موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب خصوص النعم
في شرح فصوص الحكم

تأليف: الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية


20 - فص حكمة جلالية في كلمة يحيوية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي

كتاب خصوص النعم في شرح فصوص الحكم الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي
الفص اليحيوي
أي : ما يتزين به ، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بأول أسماء اللّه تعالى ، المتضمن للدلالة على جلال الذات ، المندرج فيه سائر الأسماء والصفات ظهر بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى يحيى عليه السّلام ، إذ أعطى أسماء لم يسم به من قبله كاسم اللّه الذي هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[ مريم : 65 ] ، ويتضمن ما فيه من الصفة تضمن اسم اللّه لسائر الأسماء التي معانيه .
قال الشيخ رضي الله عنه : (هذه حكمة الأوّليّة في الأسماء ، فإنّ اللّه سمّاه يحيى أي : يحيا به ذكر زكريّا ، ولم يجعل له من قبل سميّا ، فجمع بين حصول الصّفة الّتي فيمن غبر ممّن ترك ولدا يحيى به ذكره ، وبين اسمه بذلك فسمّاه يحيى فكان اسمه يحيى كالعلم الذّوقيّ ، فإنّ آدم حيّي ذكره بشيث ، ونوحا حيّي ذكره بسام ، وكذلك الأنبياء ولكن ما جمع اللّه لأحد قبل يحيى بين الاسم العلم منه وبين الصّفة إلّا لزكريّا عناية منه ، إذ قال :فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّ[ مريم : 5 ] فقدّم الحقّ على ذكر ولده كما قدّمت آسية ذكر الجار على الدّار في قولها :رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ[ التحريم : 11 ] ، فأكرمه اللّه بأن قضى حاجته وسمّاه بصفته حتّى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيّه زكريّا ، لأنّه عليه السّلام آثر بقاء ذكر اللّه في عقبه إذ الولد سرّ أبيه ، فقال :يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ[ مريم : 6 ] ، وليس ثمّة موروث في حقّ هؤلاء إلّا مقام ذكر اللّه والدّعوة إليه ) .
وإليه الإشارة بقوله : ( هذه حكمة الأوّليّة في الأسماء ) أي : الحكمة الجلالية "" التجلي الصفاتي : يعنون به تجريد القوى والصفات عن نسبتها إلى الخلق بإضافتها إلى الحق ، وذلك لأن العبد عندما يتحقق بالفقر الحقيقي الذي ستعرفه ، وهو عبارة عن انتفاء الملك شهودا ؛ فإن قلبه حينئذ يصير قبلة للتجلي الصفاتي ، بحيث يصير هذا القلب التقي النقي مرآة ومجلي للتجلي الوحداني الصفاتي الشامل حكمه لجميع القوى والمدارك ( لطائف الإعلام ص 173 ) . ""
حكمة الأولية التي ليست لغير اللّه تعالى إذ له القدم الذاتي ، وله بذلك الاعتبار اسم مختص به شامل على سائر الأسماء شمول الأولية على معلولاتها ظهور هذه الأولية في اسم يحيى ، وجعله متضمنا للمعنى الذي يحيى عليه السّلام علته ، ( فإن اللّه سماه يحيى ) حيث قال لزكريا عليه السّلام :إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى[ مريم : 7 ] ، وإنما تولى الحق تسميته لمناسبته اسم اللّه تعالى من حيث شموله على ما فيه من الصفة ، ومن حيث تضمنه معنى الأولية
أي : ( يحيى به ذكر زكريا ) ، فهذا ما فيه من الصفة المعلولة له " لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا "[ مريم : 7 ] ، فهذا ما فيه من الأولية والحق ، وإن ظهر فيمن يقدمه بأول الصفات أو بأول الأسماء ، فلم يجمع لأحد قبله بينهما ، فلم يعم في حقّه أولية الأسماء من حيث تضمنها لما دونها من معلولاته .
