه عن العجلة فيهلك ، وإن كان للّه ؛ لكونه بلا موجبة في الحقيقة ؛
وذلك لأن ( سبب ذلك ) الغضب والعجل من موسى ( عدم التثبت ) من الحيرة التي غلبت عليه من الغيرة في اللّه والغضب له عن عجلة ، فلم يثبت ( في النظر فيما كان ) أبلغ تثبت مع غاية قربه ، إذ كان ( في يديه من الألواح ) أي : ألواح التوراة ( التي ألقاها من يديه ) من عدم التثبت الموجب للحيرة الحاصلة من الغضب في اللّه ، والغيرة له إذ لا يتجرأ على مثل ذلك إلا عن الحيرة ، وإلا فهو معصوم ، وكذا ما فعل بأخيه .
( فلو نظر فيه نظر تثبت ) فيه إشارة إلى أن الحائر لا يفيده النظر ، وإن بالغ فيه ( لوجد فيه الهدى ) المنافي لإلقاء الألواح ، ولم فعل بأخيه (والرحمة ) المنافية لما فعل بأخيه ( في الهدى ) الذي كان يجده لو ثبت في نظره فيه ( بيان ) سبب ( ما وقع من الأمر الذيأغضبه ) من عبادة العجل ؛ لأنه مكتوب فيها وأصلها السامري ، فأخرج لهم عجل جسدا له خوار ، وهذا ( مما هارون بريء منه ) ، فلم يكن معينا فيها بل مانع عنها بقوله :إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [ طه : 90 ] ، والرحمة التي كان يجدها موسى لو ثبتت في نظره فيها هي ( الرحمة بأخيه ) المانعة من هتك رحمته لما فيه من قطع الرحم وهتك رحمة الكبير ،
( وكان لا يأخذ بلحيته ) سيما إذا كان ثمة أي : ( من قومه مع كبره ) في السن ، ( فإنه أسن منه ) والكبر في السن يستوجب الحرمة من كل أحد حتى ممن هو أكبر منه في النبوة أو في فضيلة أخرى ، فهذا الفعل من موسى ، وإن كان عن غضب وغيرة في اللّه فهو بسبب العجلة لا شكّ أنه ترك الأولى والأنبياء يؤاخذون بذلك ،
( فكان ذلك ) القول وترك الغضب ( من هارون شفقة على موسى ) غلبت عليه ؛ ( لأن نبوة هارون من رحمة اللّه ، ولا يصدر منه إلا مثل هذا ) ، وإن كانت الرحمة الرحمانية عامة ، لكنها إذا رحمة الغضب لم تكن رحمة على المغضوب عليه ، وكأن نبوته رحمة على موسى إذ وهب له من الرحمة ، ولم يغلب على موسى ؛ لأن نبوته من جميع الأسماء الإلهية الشاملة على الغضب والانتقام ، فغضب في موضعه في ظنه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثمّ قال هارون لموسى - عليهما السّلام :إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ [ طه : 94 ] ؛ فتجعلني سببا في تفريقهم فإنّ عبادة العجل فرّقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتّباعا للسّامريّ وتقليدا له ، ومنهم من توقّف عن عبادته حتّى يرجع موسى عليه السّلام إليهم فيسألونه في ذلك ، فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ، فكان موسى أعلم من هارون ؛ لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأنّ اللّه قد قضى ألا يعبد إلّا إيّاه ، وما حكم اللّه بشيء إلّا وقع ، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه ، فإنّ العارف من يرى الحقّ في كلّ شيء ، بل يراه عين كلّ شيء ؛ فكان موسى يربّي هارون تربية علم ، وإن كان أصغر منه في السّنّ ) .
ثم أشار إلى أن موجب الغضب لا إلى هذا الحدّ بقوله : ( ثم ) أي : بعد ما قال هارون ما ذكرنا ( قال هارون لموسى - عليهما السلام : ) معتذرا عما غضب عليه من تركه التشديد في الإنكار خوفا من الأضرار عن العناد الناشئ من التشديد ( أني خشيت ) في التشديد ( أن تقول : فرقت ) أي : أدمت التفريق (بين بني إسرائيل ) مع وقوعه من غيري ؛ لأن الدوام أشد من الابتداء إذا زال سريعا ، ( فتجعلني سبب ) ابتداء وانتهاء ( في تفريقهم ) ، بل يجعل التفريق من غيري كاللاتفريق ، ( فإن عبادة العجل فرقت بينهم ) تفريقا غير تام في البعض مطلقا ، وإن تم في الآخرين من وجه ،
( فكان منهم من عبده اتباعا للسامري ) مع أن الواجب اتباع هارون لنبوته وخلافته ،
( وتقليدا له ) ، مع أن الواجب عليهم النظر الموجب متابعة الأنبياء لكمال إدراكهم للحقائق ، فهؤلاء وإن لم يتم التفريق فيهم ؛ لكنه لكونه تقليديّا ضعيف جدّا ، لكنه يتقوى عن المعتاد الحاصل عن التشديد في الإنكار عليهم .
( ومنهم من توقف عن عبادته ) وهو وإن كان كفرا ، فهو دون عبادته كيف وكان توقفهم ( حتى يرجع إليهم موسى فيسألونه في ذلك ) ، فهم مؤمنون بقول موسى ، وإن كفروا بقول هارون ، ( فخشي هارون ) أنه لو شدد عليهم الإنكار في التوقف تركوا التوقف ورجعوا إلى عبادته ، فخشي ( أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ) بإتمامه من كل وجه في البعض ومن وجه في البعض ، بل ربم كان يتم من كل وجه في الكل ، فيبطل حق اللّه تعالى في عبادته وحده ، فأشار موسى عليه السّلام بأن عبادة العجل ليست فرقانا في حق اللّه تعالى بل في حق العبادة باعتقادهم إلهية العجل أو استحقاقه للعبادة ، وهو في معنى الإلهية .
( فكان موسى أعلم بالأمر من هارون ؛ لأنه علم ما عبده ) في الواقع ( أصحاب العجل ) ، فإنهم عبدوا الحق باعتبار ظهوره في مظهر العجل ل على اعتقاد مظهريته ، بل على اعتقاد إلهيته فأخذوا بما قصدوا ، ولو عبدوه على اعتقاد مظهريته كان أيضا خطأ ، فإن المظهر والصورة الظاهرة فيه من جملة العالم الذي حقه أن يكون عابدا لا معبودا مع أن مظهريتهم أكمل من مظهريته ؛ لأنه لا يرجع إليهم قولا ، ولا يملك لهم نفعا ولا ضرّا ، وإنما علم موسى ذلك ؛ ( لعلمه بأن اللّه قد قضى ) أي : حكم ("أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ " [ الإسراء : 23]).
إم باعتبار ذاته أو أسمائه وهي عبادة المؤمنين ، أو باعتبار ظهوره في المظاهر الخلقية ؛ وذلك لأنه ( ما حكم اللّه بشيء إلا وقع ) وقد وقعت عبادة بعض المظاهر ، فعبادتها راجعة إلى عبادته في الواقع ، وإن لم تفد أصحابها بل أضرت بهم من كل وجه ، إذا وجبت لهم حجبا كثيفة عن اعتقاد كمال ظهوره فيها فهو عين النقص في حقه .
