موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب خصوص النعم
في شرح فصوص الحكم

تأليف: الشيخ علاء الدين أحمد المهائمي

فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية


11- فص حكمة فتوحية في كلمة صالحية .كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم علاء الدين أحمد المهائمي
كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الفص الصالحي
قال الشيخ رضي الله عنه : (
من الآيات آيات الركائب ... و ذلك لاختلاف في المذاهب
فمنهم قائمون بها بحق ... و منهم قاطعون بها السباسب
فأما القائمون فأهل عين ... و أم القاطعون هم الجنائب
و كل منهم يأتيه منه ... فتوح غيوبه من كل جانب
اعلم وفقك الله أن الأمر مبني في نفسه على الفردية و له التثليث، فهي من الثلاثة فصاعد. فالثلاثة أول الأفراد.
و عن هذه الحضرة الإلهية وجد العالم ، فقال تعالى «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» و هذه ذات ذات إرادة و قول.
فلولا هذه الذات و إرادته و هي نسبة التوجه بالتخصيص لتكوين أمر ما، ثم لو لا قوله عند هذا التوجه كن لذلك الشيء ما كان ذلك الشيء. )
أي: ما يتزين به، ويكمل العلم اليقيني المتعلق بفتح خزانة الغيب لإخراج ما فيها بالقوة إلى الفعل، ظهر ذلك العلم بزينته وكماله في الحقيقة الجامعة المنسوبة إلى صالح عليه السلام إذ أخرج الناقة من الصخرة، وأخرج منها الفصيل، ومن الماء الذي يشربه اللبن بقدره في الحال.
""أضاف المحقق : لما كان الفتوح عبارة عن حصول شيء مما لم يتوقع ذلك منه، نسب الشيخ حكمته إلى كلمة صالح عليه السلام ، لخروج الناقة التي هي معجزته من الجبل؛ وهو مما لم يتوقع خروجها منه .. ""
كما أخرج الحق آدم عليه السلام بل أبوان وحواء بدون أحدهم.
ولذا نسبت إلى الله تعالی في قوله: "هذه ناقة الله لكم آية" [الأعراف: 73]، وجعل قاتلها أشقى أمته كإبليس إذ أبي عن سجود آدم، وأشبه أيض في إتيان العذاب بعد ثلاثة أيام الحق في أن إيجاده ل يخلو عن التثليث.
فأشار رحمه الله أولا إلى بيان سر کون الناقة أية؛ فقال: (من الآيات) أي: معجزات الأنبياء عليهم السلام الدالة على صدقهم (آیات الركائب) أي: آیات الركائب جمع رکيبة ما تركب عليها كناقة صالح، وفرس إلياس، و براق محمد صلى الله عليه وسلم .
(وذلك) أي: كون بعض الآيات الركائب وبعضها غيره (لاختلاف في المذاهب) أي: لاختلاف الأنبياء في طرق الدعوة إلى الله تعالى، وإن اتفقوا في أصل الدين، فآياتهم كما تدل على صدقهم تدل على طرق دعوتهم، وذلك لاختلاف استعدادات أممهم في السير.
(فمنهم) أي: فمن الذين وضعت لهم تلك المذاهب (قائمون به) أي: بمذاهبهم (بحق) يسيرون بالله في الله بالأعمال الظاهرة والباطنة، فلا يحتاجون إلى الركائب من البدن والنفس الحيوانية والناطقة، التي هي بمنزلة الناقة والفرس الناري والبراق.
(ومنهم قاطعون بها السباسب) جمع سبسب، وهو البيداء.
والمراد أعمال البدن وأخلاق النفس، ومقامات القلب، أي: يقطع بها مسافة البعد بينه وبين الحق برفع الحجب الظلمانية والنورية.
ثم أشار إلى عدم احتياج الأولين إلى الركائب، وأنه إنما يحتاج إليها الآخرون.
فقال : (فأما القائمون) يعني بمذاهبهم بحق (فأهل عين) لا يحتاجون إلى رفع الحجب، فلا مسافة بينهم وبين الحق ولا بعد، وإن كان لهم الأعمال والأخلاق والمقامات؛ فهم لا يلتفتون إليها، فلا يحتاجون إلى الركائب لكن عصمهم الله عن النقائص التي هي أضدادها لقربهم من منبع الكمالات، فتفيض عليهم أنواره من غير توجه وقصد منهم.
(وأما القاطعون) يعني بها السباسب (هم) أي: فهم حذف الفاء للضرورة (الجنائب) الأباعد، لرؤيتهم أعمالهم وأحوالهم و مقاماتهم واسطة للوصول إلى الحق، وبينهم وبين الحق حجب ظلمانية ونورانية.
ثم أشار إلى أن لكل طريق أثرا في الوصول إلى الحق، فقال: (وكل منهم) أي: من أهل العين (يأتيه منه) أي: من مذهبه (فتوح غيابه من كل جانب)؛ فأهل العين تأتيه العلوم اللدنية والتصرفات في خزانة الدنيا والآخرة، زيادة القرب والمحبة والكرامة، والجنائب يرفع عنهم الحجب شيئا فشيئا؛ فيحصل لهم النجاة والفوز بالجنة، والأحوال السنية الموجبة للحذر بعد الكسب، إلى أن يصيروا من أهل العين، فيحصل لهم ما يحصل لأهل العين.
وبالجملة لما استحقا خزانة الغيب لم يكن لهم يد من الفتوح للحديث القدسي: "من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة". رواه البخاري ومسلم
ولما فرغ عن بيان السر في كون الناقة أية شرع في بيان سر التثليث في العذاب الذي أصاب بسبب قتله.
فقال: (اعلم وفقك الله أن الأمر) أي: أمر فتح الغيب (مبني في نفسه) وإن لم تعلم به أكثر الخلائق (على الفردية) وهي عدم انقسام العدد إلى متساويين.
إذ لا بد في ظهور الكثرة عن شيء من وجودها فيه، فلا بد من واحد، ومن عدد وأقله اثنان، وبهذا تحصل الفردية (إذ له) في أول مراتبه (التثليث) إذ الواحد، وإن لم ينقسم؛ فليس من العدد والفردية والزوجية من خواص العدد.
(فهي من الثلاثة فصاعد) كالخمسة والسبعة، ولكن أخذن بالثلاثة إذ ل بد لن من واحد واثنين، فأم الواحد ف لإمتناع العدد القلة ، وأم الاثنان وراءه؛ فلأن الواحد ليس من العدد، فلو اعتبر في الواحد الأول واحد آخر كان كضرب الواحد في الواحد، ول يكون إل واحد.