( فجمع ) في حقه ( بين حصول الصفة التي فيمن عبر ) ، وهي صفة الإحياء لذكر الآباء ( ممن ترك ولدا ) كاملا ( يحيي به ذكره ) ؛ ليكون كدلالة الصفة على الذات ، ( وبيّن اسمه بذلك ) للتنصيص على أن المقصود من اتحاده إحياء ذكر أبيه ، ( فسماه يحيى ) أسماء تدل على المقصود من مسماه ، (فكان اسمه يحيى كالعلم الذوقي ) يقتضيه الذوق ، ولا يحتاج فيه إلى الوضع والتسمية ، ففي ذلك مزيد عناية وتنصيص لا يوجد في حق من لم يجمع له بين الاسم والصفة ،
( فإن آدم حيي ذكره بشيث ونوح عليه السّلام حيي ذكره بسام ، وكذلك الأنبياء ) حيا ذكرهم بأولادهم المعنويين والحسيين إذا انضم فيهم إلى الحسي المعنوي ، ( ولكن ما جمع لأحد مثل يحيى بين الاسم العلم منه ) أي : من هذا اللفظ ( وبين الصفة ) المفهومة منه ( إلا لزكريا ) في ابنه ، وإن كان في حق غيره أيضا كالعلم الذوقي ( عناية منه ) تعالى للدلالة على كمال هذه الصفة فيه ؛ لاعتنائه بالحق في دعوته بتقديمه على مطلوبة ، ( إذ قال :فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [ مريم : 5 ] .
( فقدم الحق ) للعناية به بقوله :فَهَبْ ،والكاف في "لَدُنْكَ" ( على ذكر ولده ) ، وإن كان هو من حيث مطلوبه أهم له ( كما ) أعينت آسية بالحق ، فاعتنى بها الحق إذ ( قدمت آسية ) امرأة فرعون ( ذكر الجار على الدار في قولها :رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) [ التحريم : 11 ]، فقدمت عِنْدَكَ اهتماما بطلب الجار الحق على الدار في الجنة ، فجعلها مثلا للذين آمنوا ، وألحقها بالرجال الكمّل ، فلما أكرم زكريا الحق بتقديمه ، (فأكرمه اللّه بأن قضى حاجته ) التي ليس من شأنها قضاؤها في وقت دعائها ، وهو وقت الكبر ، فأكرمه بهذه المعجزة ، وزاد في إكرامه بأن ( سماه بصفته ) التي هي إحياء ذكر زكريا به ، ( حتى يكون اسمه تذكارا ، لما طلب منه نبيّه زكريا ) فيه ؛ إشعارا بأنه لا يطلب الولد لزينة الدنيا ولا يرث ماله ، بل إنما طلبه ( لأنه عليه السّلام آثر بقاء ذكر اللّه في عقبه ) على ما كان يذكره أيام حياته ، وقد صار ذلك هيئة راسخة في قلبه ، فلابدّ أن يحملها ولده .
( إذ الولد سر أبيه ، فقال :يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ،وليس ثمة ) أي : في الواقع ( موروث في حق هؤلاء ) الأنبياء ( إلا مقام ذكره ) اللّه ( والدعوة إليه ) ، فكان مطلوبه إحياء ذكر اللّه ، فأجر اللّه تعالى ذكره ، وذكره في اسم ابنه ؛ ليعلم أنه حر وفاق .
قال الشيخ رضي الله عنه : (ثمّ إنّه بشّره بما قدّمه من سلامه عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا ، فجاء بصفة الحياة وهي اسمه وأعلم بسلامه عليه ، وكلامه صدق فهو مقطوع به ، وإن كان قول الرّوح :وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[ مريم : 33 ] أكمل في الاتّحاد ، فهذا أكمل في الاتّحاد والاعتقاد وأرفع للتّأويلات ، فإنّ الّذي انخرقت فيه العادة في حقّ عيسى إنّما هو النّطق ، فقد تمكّن عقله وتكمّل في ذلك الزّمان الّذي أنطقه اللّه فيه .