( فكان عتب موسى أخاه ) في ترك التشديد عليهم ( لما وقع الأمر ) ، أي : أمر الفرقان ( في إنكاره ) اللين ؛ لأنه إنما كان الإنكار لرؤيته الفرقان في نفس الأمر يبطل به عبادة اللّه من كل وجه لو دام وتم مطلقا بتشديده الإنكار ، وذلك عن ( عدم اتساعه ) في معرفة الحق حتى يعرف ظهوره في كل شيء ، ( فإن العارف من يرى الحق ) : أي ظاهرا ( في كل شيء ، بل يراه ) باعتبار ظهوره ( عين كل شيء ) ، فإن صورته متحدة بالأشياء ، إذ لا وجود للأشياء سوى صورته الوجودية ، فتبقي عبادته من ذلك الوجه فلا فرقان في حقه ، ولكن لا تبقى في حق عبدة العجل ، فيجب تشديد الإنكار عليهم ،
( فكان موسى يربي هارون تربية علم ) بأن عبادة اللّه لا تضيع بعدم قصدهم إياها ، وإنما تضيع عنهم فائدتها ، وذلك لكبره في النبوة ، ( وإن كان أصغر منه في السن ) ، فكبر سنه رباه تربية الرحمة ، وكبر نبوة موسى رباه تربية المعرفة ؛ فافهم فإنه مزلة للقدم .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولذلك لمّا قال له هارون ما قال ، رجع إلى السّامريّ فقال له :قالَ فَما خَطْبُكَ ي سامِرِيُّ[ طه : 95 ] ؟ يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص ، وصنعك هذا الشّبح من حليّ القوم حتّى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم ، فإنّ عيسى يقول لبني إسرائيل : « يا بني إسرائيل قلب كلّ إنسان حيث ماله ، فاجعلوا أموالكم في السّماء تكن قلوبكم في السّماء » ، وما سمّي المال مالا إلّ لكونه بالذّات تميل القلوب إليه بالعبادة ؛ فهو المقصود الأعظم المعظّم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه ، وليس للصّور بقاء ، فلابدّ من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه .
فغلبت عليه الغيرة فحرّقه ثمّ نسف رماد تلك الصّورة في اليمّ نسف ، وقال له :وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ [ طه : 97 ] ، وسمّاه إلها بطريق التّنبيه للتّعليم ، لما علم أنّه بعض المجالي الإلهيّة ، لأحرقنه ) فإنّ حيوانيّة الإنسان لها التّصرّف في حيوانيّة الحيوان لكون اللّه سخّرها للإنسان ، ولا سيّم وأصله ليس من حيوان ، فكان أعظم في التّسخير ؛ لأنّ غير الحيوان ما له إرادة بل هو بحكم من يتصرّف فيه من غير إباءة ) .
( ولذلك ) أي : ولكون موسى عليه السّلام مربيا بالعلم تبين أن ظهور الإله في شيء لا يجعله إلها ، فاعتقاد إلهية تفرقه ( لما قال له هارون ) ما دلّ عن رؤية الفرقان في اعتقاد عبدة العجل وصانعه وهو السامري ، وإن زعم أنه لا يفرقه في ذلك ؛ لكون العجل محل الأمر ( رجع إلى السامري ) يعاتبه في تخصيص هذا المظهر القاصر سيما من جهة جماديته باستحقاق العبادة في المظاهر التي أصلها أن يكون أكمل منه ، ( فقال له :فَم خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ، يعني : فيم صنعت من عدولك ) عن عبادة الحق باعتبار ذاته وأسمائه التي ل تغايره ( إلى صورة العجل على الاختصاص ) ، مع أن الكل مظاهر الحق ، فل يستحق البعض من البعض العبادة ، بل حق المظهر أن يكون عابدا لا معبودا وفي ) صنعك هذا الشبح ) ، مع أن ظهور الإله في مصنوعات الخلق أقصر منه في مصنوعاته ، لكن خيل لهم كمال ظهوره فيه ، إذ جعله ( من حلي القوم حتى أخذت بقلوبهم ) فتوهمت فيه الكمال لحبها إياه ، إذ عين المودة عن كل غيب كليلة ، مع أنه ليس لكمال ظهور الحق فيه ، بل ( من أجل أموالهم ) الموجبة سيل قلوبهم إليها ،
بدليل قول عيسى عليه السّلام :-
( فإنّ عيسى يقول لبني إسرائيل : « يا بني إسرائيل قلب كلّ إنسان حيث ماله ، فاجعلو أموالكم في السّماء ) بأن تجعلوها للّه ، وتعطوها للفقراء ، ( تكن قلوبكم في السماء )عند ربكم ، وأيضا علم ذلك من اشتقاقه ، فإنه ( ما سمي المال مالا ؛ إلا لكونه بالذات ) وإن لم يتوسل به بعض البخلاء إلى الشهوات ، ولا إلى دفع سائر المضرات ( تميل القلوب إليه بالعبادة ) أي : التذلل له مثل تذلل العابد للمعبود ؛ ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « تعس عبد الدينار ، وعبد الدرهم ، وعبد الخميصة إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط » . رواه البخاري وابن حبان وابن ماجة.
تعس وانتكس ، وإذ آتيك فلا انتعش ، فهو وإن كان في الأصل مقصودا بالغير وهو جلب الشهوات ودفع المضرات ، صار كأنه
( هو المقصود الأعظم ) حتى تشبه عند بعض الجهّال باللّه ، كما قال الجريري : لولا التقى لقلت : جلت قدرية فهو (المعظم في القلوب ) العمية ( لما فيها من الافتقار إليه ) ، كالافتقار إلى اللّه تعالى في نظرهم ، وأي كمال لظهور الحق فيه ، وأدنى كمالاته البقاء إلى الأبد .
( وليس للصور ) ولو سماوية ( بقاء ) ، فمتى تبقى لأرضه ، (فلابد من ذهاب صورة العجل ) وإن لم يقصد أحد إذهابها ، حتى إنه كانت تذهب بنفسها ( لو لم يستعجل موسى بحرقه ) ، لكنه استعجل ذلك لئلا يبقى مدة معبودا من دون اللّه في اعتقاد عابديه ، ( فغلبت عليه الغيرة ) بحسب اعتقاد عابديه غيريته للحق ؛ لأن حق المعبود أن يكون مستقلا بالذات وأحبابها ، فحرقه ليفنيه بالكلية بحسب العرق أو ليصير رمادا في غاية الحقارة ،
( ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا ) ؛ ليشير بذلك إلى فناء الصور ذليلة في بحر الوجود الحقيقي ؛ حتى يظهر عدمها الأصلي وذلتها في أن تكون آلهة تعبد من دون اللّه ، ولكن ( قال له :انْظُرْ إِلى إِلهِكَ [طه : 97 ] ) مع اعتقاده عدم إلهيته ( بطريق التنبيه ) على أخطائه في هذه التسمية ، وإن كانت صور الأشياء في المرايا تسمى بأسمائها ؛ ( للتعليم ) بأن كونه مجلى إلهيّا لا يصح تسميته باسم من أسماء اللّه تعالى ،
وذلك ( لما علم ) موسى من السامري أنه إنما سماه بذلك من حيث ( أنه بعض المجالي الإلهية ) ، فنبّه بأنه لو صح تسمية هذا البعض به لصح تسميته الكل به ، فلا يبقى التمييز بين العابد والمعبود ، ولا سيما ما كان أكمل منه في المظهرية كالإنسان ، فإنه أكمل من سائر أنواع الحيوان في نفس الحيوانية فضلا عن الباطنية .