وإذا كان وجود الكثرة عن هذه الفردية، وما يكون منه وجود شيء أولى بالوجود في نفسه.
(فالثلاثة أول الأفراد) أي: أفراد الموجودات التي منها وجود كل كثرة.
ولذلك ورد النص الإلهي أنه (عن هذه الحضرة الإلهية) التي اعتبر فيها التثليث (وجد العالم).
( فقال تعالى: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له، كن فيكون" النحل: 40])؛ (فهذه) الفردية عن الحضرة الإلهية مع وحدة الذات أمور ثلاثة (ذات ذات إرادة، وقول).
ثم أشار إلى أنه لا بد من هذه الثلاثة في الدليل العقلي أيضا كما دل عليه النص. فقال: (فلولا هذه الذات) الواجبة بالذات التي إليها انتهاء الممکنات دفعا للتسلسل. (وإرادته) التي لولاها لكانت نسبة الذات والقدرة إلى طرفي الوجود والعدم والأعراض المتضادة بالسوية، فلا بد من نسبة مرجحة لبعضها على بعض، (وهي نسبة التوجه)، أي: توجه الذات (في التخصيص) أي: تخصيص البعض بطرف الوجود والبعض بطرف العدم. وتخصيص كل عرض بموضوع (لتكوين أمر م) مفعول لقوله: وإرادتها، (ثم) عطف على الذات أو على إرادتها على اختلاف الرائين (قوله عند ذلك التوجه) أشار بذلك إلى أنه نزله منزلة مباشرة العمل منا عند الإرادة (كن) أمر (لذلك الشيء)، أشار بذلك إلى أن أمره تعالى.
وإن كان واحدا، فلا بد من إفراد تعلقه بكل موجود، ولم يجعل القدرة فيه الدخوله تحت الإرادة إذ لا يتصور تخصيص أمر بأمر بدون القدرة عليه (ما كان ذلك الشيء) لما ذكرن.
فافهم أن التكوين ليس بداخل في البداية، وإن كان الماتريدي يرى دخوله فيها، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالی.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم ظهرت الفردية الثلاثية أيضا في ذلك الشيء، و به من جهته صح تكوينه و اتصافه بالوجود، و هي شيئيته و سماعه و امتثاله أمر مكونه بالإيجاد.
فقابل ثلاثة بثلاثة:
ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات موجدها، وسماعه في موازنة إرادة موجده،
وقبوله بالامتثال لما أمر به من التكوين في موازنة قوله كن، فكان هو فنسب التكوين إليه فلو لا أنه من- قوته التكوين من نفسه عند هذا القول ما تكون.
فما أوجد هذا الشيء بعد أن لم يكن عند الأمر بالتكوين إلا نفسه.
فأثبت الحق تعالى أن التكوين للشيء نفسه لا للحق، والذي للحق فيه أمره خاصة.
وكذلك أخبر عن نفسه في قوله «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» فنسب التكوين لنفس الشيء عن أمر الله وهو الصادق في قوله.
وهذا هو المعقول في نفس الأمر.
كما يقول الآمر الذي يخاف فلا يعصى لعبده قم فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده.
فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام، والقيام من فعل العبد لا من فعل السيد.
فقام أصل التكوين على التثليث أي من الثلاثة من الجانبين، من جانب الحق )
(ثم ظهرت الفردية الثلاثية في ذلك الشيء) أي: العين الثابتة له أيضا، لتتم مناسبته الحضرة الإلهية التي منها وجد، وكيف لا؟
ولذلك الشيء فاعلية في نفسه، فلذلك نقول (به) أي: بتلك الفردية الظاهرة (من جهته) أي: جهة ذلك الشيء (صح تكوينه) أي: تكوين ذلك الشيء وهو أي: ذلك التكوين لا بمعنى إعطاء الوجود (بل اتصافه بالوجود) وذلك لأن التكوين لو أريد به إعطاء الوجود فقد حصل ذلك بالإرادة والأمر، وما بقي إلا كون ذلك الشيء يأخذ وصف الوجود ويقتله بالفعل.
ثم أشار إلى أجزاء هذه الفردية لمغايرتها أجزاء الفردية الأولى.
فقال: (وهي) أي: الفردية الظاهرة من جهة ذلك الشيء (شيئيته)، وهو ثبوته في العلم (وسماعه) لأمر ربه، (وامتثاله أمر مكونه بالإيجاد) أي: بأن يوجد نفسه ويصفها به، وفيه إشارة إلى أنه مكون بالأمر والإرادة ل بأنه موصوف بالتكوين، وهو مذهب الأشعري وسنصرح به.
ثم أشار إلى مناسبة أجزاء هذه الفردية لأجزاء تلك الفردية بعد تناسبها بالثلاثية، فقال: (فقابل) ذلك الشيء (ثلاثة) من جهته (بثلاثة) من جهة الحضرة الإلهية (ذاته)، أي: عينه (الثابتة) في العلم الأزلي، جعلها الذات باعتبار كون الوجود صفته.
وإن كانت (في حال عدمها في موازنة)، أي: مقابلة (ذات موجده) من حيث إن لها أيضا صفات، وإن تفاوتا بما لا يحصى، (وسماعه) من حيث إنه منشأ الامتثال كالإرادة منشأ الأمر (في موازنة إرادة موجوده)، وإن كان يسبق إلى الأوهام جعل السماع في مقابلة الأمر إلا أن مقابلة الأمر بالامتثال.
ولذلك قابل (قبوله) ما أعطاه من تكوين نفسه (بالامتثال لما أمره به من التكوين في موازنة قوله: "كن") . "" أضاف المحقق : قال الشيخ في الفتوحات في الباب 310 :
و"كن" حرف وجودي، فإنه لو أنه كائن ما قيل له "كن".
وهذه الممکنات في هذا البرزخ بما هي عليه، وما يكون إذا كانت مما يتصف به من الأحوال، والأعراض، والصفات.
والكون والعجب من الأشاعرة كيف تنكر على من يقول: إن المعدوم شيء في حالة عدمه وله عين ثابتة، ثم بطر على تلك العين الوجود، ومن هذه الحضرة علم الحق نفسه، فعلم العالم وعلمه له بنفسه أزل.