ولا يلزم للمتمكّن من النّطق على أيّ حالة كان الصّدق فيما به ينطق ، بخلاف المشهود له كيحيى ، فسلام الحقّ على يحيى من هذا الوجه أرفع للالتباس الواقع في العناية الإلهيّة به من سلام عيسى على نفسه ، وإن كانت قرائن الأحوال تدلّ على قربه من اللّه في ذلك وصدقه ، إذ نطق في معرض الدّلالة على براءة أمّه في المهد ، فهو أحد الشّاهدين ، والشّاهد الآخر هزّ الجذع اليابس فتساقط رطبا جنيا من غير فحل ولا تذكير ، كما ولدت مريم عيسى من غير فحل ولا ذكر ولا جماع معتاد ).
( ثم ) أي : بعد هذه العناية والتكريم من اللّه تعالى لزكريا عليه السّلام ( أنه بشره ) ، أي : زكري ( بما قدمه ) أي : يحيى على سائر من أحيى ذكر آبائهم بهم ، وعلى عيسى عليه السّلام ( من سلامه ) بما قدمه أي : بسبب تقديمه الحق لفظا ومعنى ، إذ قصد إحياء ذكره عزّ وجل في عقبه دون ذكر نفسه ، فظهر في مطلوبه بما له في قدمه من سلامه ؛ لتنزهه عن التعلق بالعالم في القدم ، فجعل سلامه ( عليه ) حتى سلم من التعلق بغير الحق ، فلم يفعل معصية ، ولا هم بها( يَوْمَ وُلِدَ ) ،فصارت ولادته الطبيعية كالمعنوية ، ويوم( يَمُوتُ ) فصار ثبوته الطبيعي كالاختياري ، ويوم (يُبْعَثُ حَيًّا )[ مريم : 15 ] ،
فصارت حياته بعد الموت كالبقاء بعد الفناء ، ( فجاء ) لظهوره باسم السلام فيه (بصفة الحياة) ؛ ليدل على تنزيه حياته عن نقائص حياة المحدثات ، وهي وإن كانت بتعلق السلام أجرا ؛ فالأجر راجع إلى الأول والوسط أخذ بحكم الطرفين ، فالسلام متعلق بها في كل حال ، كيف ( وهي اسمه ) ؟ أي : داخل في مفهوم اسمه اللازم له أولا وآخرا ووسطا .
( وهو ) تعالى وإن لم يصرح بكون سلامه على هذا الاسم ، لكنه ( أعلم ) بطريق الإشارة ( بسلامه عليه ) ، فلا يتوهم عدم عمومه الأحوال ، كيف وهو تعالى صادق في إشارته مثل صدقه في عبارته ، إذ ( كلامه صدق ) من جميع الوجوهلا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ،وهو مفهوم العبادةوَلا مِنْ خَلْفِهِ[ فصلت : 43] (وهو ) مفهوم الإشارة .
ثم مفهوم الإشارة وإن كان عند البعض ظنّا ، فهو عندن ( مقطوع به ) ، فهو أي سلام الحق عليه بكل حال مقطوع به ، فسلام الحق على يحيى أرجح من سلام عيسى على نفسه من هذا الوجه ، ( وإن كان قول الروح ) أي : عيسى عليه السّلام :" وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا "[ مريم : 33 ] .