( فإن حيوانية الإنسان لها التصرف في حيوانية ) سائر أنواع ( الحيوان ) ، وإن كانت في أصل الحيوانية سواء ، لكن فضل اللّه تعالى حيوانية الإنسان على حيوانية سائر أنواع الحيوان ؛ لكون اللّه تعالى سخرها للإنسان ، فهذا العجل سخر للإنسان من حيث حيوانيته ، ( ولا سيما ) أنه وإن صار له خوار ( أصله ليس من ) نطفة ( حيوان ) بل من الجماد ، ( فكان أعظم في التسخير ) من الحيوان الذي أصله من الحيوان ، بل هو أي : هذا العجل وإن صار حيوانا فهو كالجماد في التسخير حتى يكون بحكم من تصرف فيه من ( غير ) إبانة ، فإنه وإن ظهرت فيه الحياة ، فلم تظهر فيه الإرادة ولا القوة الجاذبة والدافعة حتى يدفع ضرر من يريد التصرف فيه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأمّا الحيوان فهو ذو إرادة وغرض فقد يقع منه الإباءة في بعض التّصريف ؛ فإن كان فيه قوّة إظهار ذلك ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان ، وإن لم تكن له هذه القوّة ، أو يصادف غرض الحيوان انقاد مذلّلا لما يريده منه ، كما ينقاد الإنسان مثله لأمر فيما رفعه اللّه به من أجل المال الّذي يرجوه منه المعبّر عنه في بعض الأحوال بالأجرة في قوله :وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّ [ الزخرف : 32 ] فما يسخّر له من هو مثله إلّا من حيوانيّته لا من إنسانيّته ، فإنّ المثلين ضدّان ، فيسخّره الأرفع في المنزلة بالمال أو بالجاه بإنسانيّته ويتسخّر له ذلك الآخر إمّا خوفا أو طمعا من حيوانيّته لا من إنسانيّته ، فما يسخّر له من هو مثله ) .
"" أضاف المحقق :
(إنم أضاف التسخير إلى إنسانيته لأن التسخير في الإنسان إنما يكون من جهة كمال ، والكمال في الإنسان ليس إلا من جهة إنسانيته ، وأضاف التسخير إلى حيوانيته ؛ لأن التسخير إنما يكون من جهة نقص ليخبر به ، والنقص فيه ليس إلا من حيوانيته . شرح الجامي ). أهـ ""
وأم ( الحيوان ) الذي أصله من حيوان ، فهو ذو ( إرادة ) ، وكل ذي إرادة ذو غرض لتخصيص البعض بالجر والبعض بالرفع ، ( فقد يقع منه الإبائية في بعض التصرفات ) الإنسانية فيه إذا توهم منه ضرورة ، ( فإن كان فيه قوة إظهار ذلك ) الإباء ( ظهر منه الجموح لما يريده ) المتصرف فيه إذا لم يوافق تصرفه غرض ذلك الحيوان ، ( وإن لم يكن له هذه القوة ) أي : قوة إظهار الإباء ، ( أو يصادف ) تصرف المتصرف فيه ( غرض الحيوان ) بأن توهم منه نفعه ، وإن توهم معه التضرر أيضا ( انقاد مذللا لما يريده ) المتصرف ( منه ) ؛ لحصول غرضه لا لتسخيره إياه فهو في حكم الجموح ، فهو ( كما ينقاد الإنسان مثله ) لا لكونه مسخرا له ، بل ( لأمر ) داخل ( فيما رفعه اللّه به ) وإن كان انقياده ( من أجل المال الذي يرجوه منه ) ، فإن له بذلك رفعة من حيث أنه محتاج إليه ، وإن كان هذا المال هو
( المعبر عنه في بعض الأحوال بالأجرة ) ، فإن للمستأجر رفعة على الأجير ، وإن ساواه في المال والمنصب وسائر الفضائل ، فهذ الانقياد من الحيوان والجماد والإنسان لمثله داخل (في قوله تعالى :"وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا" )[ الزخرف : 32 ] ،
وإذ كانت السخرية بالرفعة ( فما يسخر له ) أي : للإنسان ( من هو مثله ) في الإنسانية ( إلا من حيوانيته ) المحوجة إلى المال في الشهوات ، أو دفع المضرات ، أو المنقصة للفضائل ( لا من إنسانيته ) لاقتضائها جمع الكمالات وعدم الاحتياج إلى الأمور الذاتية ، وكيف ينقاد الإنسان لمثله من حيث الإنسانية .
(فإن المثلين ضدان ) ، ومقتضى الضدية التباعد وإن كان مقتضى المناسبة التقريب ، فيصطحبان بالمناسبة ، ويتباعدان بالضدية ، والتسخير تذليل موجب للعداوة فتغلب هناك جهة الضدية ، فليس التسخير من المثلية ، وقد تقرر أنه برفعة الدرجة ( فيسخره الأرفع في المنزلة ) ، ولو كانت رفعته ( بالمال والجاه ) الذي لا يحتاج إليه الإنسان من حيث هو إنسان ، ولكن تحصل لصاحبه الرفعة الإنسانية إذ يصير محتاجا إليه ، فيكون تسخيره ( بإنسانيته ) لا بنفس المال والجاه كاللآلئ ، واليواقيت المطروحة في الفلاة ، ( ويتسخر له ذلك الآخر إما خوفا ) من الضرر ، ( أو طمعا ) في النفع ( من حيوانيته ) التي يلحقها الضرر ، والنفع الدنيوي ( إلا من إنسانيته ) ، وإن كانت متعلق النفع والضر ، لكنهما ليسا من المال والجاه بل من الأمور العالية ، ( فما سخر له ) في صورة تسخير الإنسان لمثله ( من هو مثله ) وهو الإنسان ، بل إنما يتسخر لإنسانيته أحدهما حيوانية الآخر ، وكيف يتسخر الإنسان لمثله مع أن الحيوان لا يتسخر لمثله .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ألا ترى ما بين البهائم من التّحريش ؛ لأنّها أمثال ؟ فالمثلان ضدّان ، ولذلك قال :وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [ الزخرف : 32 ] ، فما هو معه في درجته ، فوقع التّسخير من أجل الدّرجات ، والتّسخير على قسمين : تسخير مراد للمسخّر ، اسم فاعل قاهر في تسخيره لهذا الشّخص المسخّر كتسخير السّيّد لعبده ، وإن كان مثله في الإنسانيّة ، وكتسخير السّلطان لرعاياه ، وإن كانوا أمثالا له في الإنسانيّة فيسخّرهم بالدّرجة ، والقسم الآخر تسخير بالحال كتسخير الرّعايا للملك القائم بأمرهم في الذّبّ عنهم وحمايتهم وقتال من عاداهم وحفظه أموالهم وأنفسهم عليهم ، وهذا كلّه تسخير بالحال من الرّعايا يسخّرون بذلك ملكهم ، ويسمّى على الحقيقة تسخير المرتبة).