فإن التجلي أزلا وتعلق علمه بالعالم أزلا على ما يكون العالم عليه أبدا مهما لبس حالة الوجود لا يزيد الحق علما، ولا يستفيد رؤية تعالی الله عن الزيادة في نفسه والاستفادة، انتهى. ""
لأنه من جانب الحق بمنزلة مباشرة العمل بعد الإرادة منا، والامتثال لأمر التكوين مباشرة من المأمور للتكوين، فلما امتثل أمر مكونه بالتكوين.
(فكان هو) أي: اتصف بالوجود وتعين به (فنسب التكوين إليه)، بأن جعل صفة له : للحق كم هو مذهب الأشعري خلاف م يتوهمه الماتريدي زعم منه، بأنه لو كان صفة للحادث لكان حادث، وكل حادث إنم يحدث بالتكوين، فالتكوين إنم يحدث بالتكوين.
ويتسلسل أو ينتهي إلى تكوين قديم هو صفة للحق وهو المطلوب.
وأجاب الشيخ من جهة الأشعري بأن هذا إنما يقال في الأمور الموجودة، وهذا التكوين من صفات الأعيان الثابتة التي هي معدومة في الخارج، ثابتة في العلم الإلهي.
فکان قابل لها أيضا، فهذا الوصف أيضا ثابت لها في العلم الأزلي كأنه موجود بالقوة غير محتاج إلى تكوين آخر القول.
(فلولا أنه من قوته التكوين من نفسه عند هذا القول ما تكون.)
فلولا أنه وإن لم يستقبل بذلك قيد بذلك؛ لأن ما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بأمر منفصل، إذ لو كفي نفس ما فيه بالقوة في الإخراج لم يكن فيه بالقوة أصلا، بل كان بالفعل من أول الأمر ما يكون.
أي: ما اتصف بالوجود؛ لأن غاية ما يتصور من الحق إرادته وأمره لا مباشرة العمل لافتقارها إلى الحركة، ولا يتصور من الحق.
فالمباشرة إنما حصلت من المأمور بامتثال أمر سيده بالخروج من القوة إلى الفعل.
(فما أوجد) أي: أخرج إلى الفعل (هذا الشيء بعد أن لم يكن بالفعل)، فيه إشارة إلى أن التكوين، وإن كان فيه بالقوة دائما فلا يلزم وجوده في الأزل؛ لأنه لم يخرج إلى الفعل إلا بالأمر.
ولذلك قال: (عند الأمر بالتكوين إل) هو (نفسه)، وإن لم تكن نفسه المعدومة علة لوجوده ولا تكوينه؛ لأنهم عدمیان بل هو الأمر الإلهي الموجود والتكوين من الإضافات التي هي غير موجودة، فلا يجعل من صفات الحق كما يقوله المعتزلة في العالمية والقادرية؛ لأن صفاته تعالی موجودة قديمة قائمة بذاته.
(فأثبت الحق تعالى التكوين للشيء نفسه)؛ لأنه معدوم ثابت للشيء (لا للحق) الذي هو بذاته وصفاته موجود قديم.
(والذي للحق فيه) أي: في التكوين حيث قيل فيه أنه مكون الأشياء وخالقه (أمره خاصة)؛ لأنه من الموجودات التي صح كونها من صفات الحق.
(وكذ) أي: كما قلنا بأن صفة الحق إرادته وأمره لا التكوين، (أخبر الحق عن نفسه في قوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" [يس: 82]) .
فأثبت الإرادة والقول لنفسه والتكوين للشيء.
فإن الضمير في قوله: "فيكون" إنما يعود إلى الشيء هو نفسه، ولكن ذلك ليس علة وجوده بل هي (أمر الله) فهو إنما تكون عن أمر الله لا بتكوين نفسه.
ثم قال الشيخ رحمه الله: (وهو) أي: الله تعالى (الصادق) فيما أخبر عن نفسه، فلا يصدق في مقابلة إخباره قول الماتريدي، وكيف لا يصدق، (وهذا هو المعقول في نفس الأمر) في امتثال جميع الأوامر، فإنه لا يصدر المأمور به من الأمر، وإن كان قاهر.
وإليه الإشارة بقوله: (كما يقول الأمر الذي يخاف فل يعصی) لكونه قاهر (لعبده قم، فيقوم العبد امتثالا لأمر سيده، فليس للسيد في قيام هذا العبد سوى أمره له بالقيام)، إذ لا يتصور منه مباشرة قيام عبده.
وذلك للعلم الضروري أن (القيام من فعل العبد)، وإن كان مقهور (لا من فعل السيد) فكذا التكوين لكونه من الأمور الإضافية العدمية، لا تتصور إلا الأمر معدوم ثابت في العلم لا يتصور كونه من الصفات القديمة الموجودة.
وإن سلم فلا معنى لامتثال الأمر إذ لا يتصور مع كون المأمور به من فعل الأمر من كل وجه، وهذا التمثيل مبني على أن هذا الامتثال بالكره لكن النص الأخر دل على أنه بالطوع، وهو قوله تعالى: "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " [فصلت: 11]
وكيف لا وهو الكمال المطلوب إذ هو خير محض، وفيه خروج عما هو أصل الشر وهو العدم، وإذا ثبت أن (التكوين) من صفات المكون لا الحق ثبت الفردية (الثلاثة في الجانبين)، وإلا كان (في جانب الحق) أربعة: ذاته وإرادته، وقوله، وتكوينه، (ومن جانب الخلق) شيئيته وسماعه، فيكون الثابت في الجانبين الزوجية، فقام أصل التكوين وراء تكوين المعاني على التثليث.
ولما توهم أنه أربعة من جانب، واثنان من آخر بالنظر إلى مجرد هذا لا مع ما تقدم رفعه بقوله: أي: من الثلاثة من الجانبين من جانب الحق ذاته، وإرادته، وقوله، ومن جانب الخلق شيئيته، وسماعه، وامتثاله، وإم بين الجانبين لئل ينتقض مثل النار والحطب، وفيه إشارة إلى أن التكوين، وإن يكن صفة للحق فالأمر منه قائم مقامه .
ولذا استدل الماتريدي على أن التكوين صفة الحق بقوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" [يس: 82]؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ثم سرى ذلك في إيجاد المعاني بالأدلة:
فلا بد من الدليل أن يكون مركبا من ثلاثة على نظام مخصوص وشرط مخصوص، وحينئذ ينتج لا بد من ذلك، وهو أن يركب الناظر دليله من مقدمتين كل مقدمة تحوي على مفردين فتكون أربعة واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين لتربط إحداهما بالأخرى كالنكاح فتكون ثلاثة لا غير لتكرار الواحد فيهم.
