موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

كتاب فصوص الحكم
وخصوص الكلم

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

فص حكمة إمامية في كلمة هارونية

  السابق

المحتويات

التالي  

فص حكمة إمامية في كلمة هارونية


24- فص حكمة إمامية في كلمة هارونية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

اعلم أن وجود هارون عليه السلام كان من حضرة الرحموت بقوله تعالى‏ «وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا» يعني لموسى‏ «أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا».
فكانت نبوته من حضرة الرحموت فإنه أكبر من موسى سِنّا، وكان موسى أكبر منه نبوَّة.
ولما كانت نبوَّة هارون من حضرة الرحمة، لذلك قال لأخيه موسى عليهما السلام‏ «يَا بْنَ أُمَّ» فناداه بأمه لا بأبيه إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر في الحكم.
ولو لا تلك الرحمة ما صبرت على مباشرة التربية.
ثم قال‏ «لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولا بِرَأْسِي‏ و فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ».
فهذا كله نَفَسٌ من أنفاس الرحمة.
وسبب ذلك عدم التثبت في النظر فيما كان في يديه من الألواح التي ألقاها من يديه.
فلو نظر فيها نظر تثبت لوجد فيها الهدى والرحمة.
فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما هو هارون بري‏ء منه.
والرحمة بأخيه، فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره وأنه أسن منه.
فكان‏ ذلك من هارون شفقة على موسى لأن نبوة هارون من رحمة اللَّه، فلا يصدر منه إلا مثل هذا.
ثم قال هارون لموسى عليهما السلام‏ «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ» فتجعلني سبباً في تفريقهم‏ فإن عبادة العجل فرقت بينهم، فكان منهم من عبده اتباعاً للسامري وتقليداً له، و منهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك.
فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم‏ إليه، فكان‏ موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن اللَّه قد قضى ألَّا يُعْبَد إلا إياه: وما حكم اللَّه بشي‏ء إلا وقع.
فكان عتب موسى أخاه هارون لِمَا وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه.
فإن العارف من يرى الحق في كل شي‏ء، بل يراه كل شي‏ء.
فكان موسى يربي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن. ولذا لما قال له هارون ما قال، رجع إلى السامري فقال له‏ «فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ» يعني فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص، وصنعك هذا الشبح من حلي القوم حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم.
فإن عيسى يقول لبني إسرائيل «يا بني إسرائيل قلب كل إنسان حيث ماله، فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء».
وما سمي المال مالًا إلا لكونه بالذات تميل القلوب إليه بالعبادة.
فهو المقصود الأعظم المعظم في القلوب لما فيها من الافتقار إليه. وليس للصور بقاء، فـ لابد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه.
فغلبت عليه الغيرة فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليمِّ نسفاً.
وقال له‏ «انْظُرْ إِلى‏ إِلهِكَ» فسماه إلهاً بطريق التنبيه للتعليم، لما علم أنه بعض المجالي الإلهية : «لَنُحَرِّقَنَّهُ» فإن حيوانية الإنسان لها التصرف في حيوانية الحيوان لكون اللَّه سخرها للإنسان، ولا سيم وأصله ليس من حيوان، فكان أعظم في التسخير لأن غير الحيوان ما له إرادة بل هو بحكم من يتصرف فيه من غير إبائه.
وأما الحيوان فهو ذو إرادة وغرض فقد يقع منه‏ الإباءة في بعض التصريف: فإن كان فيه قوة إظهار ذلك ظهر منه الجموح لما يريده منه الإنسان وإن لم يكن له هذه القوة ويصادف‏ غرضَ الحيوان انقاد مذلَّلًا لما يريده منه، كما ينقاد مثلُهُ لأمر فيما رفعه اللَّه به- من أجل المال الذي يرجوه منه- المعبَّر عنه في بعض الأحوال بالأجْرة في قوله‏ «وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ‏ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ‏ بَعْضاً سُخْرِيًّا».
فما يسخر له من هو مثله إلا من حيوانيته لا من إنسانيته: فإن المثلين ضدان، فيسخره الأرفع في المنزلة بالمال وبالجاه بإنسانيته ويتسخر له ذلك الآخر- إما خوف وطمعاً- من حيوانيته لا من إنسانيته: فما تسخر له مَنْ هو مثله ألا ترى ما بين البهائم من التحريش‏ لأنها أمثال؟
فالمثلان ضدان، ولذلك قال ورفع بعضكم فوق بعض درجات:
فما هو معه في درجته.
فوقع‏ التسخير من أجل الدرجات. والتسخير على قسمين: تسخيرٌ مراد للمسخِّر، اسم فاعل قاهر في تسخيره لهذا الشخص المسخَّر كتسخير السيد لعبده وإن كان مثله في الإنسانية، وكتسخير السلطان لرعاياه، وإن كانوا أمثالًا له فيسخرهم بالدرجة. والقسم الآخر تسخير بالحال كتسخير الرعايا للملك‏ القائم بأمرهم في الذب عنهم وحمايتهم وقتال من‏ عاداهم وحفظه أموالهم وأنفسهم عليهم. وهذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون في ذلك مليكهم، ويسمى على الحقيقة تسخير المرتبة.