قال رضي الله عنه : ( ألا ترى ما بين البهائم من التحريش ؛ لأنها أمثال ) لا لأمر آخر ، ( فالمثلان ) إذا لم يكن منهما موجب تسخير ( ضدان ) لا يمكن أن ينقاد أحدهما للآخر أبد ؛ ( ولذلك ) أي : ولكون المثلين ضدين ، والأشياء إما أمثال أو أضداد
( قال تعالى :وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ") [ الأنعام : 165 ] ؛ لتعارض موجب التسخير موجب الإبائية ، وإذا ارتفعت الدرجات لم تبق المثلية المانعة من الانقياد ؛ لأنه وإن كان مثله في الإنسانية .
( فما هو معه في درجته ) ، فزالت المثلية المانعة ، ( فوقع التسخير من أجل الدرجات ) المقتضية له كأنه لا تعارض بينهما حينئذ ، ووقوع التسخير من أجل الدرجات لا يستلزم كون الأرفع هو المسخر اسم الفاعل أبدا ، بل قد يكون بالعكس ،
وذلك أن ( التسخير على قسمين تسخير مراد للمسخر اسم فاعل ) ، واسم الفاعل فيه أرفع درجة ؛ لأنه ( قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخر ) اسم المفعول ، وإن كان هذا المسخر له فضيلة أخرى يرفع بها على اسم الفاعل ( كتسخير السيد لعبده ، وإن كان مثله في الإنسانية ) الجامعة للكمالات كلها فالقهر درجة اختص به السيد فيرفع بها عليه .
( وكتسخير السلطان لرعاياه ) إذ يجب عليهم طاعته ، وإن صح تصرفهم دون إذنه بخلاف العبد ، فالرعايا ( وإن كانوا أمثالا له في الإنسانية ) الجامعة شرائط الإمامة ، ( فيسخرهم بالدرجة ) وإن لم يكن فيه فضيلة أخرى ، إذ يرتفع بالدرجة عليهم ( والقسم الآخر ) يكون الأدنى مسخرا اسم فاعل للأرفع ، وهو (تسخير بالحال ) لا بالإرادة ( كتسخير الرعايا للملك ) مسخّرونه لانتظام أمورهم ، إذ هو ( القائم بأمرهم في الذّب ) أي : دفع الظلمة ( عنهم وحمايتهم ) عن السراق والقطاع للطريق ، ( وقتال من عاداهم ) من الكفار والبغاة ، ( وحفظ أموالهم وأنفسهم ) عمن يريدها بلا حق ، ( وهذا كله تسخير بالحال ) لا بالإرادة ؛ لأنه إنما يكون بالقوة الظاهرة ، وليس لآحاد الرعية ذلك ، فهو تسخير ( من الرعايا ) ، وإن كانوا مسخرين للملك بالقهر والدرجة ، فهم ( يسخرون بذلك ملكهم ) بالمرتبة ليحفظ بحفظه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فالمرتبة حكمت عليه بذلك ، فمن الملوك من سعى لنفسه ، ومنهم من عرف الأمر فعلم أنّه بالمرتبة في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم وحقّهم ، فآجره اللّه على ذلك أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه وأجر مثل هذا يكون على اللّه في كون اللّه في شؤون عباده ، فالعالم كلّه مسخّر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنّه مسخّر ، قال تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ الرحمن : 29 ] ، فكان عدم قوّة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتّسليط على العجل كما سلّط موسى عليه ، حكمة من اللّه ظاهرة في الوجود ، ليعبد في كلّ صورة ، وإن ذهبت تلك الصّورة بعد ذلك فما ذهبت إلّا بعد م تلبّست عند عابدها بالإلوهية ) .
( فالمرتبة ) وإن كانت دنية ( حكمت عليه بذلك ) الحفظ والحاكم على الشيء مسخر له ، وإذا كان الملك مسخرا للرعايا بالدرجة وهم مسخرون له بالمرتبة ، انقسم سعي الملوك في الذّب والحماية والقتال وغيرها إلى قسمين ، ( فمن الملوك من سعى لنفسه ) لحفظ درجته فلا أجر له ، بل قد يكون عليه الوزر لو أراد التكبر على عباد اللّه تعالى ؛ وذلك لجهله ، ( ومنهم من ) سعى لحفظ مرتبة الرعايا إذ ( عرف الأمر ) أي : المقصود من درجة السلطة ، (فعلم أنه بالمرتبة ) التي لرعاياه من حيث عدم استقلال كل واحد منهم بأمره (في تسخير رعاياه ، فعلم قدرهم ) بأن لهم رتبة حاكمة عليه بالذّب والحماية والقتال ، ( وحقهم ) اللازم عليه ، فيقصد بذلك أداء حقهم ( فآجره اللّه ) بتقريبه من جنابه ، وإظلاله تحت ظله كما ورد :
« سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عدل ، وشاب نشأ في عبادة اللّه ، ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا عليه وافترقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال ،
فقال : إني أخاف اللّه ، ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج عنه حتى يرجع إليه ، ورجل يتصدق بصدقة فلا تدري شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه » رواه البخاري ومسلم.
( على ذلك ) السعي ( أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه ) ، إذ جمعوا بين العلم والعمل ، ( وأجر مثل هذا يكون على اللّه ) بتقريبه منه ؛ لأنه تشبه باللّه ( في كون اللّه في شؤون عباده ) وهو أيضا في مشائهم ، وإذا كانت الرعايا مسخرة للملك بالحال ونسبة العالم إلى اللّه نسبة الرعايا إلى الملك ،
( فالعالم كله ) وإن كان بعضه في غاية الحقارة ( مسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنه مسخر ) اسم مفعول ؛ لئلا يتوهم كونه مقهور الآن التسخير بذلك الوجه هو المشهور إلا أن هذا الوجه تحقق في الحق ، وإن لم يطلق عليه هذا اللفظ ، إذ ( قال اللّه تعالى :كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ الرحمن : 29 ] ) ،
وإذ كان للعالم تسخير الحق بالحال والرتبة مع كونه مسخرا له وللإنسان سيما الكمّل ، ( فكان عدم قوة إرداع هارون ) مع كون هارون مشدودا به عضد أخيه ( بالفعل ) أي : التأثير بحيث يكون لإرداعه ( أن ينفذ في أصحاب العجل ) ، فيتأثروا به ( بالتسليط على العجل ) بإحراقه ونسف رماده في اليم ، ( كما سلط موسى عليه السّلام ) من حيث تسخير ما دون الإنسان للإنسان ( حكمة من اللّه ) يحكم بها أمر عباده وأمر إلهيته ( في الوجود ) .
وإن لم تكن حكمة في الشرع ؛ فإنه إنما لم يسلط هارون أولا ليعبد فيه ، ثم سلط عليه موسى ليعلم بطلان إلهيته ، وإنه إنما عبد لكونه من مظاهره ، فإنه إنما ظهر في هذه الصور ( ليعبد في كل صورة ) تعبده فيها المحجوبون ، وإن لم يقصدوا عبادته بل عبادة الصورة ، ( وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك ) ، فإن ذهابها لا يدل على عدم ظهور الحق فيها حين عبدت ، ( فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابديه بالألوهية ) مع أنها ليست بإله ، فلا أقل من ظهور الإله فيها ، وظهور الصورة في المرآة موهم عند المحجوب كون تلك الصورة صورة المرآة ، فيعبدها عنه رؤيته في تلك المرآة صورة كاملة بظن إلهيتها ، وأقل وجوه الكمال كون المظهر مسخرا اسم فاعل .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلّا وعبد إمّا عبادة تألّه وإمّا عبادة تسخير ؛ فلا بدّ من ذلك لمن عقل ، وما عبد شيء من العالم إلّا بعد التّلبّس بالرّفعة عند العابد والظّهور بالدّرجة في قلبه ، ولذلك يسمّى الحقّ لنا برفيع الدّرجات ، ولم يقل رفيع الدّرجة ، فكثّر الدّرجات في عين واحدة ؛ فإنّه قضى أل نعبد إلّا إيّاه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كلّ درجة مجلى إلهيّا عبد فيها ، وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه « الهوى » كما قال :أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [ الجاثية : 23 ] ، فهو أعظم معبود ، فإنّه لا يعبد شيء إلّا به ، ولا يعبد هو إلّا بذاته).