فيكون المطلوب إذا وقع هذا الترتيب على الوجه المخصوص وهو ربط إحدى المقدمتين بالأخرى بتكرار ذلك الواحد المفرد الذي به يصح التثليث.
والشرط المخصوص أن يكون الحكم أعم من العلة أو مساويا لها، وحينئذ يصدق، وإن لم يكن كذلك فإنه ينتج نتيجة غير صادقة.
وهذا موجود في العالم مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة عن نسبتها إلى الله أو إضافة التكوين الذي نحن بصدده إلى الله مطلق.
والحق ما أضافه الا إلى الشيء الذي قيل له كن.
ومثاله إذا أردنا أن ندل أن وجود العالم عن سبب فنقول كل حادث فله سبب فمعنا الحادث والسبب.
ثم نقول في المقدمة الأخرى والعالم حادث فتكرر الحادث في المقدمتين.
والثالث قولنا العالم، فأنتج أن العالم له سبب، وظهر في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة وهو السبب.
فالوجه الخاص هو تكرار الحادث، والشرط الخاص عموم العلة لأن العلة في وجود الحادث السبب، وهو عام في حدوث العالم عن الله أعني الحكم.
فنحكم على كل حادث أن له سببا سواء كان ذلك السبب مساويا للحكم أو يكون الحكم أعم منه فيدخل تحت حكمه، فتصدق النتيجة. )
ثم أشار إلى عموم الفردية الثلاثية في كل إيجاد؛ فقال: (ثم سرى ذلك) التثليث من أصل الإيجاد وهو إيجاد الموجودات في الخارج (في إيجاد المعاني) أي: التصديقات في الذهن خصها لأن التصورات لا تحصل عنده إلا بالكشف لتصور نظر المنطق عن الوفاء بتمييز الذاتيات عن العرضيات.
وقد اعترف بذلك الشيخ الرئيس في رسالة الحدود (بالأدلة) أي: الأقيسة؛ (فلا بد في الدليل الذي هو موجد المعاني (أن يكون مركبا من ثلاثة)؛ لأنه إن كان استثنائيا، فلا بد من مقدمة شرطية هي في الأصل قصتان، ومقدمة استثنائية هي حملية، وإن كان اقترانی . فلا بد من أصغر وأوسط وأكبر، والأصغر موضوع المطلوب أو مقدمة، والأكبر محمول المطلوب أو تاليه، والأوسط هو الرابط المکرر بينهم (على نظام مخصوص)، وهو تقديم الشرطية على الاستثنائية في الاستثنائي، وتقديم الصغرى على الكبرى في الاقتراني، (وشرط مخصوص) ذكر تفصيله في كتاب (المنطق)، وسيأتي ما يدل بالإجمال عليه.
(وحينئذ ينتج لا بد من ذلك) أي: تلزمه النتيجة، وإن كانت قد تحصل بالاستقراء والتمثيل لكنها ليست بلا ذمة.
(وهو) أي: تركب الدليل من ثلاثة في الاقتراني لم يذكر الاستثنائي لوضوحه (أن يركب الناظر دليله) الاقتراني (من مقدمتين، كل مقدمة تحتوي على مفردین)؛ فالأولين على الأصغر والأوسط، والأخرى على الأكبر والأوسط، (فتكون) أجزاء الدليل في الظاهر (أربعة) لكن (واحد من هذه الأربعة) وهو الأوسط (يتكرر في المقدمتين ليربط إحداهما بالآخر)، لحصول المشاركة بينهما بتكرار ذلك الواحد فيهم (کالنکاح) الموجب تكرر المني من الرجل والمرأة الموجب للنتيجة التي هي الولد،
(فتكون) أجزاء الدليل بالحقيقة (ثلاثة لا غير لتكرار الواحد فيهم)، فهو وإن كان اثنين في اللفظ واحد في الحقيقة.
(فيكون) أي: يوجد (المطلوب) من بينهما بحذف المكرر (إذا وقع هذا الترتيب)، وهو تقديم الصغرى على الكبرى إذ بدونه قد يلتبس المطلوب بعكسه أو تحتل الشروط المنتجة؛ فلا يحصل أصل (على هذا الوجه المخصوص).
(وهو) أي: الوجه المخصوص (ربط إحدى المقدمتين بالأخرى) بحيث يسري عين الحكم من أحدهما إلى الأخرى أو نقيضه إذ بدونه السراية.
وهذا الربط إنما هو (بتكرار ذلك الواحد المفرد الذي) هو جزء من المقدمتين، وبه شركتهما الموجبة لسراية الحكم أو نقيضه من أحدهما إلى الأخرى، وهذه السراية هي النتيجة.
فذلك الواحد كأنه هو المنتج إذ هو الذي (صح به التثليث) الذي هو سبب الإيجاد بالحقيقة أو (الشرط الخصوص) المحمل الجامع للشرائط المفصلة في كتب المنطق (أن يكون الحكم)، وهو الأكبر المحكوم فيه، وذلك في الشكل الأول والثالث.
فيجوز أن يكون أخص في الثاني والرابع نحو لا شيء من الحجر بحيوان، وكل إنسان حیوان، ونحو كل إنسان حیوان، وكل زنجي إنسان، وكذا الأصغر المحكوم فيه في الثالث أو الرابع يجب أن يكون أعم من الأوسط أو مساويا له.
(أعم من العلة)، وهي الأوسط إذ هو علة ثبوت الأكبر لأصغر أو سلبه عنه أو علة ثبوت الأكبر على تقدير الأصغر، أو سلبه على تقديره (أو مساويا له)، وهذا في الموجة الكلية، وفي الجزئية تعتبر المساواة والعموم بالنسبة إلى الأفراد المأخوذة، وفي السالبة إن كان الحكم في الكبرى مسلوبا عن الأوسط، وغيره فهو كعموم الحكم، والآن كالمساواة
(وحينئذ يصدق) في الحكم بالأكبر على الأصغر، أو سلبه عنه أو بالأكبر على تقدير الأصغر، أو سلبه على تقديره؛ وذلك لأن الكبرى إن كانت موجبة؛ فالوسط أمام علة للثبوت، وذلك عند كون الصغرى موجبة أيض.
ففي الشكل الأول لما ثبت الأوسط للأصغر كله أو بعضه ثبت له ما يساويه أو ما يعمه لوجوب تحقق أحد المتساويين عند تحقق الأخر.