فالمرتبة حكمت عليه بذلك.
فمن الملوك من سعى‏ لنفسه، ومنهم من عرف الأمر فعلم أنه بالمرتبة في تسخير رعاياه، فعلم قدرهم وحقهم، فآجره اللَّه على ذلك أجر العلماء بالأمر على ما هو عليه وأجر مثل هذا يكون على اللَّه في كون اللَّه في شئون عباده.
فالعالَم كله مسخِّر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه أنه مسخَّر .
قال تعالى‏ «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ».
فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سُلِّط موسى عليه، حكمةً من اللَّه تعالى ظاهرة في الوجود ليُعْبَد في كل صورة.
وإن‏ ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية.
ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إل وعبد إما عبادة تأله وإما عبادة تسخير .
فلا بد من ذلك لمن عقل‏ .
وما عبد شي‏ء من العالم إلا بعد التلبس‏ بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه: ولذلك تسمى‏ الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل رفيع الدرجة. فكثَّر الدرجات في عين واحدة.
فإنه قضى ألَّا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهياً عُبِدَ فيها.
وأعظم مجلى عُبِدَ فيه وأعلاه «الهوى» كما قال‏ «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» وهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شي‏ء إلا به، ولا يعبد هو إلا بذاته، وفيه أقول:
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى‏ .... ولو لا الهوى في القلب ما عُبِدَ الهوى‏
ألا ترى علم اللَّه بالأشياء ما أكمله، كيف تمم في حق‏ من عبد هواه واتخذه إلهاً فقال‏ «وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ» والضلالة الحيرة: وذلك أنه لما رأى هذا العابِدَ ما عَبَدَ إلا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره به من عبادة من عبده من الأشخاص، حتى إن عبادته للَّه‏ كانت عن هوى أيضاً، لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى- وهو الإرادة بمحبةٍ - ما عبد اللَّه ولا آثره على غيره.
وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم و اتخذها إلهاً ما اتخذهألا بالهوى. فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه.
ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين، فكل عابدٍ أمراً ما يكفِّر من يعبد سواه، والذي عنده أدنى تنبه‏ يحار لاتحاد الهوى، بل لأحدية الهوى، فإنه عين واحدة في كل عابد.
«وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ» أي حيّره‏ «عَلى‏ عِلْمٍ» بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ولا استعبده إلا هواه سواء صادف الأمر المشروع ولم يصادف.
والعارف المكمَّل من رأى كل معبود مجلى‏ للحق يعبد فيه «و لذلك سمَّوه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر وشجر وحيوان و إنسان وكوكب وملك. هذا اسم الشخصية فيه.
والألوهية مرتبة تخيل‏ العابد له أنها مرتبة معبوده، وهي‏ على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص.
ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏» مع تسميتهم إياهم آلهة حتى قالوا «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ».
فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك، فإنهم وقفوا مع كثرة الصور ونسبة الألوهة لها.
فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرَفُ ولا يُشْهَد، بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم‏ «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏» لعلمهم بأن تلك الصور حجارة.
ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله‏ «قُلْ سَمُّوهُمْ»: فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة.
وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين.
فهم عبَّاد الوقت مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها، وإنما عبدوا اللَّه فيها لحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم‏ ، وجَهِلَه المنكِرُ الذي لا علم له بما تجلى، ويستره‏ العارف المكمل من نبي ورسول ووارث عنهم.
فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعاً للرسول طمعاً في محبة اللَّه إياهم بقوله‏ «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ».
فدعا إلى إله يُصْمَد إليه ويُعْلَم من حيث الجملة، ولا يشهد «و لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ»، بل‏ «هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» لِلُطفه وسريانه في أعيان الأشياء.
فلا تدركه الأبصار كما أنهألا تدرك‏ أرواحَهَا المدبرةَ أشباحَهَ وصورَها الظاهرة.
«وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» والخبرة ذوق، والذوق تجل، والتجلي في الصور.
فلا بد منه ولا بد منه، فلا بد أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت، وعلى اللَّه قصد السبيل.
.
....

yfBV04DhRgw

  السابق

المحتويات

التالي  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!