( ولهذا ما بقي نوع من ) ثلاثة أنواع ( الأنواع إلا وعبد إما عبادة تألّه ) إن كانت الصورة الظاهرة في مرآته كاملة ، ( وإما عبادة تسخير ، ولا بدّ من ذلك ) أي : عبادة التسخير في الكاملة والقاصرة جميعا ، أقول ذلك ( لمن عقل ) ؛ لكن عبادة التأله لا تكون إلا عند ظهور الكمال ؛ وذلك لأنه ( ما عبده شيء من العالم ) عبادة تأله ( إلا بعد التلبس بالرفعة ) ولو ( عند العابد ) لا في الواقع ؛
( ولذلك ) أي : ولظهور الحق في كل معبود بالباطل بدرجة رفيعة عند عابده( تسمى الحق لنا برفيع الدرجات ) ؛ ليعلم أن إلهيته بتلك الدرجات كلها لا بدرجة واحدة مع عدم بقية الدرجات ؛ لأنه نقص مناف للإلهية ، ( ولم يقل : رفيع الدرجة ) ، وإن كانت واحدة تقتضي وحدة الصف ، كما قلنا في علمه وقدرته وكلامه : إنه بالعلم الواحد يعلم جميع المعلومات ، وبالقدرة الواحدة يقدر على جميع الممكنات ، وبالكلام الواحد ينطق بكل ما يريد ؛ لئلا يتوهم أن إلهيته بدرجة واحدة ،
( فكثرت الدرجات في عين واحدة ) بالظهور في هذه المظاهر ليعبده بعضهم في الدرجة الجامعة للدرجات ، ويعبده بعضهم وهم المحجوبون باعتبار ظهوره في بعض الدرجات ،
(فإنه قضى ) أي : حكم ( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[ الإسراء : 23 ] في درجات كثيرة مختلفة ) يختص بعضها بالموحدين ، وبعضه بالمشركين المحجوبين ؛ لأنها ( أعطت كل درجة مجلى إلهيّا ) أوهم القاصرين إلهيته إبهام ظهور الشمس في المرآة شمسيتها مع أنها في المرآة لا يشرق العالم ؛ ولذلك ( عبد فيها ) ليكون معبودا من كل وجه كمال .
قال أهل السنة : إن اللّه يريد الكفر من الكافر ، وقد قال تعالى :" وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [ الذاريات : 56 ]، فإن كان من لا يعبد شيئا ، فلا أقل من أن يكون عابدا لهواه ، ( وأعظم مجلى عبد فيه ) الحق عبادة باطلة ( وأعلاه الهوى ) ، وكيف لا وهو سبب عبادة كل معبود باطل ، وهو معبود بالذات ، ( كما قال تعالى ) في حق عبدة المجالي : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ[ الجاثية : 23 ] ) ، فعبد بأمره ما عبد من الأصنام وغيرها ، ( فهو أعظم معبود ) باطل كان عابده وحده عابدا لجميع المعبودات الباطلة ،
( فإنه لا يعبد شيء إلا به ) أي : مقرونا بعبادته فهذه عظمته ، ( ولا يعبد هو إلا بذاته ) ، وهذا علوه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وفيه أقول :
وحقّ الهوى إنّ الهوى سبب الهوى .... ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
ألا ترى علم اللّه بالأشياء ما أكمله ، كيف تمّم في حقّ من عبد هواه واتّخذه إلها فقال :وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] ، والضّلالة الحيرة ، وذلك أنّه لمّا رأى هذ العابد ما عبد إلّا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره من عبادة من عبده من الأشخاص ، حتّى أنّ عبادته للّه كانت عن هوى أيضا ، لأنّه لو لم يقع له في ذلك الجانب المقدّس هوى وهو الإرادة بمحبّته ما عبد اللّه ولا آثره على غيره ، وكذلك كلّ من عبد صورة ما من صور العالم واتّخذها إلهاما اتّخذها إلّا بالهوى فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ) .
( وفيه ) أي : وفي كون الهوى معبودا بذاته ( أقول : وحق الهوى ) أي : الحب الإلهي المشار إليه بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف » .
وسبب ظهور الهوى ( أن الهوى سبب ) عبادة ( الهوى ) ؛ وذلك لأنه ( لول الهوى في القلب ) : وهو الميل الموجب لإرادة عبادة الهوى ، ( ما عبد الهوى ) ، إذ العبادة فعل اختياري يتوقف على الميل والإرادة ، ولكن مع كون الهوى معبودا بالذات لمن يعبد الصور قد لا يشعر به صاحبه ، كما قال :
( ألا ترى علم اللّه بالأشياء ما أكمله ) فعلم ما يعبده العابد ، ولا يعلم العابد من نفسه أنه يعبده ( كيف تمم في حق من عبد هواه ) في عبادة الصور ، ( واتخذه ) هواه ( إلها ) مع أنه ينكر إلهيته ويجعلها للأصنام مثلا ،( وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] ) أي : حيره ، فلا يدري أن معبوده بالذات هو الهوى ، مع أنه يعلم أنه لا يعبد ما يعبد إلا عن أمر الهوى ، وإنما حملنا الإضلال على التحير ؛ لأن ( الضلالة الحيرة وذلك ) أي : إضلال الحق إياه على علم ( أنه ) أي : الحق ( لما رأى هذا العابد ) لأي شيء كان ( ما عبد إلا هواه ) ؛ لأنه الآمر بهذه العبادات كلها ، فيعبده ( بانقياده ) لأمره ،
وذلك الانقياد ( لطاعته فيما يأمره ) بلسان الحال (من عبادة من عبده من الأشخاص ) ، أضله اللّه عن معبوده بالذات ، كم أضله عن عبادته ، والهوى : هو الأمر بعبادة كل معبود ( حتى أن عبادته للّه كانت عن هوى أيضا ؛ لأن لو لم تقع له ) أي : لما بدا اللّه ( في ذلك الجناب المقدس هوى ، وهو الإرادة ) الحاصلة ( لمحبته ) هي الهوى والميل بالحقيقة (م عبد اللّه ) ؛ لأنه فعل اختياري يتوقف على الميل والإرادة ، كيف وهو مؤثر عبادة اللّه على عبادة غيره ، وعلى ترك العبادة ،
ولول الإرادة ( ما آثره ) للعبادة ( على غيره ، وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم ) السفلية والعلوية بسبب ما فيها من الغيرة أو من التأثير ، ( واتخذها إلها ما اتخذها إلا بالهوى ) ؛ لأن الإلهية وإن كانت من الاعتقادات ، لكنها إنما كانت معبودة بالهوى ، والإلهية إنما تتم بالعبادة ، فهي أيضا بالهوى .