ووجوب الأعم عند تحقیق الأخص، وفي الشكل الثالث لما ثبت الأكبر للأوسط الذي ثبت له الأصغر، وكان ثبوت أحدهما أو كليهما له كليا لزم اجتماع الأكبر، والأصغر في الأوسط، بحيث يصدق أحدهما على الأخر ضرورة مساواة الأكبر أو عمومه للأوسط كله أو بعضه الذي ثبت الأصغر لكله أو بعضه، والمجتمع مع أحد المتساويين والأخص منه مجتمع مع المساوي الأخر أو أعم منه.
وفي الشكل الرابع لما ثبت الأوسط للأكبر كله أو بعضه وينعكس إلى ثبوت الأكبر، وقد ثبت الأصغر لكل الأوسط، ثبت الأصغر للأكبر كله أو بعضه، وينعكس إلى ثبوت الأكبر للأصغر، وهو النتيجة المطلوبة.
فهو كالأول مع العكس في النتيجة، فالتعليل المذكور هناك أتى هاهنا، إلا أن الأصغر هناك، ولا يتأتى كون الوسط علة للثبوت في
الشكل الثاني لوجوب اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب مع وجوب اتباع النتيجة للمقدمة الحسية في السالبة أو الجزئية.
وأما علة النفي وذلك عند كون الصغرى سالبة؛ فل يتأتي في الشكل الأول والثالث بل في الثاني والرابع.
ففي الثاني لما ثبت الأوسط لكل الأكبر مع مساواة الأكبر له أو أخص منه ضرورة كون الأكبر موضوعا، وقد سلب الأوسط عن كل الأصغر أو بعضه لزم سلب الأكبر عن كل الأصغر أو بعضه؛ لأن سلب أحد المتساويين يستلزم سلب الأخر، وسلب الأخص منه.
وفي الرابع لما ثبت الأوسط لكل الأكبر أو بعضه مع مساواة الأكبر للأوسط أو كونه أخص منه لكون الأكبر موضوعا، وقد سلب الأصغر عن الأوسط كله أو بعضه مع كلية إحدى المقدمتين لزم سلب الأصغر عن الأكبر، وينعكس إلى سلب الأكبر عن الأصغر حيث تكون السالبة منعكسة بأن تكون مشروطة خاصة أو عرفية خاصة، وإن كانت الكبرى سالبة؛ فهي علة للنفي لا غير، ولا بد من مساواة الأكبر فيها للأوسط لوجوب انعکاس السالبة الكلية كنفسه.
وإن كانت جزئية فلا بد وأن تكون من إحدى الخاصتين، وذلك في الشكل الثالث والرابع، ولا بد حينئذ من كون الصغرى موجبة لامتناع إنتاج السالبتين؛ فالمنافي للأوسط منافاة متساوية مناف لما ثبت له الأوسط أو ثبت للأوسط على حسب المنافاة والثبوت في الكلية والجزئية؛ فافهم، فإنه مزلة للقدم.
وإن لم يكن كذلك أي: لم يكن الأكبر المحكوم به في الشكل الأول والثاني أعم من العلة ولا مساويا لها، ولا في حكمها بل كان أخص من العلة في الموجبة الكلية أو مبایئ لها في إحدى الموجبتين نحو كل إنسان حيوان، وكل حيوان فرس أو حجر، ونحو كل إنسان حيوان، وبعض الإنسان فرس أو حجر، أو يكون السلب في مكان الإيجاب نحو كل إنسان حيوان، ولا شيء من الحيوانات بحساس أو جسم.
أو لم يكن الأصغر أعم من الأوسط أو مساويا له في الثالث والرابع نحو كل حيوان إنسان، وبعض الحيوانات فرس، ونحو كل حيوان إنسان، وكل فرس حيوان، أو لم يكن الأوسط علة بأن لم يتكرر أو اختلت شروط الأشكال من إيجاب الصغرى في الأول والثالث.
وكلية الكبرى في الأول والثاني، واختلاف المقدمتين بالكيف في الثاني، وكلية أحدهما في الثالث، وإيجابهما مع كلية الصغرى أو اختلافهما بالكيف مع كلية أحدهما في الرابع.
(فإنه ينتج نتيجة غير صادقة) إما لكذب الكبرى أو الصغرى فيما تقدم؛ فلا يستلزم نتيجة صادقة، وإن كانت قد تصدق اتفاقا كقولن: كل إنسان حجر، وكل حجر
حيوان، وإما لعدم العلة عند عدم التكرار، واختلال الشروط إذ لو كان علة لكان للإيجاب وحده أو السلب وحده؛ فلا يتخلف بالاختلاف لكنه واقع كما بين في كتب المنطق.
ثم قال: (وهذ) أي: النتيجة الغير الصادقة (موجود في العالم) أي: يعتبر بعض من يدعي الفطانة في الصناعة كالمعتزلة، والشيعة، وسائر المتكلمين.
فلا بد من التنبيه على خطئهم (مثل إضافة الأفعال إلى العبد معراة نسبتها إلى الله) على ما هو مذهب المعتزلة والشيعة.
وذلك إما بأن يقال:
فعل العبد منسوب إلى العبد، وكل ما ينسب إلى العبد لا ينسب إلى الله، فالكبرى السالبة كاذبة؛ لأن المنسوب إلى العبد لا يستقل به العبد لحدوثه، فلا بد من انتهائه إلى القديم دفعا للتسلسل.
أو بأن يقال:
فعل العبد حادث، وبعض الحوادث يستند إلى العبد لفتحها، ففعل العبد مستند إلى العبد حسنا أو قبيح.
وقد اختل فيه شرط إيجابية الكبرى في الشكل الأول، والقبح فيها بالنسبة إلى العبد لا يستلزم القبح بالنسبة إلى الله تعالى كما يقبح قطع يد السارق بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى الأمير والرعية.
بأن يقال:
الله تعالی ليس بعابد ولا زان ولا سارق وفاعل الصلاة والزنا والسرقة وعابد وزان وسارق؛ فالله تعالی ليس بفاعل له.
فيقول العابد والزاني والسارق من تقوم به الصلاة، والزنا والسرقة لا من يوجد ما كان موجد السواد في الثوب ليس بأسود، وإنما هو الثوب الذي قام به السواد؛ فالكبرى الموجبة كاذبة
أو بأن يقال:
الطاعة والمعصية فعل العبد، والطاعة والمعصية ليس مضافا إلى الحق، ففعل العبد ليس مضافا إلى الحق
أو الطاعة والمعصية فعل العبد، والمضاف إلى الحق ليس بطاعة ولا معصية.
فنقول: إن أريد بالفعل الإيجاد فالصغرى كاذبة.