( أكمل من الاتحاد ) لفظا ؛ لإشعاره بحصر السلام فيه ، فيتحد فيه كل سلام فيدخل فيه سلام الحق ؛ ( فهذا ) أي : سلام الحق على يحيى ( أكمل من الاتحاد ) معنى ؛ لأن سلام الحق في معنى كل سلام مع أنه لم يلتفت إلى سلام الغير فيه أصلا ، ( والاعتقاد ) إذ يعتقد كل سامع أنه سلام الحق بخلاف سلام عيسى ؛ فإنه يتبادر إلى أذهان عامة السامعين أنه من عيسى لا من اللّه تعالى ، ( وأرفع للتأويلات ) أي : لاحتمال الكذب ، فإنه مرفوع في خبر الحق بالاتفاق ، ولا يرتفع في خبر عيسى قبل ظهور نبوته ، وإن ظهر فيه خرق العادة قبلها ، وإن كان له دلالة على صدق من ظهر بسببه .
(فإنّ الّذي انخرقت فيه العادة في حقّ عيسى إنّما هو النّطق ) في المهد ، فهو وإن دل في حقه على أمته المنافية لكونه ولد الزنا لا يدل على صدق المنطوق من أوله إلى آخره ، فإن الكرامة لا تدل على عصمة صاحبها عن الكذب ، إذ لم يبعث أمينا على وحي يجب بسببه عصمته عنه ، وليس كلامه كلام الحق على لسانه ، ( فقد تمكن عقله ) من تكلم بما تكلم به ، وما ينطق الحق على لسانه لا يتمكن عقله من ذلك ، كيف والحق لا يقول :"إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ" [ مريم : 30 ] إلى آخره ؛ وذلك لأنه عليه السّلام تكلم ( في ذلك الزمان الذي أنطقه اللّه فيه ) ، وإن كان في المهد إذ النطق فرع العقل الكامل إذ لم يكن نطق الحق .
( ولا يلزم للمتمكن من النطق على أي حالة كان ) أي : سواء كان ذاكرا أمه أم ل ( الصدق فيما به ينطق ) ، أي : في جميع ما ينطق به ، وإنما دلّ صدق المعجزة على صدق جميع ما ينطق به ؛ لأنه للدلالة على الصدق في الرسالة التي هي محتملة الأمانة الوحي والكرامة ، وإن دلت على صدق الولاية ، فليس فيها أمانة وحي ،
فهذا الاحتمال والتأويل له دخل في سلام عيسى على نفسه قبل النبوة ، وإن كان صاحب كرامة ( بخلاف المشهود له كيحيى ) ، وإن لم يكن صاحب كرامة ، ( فسلام الحق على يحيى من هذا الوجه ) ، وإن كان ينكره لا يفيد الحصر الكلي ( أرفع للالتباس ) أي : التباس الصدق والكذب من احتمال كل منهما ، وهذا الرفع هو ( الواقع في العناية الإلهية ) بزكريا عليه السّلام ؛ لأنه يدل على الاهتمام بتميز صدقه عن احتمال الكذب .
( من سلام عيسى على نفسه ، وإن كانت قرائن الأحوال تدل على قربه من اللّه في ) ظهور (ذلك ) الخارق عليه ؛ لأنه كرامة أو إرهاص ، والقريب من اللّه بريء من الكذب ؛ لأنه نقص ، وذلك يدل على ( صدقه إذ ) لا واسطة بينهما في الأصح ، (إذ نطق ) بطريق الكرامة التي تشبه المعجزة في الدلالة على ثبوت ما ظهرت له (في معرض الدلالة على براءة أمه ) .