( فالعابد ) سواء كان عابدا للّه أو لغيره ( تحت سلطان هواه ) ، لكن من عبد اللّه ل يقال فيه : إنه اتخذ إلهه هواه ؛ لأن من عبد الهوى أو غيره من المعبودات الباطلة ، إنما يعبده من حيث أنه مجلى إلهي ، وهذا ينفي عبادة المجالي ويقصد عبادة الحق ،
فلم يكن عابدا لهواه وإن كان تحت سلطانه ، مع أنه يقصد بذلك امتثال أمر اللّه لا أمر الهوى في عبادة اللّه تابع لأمر الحق بخلاف أمره بعباده غيره ، فإنه لا يتبع فيه أحدا إلا الشيطان ،
فصار أمر الهوى في عبادة اللّه كأمر أولي الأمر من الإمام والعلماء والأولياء والأنبياء عليهم السلام .
""أضاف المحقق :
الأنبياء والأولياء العارفون وإن كانوا ينكرون العبادة للأرباب الجزئية لكن إنكارهم ليس لاحتجابهم عن الحق الظاهر في صور الأشياء ، بل إنكارهم بحسب اقتضاء ثبوتهم ، وبحسب اقتضاء الظاهر ؛ فإنهم يرون بحسب الباطن في كل شيء . شرح القاشاني . أهـ ""
ولول أن في الهوى قوة متابعة الحق ما خلقه أصلا بحسب مقتضى السنة الإلهية ، وستأتي الإشارة إلى ذلك عن قريب ، لكن ذكرناه هاهنا مخافة طعن المنكرين على البدار فبادرناه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثمّ رأى المعبودات تتنوّع في العابدين ، فكلّ عابد أمرا ما يكفّر من يعبد سواه ؛ والّذي عنده أدنى تنبّه يحار لاتّحاد الهوى ، بل لأحديّة الهوى ، فإنّه عين واحدة في كلّ عابد ،وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] ، أي حيّره عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] بأنّ كلّ عابد ما عبد إلّا هواه ولا استعبده إلّا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف ، والعارف المكمّل من رأى كلّ معبود مجلى للحقّ يعبد فيه ، ولذلك سمّوه كلّهم إلها مع اسمه الخاصّ بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك ، هذ اسم الشّخصيّة فيه ) .
( ثم ) أي : بعد الحيرة في عبادة الهوى ، واتخاذه إلها بالذهول ، يزداد تحير من ( رأى المعبودات تتنوع ) في اعتقادات ( العابدين ) بحيث يرى كل أحد حقيقة عبادة معبوده ، وبطلان عبادة غير معبوده ، ( فلكل عابد أمرا ما يكفّر من يعبد سواه ) أي : سوى معبوده الذي يعتقد إلهيته ، فيحار المقلد الذي لا كشف له ، ولا دليل في أنه من يقلد من هؤلاء ، فيعبد أحد هذه المعبودات مع ما له من التحير ؛ فإنه يعبد ما يعبد بالهوى ، أو لا يعرف الأمر الإلهي ، وكذ ( الذي عنده أدنى تنبيه يحار ) في حق من يعبد الآلهة الباطلة بلا كشف ولا دليل ؛ لاستحالة ذلك في حقه فلا يدري ما الذي رجح به كل واحد استحقاق معبوده العبادة دون معبود غيره ؛ ( لاتحاد الهوى ) الآمر بعبادتها ، ( بل ) يتحير في حق من يعبد اللّه عن كشف أو دليل ( لأحدية الهوى ) الآمر بعبادة اللّه ، وعبادة غيره من حيث إنه فعل اختياري يتوقف على الإرادة الحاصلة عن الميل الذي هو الهوى .
(فإنه عين واحدة ) من حيث إنه ميل ، وإن كان أحد المثلين بل متابعة دليل كشفي ، أو عقلي ، أو نقلي والآخر بمتابعته ، فهو أمر مشترك ( في كل عابد ) ، فالكل يعبده مع أن عابد اللّه ينكر عبادته للهوى ،( وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [ الجاثية : 23 ] ، أي : حيره ) في عبادته للهوى ، وفي عبادة الحق على علم ( بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ) بالذات ، ( ول استعبده ) أي : ولا أمره بعبادة اللّه ، أو عبادة غيره ( إلا هواه ) ، فامتثل أمره وهو العبادة الحقيقية ، لكنهم ذهلوا عن عبادة الهوى ، واتخاذهم إياه إلها ، وإن علموا أنهم لا يصدرون إل عن أمره ( سواء صادف الأمر المشروع ) ، وهو عبادة اللّه تعالى ( أو لم يصادف ) ، فيحار في أنه لم كفر عابد الأصنام ، ولا يكفر عابد اللّه مع أنه أيضا يعبد هواه ، وهذه الحيرة للحق من لا يكون عارفا كاملا ، ( والعارف المكمّل من رأى كل معبود ) سوى اللّه تعالى ( مجلى للحق يعبد ) الحق ( فيه ) ، فعابد اللّه تعالى لا يعبد الهوى لقصده عبادة الحق ونفيه قصد عبادة المجلي ، وعبادته وإن صدرت عن أمر الهوى ، فليس ذلك أمر الهوى من حيث هو هوى ، بل من حيث إنه تابع لأمر الحق كالرسول والوارث .
( ولذلك ) أي : ولكون كل معبود سوى اللّه مجلى للحق ليس عينه من كل وجه ، بل من وجه ( سموه إلها ) ؛ لظنهم أن المجلي في حكم من ظهر فيه (مع اسمه الخاص ) ، فسموه ( عجزا وسحرا ، وحيوانا أو إنسانا ، وكوكبا وملكا ) استوعب الأنواع مع الترقي ؛ ليشير إلى أن اتخاذهم الإلهية إلا على عين إنكاره الإلهية الأدنى ،
مع أنه لا دليل لهم على إلهية الأعلى أيضا ما لم يقم لهم دليل على أنه لا أعلى منه في الوجود ، مع أن ( هذا ) الاسم هو الاسم الحقيقي ؛ لأنه ( اسم الشخصية ) ، وهو أخص الأسماء الحقيقية .
قال الشيخ رضي الله عنه : (والألوهيّة مرتبة تخيّل العابد له أنّها مرتبة معبوده ، وهي على الحقيقة مجلى للحقّ لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختصّ ، ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة :ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ الزمر : 3 ] مع تسميتهم إيّاهم آلهة ، حتّى قالوا :أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ[ ص : 5 ] ، فما أنكروه بل تعجّبوا من ذلك ، فإنّهم وقفوا مع كثرة الصّور ونسبة الألوهيّة لها ، فجاء الرّسول ودعاهم إلى واحد يعرف ولا يشهد ، بشهادتهم أنّهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم :ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [ الزمر : 3 ] ، لعلمهم بأنّ تلك الصّور حجارة ، ولذلك قامت الحجّة عليهم بقوله :قُلْ سَمُّوهُمْ [ الرعد:33] ، فما يسمّونهم إلّا بما يعلمون أنّ تلك الأسماء لهم حقيقة ) .