ومثل (إضافة التكوين الذي نحن بصدده) احتراز عن المعتزلة بقول: "كن" (إلى الله مطلق) لإعتبار حصول بقول:"كن"
بل كأنه وراء ما قال: "كن" باشر التكوين أيض.
وذلك بأن يقال: التكوين بأمر "كن"، وأمر "كن" مضاف إلى الله مطلقافالتکوین مضاف إلى الله مطلق.
والغلط فيه توهم أن أمر"كن" هو الوسط المكرر مع أنه ليس محمول الصغرى، وإنما هو العامل فيه فلا وسط فلا ربط بين المقدمتين.
وليس هذا استدلالا ينفي الدليل المعين على نفي المدلول، (بل الحق ما أضافه إلا إلى الشيء الذي قيل له: "كن" ) حيث قال بعده: "فيكون"؛ فالنص القطعي دل على عدم إضافته إلى الحق.
ثم أشار إلى مثال النتيجة الصادقة التي هي أشرف النتائج، أعني الموجبة الكلية، وهما شرف المطالب من حيث أن أول الواجبات النظر في الصانع مع التنبيه على تعليل كليته حيث يوجد منه تعليل كلية السالبة.
بل تعليل الجزئيتين أيضا، وهو صالح للتمثيل بالأعم والمساوي باعتبار عينية الأسماء الإلهية للذات ومغایرته، فقال: (ومثاله إذا أردنا أن ندل) على (أن وجود العالم عن سبب).
فيه إشارة إلى أن الفكر هو الانتقال من المطالب إلى المبادئ، ثم الرجوع منها إلى المطالب.
(فنقول) في كبرى الشكل الأول: والكبرى مقدمة في أول الفكر لصعوبة ضم الأوسط إلى الأكبر، فهي أهم بالتحصيل.
فإذا حصلت سهل حصول الصغرى، وبه صریح في اللوامع (کل حادث فله سبب فمعن) في هذه المقدمة مفرد أن (الحادث والسبب) أي: له سبب لكنه لما قام مقام المفرد عبر عنه بعبارته (ثم) بعد حصول الكبرى الصعبة (نقول في المقدمة الأخرى)، وهي الصغرى السهلة.
(والعالم حادث، فتكرر الحادث)؛ فهو جزء واحد، وليس بتكراره يصير ثالثا، بل (والثالث) في الصغرى (قولن: العالم فأنتج) بعد تقديم الصغرى، وتأخير الكبرى، وحذف المكرر عند الرجوع إلى المطلوب .
(العالم له سبب فظهر) بالفعل بعد كونه بالقوة (في النتيجة ما ذكر في المقدمة الواحدة) من الأصغر والأكبر، مضمر ما أحدهما إلى الأخر،
(والوجه الخاص) الموجب لهذا الظهور بعد الخفاء (هو تكرار الحادث) الموجب للربط بينهما، (والشرط الخاص) الموجب لكون النتيجة موجبة كلية.
(هو عموم العلة) أي: قولنا له سبب؛ فإنه يستوعب إفراد الحادث الذي هو الأوسط، وسمي السبب علة لهذا، وقد سمي بها الأوسط فيما تقدم؛ (لأن العلة) المؤثرة (في وجود الحادث) الذي هو الأوسط هو (السبب)، فهو علة في الخارج .
والوسط علة في الذهن، (وهو) أي: السبب (عام في حدوث) إفراد (العالم عن الله) فهو علة النتيجة بحسب الخارج.
وذلك لأن كل حادث لا بد له من محدث؛ فإن كان أيض حادث افتقر إلى آخر، فإم أن يلزم التسلسل المحال أو ينتهي إلى الله تعالی.
"" أضاف المحقق : يقول الشيخ ابن العربي في الباب الثامن والتسعون ومائة :
ومن علم الاتساع الإلهي علم أنه لا يتكرر شيء في الوجود وإنما وجود الأمثال في الصور يتخيل أنها أعيان ما مضى وهي أمثالها لا أعيانها ومثل الشيء ما هو عينه...
فالقديم لا يصح أن يكون محلا للحوادث، ولا يوصف بالقدم لأن الحادث يقبل الاتصاف به.
والحادث لا يوصف بالقدم ولا يصح أن يكون القديم حالا في المحدث لا قديم ولا حادث .
فإذا اتصف به الحادث يسمي حادث
وإذا اتصف به القديم فيسمى قديم
وهو قديم في القديم حقيقة و حادث في المحدث حقيقة.
لأنه بذاته يقابل كل صفة متصف به:
كالعلم يتصف به الحق والخلق فيقال في علم الحق أنه قديم فإن الموصوف به قديم فعلمه بالمعلومات قديم لا أول له.
ويقال في علم الخلق محدث؛ فإن الموصوف به لم يكن ثم كان كصفته مثله إذا ما ظهر حكمها فيه إلا بعد وجودها فيه عينه فهو حادث مثله.
والعلم في نفسه لا يتغير عن حقيقته بالنسبة إلى نفسه وهو في كل ذات حقيقية عينه، وما له عين وجودية سوى عين الموصوف .أه ""
ولما أطلق العلة على الأوسط أو توهم أن المراد هنا، فرفعه بقوله: (أعني الحكم) أي: المحكوم به في الكبرى لا الأوسط، فإذا عم الحكم الذي هو قولنا له سبب كل حادث؛
(فنحكم على كل حادث) سواء اعتبر کل إفرادا أو مجموع (أن له سبب) حتى يقال على تقدير جواز التسلسل أن مجموع العالم لا يفتقر إلى السبب.
ثم ذكر ما يشير إلى أن المراد بعموم السبب استيعابه إفراد الحادث لا كونه صاد فاعلية، وعلى غيره بخلاف ما مر.
فقال: (سواء كان السبب مساويا للحكم) أي: المحكوم به في الصغرى، وهو الأوسط
أعني قولن: الحادث أطلق عليه الحكم ليشير إلى أن المراد بعموم الحكم ومساواته فيما نقدم ما وقع محكوما به سواء كان أصغر أو وسط أو أكبر.
(أو يكون الحكم) أي: المحكوم به في الكبرى، وهو قولنا له سبب (أعم منه) أي: من الحكم أي: المحكوم به في الصغرى .
أعني: الأوسط فإن قولنا له سبب يمكن أن يجعل لغير الحادث كأسماء الله تعالى على تقدير مغایرته، والمساواة على تقدير عینیته، (فيدخل) العالم (تحت حكمه) أي: حكم ما له سبب مما يفتقر إليه.