وهذا النطق وإن لم يكن خارقا للعادة من حيث هو نطق ، فهو خارق لها من حيث هو (في المهد ) ، وهي وإن أشبهت المعجزة فلا تبلغ رتبتها في الدلالة على ثبوت ما ظهرت له لاحتمال الاستدراج فيها ، فلابدّ من شاهد آخر معها ، ( فهو ) أي : نطقه في المهد ( أحد الشاهدين ) على براءة أمه ، ( والشاهد الآخر ) وهو الأنسب للمدلول ( هز الجذع اليابس ) هزته ، ( فسقط ) ثمرها ( رطبا جنيّا ) من محل ، ولا تأثير مع أن النخل يحتاج إلى ذلك كالمرأة ، فكان سقوطه بدونها ، ( ولما ولدت مريم عيسى من غير فحل ) من الحيوان ، ( ولا ذكر ) من الإنسان ، ( ولا جماع ) عرفي ( معتاد ) من جبريل عليه السّلام ، وإن حصل نفخه رطوبة خالطت منيها من سريان الشهوة ، وإنما ذكر المعتاد مع العرفي ؛ لأن ثمة جماعا غير عرفي لكنه معتاد ، وهو إدخال نطفة الرجل في الفرج ، فإنه موجب للتولد على ما تراه الفقهاء ، وإن أنكره بعض الأطباء ، وهذا غير عرفي ولا معتاد بين احتمال الكذب في نظر العقل مع كونه مرجوحا ، بل مردودا بالقرائن المذكورة ، وبدلالة المعجزة بعد ذلك بمثال يفرضه المتكلمون فيما يخالف المعجزة للفرعون ،
وقالوا : إن كانت المخالفة في نفس المعجزة لم يدل على صدق المدعي ، وإلا فالصحيح دلالتهما على الصدق إن كانت المخالفة بعد مدة ، وكذا إن لم يتحلل مدة على الصحيح .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( لو قال نبيّ : آيتي ومعجزتي أن ينطق هذا الحائط ، فنطق الحائط ، وقال في نطقه : تكذب ما أنت رسول اللّه ، لصحّت الآية ، وثبت بها أنّه رسول اللّه ، ولم يلتفت إلى ما نطق به الحائط ؛ فلمّا دخل هذا الاحتمال في كلام عيسى بإشارة أمّه إليه وهو في المهد ، كان سلام اللّه على يحيى أرفع من هذا الوجه ، فموضع الدّلالة أنّه عبد اللّه من أجل ما قيل فيه إنّه ابن اللّه وفرغت الدّلالة بمجرّد النّطق وأنّه عبد اللّه عند الطّائفة الأخرى القائلة بالنّبوّة ، وبقي ما زاد في حكم الاحتمال في النّظر العقليّ حتّى ظهر في المستقبل صدقه في جميع ما أخبر به في المهد فتحقّق ما أشرنا إليه ).
فقال : ( لو قال نبي : آيتي ومعجزتي ) إنما جمع بينهما ؛ ليدل على أن المعجزة إذا خالفت الدعوة مخالفة لا تضر في الدلالة على الصدق ، كانت آية على صدقه ، فلا تكون مخالفته منافية لقوله : إنها آيتي ( أن تنطق هذا الحائط ) قيد بالإشارة ؛ لأنه لو نطق غيره من الحيطان ، فلا دلالة في ذلك أصلا ؛ فلذلك أظهره في قوله : ( فنطق الحائط ) أو لا بما لا تكذيب له فيه ، وإلا كان نفس المعجزة مكذبا ، فيزداد اعتقاد الكذب ، ويدل على هذا القيد آخر كلام الشيخ - رحمه اللّه - ولكن ( قال في ) أثناء ( نطقه تكذب ما أنت رسول اللّه ) إنما ذكره ؛ لأن الكذب أعم من أن يكون في دعوى الرسالة أو غيرها ، ( فصحت الآية ) بالنطق الأول الذي لا تكذيب فيه ، ( وثبت بها أنه رسول اللّه ) ، وإنما ذكره لئلا يتوهم أنه إنما يكون أنه لثبوت رسالة نبي آخر ؛ ولثبوت كونه وليّا لا نبيّا ، ( ولم يلتفت )
على الصحيح عند المتكلمين ( إلى ما نطق به الحائط ) بعد ذلك عن اختياره ، أو لا مخالفة في القدر التي تصح بها المعجزة وإن كانت فيما هو من جنسه .