( والألوهية ) ليست من الأسماء الخاصة بتلك الأشخاص ، بل هي (مرتبة ) مختصة باللّه تعالى في الواقع ، لكن ( يخيل العابد له ) أي : لهذا المعبود الباطل ( أنها مرتبة معبوده ) عن ظهور الحق بهذه المرتبة فيه ، وهذه المرتبة لم يتجل بها الحق في شيء في الواقع حتى يصح أن يسمى بالإله ؛ لأنه إنما يحصل ظهوره في مظهر لو صار واجب الوجود بالذات ، لكنه محال صريح ،
ولكن ( هي على الحقيقة مجلى الحق ) في معبوده ؛ ( لبصر هذا العابد ) الخاص إضلالا له ، وإرخاء للستر عليه ؛ ليعبده في هذه المراتب بدليل أنه (المعتكف على هذا المعبود ) الباطل ، فإنه لو لم يتجل لبصره بهذه المرتبة فيه مع أنه غير متجلّ بها فيه ( في ) الواقع لم يعتكف على عبادته .
( ولهذا ) أي : ولتخيل العابد الإلهية المعبودة بالذات أو بتجلي الحق فيه بها ، ( قال بعض من لم يعرف ) : إن الإله إنما يطالب المتقرب إليه بالذات ، ول يتقرب به إلى الغير ،
فكان قولهم : ( مقالة جهالة : "ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى "[ الزمر : 3 ] )
إم لأنها ( آلهة ) صغار لها قرب عند الإله الأكبر ؛ وإما لأنها صور إلهيته والتقرب إلى الصورة تقرب إلى ذي الصورة ، وهذا الجهل كما ( قالوا :أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ[ ص : 5 ] ، فم أنكروه ) ، أي : كون الإله واحدا ،
( بل تعجبوا من ذلك ) ؛ لظنهم أن الإله تجلى بالإلهية في الأصنام ، فصار كل واحد منهم إلها ، فمع بقاء تلك الصور كيف تتصور وحدة الإله ، وإنما هو بفنائه ، فجهلوا كون الإله واحدا في تلك الصور كلها بلا عجب ، لكنهم تحيروا عن الوقوف على الصورة ،
( فإنهم وقفوا مع كثرة الصور ونسبة الألوهية لها ) ، إذ زعموا أن الإله ظهر بإلهيته فيها ؛ لأنها صور كاملة ولا كمال لغيره ، ولم يعلموا أن كمال الحق بوجوب وجوده بالذات ، ولا يمكن ظهوره في شيء ،
( فجاء الرسول ودعاهم إلى ) إله (واحد ) ؛ لئلا يقفوا على الصور ، ولا ينسبوا الإلهية إليها ؛ فإنه وإن ظهر فيها بصورة الوجود ، فلم يظهر بصورة الإلهية أصلا ، ففائدة ظهوره فيها أنه (يعرف ) بوجه ، ولكن ( لا يشهد ) فيها القصور مظهريتها ، فلا تصبح نسبة الإلهية إليها ، فدعاهم إلى الإله الواحد الذي ثبت .
( فشهادتهم ) على أنفسهم ( أنهم أثبتوه عندهم ) ؛ لأنهم لما قالوا بالعدد المبهم ، وهو يتضمن الواحد ، فقد شهدوا على حقيّة الواحد وزادوا عليه ، فدعاهم إلى ذلك ، بأنه المتفق عليه ، والمدلول عليه بالدلائل القطعية ، فلابدّ في إثبات الزيادة من دليل ولا يوجد أبدا بالاستقراء ،
بل تقوم الدلائل على امتناعه ، وليس ذلك بطريق التنزيل ( واعتقدوه في قوله :م نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى[ الزمر : 3 ] ) ، وإنما كانت عندهم مقربة إلى اللّه زلفى ؛ لأنها صور إلهيته عندهم فدعاهم إلى ذلك الإله الواحد ، فإنه لما ظهر في هذه المظاهر أحدث صور فيها حكمتها ؛ ( لعلمهم بأن تلك الصور حجارة ) ، إذ لا تتميز الصورة الإلهية عن الحجرية في هذا المظهر ، فلم يبق لها إلهيته ، فتصح عبادتها حتى تكون مقربة إلى اللّه تعالى ؛
( ولذلك ) أي : ولكون تلك الصور حجارة ، وإن ظهر الإله بها ( قامت الحجة عليهم بقوله : قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ [ الرعد : 33 ] ) أن تلك الأسماء لهم حقيقة ) ، والإلهية لو ظهرت فيها لسميت صورتها باسم ذي الصور تكون مجازا ، فخافوا من ذكر الأسماء المجازية أن تحتج عليه بصحة نفيها عنهم ؛ لأن من خواص المجاز صحة النفي هذا إذا تميزت الصورة عن المرآة ، فكيف فيما لا تتميز ، لكن القاصر في المعرفة إذا سمع ظهور الحق فيها ، وأن الحق أراد أن يعبد في هذه المراتب لا ينكر على عابديها ، وهي غلط منشئه ، فصورة المعرفة إذ كمالها يقتضي الإنكار .
قال الشيخ رضي الله عنه : (وأمّا العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصّور ؛ لأنّ مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرّسول الّذي آمنوا به عليهم الّذي به سمّوا مؤمنين ، فهم عبّاد الوقت مع علمهم بأنّهم ما عبدو من تلك الصّور أعيانها ، وإنّما عبدوا اللّه فيها بحكم سلطان التّجلّي الّذي عرفوه منهم ، وجهله المنكر الّذي لا علم له بما تجلّى ، وستره العارف المكمّل من نبيّ ورسول ووارث عنهم ، فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصّور لما انتزح عنها رسول الوقت اتّباعا للرّسول طمعا في محبّة اللّه إيّاهم بقوله :قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ آل عمران : 31 ] ، فدعا إلى إله يصمد إليه ويعلم من حيث الجملة ، ولا يشهد ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [ الأنعام : 113 ] ، بل وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ[ الأنعام : 113 ] ، للطفه وسريانه في أعيان الأشياء . فلا تدركه الأبصار كما أنّها لا تدرك أرواحها المدبّرة أشباحها وصورها الظّاهرة ، فهو اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ الأنعام :103 ] ، والخبرة ذوق ، والذّوق تجلّ ، والتّجلّي في الصّور ؛ فلابدّ منه ولا بدّ منه ، فلابدّ أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت ،وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [ النحل : 9 ] ) .
كم أشار إليه بقوله : ( وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه ) ، فيعلمون أن الحق ، وإن تجلى فيهم بالصورة الوجودية ، فلم يتجل في شأن بالإلهية ؛ لأنها بوجوب الوجود بالذات ولا يمكن التجلي بها ، فلا تستحق هذه المظاهر العبادة ؛ لأن أصله العبودية ، وهي باقية في أسمائها الحقيقية ، والأسماء المحاذية لا نطلق عليها ؛ لأنها مما يفسد الاعتقاد الصحيح ، والحق وإن أراد أن يعبد فيها ، فإنما أراد ذلك من المحجوبين الذين يرون في ظهوره فيها كماله مع ما فيها من القصور ،
( فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور ) ، وإن لم ينكروا ظهور الحق فيها ولا إرادته أن يعبد فيها ، كما قال أهل السنة : إن اللّه يريد الكفر من الكافر ،
وهم وإن كانوا على مراد الحق ، فالحق إنما أراد منهم الإنكار ، إذ أعطاهم العلم بأنه لم يظهر بالإلهية فيها في الواقع ، وأنه إنما أراد عبادتها من المحجوب مع أنه أراد الإنكار عليه في مظهر هذا المنكر ؛
ولذلك قال بصورة الإنكار ؛ ليشير على أن المنكر حقيقة هو اللّه تعالى في مظهرهم ؛
وتلك ( لأن مرتبتهم في العلم ) التي أعطاها اللّه إياهم ( تعطيهم أن يكونو بحكم الوقت ) الذي هو مقتضى مظهريتهم في الحال ، الذي غلبت عليهم من كمال المعرفة الموجبة للإيمان بالرسل عن معرفة كمال مظهريتهم الموجبة للإيمان بهم ،
كالإيمان بربهم وإن لم يوجب لهم استحقاق العبادة التي هي بالإلهية التي لا يمكن ظهورها أصل ، وهو تعظيم الإنكار ، فالحق يريد من مظاهرهم ذلك ،
إذ قد بيّن الرسول عليه السّلام هذه الإرادة الإلهية من مظهر هذ المنكر ؛ ( لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم ) أن ينكروا على عبدة الصورة ؛ لإنكار مراد الحق منهم ، كما أن عبادتها مرادة له من عابديها ، فهو ينكر بإرادة الحق فيه على إرادة الحق فيهم ، وقد رجح هذه الإرادة منه حكم الرسول ( الذي سمّوا به مؤمنين ) ، فدل ذلك على أن هذه الإرادة هي التي لها الكمال .