(فتصدق النتيجة) الموجبة الكلية على التقديرين تقدير العموم، وتقدير المساواة.
وهذا صار المثال صالحا للعموم والمساواة، وعلم موجب النتيجة الموجبة الكلية بحيث ينقاس عليه السالبة الكلية، بل الجزئيات أيض.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فهذا أيضا قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة.
فأصل الكون التثليث، ولهذا كانت حكمة صالح عليه السلام التي أظهر الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب، فأنتج صدقا وهو الصحيحة التي أهلكهم الله بها فأصبحوا في ديارهم جاثمين. )
(فهذ) أي: ظهور النتيجة بعد اعتبار التثليث في الدليل "الله الذات المحض الغني والمستغني عن كل شيء ولا يحتاج لشيء ، الأسماء والصفات الإلهية التي تطلب الخلق لتكون سارية ونافذة لتحقق الغرض منه ، المخلوقات التى تطلب وتحتاج للأسماء والصفات الإلهية لتحيا وتتعلم وترزق " .
(أيض) دل على أنه (قد ظهر حكم التثليث) من أصل الإيجاد الخارجي (في إيجاد المعاني) في الذهن.
لأن الأمور الذهنية تابعة للأمور الخارجية سيما إذا كانت من الأمور (التي تقتنص بالأدلة فأصل التكون التثليث) إذ لولاه لم يظهر في إيجاد المعاني.
(ولهذ) أي: ولأجل أن أصل الكون التثليث (كانت حكمة صالح عليه السلام ) مدة حكمته العملية (التي أظهر الله) فيها سر إيجاده "الناقة" .إذ لم يلدها والداها، بل انفلق عنها الجبل (ثلاثة أيام) ليجعلها متضمنة سرا لتثليث .
كـ الأصغر والأوسط والأكبر في إنتاج العذاب.
(وعد) نصب على أنه حال من الأخذ، ورفع على حذف المبتد (غير مكذوب) في لزومه کالنتيجة للدليل، (فأنتج) سر التثليث في الأيام وعد (صدقا، وهي) أي: تلك النتيجة (الصيحة التي أهلكهم به) مثل ما كان للناقة عند إهلاكه ("فأصبحوا في ډيرهم جاثمين" [هود:67]) ميتين كما ماتت عند قتله.
ولما كانت هذه الأيام متضمنة سر التثليث الموجد للعذاب كان كل يوم حامل سر من الأسرار الموجبة للشقاوة كأجزاء الدليل.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم، وفي الثاني احمرت وفي الثالث اسودت.
فلما كملت الثلاثة صح الاستعداد فظهر كون الفساد فيهم فسمى ذلك الظهور هلاكا، فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة إسفار وجوه السعداء في قوله
تعالى «وجوه يومئذ مسفرة» من السفور وهو الظهور، كما كان الاصفرار في أول يوم ظهور علامة الشقاء في قوم صالح.
ثم جاء في موازنة الاحمرار القائم بهم قوله تعالى في السعداء «ضاحكة»، فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه، فهي في السعداء احمرار الوجنات.
ثم جعل في موازنة تغير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى «مستبشرة» وهو ما أثره السرور في بشرتهم كما أثر السواد في بشرة الأشقياء.
ولهذا قال في الفريقين بالبشرى، أي يقول لهم قولا يؤثر في بشرتهم فيعدل بها إلى لون لم تكن البشرة تتصف به قبل هذ.
فقال في حق السعداء «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان» وقال في حق الأشقياء «فبشرهم بعذاب أليم» .
فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم من أثر هذا الكلام.
فما ظهر عليهم في ظاهرهم إلا حكم ما استقر في بواطنهم من المفهوم.
فما أثر فيهم سواهم كما لم يكن التكوين إلا منهم. فلله الحجة البالغة. )
(فأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم) تقليلا للبياض الدال على السعادة؛ فهو كالأصفر.
(وفي اليوم الثاني احمرت) توسيطا بين البياض والسواد، فهو كالأوسط.
(وفي الثالث اسودت) كلها لغاية البعد عن البياض إلى ضده، فهو كالأكبر.
(فلما كملت الأيام الثلاثة) بهذه الأسرار الموجبة للشقاوة كالأجزاء الدليل، (صح الاستعداد) لإيجاد الشقاوة الفيضان النتيجة بعد كمال الدليل.
(فطهر كون) أي: وجود (الفساد فيهم) بعد کمونه في الأيام باعتبار تضمنها أسراره ککمون النتيجة في الدليل الاقتراني الذي هو الأصل.
(فسمي ذلك الظهور هلاك)، وإن كان إيجاد الشقاوة لما هلك به ما كان يتوهم فيهم من استعداد السعادة بالنظر إلى أن نفس الإنسان قابلة للأمرين كليهما السعادة والشقاوة في نظر العقل؛ فلذلك كان كل تكوين من تكوينات الشقاوة في مقابلة تكوينات السعادة التي تبدلت به.
(فكان اصفرار وجوه الأشقياء) من قوم صالح بنقص البياض (في موازنة) أي: مقابلة (إسفار وجوه السعداء) بزيادة البياض وهو المذكور (في قوله تعالى: "يومئذ مسفرة" [عبس: 38]) من حيث اشتراك الأسفار والاصفرار في إظهار أمر لم يكن ظاهرا أصل .
إذ الأسفار (من السفور وهو الظهور)، لكن الأسفار ظهور علامة السعادة بزيادة البياض في وجوه السعداء، وهي أول علاماته (كما كان الاصفرار في أول يوم ظهور علامة الشقاء) بنقص البياض (في قوم صالح).
(ثم جاء في موازنة الاحمرار القائم بهم) أي: بقوم صالح في اليوم الثاني، (قوله تعالى في) حق (السعداء "ضاحكة") للملازمة
بين الضحك والاحمرار، (فإن الضحك من الأسباب الموجبة لاحمرار الوجوه) لكن بين الاحمرارین فرق، وهي (في السعداء احمرار الوجنات) تزین لوجوههم، وفي الأشقياء حمرة فاحشة مشوهة للوجوه.
ثم جعل سبحانه وتعالى (في موازنة تغيير بشرة الأشقياء بالسواد) المذهب للإشراق، والبياض بالكلية الاستبشار الموجب لمزيد الإشراق والبياض في وجوه السعداء، حيث أنزل في شأنهم (قوله تعالى: "مستبشرة" [عبس: 39]) من حيث اشتراكهما في تغيير البشرة الوجه إلى غاية خلاف ما كان عليه السلام.