( فلما دخل هذا الاحتمال في ) آخر ( كلام عيسى ) مع أن أوله ليس بمعجزة تدل على صدقه في جميع ما نطق به بعده ، إذ كان ( بإشارة ) امتثاله ، وكيف يكون أوله معجزة له ( وهو ) الآن ( في المهد ) ولا نبوة إلا بعد أربعين سنة ( كان سلام اللّه على يحيى أرفع من هذا الوجه ) ، إذ لا احتمال فيه أصلا ، وفي كلام عيسى عليه السّلام في آخره هذا الاحتمال بوجه من الوجوه ، وإن ارتفع بالقرائن ودلالة المعجزة بعد ، وإن كانت كرامة لأمه .
( فموضع الدلالة ) إنما هو كلامه وهو ( أنه عبد اللّه ) ، فإنه من حيث هو كرامة لأمه دل على براءتها من الفجور لمنافاة الكرامة إياه ، لكن تخصص هذا اللفظ ( من أجل ما قيل فيه أنه ابن اللّه ) ؛ لأن الولد إما ولد الحلال أو ولد الزنا ، والكرامة تنافي كونه ولد الزنا ؛ فهو ولد الحلال ، ولكن ولد الحلال لا يكون بلا أب ولا أب له غير اللّه بالاتفاق ، فهو اللّه سبحانه وتعالى والمقدمة الاستثنائية ممنوعة ، فإن ولد الحلال إنما لا يكون بلا أبّ إذا كان بحسب العادة المستمرة لا بخرق العادة ، ( وفرغت الدلالة ) على براءة الأم ( بمجرد النطق ) سواء نطق ( بأنه عبد اللّه ) ، أو بأن اللّه برّأه أم لا ؛
ولكن ثبت بقوله :إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنه عبد اللّه (عند الطائفة الأخرى القائلة بالنبوة ) ؛ لأنه إرهاص يجري مجرى المعجزة في الصدق بخلاف من يقول إنه ابن اللّه ، فإنه يؤوله بأنه كعبد اللّه في القيام بأوامره ونواهيه ، وبخلاف من قال إنه ولد الزنا ، فإنه يقول هذا من سحر أمه وشيطنتها ، لعنهم اللّه فأصمهم وأعمى أبصارهم ، ( وبقي ما زاد ) من قوله :آتانِيَ الْكِتابَ[ مريم : 30 ] إلى قوله :وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم : 33 ] في حكم الاحتمال ،
أي : احتمال الكذب في النظر العقلي بدون النظر في القرائن ؛ لخروجه عن موضع الدلالة في صدوره عن اختيار منه بعد كمال عقله في حق من سمعه قبل ظهور المعجزة ، حتى يظهر في المستقبل صدقه بظهور المعجزات على يديه الدالة على صدقه في جميع ما أخبر به ، حتى فيما أخبر به وهو في المهد عناية علم بالمعجزة أنه كان إرهاصا وله حكم المعجزة ؛ لكن إنما يعرف ذلك بعد ظهور المعجزة .
فتحقق ( ما أشرنا إليه ) من رفع الالتباس في سلام الحق على يحيى من كل وجه ، بخلاف سلام عيسى على نفسه في بادئ الرأي ، وإن ارتفع عند التحقيق ؛ فافهم ، فإنه مزلة للقدم .
ولما فرغ عن بيان الحكمة الجلالية المتعلقة بأول الأسماء ، وهو الدّال على جلال
الذات ، شرع في بيان ما به تعلقها بالعالم مع استغنائها عنه بنفسها ، إذ لو افتقر لم يتقدم على المفتقر إليه لها ، والمتأخر لإمكانه في نفسه يفتقر إلى المتقدم ، فلابدّ له من متعلق به ، وليس تعلق الافتقار لما ذكرنا لبطلان الدور ؛ فهو تعلق الملائكة الذي لا تصرف بدونها ؛
فقال : فص الحكمة المالكية في الكلمة الزكرياوية
.

Y7aNc9FJrT0

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!