( فهم ) وإن رأوا من الحق إرادتين مختلفتين بحسب التعلق بمظهره ومظاهرهم ( عبّاد الوقت ) الذي هم فيه من كمال المعرفة التي منشأها الإيمان الحاكم عليهم بالإنكار ، فهم ينكرون بإرادة الحق على إرادة الحق مع بقاء حقه في الواقع في الإرادتين فهم ينكرون عبادة الصور ( مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها ) الثابتة التي لا وجود لها ،
( وإنما عبدوا اللّه ) الذي ظهر ( فيها ) ، لكنهم أنكروا على قصدهم عبادة الغير أو على رؤيتهم أن الحق تجلى فيها بالألوهية مع أنه محال ؛ لأنها بوجوب الوجود ، ومع ذلك فلا تسمى إلها إلا بالمجاز ، والمستحق للعبادة إنما هو الإله بالحقيقة لا بالمجاز ، أو على رؤيتهم أنه الكمال الإلهي مع أنه عين القصور (وجهله ) ، أي : كون الحق هو الموجود فيه
( المنكر ) من العامة ، وهو (الذي لا علم له بما تجلّى ) ، فهو وإن أخطأ في معرفة التجلي أصاب في الإنكار ؛ ولذلك ( يستره ) أي : التجلي عليه ( العارف المكمّل ) للعامة ، وإن كان من شأنه التكميل في المعرفة ( من نبيّ ورسول ووارث ) ؛ لئلا يتقلع عن إنكاره بتوهم حقيقة العبادة فيها عند علمه بتجلي الحق فيها ، أو بتحيره في الإنكار على إرادة الحق بإرادة الحق .
وإذ ستره العارف المكمل عن المنكر ،
( فأمرهم ) أي : المنكر عابدي الصور ( بالانتزاح عن الصور لما انتزح عنه رسول الوقت ) ، فهذا المنكر وإن أخطأ في المعرفة لم يخطئ في هذا الأمر ، إذ أمرهم ( اتباعا للرسول ) ، وهذه المتابعة بخير ما فاته من المعرفة ؛ لأنه إنما يتبع الرسول ( طمعا في محبة اللّه إياهم ) ، وهي في العبادة لا تقصر عن المعرفة إنما تطلب في محبة اللّه ، وهي حاصلة في متابعة الرسول
( بقوله : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ آل عمران : 31 ] ) ، وأعظم المتابعة هي المتابعة في الدعوة إلى عبادة الحق وحده لا في هذه المظاهر والصور ، ( فدعا ) هذا المنكر ( إلى إله يصمد إليه ) أي : يحتاج إليه الكل ؛ لكونه واجب الوجود بالذات ، ولا يمكن ظهوره في مظهر ، وهو بظهوره في هذه المظاهر إنم
( يعلم من حيث الجملة ، ولا يشهدوه ) لقصور المظهرية ، والدليل عليه قوله :( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [ الأنعام : 113 ] ، والمشهود تدركه الأبصار ، ( بل هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ؛) لظهوره فيها فهو يدرك صورته فيها إدراك الشخص صورته في المرآة ، وإنما يظهر في المظاهر .
( فللطفه ) بها الموجب لتوجهه إليها وتجليه لها ، وهو سبب (سريانه في أعيان الأشياء ) وهو يفيدها الصورة الوجودية والتدبير فيها( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ )على نهج المشاهدة في هذه المظاهر ، ( كما أنها ) أي : الأبصار ( لا تدرك أرواحها ) ، أي : أرواح الأشياء ( المدبرة أشباحها ) ، ولا تدرك ( صورها الظاهرة ) من الحق فيها ، فلا تدرك بالأبصار من الأشياء صورة الحق ، وهي الصورة الوجودية ، وكذ الصورة الجسمية والنوعية والشخصية ، بل إنما تدرك هذه الصور بالعقل ، والمدرك بالبصر إنما هو الشكل واللون ،
( فهو اللَّطِيفُ) من حيث لا يدرك بذاته ولا بصور ظهوره في المظاهر ،( الْخَبِيرُ ) من حيث ظهوره بالأشياء ؛ ليعلم بالذوق ما فيها بعد علمه مطلقا ، وذلك أن ( الخبرة ذوق ) ولا ذوق لمحق في ذاته ؛ لأنه من جملة الحوادث ، فلا يكون له إلا بالاعتبارات تحصل لصورته الظاهرة في المظاهر .
ولذلك نقول : ( الذوق تجلّ ) أي : حاصل من التجلي ، ( والتجلي ) وإن كان له في ذاته ، فهو لا يفيد الذوق الحادث فيه ، بل إنما يفيده التجلي ( في الصور فلابدّ منها ) أي : من الصور لهذا الذوق ، ( ولا بدّ ) للمتجلى ( منه ) أي : من الذوق ، إذ هو المقصود ، وقد علم الحق تجليه في المظاهر بالصورة الوجودية بحيث يتخيل القاصر ظهور ألوهيته فيها ، وهي موجبة للعباد ، فلابدّ أن يحصل ذلك له بالذوق ، وقد أوجب ذلك وظهر ذلك الوجوب في هوية المحبين إذا حجبوا عن المحبوب الحقيقي وتخيلوه فيها ، ( فلابدّ أن يعبده من رآه بهواه ) أي : يحبه بحيث يتخيله على كماله في بعض ما يراه ، لكن عبادته في ذاته مع عبادته في مظاهره إفراط ، والاقتصار على عبادة المظاهر تفريط ،( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [ النحل : 9 ] .
في عبادته وحده باعتبار ذاته وأسمائه بجمعه جميع الدرجات الرفيعة بلا إفراط ولا تفريط ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
ولم فرغ عن الحكمة الإمامية التي بها التصرف بالحق على الخلق ، أو إقامة أوامره ونواهيه نيابة عنه فيهم ، شرع في بيان الحكمة العلوية التي بها استعلاء المتصرف بالحق ، والمقيم أوامره ونواهيه على المتصرف بنفسه ، المقيم أوامرها ونواهيها ؛
فقال :فص الحكمة العلوية في الكلمة الموسوية
.

yfBV04DhRgw

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!