وذلك أن الاستبشار (هو ما أثره السرور في بشرهم) من غاية الإشراق والبياض، (كما أثر السواد في بشرة الأشقياء) بإذهاب ما كان فيها من البياض والإشراق بالكلية هو.
(ولهذ) أي ولاشتراك ما يحصل للسعداء والأشقياء في تغيير بشرة الوجه.
(قال) تعالى (في) حق (الفريقين بالبشرى) من اختصاصها في الفرق بالخبر الصادق المسر؛ فلا بد من تأويلها بما ذكرن .
(أي: يقول لهم) أي لكل واحد من أفراد الفريقين (قوة يؤثر في بشرتهم فيعدل به) أي: بالبشرة بتغيره (إلى لون) جدید (لم تكن البشرة تتصف به).
أي: بذلك اللون (قبل هذ) القول، فكأنه أخذ البشري من البشرة باعتبار تأثيرها فيه، (فقال تعالى في حق السعداء :
"يبشرهم ربهم برحمة منه" [التوبة:22]) هي رؤية وجهه الكريم ("ورضوان") هي الطاقة المعنوية وقت الرؤية وغيرها وجنات هي إنعاماته الحسية.
(وقال في حق الأشقياء:
"فبشرهم بعذاب أليم") ولا شك أن القول إنما يؤثر في الباطن الذي هو النفس الحيوانية والناطقة والإلهية المعبر عنها في اصطلاح القوم بالنفس والقلب والروح ويسرى منه إلى الظاهر.
(فأثر في بشرة كل طائفة ما حصل في نفوسهم) الحيوانية والناطقة والإلهية (من أثر هذا الكلام)، ولا شك أن هذه النفوس أيضا ظواهر الأعيان الثابتة كالأجسام وقواها لهذه النفوس.
(فما ظهر عليهم في ظواهرهم) أي: النفوس المذكورة والأجسام والقوى (إلا حكم ما استقر في بواطنهم) التي هي الأعيان الثابتة .
وفسر ذلك المستقر في البواطن بقوله: (من المفهوم) أي: المفهومات التي كانت في استعداداتها من حيث هي ثابتة في العلم على نهج المفهومية المحضة يؤثر في ظواهرهم تأثیر مفهوم الكلام في الباطن والظاهر.
وإذا كان كذلك (فما أثر فيهم) بالسعادة والشقاوة، وسائر الأعراض المسرة والمؤلمة وغيره (سواهم، كما لم يكن التكوين إل منهم) من جهة امتثالهم أمر ربهم (فلله الحجة البالغة) عليهم إذا عاقبهم بكفرهم ومعاصيهم.
إذا كان الكفر والمعاصي والعقاب عليهما من تأثيرات أعيانهم وتكويناته.
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فمن فهم هذه الحكمة وقررها في نفسه وجعلها مشهودة له أراح نفسه من التعلق بغيره وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا بشر إلا منه.
وأعني بالخير ما يوافق غرضه ويلائم طبعه ومزاجه، وأعني بالشر ما لا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ولا مزاجه.
ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم وإن لم يعتذروا، ويعلم أنه منه كان كل ما هو فيه كما ذكرناه أولا في أن العلم تابع للمعلوم، فيقول لنفسه إذا جاءه ما لا يوافق غرضه: يداك أوكت وفوك نفخ.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. )
(فمن فهم هذه الحكمة) أي: حكمة تكوين الشيء نفسه، وتأثير عينه الثابتة فيه، وإن كان بأمر ربه .
(وقرها في نفسه) بحيث لا يزول عنه بعارض من العوارض، إذ لو زالت لم تسترح.
وذلك إذ (جعلها مشهودة له) بحيث يدركها بالذوق (أراح نفسه من التعلق بغيره)؛ فل يقول: لو فعلت كذا لكان كذا، أو أن الله تعالى أو الشيطان أو فلانا فعل في كذ.
وذلك لأنه (علم) ذوقا يقين (أنه لا يؤتى عليه بخير، ولا بشر إلا منه) أي: من باطنه من حيث الاقتضاء والتكوين، ولست أعني بالخير ما هو كمال الشيء ومطلوبه.
إذا لكل من كمالات الأعيان ومطالبها؛ فلا يتصور الشر في مقابلته، بل (أعني بالخير ما يوافق غرضه، وما يلائم طبعه ومزاجه وأعني بالشر ما لا يوافق غرضه، ولا يلائم طبعه ولا مزاجه) .
وإن كان خيرا بالنظر إلى كونه كما في نفسه، ومطلوبا للأعيان الثابتة ويفهم منه أن ما يوافق البعض منها دون البعض؛ فهو خير من وجه، وشر من وجه.
(ويقيم صاحب هذا الشهود معاذير الموجودات كلها عنهم) بأن تلك المقتضيات ذاتية اللهم لا يمكنهم تغييره.
(وإن لم يعتذرو) أي: وإن لم يقبل عذرهم هذا في رد العذاب عنهم، وذلك أنه (يعلم أنه منه كان) بالاقتضاء والتكوين .
(كل ما هو فيه) من العذاب والكفر والمعاصي؛ فلا يكون هذا حجة له بل عليه (كما ذكرناه أول) أن الحكم الإلهي وأمره بالتكوين تابع للعلم، (وأن العلم تابع للمعلوم)، فالحكم والأمر تابعان له.
(فيقول) صاحب هذا الشهود (لنفسه إذا جاءه ما لا يوافق غرضه) فيه إشارة إلى أن ما يوافق الغرض، وإن لم يوافق الطبع والمزاج يسمي خيرا وضده شرا بذلك الظاهرة والباطنة .
(يداك أوكت)، أي: شدتا الفيض بتقديره بمقدار عينك الثابتة، وتكوينه بذلك المقدار فيك.
(وفوك) أي: لسان حال عينك الثابتة (نفخ) في التجلي الإلهي لتشتعل به عينك الثابتة بمقتضاه ("والله يقول الحق وهو يهدي السبيل" [الأحزاب: 4]).
ولما كانت الحكمة الفتوحية تفتح عن الكثرة الكائنة في الوحدة، وكان القلب مع وحدته قابلا لظهور كل كثرة فيه عقبها بالحكمة القلبية:
فقال: عن فص الحكمة القلبية فى الكلمة الشعيبية ...
.

LptqkGQgKnI

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب فصوص الحكم وشروحاته

مطالعة هذه الشروحات والتعليقات على كتاب الفصوص


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!